د. طيب تيزيني - النص الديني بين المطلق والنسبي

في عهود مبكرة من تاريخ الإسلام، وفي سياق الاختلافات نشأت بين المسلمين في تلقفه وتدبره وفي العمل بمقتضاه، راحت تنشأ خلافات بينهم وفق ما لا يُحصى من تعددية في الحياة العامة والخاصة، إلى درجة أفضت أحياناً إلى التجاذبات والحروب والتحزبات فيما بينهم، ناهيك عن صور أخرى عديدة من الاختلافات والخلافات. وقد قاد ذلك إلى نشوء فرق ومجموعات راحت تستقل بآرائها، وتزعم أنها هي الصحيحة الصائبة. وفي سياق ذلك انتهى الأمر إلى نشوء مذاهب متعددة، يعلن أصحابها أنها هي الصائبة دون غيرها. ولم يبق الأمر في حدود هذا، بل تحول إلى صراعات مذهبية، بعضها سلك مسلك الصراع، وأنتجت أحوالاً جديدة من الاصطفاف والاستقطاب. أما عصرنا، فقد راح يعيش حالة فائقة الخطورة مع بعض الحركات الدينية المتطرف.
وما إن دخلنا القرنين العشرين والحادي والعشرين، حتى ازدادت إمكانات إزاحة الستار عن عملية تلقُف النص الديني من قِبل القراء، على نحو يزيد الأمر وضوحاً وفهماً وتمثلاً في الحياة اليومية عامة وخاصة.
وقد راح الأمر يُفصح عن مزيد من الوضوح مع ظهور مفهوم «الخطاب»، خصوصاً في علاقته مع مفهوم «الفكر الإسلامي»، وسنلاحظ أن إنجاز تلك الخطوة فتح أفقاً أو آفاقاً على طريق كثير من المسائل المُشكلة أو الخلافية التي تكمن في عملية ضبط مفهومي الفكر والخطاب. وبهذه الصيغة نكون أمام السؤال المنهجي التالي: ما الفرق بين هذين المفهومين أولاً، وما النتائج المترتبة على ذلك؟
في بادئ الأمر، نضع يدنا على ما يجعل المسألة أصلاً للموقف، أي على مفهوم «الفكر» لأنه يمثل بداية الموقف، فـ«الفكر» هنا يبرز النص مُنزلاً للبشر لفظاً وروحاً لا نقصان فيه ولا زيادة. وفي هذه الحالة يبرز السؤال المنهجي التالي: ضمن أي معطيات وشروط يتاح للمؤمن أن يتعرف إلى النص، وأن يتمثله في حياته الخاصة والعامة؟
وإذا كان الخطاب الديني ذا بُعد إطلاقي، فكيف يكون الإنصات إليه وفهمه للعمل بمقتضاه؟ ها هنا، يتعين علينا أن نضبط المسألة بإحالتها إلى أصلها، فمن جهة أولى يتعين علينا أن نشير إلى أن الخطاب الديني إنما هو ذو جوهرية مطلقة، بينما المسألة بالنسبة إلى الإنسان القارئ لا تخرج عن النسبية. فالنصوص الدينية ذات ماهية مطلقة في الزمان والمكان، وفي كل ما يتصل بالكون، في حين أن ذات القارئ البشرية نسبية، أي متغيرة متحولة وفق الأعراض والأحداث.
ها هنا، يصبح طرح التساؤل التالي ضرورياً: هل يتلقى البشر ما تعلنه لنصوص الدينية على نحو كلي إطلاقي؟ أم أن عملية اتصال البشر بالذات إياها تتم من حيث البشر؟
من ذلك نود أن نستنبط إجابة على سؤالنا الإشكالي: هل يملك البشر إمكانية تلبس الحقيقة المطلقة، من حيث هي، لا شك في أن الإجابة هنا تأتي بالسلب، ومن ثم نصل إلى النتيجة الكبرى التالية التي في ضوئها نميز بين الفكر الديني من طرف، وبين الخطاب الديني. فهذا الأخير يظهر من حيث هو فهم نسبي للنصوص الدينية، وهنا نقول: إن طرح المسألة على ذلك النحو يحول دون تحقيق تطابق ماهوي بين المطلق والنسبي، ما يعني أن البشر المؤمنين بالإسلام جميعاً يملكون نمطاً نسبياً من الحقيقة، بمعنى أنهم قادرون على فهم ما تقدمه النصوص الدينية من حيث هم، وليس من حيث تلك النصوص.
ها هنا نضع يدنا على أن جميع من آمن بالإسلام ديناً إنما هم مسلمون، وهذا بدوره يبعد القول بوجود نخبة مختارة في العالم تكون هي وحدها المسلمة، بحيث يصبح بيدها الحل والربط في شؤون العالم، كما هو الحال في فهم الغلاة والمتطرفين بشكل خاطئ وكأنهم هم من يفهم الدين دون غيرهم، هذا مع أنهم لا يفهمونه أصلاً.


أعلى