عبد الوهاب الأسوانى - العقاب

حدثنا عمارة بن ميسرة عن سعد بن وهب عن الفارض العبسى .. قال:

حضرت معركة العقاب التى دارت بيننا وبين الرومان، فى بادية الشام.. فى مقدمة جيش الرومان فرقة يسمونها الفرقة القيصرية.. كانت أشد علينا من البلاء إذا نزل أو القضاء إذا وقع.. بدأ القتال فى يوم ريح سموم كحمارة القيظ.. فى الصدمة الأولى نكصت خيل العرب على أعقابها لا تلوى على شئ.. ثبت مكانى مع بضعة فرسان من صناديد اليمن.. أيقنا أن الحشر فى هذا الموضع ولا حول ولا قوة الا بالله.. فجأة سمعت ياسر التميمى يستغيث: “العقاب يا معشر العرب.. أدركوا العقاب يا أهل النجدة”.. دفعت بجوادى نحوه فى التو واللحظة.. فإذا بى أجد كوكبة من فرسان الروم يحدقون به أحداق بياض العين بسوادها.. يحاولون اسقاط العقاب –راية العرب الكبرى- من يده.. وهو يدافعهم مدافعة شديدة ويصرخ ويستغيث.. فقلت ضاع العقاب ورب الكعبة.. أن هو إلا العار والشنار فى أشعار الشعراء وحديث المجالس.. فأردت أن أوهم القوم بأننى على رأس كتيبة من الفرسان.. فصحت بأعلى صوتى: “أبشر يا ياسر.. جاءتك نجدات من فرسان عبس وذبيان.. وقيس وكهلان”.. ولم يصدقنى أحد!.. ما هى إلا اللحظة –وايم الله – حتى برز لى فارس من فرسان الروم.. عظيم الجثة كعرف الديك.. ضربنى بعمود من حديد ضربة تزلزل لها الترس فى يدى.. وكأن قوائم جوادى غاصت فى الأرض.. بعدها سمعت صياح (عكرمة) –يرحمه الله- على رأس فرسان العراق.. ولم أدر ماذا حدث بعد ذلك .. فتحت عينى فوجدتنى راقدا فى بيتى.. وقومى من حولى يضمدون جراحى.

حدثنا رافع بن مسروق عن اكثم بن أبى بلتعة عن عامر بن الايهم الغسانى.. قال:

لما أردت تأليف كتابى (الوقائع المهمات.. فى أيام الملمات).. دخلت المسجد الجامع بالبصرة.. وسألت: يا قوم.. من من الأحياء ممن شهدوا يوم العقاب نستقى منه الأخبار؟.. فرد على الشاعر الماجن الأبرص بن الأبرص بن أبى الأبرص.. قال لى : “عليك بالبهرجان بن واصل فعنده الخبر اليقين”.

وجمعت أوراقى من ساعتى وركبت إلى فيافى بنى حنظلة.. واستقبلنى البهرجان بن واصل استقبال الكرام.. ذبح لى شاة وجلس يروى من ساعته.. ومع أنه جاوز الثمانين إلا أنه يتمالك عافيته.. لكننى لم أكن أعرف أن به لوثة.. تربع أمامى على بساط فارسى وصفق بيديه وقال:

كان يوم العقاب له ما بعده، تحطمت فيه السيوف، وكسرت التروس، وقصفت الرماح، وجندلت الأبطال..

وتوسطت السماء قبة الفلك، وفتحت علينا طاقة من طاقات جهنم.. وما هى إلا الصدمة الأولى من الفرقة القيصرية، حتى رأيت خيل العرب تولى مذعورة، وكأن ماردا من الجن طلع عليها..

وحاول فرسان العراق – وكان على رأسهم عكرمة يرحمه الله- أن يصدوا القوم، فلم يتمكنوا.. جرفتهم الخيل المنهزمة، وأبل الأعراب المذعورة، فحملتهم إلى المضارب.. فصحت بأعلى صوتى: “هذا يوم الهزائز .. لا يثبت فيه جبان ولا عاجز”.. والقيت بالرمح من يدى، فهذا ليس يوم الرماح.. جردت سيفى من غمده، وضربته ناحية اليمين فأطاح بعشرة رءوس، وضربته ناحية اليسار فسقطت خمسة رؤوس.. وكان جوادى الأشعث يعرف طباعى.. فصهل صهلة عربية تفرق لها الروم من حولى.. فأعجبنى ذلك.. فترنمت بشعر عنترة:

“حصانى كان دلال المنايا

إذا دخل القتال شرى وباعا”

وبينما أنا أصول فى القوم وأجول، وانثر الرؤوس على الأرض كما ينثر الزارع الحب.. إذا بفارس من فرسان الروم يلبس على رأسه تاجا، ويحرض القوم على القتال باللسان الرومى.. فعرفت أنه كبيرهم.. فحملت عليه حملة من حملاتى التى يعرفها العرب والعجم.. فتصدى لى ثلاثة من فرسانهم، يمنعوننى من الوصول إليه.. فقلت لهم – وقد استشطت غضبا: والله، وبالله، وتالله.. لأميتنكم ميتة لم يسمع بها أحد.. وهذا ما حدث وايم الله.. مددت يدى اليسرى فخطفت أولهم من فوق سرجه وضربت به الثانى.. فسقطا معا على الأرض وماتا لساعتهما.. ورفعت الثالث إلى أعلى من رأسى، وجلدت به الأرض، فدق عنقه فى الحال.. ولما رأى كبيرهم منى ذلك عرفنى..فتوسل إلىّ قائلا: “رحماك يا أبا حنظلة.. رحماك”.. فقلت له: “لا رحمة بعد اليوم.. أنا لا أرحم من يتهجمون علينا فى ديارنا”..

وما هى إلا لحظات وايم الله، حتى كان مجندلا تحت أقدام جوادى، يخور فى دمه، كما يخور الثور.

***

قال عامر بن الأيهم الغسانى مؤلف كتاب (الوقائع المهمات.. فى أيام الملمات): قلت للبهرجان بن واصل: “يا أبا حنظلة.. أنا لا أسألك عن هذا.. فنحن نعرف قدرك وشدة بلائك.. ولكنى اسألك عما حدث بعد نكوص خيل العرب، ومحاولة الروم اسقاط العقاب من يد ياسر”.

فصفق بيديه وقال: اعلم يرحمك الله أن يوم العقاب كان يوما قمطريرا. تقنطرت فيه خيل العرب قناطير قناطير.. ولت خيل العرب ووقفت وحدى أدافع عن ياسر وعقابه.. كنت اجندل فى الفرسان والأبطال ساعة سمعت استغاثته.. فركضت نحوه بجوادى ركضة حنظلية بهرجانية.. فرأيت الرومان يدورون حوله دوران السوار بالمعصم.. فصحت فيهم: “اتركوا العقاب يا أعلاج بنى الأصفر”.. فبهتوا من صيحتى.. ولما أفاقوا لأنفسهم، تركوا ياسر وعقابه واتجهوا جميعهم نحوى.. فجردت سيفى من غمده، ورحت أحصدهم به حصدا، وأفتك بهم فتكا ذريعا.. واعجبنى ذلك وايم الله.. فترنمت بشعر عنتره:

“وسيفى كان فى الهيجا طبيبا

يداوى رأس من يشكو الصداعا”

ثم وصل عكرمة –يرحمه الله – على رأس فرسان العراق.. لكنه وصل متأخرا.. فقد كنت قد اجهزت على أكثر القوم، حتى أن جوادى كان يخوض فى الدماء وايم الله.

***

قال عامر بن الأيهم الغسانى:

لما وصلت إلى هذا القدر من حديث البهرجان ابن واصل.. كرهت أن اسمع بقية حديثه، فقد ايقنت أن بالرجل لوثة… فركبت راحلتى وقصدت البصرة وأنا فى حالة من غيظ.. عزمت على أن أنهال بالسوط على الأبرص بن الأبرص، ذلك الشاعر الفاسق الماجن الذى سخر منى.. ودخلت المسجد الجامع، فلم أجده، وجدت استاذ الحديث بالبصرة.. سعيد بن صفوان.. ورويت له ما حدث.. كما حدثته عما رواه لى البهرجان بن واصل.. فضحك استاذ الحديث حتى كاد يستلقى على قفاه.. وقال: “يغفر الله لك يا أبا حنظلة.. كبرت وخرفت وزادت لوثتك”.. ثم قال لى: “إن كنت تريد أن تتحقق من يوم العقاب، فعليك بالقاهرة المحروسة”.. قلت: “من تقصد؟” .. قال: “ابن عكرمة”.. قلت: “وهل لعكرمة يرحمه الله ابن؟” .. قال: “نعم.. وقد شهد الموقعة مع أبيه، وكان إذ ذاك فتى دون الثالثة عشرة”.

***

خرجت من البصرة يوم الخميس لثلاث بقين من جمادى الآخرة.. وفى الطريق استضافنى عامر بن سلوك فى (حصن الكرك).. وكان إذ ذاك قائدا لشرطته.. ولم أكن أعرف أن أباه قد شهد يوم العقاب.. فما أن عرف مهمتى وجاء ذكر البهرجان بن واصل حتى أربد وجهه وظهر عليه الغضب وصاح: “وهل تسبب فى الهزيمة غير البهرجان بن واصل عليه لعنة الله؟”.. قلت: “كيف كان ذلك أصلح الله أمرك؟” .. قال وهو يحول وجهه عنى: “لا احب أن أخوض فى حديث يوم اكرهه”.. قلت: “لا.. وحق من سمك السماء وبنى بناكم عالى الدعائم الا تكلمت”.. قال فى تأفف: ” كان للروم فرقة يسمونها الفرقة القيصرية.. جمعوا فيها الأقوياء من فتيانهم بعد أن علموهم أحسن فنون القتال.. فكانوا يصطفون –كما قال أبى – كالبنيان المرصوص.. حتى إذا ما حانت لحظة الحملة، هجموا هجمة رجل واحد، فلا يقف فى وجههم أحد.. بينما كان جيش العرب يتألف من قبائل شتى.. وعلى كل قبيلة رئيسها يقاتل بها على ديدنه.. فأشار عكرمة – يرحمه الله – على رؤساء العشائر أن يؤمروا عليهم أميرا.. فوافقوا.. وأرادوا أن يختاروه هو لما عرف من اخلاصه ودرايته بقتال الروم.. لكن البهرجان عليه اللعنة أبى واستكبر.. قال: (أنا لا أرضى أن يؤمر علىّ).. فأشار عكرمة –يرحمه الله- أن يؤمروا البهرجان على أن يتركوا له قيادة الخيل.. فرفض البهرجان إلا أن تقاتل كل قبيلة برئيسها.. أراد أن يظهر عشيرته على سائر العشائر.. فقد كانت تزيد فى عددها على كل العشائر مجتمعة.. فطلب عكرمة أن يكون البهرجان أمير الجيش وقائد الفرسان، على أن يسمح له بتوزيع الفرسان عند بدء القتال.. فأصر البهرجان على رأيه.. كان يخشى أن ينسب الفضل لعكرمة.. وبدأ القتال والناس لا أمير.. وكان ما كان مما تعرفه.

قلت: “ثم ماذا؟”.. قال فى تأفف: “لا شئ”.. قلت: “اكمل روايتك”.. قال: “لقد فعلت”.. قلت: “هذا عن قبل بدء القتال، فماذا عن سير القتال؟”.. قال: “لا علم لى”.. قلت: “كيف.. ألم يشهد ابوك الموقعة؟”.. قال فى ضجر: “أبى شهد ما قبل الموقعة.. فما أن هجمت خيل الروم، حتى جرفته الخيل المنهزمة ووقع تحت سنابكها.. ولم يمكث غير يومين اثنين.. قضاهما فى لعن البهرجان”

***

حينما دخلت القاهرة المحروسة.. هالنى أن أجدها تغص بالخلق.. مساجدها لا موضع فيها لقدم، ودور لهوها تعج بالناس.. قلت هذه حاضرة الدنيا وكبرى المدائن.. لله فيها جانب لا تضيعه، وللهو فيها والخلاعة جانب.. ووالله لم استدل على بيت ابن عكرمة إلا بعد جهد جهيد.. وعجبت.. كيف يرضى لنفسه بهذا البيت الصغير فى طرف المدينة، وهو ما هو وابوه عكرمة؟.. قلما قلت له ذلك ابتسم وقال لى: “ألا تعلم بأن أهل السيف ما ينبغى لهم أن ينغمسوا فى الترف يا ابن الأيهم؟”.. قلت له: صدقت.. ولكن الا يستحسن أن تعرف لنفسك قدرها بدلا من هذا البيت الذى لا يعرفه أحد؟ فأطرق برأسه ولم يرد.

قلت: “إذن.. حدثنى عن يوم العقاب”.. فقال وقد ظهر عليه الأسى: “حينما عرف أبى بأمر الفرقة القيصرية، درب فرسان قومنا على طريقة جديدة فى الكر والفر.. ولما حانت اللحظة، وصفت الصفوف يوم العقاب.. أراد أبى أن يجمع فرسان العشائر فى صعيد واحد.. فأبى البهرجان اباء شديدا.. قال: “شجاعتنا تكفى.. وقد قاتلنا الروم من قبل”.. فقال له أبى “القوم غيروا من طريقتهم القديمة.. وإن لم نوحد الفرسان.. ونفعل فعلهم فلن نغنى شيئا”.. وانقسم الناس.. البعض يرون رأى أبى، والبعض يوافق البهرجان.. وتصايحوا فيما بينهم.. وضرب بعضهم وجوه خيل بعض.. وتنابزوا بالألقاب، حتى لتخال أن الناس قد خرجوا للصياح وليس للقتال.. وصدمتنا خيل الروم صدمة عنيفة، فتطايرت خيل العرب تطاير الحمام، حتى أنك لترى الفارس ينكص بجواده، فيصطدم بأخيه صدمة عنيفة فيقع الفارسان والجوادان.. لا نفعت عبس ولا تميم، ولا ثبتت قيس ولا طئ.. لم يثبت غير بضعة فرسان هنا، وبضعة رجال هناك.. كانوا لتفرقهم كالنقط البيضاء فى جلد الثور الأسود.. وكنت أقف بجوار أبى فى بضعة فرسان من قومنا.. ولم يكن ساعدى قد اشتد بعد.. كنت أحتمى بأبى كلما حمى الوطيس.. ولما رأى بعض المنهزمين ثباتنا، عادوا والتفوا حولنا وتجمع منهم بضع مئات من قبائل شتى.. وفجأة سمعنا ياسر التميمى يستغيث ولا مغيث.. تلفتنا حولنا فرأيناه، على مرتفع من الأرضي يفصلنا عنه فرسخ، يدافع عن عقابه دفاع المستميت.. فصاح أبى فيمن حوله: “العقاب.. العقاب”.. فقال له بعض شيوخ قومنا أن لا أمل فى نجدة العقاب، فبيننا وبينه بحر متلاطم من الروم.. فصاح فيهم أبى: “لن أغلب على أمرى مرة أخرى”.. ثم رفع يده ونادى: ” من يبايع على الموت؟”.. فبايعه أكثر من سبعين واحدا أكثرهم من فرسان العراق..

كان –يرحمه الله- يعتقد أن صمود العقاب سيعيد الخيل المنهزمة، بعد أن يبلغ فرارها نهايته.. سقوط العقاب معناه أن لا أمل فى رجعة أحد.. ووالله يا ابن الأيهم.. لقد رأيت هؤلاء الرجال حول أبى يندفعون كعاصفة هوجاء لا تبقى ولا تذر.. رايتهم يتسابقون، وقد ركبوا أطراف الأسنة، كل يريد أن يموت قبل صاحبه.. راحوا يتساقطون الواحد بعد الآخر، وخيل الروم قد ركبها الفزع فأفسحت لهم الطريق.. وما هى إلا ساعة، حتى جاءنى أحدهم، وضع يده على كتفى وقال: “استرجع يا فتى”.. قلت: “أنا لله راجعون”.. قال: “استغفر لأبيك”.. فعلمت أن أبى قد مات.

حينما وصل ابن عكرمة إلى هذا الحد من حديثه.. اختنق صوته وسكت.. فقلت: “هل أهجت أحزانك يرحمك الله؟”.. قال: “نعم يا ابن الأيهم”.. قلت: “كل نفس ذائقة الموت”.. قال: “ما لهذا أحزن”.. قلت: ” لم إذن؟”.. قال: “حينما رفع أبى يده يطلب البيعة على الموت.. لم أرفع يدى مع من رفع.. لست أدرى لماذا يا ابن الأيهم.. ربما كنت فى دهشة من أمرى.. فنظر أبى فى وجهى طويلا.. طويلا.. لست أدرى كنه هذه النظرة.. أكان يعاتبنى؟.. أكانت نظرة غضب؟.. أكان يشفق على ويبارك احجامى؟.. ليته تكلم.. ليته قال كلمة تريحنى.. لم يقلها.. اندفع بجواده كريح عاتية دون أن يقولها.. لبثت فى مكانى برهة كالمشدوه.. ثم اندفعت وراءهم ولكن بلا جدوى.. كانوا قد أوغلوا فى القوم وابتعدوا، ولا حول ولا قوة الا بالله.

قلت: “هون عليك يا فتى.. هون عليك”.. فرفع رأسه وقال: “أتدرى ما الذى أعيش من أجله يا ابن الأيهم؟” .. قلت: “ما هو يرحمك الله؟”.. قال: “أن يصل جوادى فى يوم ريح سموم.. وارفع يدى إلى أعلى.. وأنادى: يا عكرمة.. هذه بيعتك”.

عبد الوهاب الأسوانى – المجلة – العدد 160 – ابرايل 1970



أعلى