حاميد اليوسفي - وشم في الذاكرة : مادة الفلسفة

الى السادة مرشد ومرضي وحبيبي والبوغالي وفايق والحليلي استاذة مادة الفلسفة، وإلى السيدة مدام رفيق أساتذة مادة الفرنسية، وإلى السادة المجدوبي والعلوي وكمال أساتذة مادة الاجتماعيات، وإلى السيدين الرحماني وأحمد تبليست، وإلى كل المدرسين والمدرسات في يومهم العالمي.
حاميد اليوسفي


في أواسط النصف الثاني من السبعينات من القرن الماضي ، انتقلنا إلى السنة السابعة ثانوي أمامنا موسم دراسي كامل لاجتياز امتحانات الباكالوريا . كنا نُمتحن في خمس مواد إذا لم تخني الذاكرة، وهي اللغة العربية والفلسفة والاجتماعيات والرياضيات والانجليزية وربما الفرنسية.
اللغة العربية واللغة الفرنسية والفلسفة والاجتماعيات مواد تحتوي على مقررات تتكامل وتتناغم وتتفاعل بينها وتشكل أيقونة الشعبة الأدبية. وفي نفس الوقت تفتح الوعي على خبايا العناصر المحركة للصراعات المحلية والإقليمية والدولية في عالمنا المعاصر.
تألمت كثيرا هذه السنة. لم تنصفنا الإدارة في توزيع الأساتذة على المستويات النهائية. لسوء حظ الفصل الذي سأدرس به فقد حصل على أضعف طاقم تدريس خاصة في مادتي الفلسفة والاجتماعيات.
سنتان ونحن نحلم بالانتقال إلى السنة النهائية حيت يتم تدريس الفلسفة. عدد الأساتذة الذين لمعوا في تدريس هذه المادة كان محدودا في ثانويات مراكش مثل السادة مرشد والبوغالي وابن سالم حبيبي وفايق والحليلي والمصدق والمرضي. أساتذة يعتمدون مناهج حديثة تتراوح بين المادية التاريخية والبنيوية.
كانت مادة الفلسفة منارة الشعبة الأدبية . في هذه الحقبة خصص لها المنهاج ست ساعات مثلها مثل مادة اللغة العربية. لحسن حظ التلاميذ والتلميذات أنه كان مسموحا لهم الالتحاق بأي مؤسسة أو قسم لمتابعة دروس الفلسفة. يكفي أن تعرف تلميذا تصحبه إلى الثانوية التي يدرس بها. تأخذ إذن من الأستاذ، ويسمح لك بالدخول إلى الفصل. بعض الأقسام يصل بها الاكتظاظ إلى أقصى ما تتحمله. أكثر من تلميذين في الطاولة بل إن بعضهم يجلس بين الممرات والبعض الآخر يقف في الخلف.
الأستاذ يلقي الدرس والطلبة بعضهم يسجل رؤوس أقلام والبعض الآخر يدون كل ما يصدر عن الأستاذ. وبين الفينة والأخرى يستمع المدرس لتدخلات التلاميذ ويجيب على استفساراتهم.
كان المقرر يتكون من قسمين : قسم خاص بالفلسفة وقسم خاص بالفكر الإسلامي. وقسم الفلسفة يتكون من ثلاثة أجزاء: فلسفة عامة وفلسفة العلوم و العلوم الإنسانية..
أغلب التلاميذ والأساتذة يتوافقون في بداية الموسم على دروس الفلسفة بأجزائها الثلاثة، ويتركون الفكر الإسلامي لمن أراد دراسته أن يعتمد على نفسه.
في الامتحان يتم طرح ثلاثة مواضيع اختيارية . موضوعان في الفلسفة وموضوع في الفكر الإسلامي . وعلى الممتحن أن يختار موضوعا واحدا.
وأهم جزء كان يستهوي الطلبة هو فلسفة عامة لأنه يتضمن تاريخ الفلسفة منذ نشأتها عند اليونان حتى نهاية القرن 19 مع المادية التاريخية عند ماركس وانجلز.
في بداية الموسم كنا نستحضر بعض النكت حول فلسفة أفلاطون حين ميز بين عالم الواقع وعالم المثل . تحكي النكتة عن طالب يشرح لوالده وهما يتناولان الطعام معنى الفلسفة من خلال الجدل الهابط والجدل الصاعد في فلسفة أفلاطون ويؤكد له بأن الدجاجة المحمرة أمامهما في الصحن هي في الحقيقة اثنتان وليس واحدة . دجاجة في عالم المثل ودجاجة في عالم الواقع . فيحوز الوالد الدجاجة التي أمامه ويقترح على ابنه أن يتناول دجاجة عالم المثل عند أفلاطون . وفي نهاية السنة أصبحنا نحلم بنبي يبشر بنظام جديد أكثر عدالة في شمال افريقيا يشبه ما فعله لينين والبلاشفة في روسيا.
هكذا يبدأ الموسم مع الفلسفة بنكتة وينتهى بحلم كبير.
قلت في البداية كان حظي سيئا مع مادة الفلسفة . عينت لنا الإدارة مدرسا من الأردن . يشبه جسمه قنينة (اورانجينا) ، وهو نفس اللقب الذي أطلقه التلاميذ عليه . قال بأنه مختص في علم النفس . منذ الأسبوع الأول لم تعجبنا طريقة تدريسه . وجد ضالته في كتاب المقرر (دروس الفلسفة) الذي وضعه نخبة من خيرة الأساتذة الجامعيين على رأسهم محمد عابد الجابري وأحمد السطاتي ومصطفى العمري . كان يضع كتاب المقرر أمامه ويملي علينا الدرس الموجود بين طياته . قمنا باحتجاج لدى الإدارة . طلبنا منها تغيير الأستاذ ، لكنها لم تستجب لطلبنا . بدأ الأستاذ يقطع صفحات الدرس من الكتاب ، ويخفيها داخل دفتر حتى لا نتمكن من رؤيتها . في بعض الأحيان نلتحق بزملائنا في قسم آخر ، ونحضر حصة مرشد أستاذ الفلسفة الذي يدرس بالثانوية . ورغم ذلك توالت الاحتجاجات . في آخر حصة شتمنا ، وشتم ماركس ومرشد ، وأكد لنا بأن الكتاب الذي نرفض تدوين الدروس منه ممنوع في جميع الأقطار العربية . بدأت أعصابه تتوتر أكثر . آخر عبارة سمعناها منه لا زالت تطن في أذني إلى اليوم (يلعن دين ماركس ومرشد ، "صباطي" أي حذائي فوق ماركس وفوق العالم) . لم نره منذ ذلك اليوم . تم نقله إلى مؤسسة أخرى ، وعوضه شاب يدعى الأستاذ المصدق تخرج مؤخرا من جامعة محمد الخامس متمكن من مادته . ينحدر من مدينة البيضاء . قضينا معه ما تبقى من السنة.
عندما نجحت في الباكالوريا ، وسافرت إلى مدينة فاس لأتسجل في شعبة الفلسفة ، وجدت الإدارة قد أغلقت باب التسجيل لكثرة الطلبات ، فاخترت بدلا عنها شعبة اللغة العربية على أمل أن أعود في بداية الموسم وأغير الشعبة ، وتلك قصة أخرى.

حاميد اليوسفي
مراكش 28 دجنبر 2019



  • Like
التفاعلات: حاميد اليوسفي

تعليقات

تحيات أخي السي حميد
قرأت بتمعن هذه الذكريات التلاميذية المحملة بالحنين وفضول المعرفة ونزوات الشباب.. والتي حملتنا الى أقاصي العمر البعيد في زمن سبعيني زاه مفعم بالاحلام الوردية والطموحات العريضة التي تكسرت على ضفة الزمن العنيد.. كانت السبعينات مدرسة ثورية، وكان الاساتذة يلقنوننا ابجديات التمرد ضد ثوابت العصر، أو نرغم بعضهم على الانصياع لافكارنا ومجاراتنا، جيل من الشباب نتاج أزمات بنيوية، وسياسة كسيحة، وتخلف اجتماعي يشط بنا الخيال بعيدا عن الدرس لنتحدث عن شعراء المقاومة، والفلكلور والموسيقى الشعبية وخطاباتها في تهييج الشعوب وتوعيتها، عن ميكيس ثيودوراكيس، فيكتور خارا، وبول ايلوار ولويس اراغون وبابلو نيرودا وعبدالكريم الخطابي والمهدي بن بركة. وعمر دهكون. محمد خير الدين وعبداللطيف اللعبي ومجلة أنفاس والثقافة الجديدة، عن فرقة ناس الغيوان وجيل جيلالة . عن الموضة والوجودية ، وعن اليسار الماركسي. والمادية الجدلية، والصراع الطبقي، وحلمنا بجمهورية فاضلة يتساوى فيها أفراد الشعب وينالون قسطهم من خيرات البلاد.. خاصة اننا ننحدر من بيئة بروليتارية نشاهد ونحس بما يعانيه العمال من حيف وظلم وعذاب وتمييز وطبقية وقهر
وقد ورد في النص اسم الدكتور محمد بوغالي الذي درسنا مواد السوسيولوجي والبيداغوجي وبسيكولوجيا المرضى، في مدرسة الدولة
وهو أحد الاساتذة البارزين في الحقل السوسيولوجي بالمغرب، والمتمكنين من تخصصهم، وقد كان لطيفا معنا، شاطرا في التنقيط، ومن ميزاته انه يفرد الربع الاخير من الساعتين للنكتة الخفيفة التي تلطف عناء الدرس، نوع من الدعابة والطرف المتعلقة غالبا بأجواء الموضوع..
سقيا لتلك الأعوام
تحياتي اخي السي حميد
فكرتنا في الذي مضى
 
أعلى