إن الرجال فى العالم كله لا يرغبون فى القتال ولا يؤمنون بالحـرب أبدا، ولا يمكن أن يفكروا فيها، والسلام سيحمل فى طياته السـعادة للبشرية والرخاء والأمان والحرية التى يتطلبها كل إنسان.
امتلأت الشوارع الرئيسية والطرق الجانبية فى مصر منذ اليوم الأول من يونية سنة 1967 باللافتـات من كل الشركات الكبرى والصغرى والمحلات والدكاكين وتحمـل جميعها العناوين المثيرة وتتحدث عن المعركة والهزيمة الساحقة لإسرائيل.
وفعلت هذه اللافتات فعل السحر فى نفوس الناس لشعورها الوطنى المتقد حماسة لسحق إسرائيل وإبادتها من الوجود، وأدخلت البهجـة والسرور فى القلوب، وكل إنسان يود أن يصنع لنفسه لافتة ويكتب حروفها بدمه ويعلقها على صدره ويمشى بها فى كل الميادين والشوارع والأزقة والحوارى.
وهبت العاصفة بعد ذلك بخمسة أيام، هبت فى اليوم الخامس من يونية سنة 1967.
وتحركت الحرب بسرعة رهيبة، وعصف القلق برؤوس المصـريين العاملين فى سيناء، فى صحرائها ومدنها، وخرجوا من بيوتهم والفـزع يحطم اعصابهم ويشل تفكيرهم مما سيحدث من جحيم الحرب وويلاتهـا من الخراب والدمار ومن كل ما سيحل بالإنسان، بعد ما علموا أن العدو على مقربة من مدينة العريش.
طار الأهـالى على وجوههم فى الصحراء، خوفا ورعبا وفزعا بلا طعـام وبلا ماء، والقنـابل تتناثر حـولهم، واستغل أصـحاب النفـوس الوضيعة الموقـف، وحـاجة النـاس إلى ركوب العربات وتقـاضوا منهم أجرا باهظا وكأنهم سينقلونهم إلى أوربا، قبل احتـلال مدينة العريش، ونزل الأعداء من البحر وبالمظلات فى قلب سيناء، ودمرت القنـابل الساقطة من طائراتهم الطرق لتعوق المدرعات المصرية من الانسـحاب، وامتلأت الأرض والسماء بالنار والدخان.
وأخذت الطائرات المغيرة تقـذف الأهـالى الهاربين من الجحـيم بالنيران، وقتل منهم من قتل، ومن ظل على قيد الحياة أسر.
ودفعـت غريزة البقـاء الهائمـين على وجوههم فى الصـحراء تحت حرارة الشمس ولهيبها، وفوق الرمال الساخنة وأحشاؤهم تتمزق من الجوع والعطش، إلى الحركة والتخفى فى الكثبان الرملية بعيدا عن أعين الأعداء، وهم فى طريقهم إلى القنال.
وأظهرت الحرب أصحاب النفوس التى حولتهم إلى شياطين وأماتت كل العواطف الخيرة التى فيهم، كما أظهرت المعدن النفيس للمصرى الخالص الأمين الصافى النفس والقلب والذى لم تلوث طباعه الحروب والنكبات.
ظهرت الطائرات فى السماء، وأطلقت القذائف المضادة، ودوت صفارات الإنذار، وأذاع الراديو خبر هجوم إسرائيل على جبهة سيناء.
كان الأهالى على ثقة ويقين من النصر، وأن الجيش المصرى بكل فرقه مشاته ومدرعاته ودباباته وطائراته يتقدم فى اتجاه إسرائيل لسحقها.
وفى الليل هبت العاصفة وهى تحمل غبار الهزيمة، وتمزقت نفوس المصريين فى الداخـل والخارج وضاعت الأمانى من النفوس والأحـلام من الرؤوس.
أثرت هزيمة حرب 1967 فى الشعب، وكان يفكر دوما فى الحرب وما الذى يستطيع عمله لإرضاء الوطنية المشتعلة فى قلبه. وكانت إسرائيل ككل عادتهم فى الحروب، حركهم جبنهم إلى ضرب مدرسة بحر البقر وما تحت مرماهم فى الإسماعيلية والسويس، ليثيروا الشعب ضد حكامه..
وهل شهر رمضان بنوره الكريم على الأمة الإسلامية، وكنا فى الخريف، ولم تشتد بعد وطأة الحر على الصائمين، وبعد صلاة الظهر بقليل، والناس لا يزالون فى المساجد، أذاع الراديو أن الجيش المصرى عبر خط بارليف، ورفع العلم المصرى على شرق القنـاة، وانتفـض الناس من الفرحة وهللوا وكبروا فى المساجد والشوارع والبيوت وفى كل مكان، ولم يكن أكثر الناس تفاؤلا يقدر الانتصار بعد الهزيمة.
وتطوعت النساء فى الهلال الأحمر وفى الجمعيات النسائية ليعملن فى المستشفيات، وسار العمل فى البلاد بصورة طبيعـية فى النـهار، وفى الليل يحس الأهالى بجو الحرب، من الإظلام فى الشـوارع والبيوت وخاصة سكان البيوت المجاورة للصحراء.
وكان الغريب الذى لايعرف طباع الشعب المصرى، يتوقع الانهيار التام، فالشعب المصرى يتحرك فى المحن بقلب واحد وعزيمة صلبة وينسى متاعبه ليحقق هدفه، فكل شىء يقبل إلا الهوان..
فالحرب مع إسرائيل لا تشيع فى قلوبنا الخوف ولو امتدت مائة عام، وإنما الخوف جاء من الداخل، ولم يأت من الخارج قط، وعندما ذهب شبح الخوف، عادت إلينا القوة، وعبرنا القناة وانتصرنا.
لقد انتصرنا بالجندى الأصيل، وبالشجاعة الضاربة فى الجذور عبر اعماق التاريخ، وبالانضباط الدقيق، والنظام الصارم.
وأتمنى أن أحـمل على بساط الريح، وأنطلق لأدمر كل المصانع التى تصنع الدمار والخراب للبشر.. القنبلة الذرية.. وقنبلة الكوبالت والهيدروجين وكل ما يجىء بعدها.. وكل ما يحطم الحضارة ويشل عقل الإنسان.. وكل ما يشوه الجمال والسكون ويمنع الحقيقة من أن تنطلق من الأفواه.. وكل ما يقتل روح البشر.
فلقد تعذبت البشرية من الطغاة الذين دمروا نفس الإنسان، منذ عصر نيرون، وهم يحاولون تدمير البشرية وتلطيخ وجهها فى الطين، والقوا القنابل الذرية والقنابل السامة على الشعوب الآمنة، وعذبوا الأبرياء فى السـجون وهتكوا أعراض النساء، وسـحقوا بجيوشـهم ودباباتهم الأطفال الرضع، وسمموا دم البشرية بحيلـهم وخـداعهم، وعلقوا رجالها الأفذاذ فى المشانق ليخلوا لهم الجو لتدمير الحياة
***
وبعد الحروب الدامية فى سنة 1948 وسنة 1956 وسنة 1967 وسنة 1973، حروب ذرعت الحقد والخوف فى النفوس.. وذهب فيها آلاف الشهداء، وضربت فيها المدن ودمرت.. فكر الرجل العظيم رئيس مصر السادات، فى أن ينهى هذا كله مواجهة.. ودون لف أو دوران، وذهب إلى القدس.. يحمل حمامة السلام وراية السلام البيضاء.. واستجابت له النفوس واهتـزت من الفرحة القلوب.
فما جدوى القتل وما جدوى التدمير، وما الذى يستفيده الناس من الحروب، الغالب والمغلوب فى خسارة.
المراجع: قصص أديب مصر الكبير الراحل محمود البدوى
امتلأت الشوارع الرئيسية والطرق الجانبية فى مصر منذ اليوم الأول من يونية سنة 1967 باللافتـات من كل الشركات الكبرى والصغرى والمحلات والدكاكين وتحمـل جميعها العناوين المثيرة وتتحدث عن المعركة والهزيمة الساحقة لإسرائيل.
وفعلت هذه اللافتات فعل السحر فى نفوس الناس لشعورها الوطنى المتقد حماسة لسحق إسرائيل وإبادتها من الوجود، وأدخلت البهجـة والسرور فى القلوب، وكل إنسان يود أن يصنع لنفسه لافتة ويكتب حروفها بدمه ويعلقها على صدره ويمشى بها فى كل الميادين والشوارع والأزقة والحوارى.
وهبت العاصفة بعد ذلك بخمسة أيام، هبت فى اليوم الخامس من يونية سنة 1967.
وتحركت الحرب بسرعة رهيبة، وعصف القلق برؤوس المصـريين العاملين فى سيناء، فى صحرائها ومدنها، وخرجوا من بيوتهم والفـزع يحطم اعصابهم ويشل تفكيرهم مما سيحدث من جحيم الحرب وويلاتهـا من الخراب والدمار ومن كل ما سيحل بالإنسان، بعد ما علموا أن العدو على مقربة من مدينة العريش.
طار الأهـالى على وجوههم فى الصحراء، خوفا ورعبا وفزعا بلا طعـام وبلا ماء، والقنـابل تتناثر حـولهم، واستغل أصـحاب النفـوس الوضيعة الموقـف، وحـاجة النـاس إلى ركوب العربات وتقـاضوا منهم أجرا باهظا وكأنهم سينقلونهم إلى أوربا، قبل احتـلال مدينة العريش، ونزل الأعداء من البحر وبالمظلات فى قلب سيناء، ودمرت القنـابل الساقطة من طائراتهم الطرق لتعوق المدرعات المصرية من الانسـحاب، وامتلأت الأرض والسماء بالنار والدخان.
وأخذت الطائرات المغيرة تقـذف الأهـالى الهاربين من الجحـيم بالنيران، وقتل منهم من قتل، ومن ظل على قيد الحياة أسر.
ودفعـت غريزة البقـاء الهائمـين على وجوههم فى الصـحراء تحت حرارة الشمس ولهيبها، وفوق الرمال الساخنة وأحشاؤهم تتمزق من الجوع والعطش، إلى الحركة والتخفى فى الكثبان الرملية بعيدا عن أعين الأعداء، وهم فى طريقهم إلى القنال.
وأظهرت الحرب أصحاب النفوس التى حولتهم إلى شياطين وأماتت كل العواطف الخيرة التى فيهم، كما أظهرت المعدن النفيس للمصرى الخالص الأمين الصافى النفس والقلب والذى لم تلوث طباعه الحروب والنكبات.
ظهرت الطائرات فى السماء، وأطلقت القذائف المضادة، ودوت صفارات الإنذار، وأذاع الراديو خبر هجوم إسرائيل على جبهة سيناء.
كان الأهالى على ثقة ويقين من النصر، وأن الجيش المصرى بكل فرقه مشاته ومدرعاته ودباباته وطائراته يتقدم فى اتجاه إسرائيل لسحقها.
وفى الليل هبت العاصفة وهى تحمل غبار الهزيمة، وتمزقت نفوس المصريين فى الداخـل والخارج وضاعت الأمانى من النفوس والأحـلام من الرؤوس.
أثرت هزيمة حرب 1967 فى الشعب، وكان يفكر دوما فى الحرب وما الذى يستطيع عمله لإرضاء الوطنية المشتعلة فى قلبه. وكانت إسرائيل ككل عادتهم فى الحروب، حركهم جبنهم إلى ضرب مدرسة بحر البقر وما تحت مرماهم فى الإسماعيلية والسويس، ليثيروا الشعب ضد حكامه..
وهل شهر رمضان بنوره الكريم على الأمة الإسلامية، وكنا فى الخريف، ولم تشتد بعد وطأة الحر على الصائمين، وبعد صلاة الظهر بقليل، والناس لا يزالون فى المساجد، أذاع الراديو أن الجيش المصرى عبر خط بارليف، ورفع العلم المصرى على شرق القنـاة، وانتفـض الناس من الفرحة وهللوا وكبروا فى المساجد والشوارع والبيوت وفى كل مكان، ولم يكن أكثر الناس تفاؤلا يقدر الانتصار بعد الهزيمة.
وتطوعت النساء فى الهلال الأحمر وفى الجمعيات النسائية ليعملن فى المستشفيات، وسار العمل فى البلاد بصورة طبيعـية فى النـهار، وفى الليل يحس الأهالى بجو الحرب، من الإظلام فى الشـوارع والبيوت وخاصة سكان البيوت المجاورة للصحراء.
وكان الغريب الذى لايعرف طباع الشعب المصرى، يتوقع الانهيار التام، فالشعب المصرى يتحرك فى المحن بقلب واحد وعزيمة صلبة وينسى متاعبه ليحقق هدفه، فكل شىء يقبل إلا الهوان..
فالحرب مع إسرائيل لا تشيع فى قلوبنا الخوف ولو امتدت مائة عام، وإنما الخوف جاء من الداخل، ولم يأت من الخارج قط، وعندما ذهب شبح الخوف، عادت إلينا القوة، وعبرنا القناة وانتصرنا.
لقد انتصرنا بالجندى الأصيل، وبالشجاعة الضاربة فى الجذور عبر اعماق التاريخ، وبالانضباط الدقيق، والنظام الصارم.
وأتمنى أن أحـمل على بساط الريح، وأنطلق لأدمر كل المصانع التى تصنع الدمار والخراب للبشر.. القنبلة الذرية.. وقنبلة الكوبالت والهيدروجين وكل ما يجىء بعدها.. وكل ما يحطم الحضارة ويشل عقل الإنسان.. وكل ما يشوه الجمال والسكون ويمنع الحقيقة من أن تنطلق من الأفواه.. وكل ما يقتل روح البشر.
فلقد تعذبت البشرية من الطغاة الذين دمروا نفس الإنسان، منذ عصر نيرون، وهم يحاولون تدمير البشرية وتلطيخ وجهها فى الطين، والقوا القنابل الذرية والقنابل السامة على الشعوب الآمنة، وعذبوا الأبرياء فى السـجون وهتكوا أعراض النساء، وسـحقوا بجيوشـهم ودباباتهم الأطفال الرضع، وسمموا دم البشرية بحيلـهم وخـداعهم، وعلقوا رجالها الأفذاذ فى المشانق ليخلوا لهم الجو لتدمير الحياة
***
وبعد الحروب الدامية فى سنة 1948 وسنة 1956 وسنة 1967 وسنة 1973، حروب ذرعت الحقد والخوف فى النفوس.. وذهب فيها آلاف الشهداء، وضربت فيها المدن ودمرت.. فكر الرجل العظيم رئيس مصر السادات، فى أن ينهى هذا كله مواجهة.. ودون لف أو دوران، وذهب إلى القدس.. يحمل حمامة السلام وراية السلام البيضاء.. واستجابت له النفوس واهتـزت من الفرحة القلوب.
فما جدوى القتل وما جدوى التدمير، وما الذى يستفيده الناس من الحروب، الغالب والمغلوب فى خسارة.
المراجع: قصص أديب مصر الكبير الراحل محمود البدوى