محمود الصباغ - غيفارا: عن الصورة.. الأيقونة و أشياء أخرى

.. ويحدث أن تخرج صورة ما عن السيطرة, ويحدث أن تكون قصتها تأكيداً على أن "ليس راءٍ كمن سمعا". إنها الصورة التي يقول صاحبها عن نفسه:" لستُ مُحرراً؛. لا وجود للمحررين، إنما تحرر الشعوب نفسها بنفسها". إنها ليست أية صورة، وليس صاحبها أي شخص. صورة ليّنة تنساب في كل شيء وعلى كل شيء، ربما ليس كما أراد من التقطها, ولكن من يملك خيارات عمله عندما يلقيه لـ" العامّة" دون تردد؟

ونظراً لأن البصر أحد أكثر حواسنا أهمية فلا شك أن هيمنة الصورة وسيادتها ستكون أيضاً أحد أهم أدواتنا المعرفية لما تتمتع به من قوة قادرة على إيصال رسالتها مباشرة دون وسائط أو تأويلات ثانوية تبعدها عن إطارها المرئي "وليس المجرد و الخاضع للتصور مثل الكلام"، فالصورة معدّةٌ أصلاً للتصديق، أليس يقال الصورة لا تكذب؟ مثلما يقال العين لا تكذب؟ أو كأن ترى ليس كأن تسمع.

ونظراً, أيضاً, لأن صورة غيفارا تلك ليست محايدة، بل منحازة بشدة فقد أصبحت جزءً من ثقافةٍ شعبيةٍ عابرةٍ للحدود, تكسر الحواجز وتتجاوز المعاجم واللغات فتتغير وتتبدل وفقاً لسياقاتها الاجتماعية ومنسوبها الثوري. وعندما نقول أن الصورة تعكس هدف من قام بإنتاجها وعرضها فلابد لنا إذن أن نلمح دورها الوظيفي في ذهن المتلقي لها، الذي قد لا يتطابق-أي الدور-مع تحولاتها الأيقونية، رغم قدرتها الهائلة على إخفاء تحيزها "ربما بسبب طابعها الأيقوني؟" فتتلاعب بعقولنا لتصبح تعبيراً عن واقع ما ،مفترض أو معطى، لا نستطيع التعرف عليه إلا من خلال مصفوفة تأثيرها البصري واللوني والسرديات المؤسسة المصاحبة لها وتكريس اختيارات وتفضيلات، وتحفيزات وتحيّزات، واحتياجات، ورغبات لدى المتلقي المتنوع، فيمكن أن تكون على الحقائب المدرسية لتلاميذ غزة أو على قميص عازف جاز من نيوأورليانز, أو ضمن ديكور المغنية شير أو مادونا, أو على صدرٍ عارٍ لراهبة كاثوليكية في الأرجنتين؛ وليس مفاجئاً أن تراها على ولّاعات السجائر أو لعب الأطفال، أو على حقيبة تحملها حسناء تمر بقربك في فيينا, ولاشك ستصادفها أثناء بحثك في القنوات التلفزيونية عن خبر ما, ستجدها أمامك على جدار حجري في بيت لحم, أو في أحياء الصفيح الأفريقية, ستجدها تغطي اسم شارع أو ساحة في الجزائر، أو على جدار مطعم حجري عتيق يقدم السمك الشهي مع "الراكي" في الجزر اليونانية, ستلمحها تزين الملابس الداخلية النسائية التي تعرضها متاجر باريس وميلانو ونيويورك, أو على مدخل أحد مناجم النحاس في تشيلي، ستجدها على علب الكورن فليكس, ستلمحها في أقصى مرافىء كوبا يمسح عنها العمال ملح البحر, أو على جدارية مع عبارة القائد العام في ترينيداد, ولابد أن تلمحها في مشهد من فيلم أمريكي لغرفة مكتظة بالأشياء دون ترتيب وامرأة شبه عارية تجلس أمام التلفزيون تحتسي البيرة في يوم قائظ في كولورادو وتسند ظهرها العاري على وجه غيفارا, ولابد أن تجدها وشما على كتف مراهقة من فيتنام أو بجانب صور القادة في أحد مكاتب الحزب الشيوعي في بكين, ستجدها في غرفة طالب إيرلندي أو مكسيكي, ستجدها ملتصقة بعلم كاتالونيا في برشلونة. ستجدها على غلاف كتاب يباع على سور أزبكية القاهرة. أو تحت جسر البرامكة على كتف نهر بردى في دمشق, أو بين مداميك كتب شارع المتنبي في بغداد.

ستجدها أينما كنت, فهي الصورة الأشهر عبر التاريخ, بيع منها ملايين النسخ, ووصل الإقبال عليها في العام 1968, (كما يقول مؤرخ البوسترات الأمريكي ديفيد كانزل) حداً من الهستيريا حيث كان يباع منها في الشهر مليون ملصق.

هي صورة رجل يقول عن نفسه "ولدت في الأرجنتين، وهذا ليس سراً على أحد. وأنا كوبي وكذلك أرجنتيني، وإذا كان أصحاب السيادة والرفعة في أميركا اللاتينية لا يشعرون بالإساءة فإني أشعر بأني مواطن من أميركا اللاتينية أيضاً، من أي بلد من بلدان أميركا اللاتينية، التي أنا مستعد في أي لحظة لتقديم حياتي عند الضرورة لتحرير أي منها من دون طلب أي شيء من أحد ومن دون المطالبة بشيء ومن دون استغلال أحد."

"البطل الثائر Guerrillero Heroico" هكذا أطلق عليها من التقطها، أو "صورة كوردا" وفقاً لتسمية معهد الفنون في ولاية ميريلاند الامريكية تيمناً باسم المصور ألبيرتو كوردا( ألبيرتو دياز غوتييريز). ففي آذار \مارس 1960 وأثناء مراسم دفن ضحايا السفينة الفرنسية «لو كوبري»، التي كانت تحمل شحنة من الأسلحة البلجيكية، والتي استقدمتها حكومة كوبا، لدعم الثورة في بوليفيا. كان على ألبيرتو كوردا أن يلتقط صوراّ لقيادة الثورة ولكاسترو ولضيوفه سيمون دي بوڤوار وجان بول سارتر (الذي وصف غيفارا لاحقاً بأنه "ليس فقط مثقف ولكنه أيضا أكمل إنسان في عصرنا"). لكن كان برفقة الحشد شابٌ ثلاثينيّ شدَّ انتباه كوردا, كان يقف خلف المنصة تماماً مع مرافقيه ويبدو ساهماً وصامتاً ببذلته العسكرية والبيريه المزينة بالنجمة الثورية ولحية غير مشذبة وشعر منسدل وعيون تبحث بعيداّ في الأفق ربما عن مستقبل الثورة. ودون تردد التقط كوردا صورتين لهذا الشاب, إحداهما عرضية والثانية طولية، وفي كلتيهما أجزاء من وجوه شخوص أخرى إلا أن كلتا الصورتين ظلتا تحملان بوضوح وجه غيفارا بكل تعابيره. لم يتمكن كوردا من التقاط المزيد له، فقد تراجع الشاب صاحب الوجه ليتوارى بين الحضور.

لم توافق قيادة الثورة على نشر الصورة تلك في جريدة "ريفيلوسيون" فعمد إلى نشر أقوال فيدل كاسترو وجان بول سارتر وصورهما، دون أي ذكر لكلمات غيفارا أو صورته التي احتفظ بها لنفسه.

وحتى صيف العام 1967، بقيت الصورة معلقة في غرفة كوردا، عندما زاره الناشر الإيطالي جانكومو فلترينيللي عندما حضر إلى كوبا للقاء أصدقائه وعلى رأسهم فيدل كاسترو [فلترينيللي هذا كان له دورٌ بارزٌ في الإفراج عن المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه مؤلف كتاب (ثورة في الثورة) المعتقل في بوليفيا]. واثناء تجول فلترينيللي في استوديو كوردا لمح صورة غيفارا المعقة على الجدار, وطبعاً لم غيفارا نكرة في تلك الفترة. قدّم كوردا الصورة كهديّة لضيفة الإيطالي, ولكي تكتمل عناصر الحكاية قُتل غيفارا بعد أربعة أشهر من تلك الزيارة في غابات بوليفيا على يد القوات الخاصة البوليفية، في التاسع من تشرين الأول 1967. وانتشر خبر مقتله، وتحول من رمز للثورة إلى أسطورة حقيقية وشعار لجيل كامل, فكان أن اغتنم الناشر الإيطالي الفرصة ليقوم بإصدار ما اعتبر أول بوستر رسمي عن غيفارا.

غير أن الصورة التي نراها اليوم ليست صورة كوردا الأصلية, بل هي صورة أخرى تم الاشتغال عليها بدقة اعتماداّ على التباين الحاد في الألوان والمقتبسة من صورة كوردا الأصلية, وقام بهذا العمل الفنان الإيرلندي جيم فيتزباتريك في العام 1968 بتقنية تقوم على أشكال مغايرة، بعضها باللونين الأبيض والأسود والبعض الآخر باللونين الأحمر والأسود. ويقول عنها فيتزباتريك الذي قابل غيفارا وهو في طريقه لزيارة الصين :"إن الطريقة التي قتلوه بها وعدم وجود أي أثر يدلُّ على مكان دفنه أو نصب يخلد ذكراه، كل ذلك دفعني إلى إنتاج شيء يحظى بأوسع رقعة ممكنة من الانتشار ويجعل صورته خالدة لا تموت واسمه كذلك".

فمقتل غيفارا كان بمثابة مولد للصورة ودخولها في الوعي البصري العالمي. وكما ترى تريشا زيف- الناقدة البريطانية التي قامت بعمل مشروع بعنوان "تشي...سوق وثورة" -أن عملية قتله كانت بمثابة بداية الأسطورة الخاصة بصورته مؤكدة أن #غيفارا كان "شخصاً وسيماً وفتياً والأهم من كل ذلك أنه مات في سبيل مبادئه مما جعله رمزاً عالمياً". و كان لهذه الحادثة الأثر العميق في ولادة أشهر صورة في القرن الماضي, وتؤكد زيف أن ليس هناك "صورة تضاهي هذه الصورة، فلقد بات علامة تجارية تعني التغيير، ورمزاً ضد الحرب والعولمة وصديقة للبيئة.... انتشرت في كل مكان تقريباً بدءً من الجدران في الأراضي الفلسطينية المحتلة وصولاً إلى أفخم المتاجر الفرنسية، إنها صورة خرجت عن السيطرة وباتت مؤسسة, لا بل, إمبراطورية قائمة بحد ذاتها."

خضعت الصورة لتقلبات عديدة وتكيفت مع الأمزجة المختلفة مما أكسبها دفعاً قوياً ومكانة خاصة أينما حلت, لتحتل حيزاً لا يمحى في الوعي العالمي, وقد كان لأوروبا ستينيات القرن الماضي أكبر الأثر في نشر الصورة وتحويلها إلى أيقونة ومعادل موضوعي للثورة والتمرد, لاسيما لجيل ما بعد الحرب العالمية الثانية. لقد أصبح غيفارا مثالاً لكل ثائر يناضل ضد العسف والاستغلال ورمزاً للمقاتلين الباحثين عن الحرية.. وهكذا تحولت إلى قالب احتكرته في البداية ثقافة المقاومة وارتبط انتشارها بحركة الشباب العالمي وثورة الطلاب في فرنسا. وهي وإن كانت خياراً أو أحد خيارات الشباب الغاضب في تلك الفترة فإن الاستعمال السهل والساذج لها أحياناً أدى بها إلى أن تتعرض للعديد من عمليات المسخ والتحوير ففقدت بالتالي الكثير من مفرداتها الأولية \البصرية بالدرجة الأولى\ التي عبرت عنها صورة كوردا الأصلية والتي أراد أن يقدم من خلالها رمزاً للثورة والتمرد فتحولت, كما يرى الناقد الإنكليزي جون بيرغر إلى ما يمكن تسميته صورة عن "التصوير البديل الذي يمكّن الفنان أو صانع الصورة (ليس بالضرورة أن يكون الصانع مصوراً) من تطوير استراتيجيات التعامل مع الصور وتفسيرها بناء على الثقافة الشعبية، ومن أجل التعليم، بحيث تدخل هذه الصورة في الذاكرة السياسية والاجتماعية".

ومع ذلك، حافظت صورة غيفارا على ألقها ومقاومتها الذاتية المنطلقة من الخصائص الكامنة لصاحب الصورة, قصة حياته وظروف قتله, الوجه الإنساني المليء بالتعابير العميقة التي لا يمكن تجاهلها, الأمل الذي كان ومازال يمثله للكثيرين في هذا العالم, تفانيه وعدم خضوعه لإغراءات القيادة ونرجسية البحث عن مجد شخصي. كل هذا اجتمع ليكتب قصة نجاح كبيرة للصورة وليجعل من غيفارا و/ أو على الأقل صورته رمزاً مقاوماً للتطويع فرغم عمليات المونتاج المختلفة من حذف وإضافة وتشكيل وكتابة وإدخال خطوط وتقطيعات واستخدام التقنيات الرقمية أو التعامل معها بركائز الفن المجرد أو البوب كما في أعمال الفنان الأمريكي أندي وورهول.. كل ذلك لم يفقد جوهر النداء الأصلي للصورة ..

وبعيداً عن انتقاداتنا الأخلاقية لما آلت إليه الصورة, يبقى الشيء الملموس لنا أنها صورة إنسان.. إنسان قابل للتمييز والتعريف ومازالت تحتفظ ببعض من ألقها ودفقها العاطفي ودقائقها وأجزائها المتناهية في التفصيل لأسباب وجودها, صحيح أنها لن تستطيع أن تنقلنا للحظة التقاطها, لكنها تمكننا من التأويل وتنمحنا القدرة على التخيّل, ولهذا ربما كان للصورة أطرها المستقلة عن الوعي السياسي المرتبط بها.

إنها صورة رجلٍ لم يعد يملك نفسه, رجل توّجه محبّيه مسيحاً معاصراً، يقوم كل لحظة من بين الأموات, رغم رفض غيفارا مقارنته بالمسيح " أنا نقيض المسيح؛ سأقاتل بكل سلاحٍ لديّ بدلا من أن أُدقَّ بالمسامير على صليب "

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى