أولاً:
إنَّ مُجمل الحديث عن ثقافة / ثقافات تتقاطعُ وتتحاورُ في مابينها يشكِّل بُعداً أساسياً للتلاقي الوجداني , ومِنْ ثمَّ تحديد نقاط التشابه والاندماج والتكامل المبني على أرضيةٍ صلبة .
مِنْ هنا يمكن الولوج بدءاً بفهم مُعطى الثقافة كمفردةٍ تحدِّدُ الملمحَ الأبرز للكائن الإنساني .
الثقافة بمعناها الأوسع إطارٌ يشملُ المنتوج المادي/المعنوي/ السلوكي لأمةٍ ما / جماعةٍ ما / شعبٍ ما .
إرتريا الكيان الجغرافي / الإنساني/ الذي يستلقي على كتفِ البوابة الشرقيَّة للبحر الأحمر, ويضمُّ تنوعاً عرقياً / لغوياً / ثقافياً , حيث تمتدُّ جذور هذا التنوُّع إلى الغور السحيق المتنامي من التاريخ , وقبل تكوُّن الأخدود الذي نتج عن زلازل عنيفة وبراكين شقتْ هذا البحر الذي هو )الأحمر( حديثاً , وقيل أحمر لشُعَبٍ مرجانيةٍ ترقدُ في قاعِه , و)القلزم( في الخرائط القديمة أو (البحر الحبشي) كما ذكر (ابن خلدون) في مُقدمته , دلالة على أنَّ هذه الرقعة كانتْ تمثلُ حيزاً هاماً لدى العرب القدامى , وذلك لتلاحم الجغرافيا وأواصر الصلات العميقة المُشتَرَكة ,, أو ( سينيوس إرتريوس) حسب التسمية (الإغريقيَّة) في عهد (بطليموس ) , والتي استعارها (الإيطاليون) حقبة تأسيسهم للمستعمَرَة الإرتريَّة حينذاك في العام 1890 م , أو (أوروبا إفريقيا) كما أطلقوا عليها بعد أنْ مهروها وهضبتها ببصماتِهِم المعماريَّة , هذه الهضبة التي تتمترس فيها العاصمة (أسمرا) على ارتفاع 2300 متراً , بما جعلها تبدو أشبه بالطراز الأوروبي.
تقاطعاتْ :
_____
نزحتْ إثر انهيار سدِّ مأرب أقوامٌ مِنْ قبيلتي (حبشاتْ) و(أجاعز) اليمنيتين قبل حوالي العشرة آلاف عام ليكون الاندماج الأول ومنطقة عبور كانتْ حدودها الأولى إرتريا الحاليَّة , حيث انتقلتْ إلى تلك البقعة الجغرافيَّة معالمُ الحضارة (السبئيَّة) و(الحميريَّة) حينذاك , مثل نظام المدرجات الزراعيَّة لحفظ مياه الأمطار , والتي هي موجودة إلى اليوم في الهضبة الإرتريَّة , وانتهاءاً بلغةِ ( الجِئْز) والتي هي الأم لأوسع لغتين محليتين انتشاراً الآن في إرتريا وهي ( التغري ) و( التغرينة).
وفي هاتين اللغتين مفردات عديدة من العربيَّة وبعضها غير مستخدم حالياً , حتى في المواطن العربيَّة مثل (أتافي/ أثافي) و(هبنِّي/ هبْ لي) و( التندورْ/ التنورْ) , وغيرها كثير مع بعض التحريفات اللفظيَّة في غالبها.
...............
تقولُ الدكتورة/ بلقيس الحضراني في كتابها (الملكة بلقيس – التاريخ والأسطورة والرمز ):
" يذهب المؤرخون إلى أنَّ الأحباش هُمْ جزءٌ من السبئيين الذين عُرفوا بهجراتهم المتكرِّرة التي عبرتْ البحر الأحمر من السواحل الغربية لجنوب الجزيرة العربيَّة إلى السواحل الشرقيَّة لإفريقيا , وهُمْ ينتسبون إلى قبيلة ( حبشَتْ) التي ظهرتْ في النقوش اليمنيَّة ..."
..............
إنَّ نظرة أعمق في قسماتِ الإرتريين نجدها أقرب ماتكون إلى القسماتِ العربيَّة ذات البشرة الحنطيَّة , مما يعزِّز , مع الشواهد الأثريَّة والكتابات القديمة المحفورة على أحجار بعض جُزُر (دَهْلَكْ) مقولات التمازج العِرقي والقرب الوثيق من العِرق العربي.
وهنالك تشابه في أسماء الأمكنة مثل (حطاط ) في الساحل الإرتري , وشبيهتها بالقرب مِنْ (عَدَن) اليمنيَّة , و(عنسبا) في إرتريا , أي ( عينُ سبأ) , وكذا نهر ( مَرَبْ) الإرتري , ويقابله ( مأرب) , وغيرها مِنْ أسماء الأمكنة.
إضافة إلى ذلك ماتمَّ تدوينه في سجلاتِ الشِّعر العربي الجاهلي مِنْ ذكرٍ لأحد أعرق الموانيء التاريخيَّة الإرتريَّة (عدوليس) الذي بناه ( بطليموس الثاني) منتصف القرن الثالث قبل الميلاد.
وقد كان ميناء( عدوليس) نقطة وصلٍ هامَّة في جنوب (البحّر الأحمر) , أو (القلزم) في العالم القديم.
يقولُ ( طَرَفَة بن العبد) :
عدوليةٌ أو من سفين بن يامين
يجورُ بها الملاحُ طوراً ويهتدي
هو نطاقُ حوارٍ دار بيني وبين الإعلامي والشاعر العربي الكبير/ فاروق شوشة في القاهرة , حيث كان يرى أنَّ المقصود من (عدولية) في بيت (طَرفة بن العبدْ) هو في (هجر / البحرين) ,وهو ماذكره في مقالٍ له نُشر في صحيفة (الأهرام) المصرية بتاريخ- 19 مايو 2002 – بينما كنتُ أرى أنَّ ( عدولية) لفظاً ومعنىً ووجوداً هي (عدوليس) التي مازال الأهالي في بلدتي (زولا) و(أفتا) ينطقونها مع تحريف لفظي بسيط ( عزولي) , ممايُعزِّز الرأي بأنها المقصودة في معلقة (طَرفة بن العبد).
المسيحيَّة :
دخلت المسيحيَّة إلى إرتريا على يد قسٍّ سوري اسمه ( فرمناطوس) قَدِمَ من (الإسكندرية) , وذلك في القرن الثالث الميلادي وعبر ميناء (عدوليس) , حيث انتشرت المسيحية الأرثوذوكسية, وبالذات في مناطق المرتفعاتْ , وهي مذهب الغالبية المسيحيَّة في إرتريا , تلى ذلك دخول الكاثوليكيَّة , وفي عهدٍ قريب الإنجليكان / البروتستانتْ.
هجرة الصحابة :
نأتي إلى أهم المفاصل التاريخية وبشكلٍ موجز وهو مفصل هجرة الصحابة , والتي كانتْ إلى الحبشة , حيث كانتْ على ثلاث دفعات , الأولى تحت إمرة الصحابي الجليل وثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان , والثانية تحت إمرة الصحابي الجليل وابن عم رسول الله ( ص) جعفر بن أبي طالب,والثالثة هي هجرة الأشعريين تحت لواء أبي موسى الأشعري , حيث كان مجموع مَنْ هاجر من المسلمين إلى أرض الحبشة حوالي 282 فرداً .
لذا يمكن القول أنَّ الإسلام دخل إرتريا قبل دخوله إلى مصر والعراق وسوريا .
تنازع البعض القول في الهجرة , وهل هي إلى إرتريا بحدودها الحاليَّة , أم إلى إثيوبيا ؟! حيث حاول الإثيوبيون ومَنْ يتوافق معهم إثبات مالاتقبله البراهين , وأنَّ المعنية هي إثيوبيا بحدودها الحاليَّة , ووفق معادلة جغرافيَّة بسيطة وسهلة ندرك أنَّ ( النجاشي) الذي وفَدَ إليه المسلمون الأوائل كان في طرف الهضبة الأقرب إلى البحر الأحمر وهي ( دباروا- الإقليم الجنوبي - إرتريا) , وهي التي يوجد بها قبر (النجاشي - أصحَمَه بن أبحر) , وليس الإدعاء القائل بأنَّ ضريح (النجاشي) في ( تغراي- إثيوبيا) , حيث أنَّ هذا القبر بُني حديثاً وفي عهود قريبة كما ذكر ( ترنغهام) في كتابه ( الإسلام في إثيوبيا) :
" إنَّ ضريح النجاشي الذي تتمُّ زيارته حالياً في إقليم ( تغراي) الإثيوبي , والواقع جنوب ( عدِّي قراتْ) من المعروف لدينا أنه تمَّتْ إقامته عندما زاره الإمام / أحمد بن إبراهيم المعروف بـ( أحمد قِرانْ) في القرن السادس عشر ميلاديَّة , أي في وقت متأخر.."
ويقولُ الدكتور/ رجب محمد عبدالحليم في كتابه (العلاقات السياسيَّة بين مسلمي الزيلع ونصارى الحبشة في القرون الوسطى):
" إنَّ الذي رحَّب بالمسلمين ليس هو ( نجاشي النجاشيَّة ) الذي هو ( نقوس نقاوسْ) , أي (ملك الملوك) , إنما الذي رحَّب بهم هم حاكم الإقليم الساحلي , أي (بحر نقاش) الذي اسماه المسلمون بالـ(نجاشي أصحَمَه) , وهذا الإقليم يمتدَّ في شمال الهضبة الحبشية ويواجه ساحل ( تهامة) , وبذلك يكون أقرب إلى بلد الحجاز..."
ويكمل د. رجب قائلاً:
" من المعروف تاريخياً في إرتريا ( بحر نقاشْ) , أي ملك البحر كان مقرّه (دباروا) التي تقع بالفعل شمال هضبة الحبشة , وتبعد حوالي 25 كلم عن العاصمة أسمرا ..."
.........
إذنْ يظلُّ القرب الجغرافي أول وأهمّْ مايعزِّز مقولة أنَّ الصحابة عبروا إلى الهضبة عن طريق ( مِعْدَرْ- إقليم جنوب البحر الأحمر – إرتريا), أو ( زولا) إلى الشمال منه , و(زولا) هي البلدة التي تقوم اليوم على أنقاض ميناء ( عدوليس) الأثري , أو ( حرقيقو- دخنو) وهي البلدة الأقرب إلى (مصوَّعْ) , حيث قام الصحابة حينذاك بتشييد أول مسجد بُني في الإسلام بمنطقة ( راس مِدر) أي (مركز الأرض) , في ساحة ميناء (مصوَّع) , أو ( باظِع) كما ننطقها في (إرتريا) , وهي مِنْ (باضِع) , أي حَمَل البضائع كما ذكر المسعودي – المؤرِّخ العربي الشهير قبل حوالي الألف عام.
كما لايوجد ذكر لاسم (النجاشي) في سجل ملوك الحبشة ( إثيوبيا الحاليَّة) , و(القساوسة الإثيوبيون) ينفون أنْ يكون هناك مَنْ أسلم مِنْ ملوكهم , ولدينا روايات تتحدث أنَّ (النجاشي) قد أسلم في نهاية حياته.
..................................................................................................................
تداخلاتْ / تقاطعات :
____________
في جلسةٍ لي مع الروائي المصري الكبير / جمال الغيطاني في مكتبه بجريدة ( أخبار الأدب) قال لي بأنَّ أشجار الدوم التي تنمو على ضفاف الأنهار جاءتْ إلى (صعيدِ مصر) مِنْ (إرتريا) , وذكر ذلك في حوارٍ له عبر(فضائية فرنسيَّة) .
قلتُ له : أنَّ أشجار الدوم لدينا اسمها عركوكباي , وأنّ الختان الفرعوني – على مساوئه- جاءنا أيضاً مِنْ (مصر )على مركبٍ من (البُردي).
..........
حكم (المصريون) السواحل الإرتريَّة بالانتداب إبَّان حكم الأتراك- الخديوي محمد علي باشا وابناءه.
إنَّ نظرة فاحصة ومتعمِّقة في عناوين وصفحات الثقافات الإرتريَّة يمكن أنْ تدلل على مدى التقاطعات والتشابكات الأصيلة لإرتريا مع الثقافة العربيَّة.
هناك العديد من الآثار الموجودة في جزر ( دَهْلَكْ) وغيرها توجد بها كتابات منذ العهد الأموي , وهي تؤكِّد على وجود الحرف العربي منذ القدم .
.........
تتكون إرتريا مِنْ تسع مجموعات عرقيَّة , هي ( البلين/ الساهو / النارا/ الحدارب/ التغري/ التغرينة/ الرشايدة/ الكوناما/ العَفَرْ) .
والرشايدة عربٌ أقحاحٌ نزحَ جزءٌ منهم من الجزيرة العربيَّة إلى إرتريا في وقتٍ قريب , ومازالوا يحتفظون بعاداتهم/ تقاليدهم العربيَّة كما هي , أما المجموعات الأخرى فهي ذات أصول كوشيَّة / حاميَّة/ / نيليَّة / ساميَّة.
هذا ويتعاطى قطاعٌ كبيرٌ من الإرتريين باللغة العربية حديثاً وكتابة وقراءة , وهناك إنتاج ثقافي باللغة العربيَّة لايقل في جودةِ بعضه – على ندرته- عن مستوى ماوصل إليه الإبداع العربي وبالذات في جانب الأدب المكتوب منه, وبالخصوص ماكان ملتحماً منه بواقعه ومعبِّراً عن همومه.
.......
قال الصحفي المصري الأستاذ/ زكريا عبدالجواد في مجلة العربي الكويتيَّة وتحتَ عنوان استطلاع له عن إرتريا ( هل آن للطائر أنْ يغرِّدَ في سربه ؟!).
أقول : أنَّ الطائر دائم الحنين إلى سربه قادر على أنْ يكون عضواً فاعلاً , فيما لو تمَّ إيلاءه الفهم والدعم اللازمين من الأشقاء العرب , وعبر عملٍ مؤسساتي مشترك يكرِّسُ التواصل ويعزِّز علائق التاريخ والثقافة..
إنَّ مُجمل الحديث عن ثقافة / ثقافات تتقاطعُ وتتحاورُ في مابينها يشكِّل بُعداً أساسياً للتلاقي الوجداني , ومِنْ ثمَّ تحديد نقاط التشابه والاندماج والتكامل المبني على أرضيةٍ صلبة .
مِنْ هنا يمكن الولوج بدءاً بفهم مُعطى الثقافة كمفردةٍ تحدِّدُ الملمحَ الأبرز للكائن الإنساني .
الثقافة بمعناها الأوسع إطارٌ يشملُ المنتوج المادي/المعنوي/ السلوكي لأمةٍ ما / جماعةٍ ما / شعبٍ ما .
إرتريا الكيان الجغرافي / الإنساني/ الذي يستلقي على كتفِ البوابة الشرقيَّة للبحر الأحمر, ويضمُّ تنوعاً عرقياً / لغوياً / ثقافياً , حيث تمتدُّ جذور هذا التنوُّع إلى الغور السحيق المتنامي من التاريخ , وقبل تكوُّن الأخدود الذي نتج عن زلازل عنيفة وبراكين شقتْ هذا البحر الذي هو )الأحمر( حديثاً , وقيل أحمر لشُعَبٍ مرجانيةٍ ترقدُ في قاعِه , و)القلزم( في الخرائط القديمة أو (البحر الحبشي) كما ذكر (ابن خلدون) في مُقدمته , دلالة على أنَّ هذه الرقعة كانتْ تمثلُ حيزاً هاماً لدى العرب القدامى , وذلك لتلاحم الجغرافيا وأواصر الصلات العميقة المُشتَرَكة ,, أو ( سينيوس إرتريوس) حسب التسمية (الإغريقيَّة) في عهد (بطليموس ) , والتي استعارها (الإيطاليون) حقبة تأسيسهم للمستعمَرَة الإرتريَّة حينذاك في العام 1890 م , أو (أوروبا إفريقيا) كما أطلقوا عليها بعد أنْ مهروها وهضبتها ببصماتِهِم المعماريَّة , هذه الهضبة التي تتمترس فيها العاصمة (أسمرا) على ارتفاع 2300 متراً , بما جعلها تبدو أشبه بالطراز الأوروبي.
تقاطعاتْ :
_____
نزحتْ إثر انهيار سدِّ مأرب أقوامٌ مِنْ قبيلتي (حبشاتْ) و(أجاعز) اليمنيتين قبل حوالي العشرة آلاف عام ليكون الاندماج الأول ومنطقة عبور كانتْ حدودها الأولى إرتريا الحاليَّة , حيث انتقلتْ إلى تلك البقعة الجغرافيَّة معالمُ الحضارة (السبئيَّة) و(الحميريَّة) حينذاك , مثل نظام المدرجات الزراعيَّة لحفظ مياه الأمطار , والتي هي موجودة إلى اليوم في الهضبة الإرتريَّة , وانتهاءاً بلغةِ ( الجِئْز) والتي هي الأم لأوسع لغتين محليتين انتشاراً الآن في إرتريا وهي ( التغري ) و( التغرينة).
وفي هاتين اللغتين مفردات عديدة من العربيَّة وبعضها غير مستخدم حالياً , حتى في المواطن العربيَّة مثل (أتافي/ أثافي) و(هبنِّي/ هبْ لي) و( التندورْ/ التنورْ) , وغيرها كثير مع بعض التحريفات اللفظيَّة في غالبها.
...............
تقولُ الدكتورة/ بلقيس الحضراني في كتابها (الملكة بلقيس – التاريخ والأسطورة والرمز ):
" يذهب المؤرخون إلى أنَّ الأحباش هُمْ جزءٌ من السبئيين الذين عُرفوا بهجراتهم المتكرِّرة التي عبرتْ البحر الأحمر من السواحل الغربية لجنوب الجزيرة العربيَّة إلى السواحل الشرقيَّة لإفريقيا , وهُمْ ينتسبون إلى قبيلة ( حبشَتْ) التي ظهرتْ في النقوش اليمنيَّة ..."
..............
إنَّ نظرة أعمق في قسماتِ الإرتريين نجدها أقرب ماتكون إلى القسماتِ العربيَّة ذات البشرة الحنطيَّة , مما يعزِّز , مع الشواهد الأثريَّة والكتابات القديمة المحفورة على أحجار بعض جُزُر (دَهْلَكْ) مقولات التمازج العِرقي والقرب الوثيق من العِرق العربي.
وهنالك تشابه في أسماء الأمكنة مثل (حطاط ) في الساحل الإرتري , وشبيهتها بالقرب مِنْ (عَدَن) اليمنيَّة , و(عنسبا) في إرتريا , أي ( عينُ سبأ) , وكذا نهر ( مَرَبْ) الإرتري , ويقابله ( مأرب) , وغيرها مِنْ أسماء الأمكنة.
إضافة إلى ذلك ماتمَّ تدوينه في سجلاتِ الشِّعر العربي الجاهلي مِنْ ذكرٍ لأحد أعرق الموانيء التاريخيَّة الإرتريَّة (عدوليس) الذي بناه ( بطليموس الثاني) منتصف القرن الثالث قبل الميلاد.
وقد كان ميناء( عدوليس) نقطة وصلٍ هامَّة في جنوب (البحّر الأحمر) , أو (القلزم) في العالم القديم.
يقولُ ( طَرَفَة بن العبد) :
عدوليةٌ أو من سفين بن يامين
يجورُ بها الملاحُ طوراً ويهتدي
هو نطاقُ حوارٍ دار بيني وبين الإعلامي والشاعر العربي الكبير/ فاروق شوشة في القاهرة , حيث كان يرى أنَّ المقصود من (عدولية) في بيت (طَرفة بن العبدْ) هو في (هجر / البحرين) ,وهو ماذكره في مقالٍ له نُشر في صحيفة (الأهرام) المصرية بتاريخ- 19 مايو 2002 – بينما كنتُ أرى أنَّ ( عدولية) لفظاً ومعنىً ووجوداً هي (عدوليس) التي مازال الأهالي في بلدتي (زولا) و(أفتا) ينطقونها مع تحريف لفظي بسيط ( عزولي) , ممايُعزِّز الرأي بأنها المقصودة في معلقة (طَرفة بن العبد).
المسيحيَّة :
دخلت المسيحيَّة إلى إرتريا على يد قسٍّ سوري اسمه ( فرمناطوس) قَدِمَ من (الإسكندرية) , وذلك في القرن الثالث الميلادي وعبر ميناء (عدوليس) , حيث انتشرت المسيحية الأرثوذوكسية, وبالذات في مناطق المرتفعاتْ , وهي مذهب الغالبية المسيحيَّة في إرتريا , تلى ذلك دخول الكاثوليكيَّة , وفي عهدٍ قريب الإنجليكان / البروتستانتْ.
هجرة الصحابة :
نأتي إلى أهم المفاصل التاريخية وبشكلٍ موجز وهو مفصل هجرة الصحابة , والتي كانتْ إلى الحبشة , حيث كانتْ على ثلاث دفعات , الأولى تحت إمرة الصحابي الجليل وثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان , والثانية تحت إمرة الصحابي الجليل وابن عم رسول الله ( ص) جعفر بن أبي طالب,والثالثة هي هجرة الأشعريين تحت لواء أبي موسى الأشعري , حيث كان مجموع مَنْ هاجر من المسلمين إلى أرض الحبشة حوالي 282 فرداً .
لذا يمكن القول أنَّ الإسلام دخل إرتريا قبل دخوله إلى مصر والعراق وسوريا .
تنازع البعض القول في الهجرة , وهل هي إلى إرتريا بحدودها الحاليَّة , أم إلى إثيوبيا ؟! حيث حاول الإثيوبيون ومَنْ يتوافق معهم إثبات مالاتقبله البراهين , وأنَّ المعنية هي إثيوبيا بحدودها الحاليَّة , ووفق معادلة جغرافيَّة بسيطة وسهلة ندرك أنَّ ( النجاشي) الذي وفَدَ إليه المسلمون الأوائل كان في طرف الهضبة الأقرب إلى البحر الأحمر وهي ( دباروا- الإقليم الجنوبي - إرتريا) , وهي التي يوجد بها قبر (النجاشي - أصحَمَه بن أبحر) , وليس الإدعاء القائل بأنَّ ضريح (النجاشي) في ( تغراي- إثيوبيا) , حيث أنَّ هذا القبر بُني حديثاً وفي عهود قريبة كما ذكر ( ترنغهام) في كتابه ( الإسلام في إثيوبيا) :
" إنَّ ضريح النجاشي الذي تتمُّ زيارته حالياً في إقليم ( تغراي) الإثيوبي , والواقع جنوب ( عدِّي قراتْ) من المعروف لدينا أنه تمَّتْ إقامته عندما زاره الإمام / أحمد بن إبراهيم المعروف بـ( أحمد قِرانْ) في القرن السادس عشر ميلاديَّة , أي في وقت متأخر.."
ويقولُ الدكتور/ رجب محمد عبدالحليم في كتابه (العلاقات السياسيَّة بين مسلمي الزيلع ونصارى الحبشة في القرون الوسطى):
" إنَّ الذي رحَّب بالمسلمين ليس هو ( نجاشي النجاشيَّة ) الذي هو ( نقوس نقاوسْ) , أي (ملك الملوك) , إنما الذي رحَّب بهم هم حاكم الإقليم الساحلي , أي (بحر نقاش) الذي اسماه المسلمون بالـ(نجاشي أصحَمَه) , وهذا الإقليم يمتدَّ في شمال الهضبة الحبشية ويواجه ساحل ( تهامة) , وبذلك يكون أقرب إلى بلد الحجاز..."
ويكمل د. رجب قائلاً:
" من المعروف تاريخياً في إرتريا ( بحر نقاشْ) , أي ملك البحر كان مقرّه (دباروا) التي تقع بالفعل شمال هضبة الحبشة , وتبعد حوالي 25 كلم عن العاصمة أسمرا ..."
.........
إذنْ يظلُّ القرب الجغرافي أول وأهمّْ مايعزِّز مقولة أنَّ الصحابة عبروا إلى الهضبة عن طريق ( مِعْدَرْ- إقليم جنوب البحر الأحمر – إرتريا), أو ( زولا) إلى الشمال منه , و(زولا) هي البلدة التي تقوم اليوم على أنقاض ميناء ( عدوليس) الأثري , أو ( حرقيقو- دخنو) وهي البلدة الأقرب إلى (مصوَّعْ) , حيث قام الصحابة حينذاك بتشييد أول مسجد بُني في الإسلام بمنطقة ( راس مِدر) أي (مركز الأرض) , في ساحة ميناء (مصوَّع) , أو ( باظِع) كما ننطقها في (إرتريا) , وهي مِنْ (باضِع) , أي حَمَل البضائع كما ذكر المسعودي – المؤرِّخ العربي الشهير قبل حوالي الألف عام.
كما لايوجد ذكر لاسم (النجاشي) في سجل ملوك الحبشة ( إثيوبيا الحاليَّة) , و(القساوسة الإثيوبيون) ينفون أنْ يكون هناك مَنْ أسلم مِنْ ملوكهم , ولدينا روايات تتحدث أنَّ (النجاشي) قد أسلم في نهاية حياته.
..................................................................................................................
تداخلاتْ / تقاطعات :
____________
في جلسةٍ لي مع الروائي المصري الكبير / جمال الغيطاني في مكتبه بجريدة ( أخبار الأدب) قال لي بأنَّ أشجار الدوم التي تنمو على ضفاف الأنهار جاءتْ إلى (صعيدِ مصر) مِنْ (إرتريا) , وذكر ذلك في حوارٍ له عبر(فضائية فرنسيَّة) .
قلتُ له : أنَّ أشجار الدوم لدينا اسمها عركوكباي , وأنّ الختان الفرعوني – على مساوئه- جاءنا أيضاً مِنْ (مصر )على مركبٍ من (البُردي).
..........
حكم (المصريون) السواحل الإرتريَّة بالانتداب إبَّان حكم الأتراك- الخديوي محمد علي باشا وابناءه.
إنَّ نظرة فاحصة ومتعمِّقة في عناوين وصفحات الثقافات الإرتريَّة يمكن أنْ تدلل على مدى التقاطعات والتشابكات الأصيلة لإرتريا مع الثقافة العربيَّة.
هناك العديد من الآثار الموجودة في جزر ( دَهْلَكْ) وغيرها توجد بها كتابات منذ العهد الأموي , وهي تؤكِّد على وجود الحرف العربي منذ القدم .
.........
تتكون إرتريا مِنْ تسع مجموعات عرقيَّة , هي ( البلين/ الساهو / النارا/ الحدارب/ التغري/ التغرينة/ الرشايدة/ الكوناما/ العَفَرْ) .
والرشايدة عربٌ أقحاحٌ نزحَ جزءٌ منهم من الجزيرة العربيَّة إلى إرتريا في وقتٍ قريب , ومازالوا يحتفظون بعاداتهم/ تقاليدهم العربيَّة كما هي , أما المجموعات الأخرى فهي ذات أصول كوشيَّة / حاميَّة/ / نيليَّة / ساميَّة.
هذا ويتعاطى قطاعٌ كبيرٌ من الإرتريين باللغة العربية حديثاً وكتابة وقراءة , وهناك إنتاج ثقافي باللغة العربيَّة لايقل في جودةِ بعضه – على ندرته- عن مستوى ماوصل إليه الإبداع العربي وبالذات في جانب الأدب المكتوب منه, وبالخصوص ماكان ملتحماً منه بواقعه ومعبِّراً عن همومه.
.......
قال الصحفي المصري الأستاذ/ زكريا عبدالجواد في مجلة العربي الكويتيَّة وتحتَ عنوان استطلاع له عن إرتريا ( هل آن للطائر أنْ يغرِّدَ في سربه ؟!).
أقول : أنَّ الطائر دائم الحنين إلى سربه قادر على أنْ يكون عضواً فاعلاً , فيما لو تمَّ إيلاءه الفهم والدعم اللازمين من الأشقاء العرب , وعبر عملٍ مؤسساتي مشترك يكرِّسُ التواصل ويعزِّز علائق التاريخ والثقافة..