عتبة الولوج:
يتألف العنوان من حيث البنية النحوية من جملة اسمية حذف أحد طرفيها وأبقت الكاتبة على الطرف الثاني دالا على ما يتشكل في ذهنها لحظة الكتابة، ومختزلا في الوقت نفسه الطرف المحذوف، ولكنه يترك المتلقي يمارس البحث عن ماهية المحذوف، وسبب حذفه، وإذا كانت الجمل تتشكل لغويا في الواقع وفق تشكل معانيها في الذهن على حسب رأي عبد القاهر الجرجاني فإننا نستطيع القول إن البنية المركزية للقصة تتمثل فيما اتخذته الكاتبة فعليا عنوانا لقصتها (مس كليوباترا) على أننا يمكن أن نقرأ جملة العنوان بطريقتين حين نحاول أن نسترجع المحذوف منها، (هذه مس كليوباترا – هل هذه مس كليوباترا؟!) ولكلٍّ من هذين التصورين للمحذوف ما يبرره في النص، وإذا نظرنا إلى الجملة الأولى فإننا نجدها جملة اسمية بسيطة تتكون من مبتدأ وخبر، وقد حذف المبتدأ (هذه) وأبقت الكاتبة على الخبر الدال على الذات (مس كليوباترا) وإذا تأملنا الجملة ثانية فسوف نجد أن المبتدأ المحذوف اسم إشارة يشير إلى الذات أيضا، وكأن الحاضر الوحيد في القصة هو الذات (مس كليوباترا)، إن العلامة اللغوية – سواء المبتدأ المحذوف أو الخبر المذكور – تكرِّس الحضور المادي للشخصية المحورية في القصة وهي مس كليوباترا، وإذا تأملنا الجملة فسنجدها جملة خبرية تريد أن تقدم لنا خبرا عن شخصية تسمى كليوباترا، وقد جاء الخبر ابتدائيا، أي خاليا من أي شكل من أشكال التوكيد مما يوحي أن المتلقي خالي الذهن، واستعداده الذهني كبير لتلقي الخبر وتصديقه، وكأن الكاتبة بهذا تدل على أنها الوحيدة مصدر الخبر، ومن ثم فإن المتلقي ليس أمامه إلا التصديق، ولذلك جاء الخبر ابتدائيا خاليا من أي شكل من أشكال الدلالة على الشك أو الإنكار فيما تسوقه الكاتبة، كما يمكن أن تدل ابتدائية الخبر على أن ما تتحدث عنه الكاتبة ليس مجالا لشك أو إنكار؛ فإن عوامل الزمن على الشخصية الإنسانية لا يمكن أن يتجاهلها أحد، أو ينكرها منكرٌ مهما كانت توجهاته الفكرية وانحيازاته الجمالية، أما التصور الثاني للعنوان (هل هذه مس كليوباترا؟!) فعلى الرغم من كونه جملة اسمية من حيث التكييف النحوي إلا أنها جملة إنشائية/استفهامية، تحمل رؤية الكاتبة وتعجبها واستنكارها لآثار الزمن على تلك الشخصية التي كان لها حضور بارز في الحياة، وتفاعل إيجابي لا يخلو من قوة وحيوية ونشاط، ولكن ذلك يستحيل إلى وهن وضعف بفعل الزمن، وكأن الكاتبة تسوق رؤيتها في شكل استفهام تعجبي استنكاري من فعل الزمن (هل هذه مس كليوباترا؟!) إنها تسترجع تاريخا من الحيوية والنشاط والقوة والاندفاع، والتأثير الإيجابي، وكيف تحول كل هذا إلى النقيض تماما، فالقوة صارت ضعفا، والحيوية والنشاط صارا وهنا على وهن، والاندفاع صار عجزا، وحتى التأثير الإيجابي في المجتمع تحول إلى سراب من خلال انقطاع الأولاد، وابتعادهم عن أمهم مس كليوباترا، ولم يبق سوى التلميذة التي كان حضورها مجرد إثبات أو شاهد عيان لعامل الزمن وآثاره على الشخصية؛ فلم تستطع هي الأخرى أن تقدم شيئا يذكر، وقد بدا ذلك في التساؤل الذي ختمت به القصة (وما زلت أفكر ما الذي يمكن أن أقدمه لمس كليوباترا) فهي لم تقدم شيئا، ولا تعرف ما الذي يمكن أن تقدمه لهذا الجمال المهزوم ماديا من خلال التجاعيد، والكبرياء المهزومة معنويا بفعل عامل الزمن وانقطاع التواصل نتيجة ابتعاد الأبناء، وقد عبَّرت الكاتبة عن ذلك بوضوح تام في قولها (وأنا أغطيها بالبطانية قلت لها: أنا هنا ابنتك فلا تترددي أن تطلبي مني ما تريدين ، وكأنني نكأت جرحا عميقا فانهمرت دموع مس كليوباترا وكانت هذه بالطبع أول مرة أرى هذا الوجه الشامخ بهذا الانكسار). إنها الحياة التي لا ترحم والزمن الذي لا يترك شيئا إلا رسم ملامحه عليه، إن الزمن هو المنتصر دائما مهما كان هناك أولاد أو حواريون من المتعلمين؛ فالأولاد لا يستطيعون أن يقدموا شيئا يمنع تجاعيد الروح والوجه، ولا الحواريون يملكون قدرة لاستعادة المفقود من القوة والحيوية والنشاط، وقد ازداد العجز وضوحا في قول الكاتبة على لسان مديرة الدار/تلميذة مس كليوباترا (ما زلت أفكر)؛ إذ تدل على الاستمرار في التفكير، أي أنها لم تصل بعد إلى شيء ملموس يمكن أن يؤثر على هذه الشخصية التي كانت ذات يوم ملء السمع والبصر، كما تحدثت المديرة/التلميذة صراحة عن العجز حين حدثتها مس كليوباترا بمكنون نفسها، وما يمكن أن يعيد لها الحياة وحيويتها حين قالت ردًّا على تساؤلات أستاذتها (وقفتُ عاجزةً وظلت أسئلتُها تدق في عقلي وتحيرني). إن العجز أمام الزمن وفعله في النفس البشرية، وتجلي آثاره المادية والمعنوية على الشخصية هو الحاضر بقوة في القصة.
وإذا نظرنا إلى اختيار العنوان (مس كليوباترا) من حيث الدلالة فإن هذا الاسم يستحضر كل معاني القوة والكبرياء والعظمة إلى جانب الجمال، ثم في النهاية الانكسار؛ فكليوباترا كانت ملكة، ومجرد ذكر اسمها يستدعي معاني الملك من حيث العظمة والكبرياء والقوة والأمر والنهي، وغيرها من المعاني المصاحبة للملك، وهي كذلك كانت رمزا للجمال، ومن ثم يستدعي ذكر اسمها معاني الجمال والجلال، كما كانت أيضا معشوقة الأمراء والملوك والعظماء، وكانت نهايتها كذلك مأساوية، إن هذا الاستحضار المصاحب للاسم ذو دلالة قوية في القصة؛ فالخطوط العامة للشخصية المحورية في القصة بدت عبر حياتها متوحِّدة مع شخصية كليوباترا الحقيقية بشكل ما؛ ففي بداية حياتها كانت ذات قوة وحضور وتأثير في طالباتها، كما كانت ذات جمال طاغٍ مما جعل الطالبات يطلقن عليها اسم كليوباترا، متمثلين دون وعي فكري عميق شخصية تلك الملكة الجميلة التي حملت هذا الاسم، ومن ثم فإن الاستخدام اللغوي للكلمات والدلالات المعنوية للاسم تعاضدا معا في إبراز المضمون، وتشكيل وعي المتلقي حين مقاربة القصة.
حركة المعنى في القصة
قامت حركة المعنى في القصة على ثنائية ضدية برز طرفاها بوضوح على المستويين اللفظي والدلالي، وقد استخدمت الكاتبة ألفاظا وجملا تحمل هذه الثنائية الضدية، وتعبر عنها في شكليْها البسيط والمعقد في آن؛ لتغرس بذلك ملامح الشخصية المحورية، وتفاعلاتها الحيوية، ونهايتها المأساوية، وفي الوقت نفسه تساعد في تطور الحدث داخل القصة؛ لتصل بنا إلى لحظة التنوير التي أرادتها، كاشفة بذلك عن عجز الإنسان وانهزامه أمام الزمن وأفاعيله مهما كان هذا الإنسان قويا، أو امتلك أسباب القوة والحيوية والتفاعل الإيجابي الذي قد يبدو معه أنه قادر على مواصلة الحياة بالقوة نفسها، ولكنه يكتشف في النهاية وهم ما يعتقده، وسراب ما يؤمِّله، ومن ذلك أن الكاتبة تقول عن مس كليوباترا (فقد عودتنا أن تُنوعَها – أي الحصة – ما بين الجد والفكاهة والمرح) فعلى المستوى البسيط من الدلالة نلاحظ أن الكاتبة قد عبرت عن تنوع حصة أستاذتها مس كليوباترا/بين الجد والمرح، مستخدمة بذلك كلمتين متضادتين في المعنى هما (الجد – المرح) وعلى المستوى اللفظي كانت الكلمتان متضادتين، وعلى المستوى الدلالي عبرت الكلمتان عن موقفين متضادين من الأستاذة داخل الحصة الواحدة، ولكننا نلاحظ أن الكاتبة عند التعبير عن حالات الجد استخدمت لفظا واحدا (الجد) ولكنها عند التعبير عن الحالة المضادة استخدمت لفظين (الفكاهة والمرح) وإذا كان لفظ (مرح) يدور معناه حول الغبطة والنشاط والفرح فإن معنى الفكاهة يدور حول الدعابة والمزاح وطُرَفِ الكلام، وهذا يعني أن شخصية الأستاذة لم تكن معقدة بالمعنى الحقيقي للتعقيد، ولكنها كانت جادة في غير تعقيد، وهذا ما أشارت إليه الكاتبة في القصة صراحة في قولها على لسان ابتهال تلميذتها/مديرة الدار (نلمس حنانها وخوفها علينا من بين كلماتها الناصحة)، وكذلك بدا هذا الحنان والخوف والحرص على الطالبات حين أطلقن عليها اسم كليوباترا، فتقول ابتهال متحدثة إلى أستاذتها/مس كليوباترا (عندما أوقفتِ إيفون لتسأليها عما كنتُ أهمسُ لها به تسارعت دقات قلبي، ولم تهدأ إلا بعد أن رأيتك تبتسمين وتعودين لمواصلة الدرس)، (كنتُ خائفة منك جدا، خشيت أن ترسلي استدعاءً لولي أمري)، وتتوالى الثنائيات الضدية المشكلة لنسيج القصة ورؤيتها الفكرية، فحين تتحدث عن مس كليوباترا في ماضيها تقول: (نعم هي ، مس كليوباترا ذات الشعر الأصفر الحريري والوجه البيضاوي بلونه الخمري اللطيف) فتعبر بذلك عن حيوية الجسم والروح والجمال الجسماني؛ فالشعر أصفر حريري، والوجه بيضاوي يختلط بياضه باللون الخمري اللطيف، إنه الجمال الجسماني الجذاب، وعندما أطلقت الطالبات عليها اسم مس كليوباترا لم تغضب، بل يبدو أنها سعدت بهذا الاسم؛ إذ كان رد فعلها في قولها: (قالت وهي تمسح على وجهها: وهل تغضب امرأة إذا شبهها أحد بكليوباترا !!)، أما بالنسبة للجانب النفسي فقد أشرنا أنها لم تكن معقدة، وقد بدا ذلك في ردود أفعالها السابقة، وفي حرصها على إبراز الحنان والحب لطالباتها، ولكن هذا الجمال كله قد آل إلى النقيض تماما بمرور الزمن، وهنا يبرز الجانب الآخر من الثنائية الضدية؛ إذ تقول ابتهال في التعبير عن زوال هذا الجمال (أبحث عن ملامح مس كليوباترا فيها فلا أجد إلا صورة باهتة منها، امتلأ جسدها الرشيق كثيرا، بدا وجهها في غطاء الرأس مختلفا، زحفت التجاعيدُ بقسوة للعينين اللتين تميزتا بكحلها الفرعوني ، نعم كحلها الفرعوني الذي كان سببا لإطلاقنا عليها هذا الاسم) إنه الزمن وأفاعيله التي لا ترحم أحدا مهما بدا قويا شامخا، وتقول أيضا معبرة عن الانكسار الذي أصاب تلك الشخصية القوية (وكانت هذه بالطبع أول مرة أرى هذا الوجه الشامخ بهذا الانكسار)، وقد عبَّرت ابتهال عن شفقتها على أستاذتها وما أصابها من عوامل الزمن في قولها: (أخذتها في حضني كأنها طفلتي الصغيرة ومسحت بيدي على ظهرها وشعرت ببلل دموعها يتسرب من بلوزتي إلي صدري ، شهقت كثيرا وطويلا ، هدهدتها كما أهدهد طفلتي )، وتقول ابتهال أيضا واصفة حال أستاذتها التي كانت تتميز بالحيوية والنشاط: (مدت لي يدها لأنهض بها من المقعد فقد أتعبها طول الجلوس كما أخبرتْني، مشيت معها حتى السرير، أجلستها وأسندت ظهرها لقائمة) وإذا كانت مس كليوباترا في الماضي محكمة العبارة، قادرة على صوغ أفكارها، كما بدا في قول ابتهال/تلميذتها عنها (صاحبة العبارات ذات القفلات المحكمة التي تجعلنا نتوقف عن كل شيء إلا متابعة حصتها الممتعة) فإنها بدت في النهاية غير مبالية بشيء، وقد عبَّرت ابتهال عن ذلك حين زارتها في حجرتها، إذ تقول (جالسة على مقعد قبالة النافذة المطلة على الحديقة وقد جعلت ظهرها للداخل من الباب ، منكفئة علي شيء في يدها ، لم تلتفت لتنظر من الداخل)، أما مس كليوباترا نفسها فقد عبَّرت عن العجز وقسوة الزمن في ردِّها على تلميذتها ابتهال/مديرة الدار، فتقول: (تقولين اطلبي ما تحتاجين مني ، هنا لا ينقصني شيء، فالدار على مستوى عال من الخدمة والرعاية ، لكن هل تستطيعين أن تأتي لي بولديَّ من أمريكا وإنجلترا ؟ أن ترققي قلب ابنتي عليّ فتجعلَ زيارتها شهرية بدلا من ربع سنوية ؟ هل تستطيعين أن تعيديني لبيتي؟ لحريتي؟ لذكرياتي؟ لكن دون وحدة) لقد لخصت مس كليوباترا في حديثها السابق كل المعاناة التي تعتصر قلبها، وهي في الحقيقة تعبر عن التغيرالقيمي الذي طرأ على الإنسان من ناحية، والتغيرات الاجتماعية التي أصابت الناس من ناحية أخرى، فإذا كانت التغيرات الناشئة عن عوامل الزمن والتطور الطبيعي للإنسان نتيجة كبر السن، وضعف الجسم، وانهزام الذاكرة شيئا طبيعيا فإن التغيرات التي أكسبت الإنسان جمودا في المشاعر، وانهزاما أمام الجانب المادي للحياة هي التي أثقلت كاهل مس كليوباترا وزادت من معاناتها؛ فهي لا تنكر عوامل الزمن ولكنها تنكر ما فعله أبناؤها حين اغتربوا في كل ناحية وتركوها وحيدة تعاني العجز والوحدة، وتواجه وحدها تغيرات الزمن وتقلبات الأيام غير آبهين بما قد تمر به من معاناة، أو ضعف جسدي، أو احتياج روحي، إنها آفة المجتمعات التي أصابتها المادية في مقتل، فانهزمت أمام طغيان الاحتياجات المادية ونهم الإنسان وانشغاله عن نفسه، وحاجاته الروحية، فتراجعت منظومة القيم أمام هذه التغيرات الاجتماعية والنهم الإنساني للمادة.
لقد كان الزمن وآثاره هو البطل الحقيقي في هذه القصة، وما مس كليوباترا إلا نموذج قدَّمته الكاتبة لإنسان هذا العصر، وقد مارس عليه الزمن أفعاله، فحفر أخاديده بعمق في الجسد والروح، ولم يستطع الإنسان/الأبناء/ابتهال تقديم المساعدة للآخر/مس كليوباترا لاجتياز محنة الزمن، إما نتيجة الانشغال بالحياة والذوبان في تفاصيلها (موقف الأبناء) أو نتيجة العجز عن إقناع البنت أن تغير عاداتها في زيارة أمها (موقف ابتهال/مديرة الدار)، وقد أرادت الكاتبة أن تنقل لنا هذه الصورة بعمق جراحها، ومأساوية الإنسان في هذا الزمن الذي تغيَّر كثيرا عن الماضي.
وسوف نتوقف في الجزء الثاني من الدراسة أمام تشكيل الشخصيات في النص فكريا ونفسيا، كما سنتوقف أمام التشكيل اللغوي للنص، وقدرته على إبراز رؤية الكاتبة الفكرية، وكذلك أمام التشكيل البلاغي للنص ومساهمته في إنتاج الدلالة، وسوف نحاول قياس الجمل على فرضية بوزيمان من حيث الحركية والثبات، مؤمنين أن إنتاج الدلالة ناشئ عن الجدلية المستمرة بين المتلقي والنص، ومحاولة فتح كافة النوافذ أمام النص لفهم أعمق، بعيدا عن القوالب الجاهزة والأكلشيهات المسكوكة، والمقولات المؤدلجة.
==================
قصة ( مس كليوباترا ) للكاتبة المصرية وداد معروف
حينما قدم لي المعاون دفترا بأسماء النزلاء وقفت أمام هذا الاسم طويلا، غير مصدقة … ماجدة عزيز محمود !!!
أتكون هي ؟ تابعت بقية البيانات، مديرة مدرسة درية سعيد الثانوية، نعم هي ، مس كليوباترا ذات الشعر الأصفر الحريري والوجه البيضاوي بلونه الخمري اللطيف، صاحبة العبارات ذات القفلات المحكمة التي تجعلنا نتوقف عن كل شيء إلا متابعة حصتها الممتعة، فقد عودتنا أن تُنوعَها ما بين الجد والفكاهة والمرح، نلمس حنانها وخوفها علينا من بين كلماتها الناصحة
دققت باب الغرفة 18، استأذنت للدخول، أذنت لي ، لمحت امرأة ممتلئة جالسة على مقعد قبالة النافذة المطلة على الحديقة وقد جعلت ظهرها للداخل من الباب ، منكفئة علي شيء في يدها ، لم تلتفت لتنظر من الداخل ، اقتربت منها ووقفت قبالة وجهها، ابتسمت ، مددت يدي أسلم عليها، مدت يدها ، تأملتها وقلت: صباح الخير مس كليوباترا، اندهشت ونظرت لي طويلا وقالت: إذن أنتِ من طالبات مدرستي؟
قلت : نعم ولي الشرف أن تعلمتُ منكِ الإنجليزية، ونطقها الصحيح الذي أتميز به الآن ، أشارت إلى المقعد المقابل لها لأجلس وأغلقت هاتفها ووضعته بجانبها وأنا أبحث عن ملامح مس كليوباترا فيها فلا أجد إلا صورة باهتة منها، امتلأ جسدها الرشيق كثيرا، بدا وجهها في غطاء الرأس مختلفا، زحفت التجاعيدُ بقسوة للعينين اللتين تميزتا بكحلها الفرعوني ، نعم كحلها الفرعوني الذي كان سببا لإطلاقنا عليها هذا الاسم، الذي شاع بعد ذلك،
سألتني: في أي عام كنتِ عندنا بالمدرسة ؟
قلت لها : هل تذكرين ابتهال وإيفون؟
ضحِكتْ وقالت : نعم أنتِ ابتهال
ضحِكتُ وقلتُ : كنتُ خائفة منك جدا، خشيت أن ترسلي استدعاءً لولي أمري، لكن رد فعلك أدهشنى ،
قالت وهي تمسح على وجهها: وهل تغضب امرأة إذا شبهها أحد بكليوباترا !!
عندما أوقفتِ إيفون لتسأليها عما كنتُ أهمسُ لها به تسارعت دقات قلبي … ولم تهدأ إلا بعد أن رأيتك تبتسمين وتعودين لمواصلة الدرس ،
مدت لي يدها لأنهض بها من المقعد فقد أتعبها طول الجلوس كما أخبرتْني ، مشيت معها حتى السرير، أجلستها وأسندت ظهرها لقائمة قالت: عرفت أن مديرة الدار الجديدة اسمها ابتهال، لكن لم أكن أعرف أنها أنت طالبتي النجيبة ، مبارك لكِ،
وأنا أغطيها بالبطانية قلت لها: أنا هنا ابنتك فلا تترددي أن تطلبي مني ما تريدين ، وكأنني نكأت جرحا عميقا فانهمرت دموع مس كليوباترا وكانت هذه بالطبع أول مرة أرى هذا الوجه الشامخ بهذا الانكسار،
أخذتها في حضني كأنها طفلتي الصغيرة ومسحت بيدي على ظهرها وشعرت ببلل دموعها يتسرب من بلوزتي إلي صدري ، شهقت كثيرا وطويلا ، هدهدتها كما أهدهد طفلتي ، همست لها أن اهدئي لا تبكى لا أتحمل أن أراك هكذا،
تقولين اطلبي ما تحتاجين مني ، هنا لا ينقصني شيء، فالدار على مستوى عال من الخدمة والرعاية ، لكن هل تستطيعين أن تأتي لي بولديَّ من أمريكا وإنجلترا ؟ أن ترققي قلب ابنتي عليّ فتجعلَ زيارتها شهرية بدلا من ربع سنوية ؟ هل تستطيعين أن تعيديني لبيتي؟ لحريتي؟ لذكرياتي؟ لكن دون وحدة
وقفتُ عاجزةً وظلت أسئلتُها تدق في عقلي وتحيرني ، ما الذي يمكن أن أقدمه لمس كليوباترا؟ ، حتى لو اقنعتُ ابنتَها بمتابعة زيارتها ربما تستجيب لي شهرا أو شهرين ثم تعود سيرتها الأولى ؛ فالحنان لا يستجدى
وما زلت أفكر ما الذي يمكن أن أقدمه لمس كليوباترا
يتألف العنوان من حيث البنية النحوية من جملة اسمية حذف أحد طرفيها وأبقت الكاتبة على الطرف الثاني دالا على ما يتشكل في ذهنها لحظة الكتابة، ومختزلا في الوقت نفسه الطرف المحذوف، ولكنه يترك المتلقي يمارس البحث عن ماهية المحذوف، وسبب حذفه، وإذا كانت الجمل تتشكل لغويا في الواقع وفق تشكل معانيها في الذهن على حسب رأي عبد القاهر الجرجاني فإننا نستطيع القول إن البنية المركزية للقصة تتمثل فيما اتخذته الكاتبة فعليا عنوانا لقصتها (مس كليوباترا) على أننا يمكن أن نقرأ جملة العنوان بطريقتين حين نحاول أن نسترجع المحذوف منها، (هذه مس كليوباترا – هل هذه مس كليوباترا؟!) ولكلٍّ من هذين التصورين للمحذوف ما يبرره في النص، وإذا نظرنا إلى الجملة الأولى فإننا نجدها جملة اسمية بسيطة تتكون من مبتدأ وخبر، وقد حذف المبتدأ (هذه) وأبقت الكاتبة على الخبر الدال على الذات (مس كليوباترا) وإذا تأملنا الجملة ثانية فسوف نجد أن المبتدأ المحذوف اسم إشارة يشير إلى الذات أيضا، وكأن الحاضر الوحيد في القصة هو الذات (مس كليوباترا)، إن العلامة اللغوية – سواء المبتدأ المحذوف أو الخبر المذكور – تكرِّس الحضور المادي للشخصية المحورية في القصة وهي مس كليوباترا، وإذا تأملنا الجملة فسنجدها جملة خبرية تريد أن تقدم لنا خبرا عن شخصية تسمى كليوباترا، وقد جاء الخبر ابتدائيا، أي خاليا من أي شكل من أشكال التوكيد مما يوحي أن المتلقي خالي الذهن، واستعداده الذهني كبير لتلقي الخبر وتصديقه، وكأن الكاتبة بهذا تدل على أنها الوحيدة مصدر الخبر، ومن ثم فإن المتلقي ليس أمامه إلا التصديق، ولذلك جاء الخبر ابتدائيا خاليا من أي شكل من أشكال الدلالة على الشك أو الإنكار فيما تسوقه الكاتبة، كما يمكن أن تدل ابتدائية الخبر على أن ما تتحدث عنه الكاتبة ليس مجالا لشك أو إنكار؛ فإن عوامل الزمن على الشخصية الإنسانية لا يمكن أن يتجاهلها أحد، أو ينكرها منكرٌ مهما كانت توجهاته الفكرية وانحيازاته الجمالية، أما التصور الثاني للعنوان (هل هذه مس كليوباترا؟!) فعلى الرغم من كونه جملة اسمية من حيث التكييف النحوي إلا أنها جملة إنشائية/استفهامية، تحمل رؤية الكاتبة وتعجبها واستنكارها لآثار الزمن على تلك الشخصية التي كان لها حضور بارز في الحياة، وتفاعل إيجابي لا يخلو من قوة وحيوية ونشاط، ولكن ذلك يستحيل إلى وهن وضعف بفعل الزمن، وكأن الكاتبة تسوق رؤيتها في شكل استفهام تعجبي استنكاري من فعل الزمن (هل هذه مس كليوباترا؟!) إنها تسترجع تاريخا من الحيوية والنشاط والقوة والاندفاع، والتأثير الإيجابي، وكيف تحول كل هذا إلى النقيض تماما، فالقوة صارت ضعفا، والحيوية والنشاط صارا وهنا على وهن، والاندفاع صار عجزا، وحتى التأثير الإيجابي في المجتمع تحول إلى سراب من خلال انقطاع الأولاد، وابتعادهم عن أمهم مس كليوباترا، ولم يبق سوى التلميذة التي كان حضورها مجرد إثبات أو شاهد عيان لعامل الزمن وآثاره على الشخصية؛ فلم تستطع هي الأخرى أن تقدم شيئا يذكر، وقد بدا ذلك في التساؤل الذي ختمت به القصة (وما زلت أفكر ما الذي يمكن أن أقدمه لمس كليوباترا) فهي لم تقدم شيئا، ولا تعرف ما الذي يمكن أن تقدمه لهذا الجمال المهزوم ماديا من خلال التجاعيد، والكبرياء المهزومة معنويا بفعل عامل الزمن وانقطاع التواصل نتيجة ابتعاد الأبناء، وقد عبَّرت الكاتبة عن ذلك بوضوح تام في قولها (وأنا أغطيها بالبطانية قلت لها: أنا هنا ابنتك فلا تترددي أن تطلبي مني ما تريدين ، وكأنني نكأت جرحا عميقا فانهمرت دموع مس كليوباترا وكانت هذه بالطبع أول مرة أرى هذا الوجه الشامخ بهذا الانكسار). إنها الحياة التي لا ترحم والزمن الذي لا يترك شيئا إلا رسم ملامحه عليه، إن الزمن هو المنتصر دائما مهما كان هناك أولاد أو حواريون من المتعلمين؛ فالأولاد لا يستطيعون أن يقدموا شيئا يمنع تجاعيد الروح والوجه، ولا الحواريون يملكون قدرة لاستعادة المفقود من القوة والحيوية والنشاط، وقد ازداد العجز وضوحا في قول الكاتبة على لسان مديرة الدار/تلميذة مس كليوباترا (ما زلت أفكر)؛ إذ تدل على الاستمرار في التفكير، أي أنها لم تصل بعد إلى شيء ملموس يمكن أن يؤثر على هذه الشخصية التي كانت ذات يوم ملء السمع والبصر، كما تحدثت المديرة/التلميذة صراحة عن العجز حين حدثتها مس كليوباترا بمكنون نفسها، وما يمكن أن يعيد لها الحياة وحيويتها حين قالت ردًّا على تساؤلات أستاذتها (وقفتُ عاجزةً وظلت أسئلتُها تدق في عقلي وتحيرني). إن العجز أمام الزمن وفعله في النفس البشرية، وتجلي آثاره المادية والمعنوية على الشخصية هو الحاضر بقوة في القصة.
وإذا نظرنا إلى اختيار العنوان (مس كليوباترا) من حيث الدلالة فإن هذا الاسم يستحضر كل معاني القوة والكبرياء والعظمة إلى جانب الجمال، ثم في النهاية الانكسار؛ فكليوباترا كانت ملكة، ومجرد ذكر اسمها يستدعي معاني الملك من حيث العظمة والكبرياء والقوة والأمر والنهي، وغيرها من المعاني المصاحبة للملك، وهي كذلك كانت رمزا للجمال، ومن ثم يستدعي ذكر اسمها معاني الجمال والجلال، كما كانت أيضا معشوقة الأمراء والملوك والعظماء، وكانت نهايتها كذلك مأساوية، إن هذا الاستحضار المصاحب للاسم ذو دلالة قوية في القصة؛ فالخطوط العامة للشخصية المحورية في القصة بدت عبر حياتها متوحِّدة مع شخصية كليوباترا الحقيقية بشكل ما؛ ففي بداية حياتها كانت ذات قوة وحضور وتأثير في طالباتها، كما كانت ذات جمال طاغٍ مما جعل الطالبات يطلقن عليها اسم كليوباترا، متمثلين دون وعي فكري عميق شخصية تلك الملكة الجميلة التي حملت هذا الاسم، ومن ثم فإن الاستخدام اللغوي للكلمات والدلالات المعنوية للاسم تعاضدا معا في إبراز المضمون، وتشكيل وعي المتلقي حين مقاربة القصة.
حركة المعنى في القصة
قامت حركة المعنى في القصة على ثنائية ضدية برز طرفاها بوضوح على المستويين اللفظي والدلالي، وقد استخدمت الكاتبة ألفاظا وجملا تحمل هذه الثنائية الضدية، وتعبر عنها في شكليْها البسيط والمعقد في آن؛ لتغرس بذلك ملامح الشخصية المحورية، وتفاعلاتها الحيوية، ونهايتها المأساوية، وفي الوقت نفسه تساعد في تطور الحدث داخل القصة؛ لتصل بنا إلى لحظة التنوير التي أرادتها، كاشفة بذلك عن عجز الإنسان وانهزامه أمام الزمن وأفاعيله مهما كان هذا الإنسان قويا، أو امتلك أسباب القوة والحيوية والتفاعل الإيجابي الذي قد يبدو معه أنه قادر على مواصلة الحياة بالقوة نفسها، ولكنه يكتشف في النهاية وهم ما يعتقده، وسراب ما يؤمِّله، ومن ذلك أن الكاتبة تقول عن مس كليوباترا (فقد عودتنا أن تُنوعَها – أي الحصة – ما بين الجد والفكاهة والمرح) فعلى المستوى البسيط من الدلالة نلاحظ أن الكاتبة قد عبرت عن تنوع حصة أستاذتها مس كليوباترا/بين الجد والمرح، مستخدمة بذلك كلمتين متضادتين في المعنى هما (الجد – المرح) وعلى المستوى اللفظي كانت الكلمتان متضادتين، وعلى المستوى الدلالي عبرت الكلمتان عن موقفين متضادين من الأستاذة داخل الحصة الواحدة، ولكننا نلاحظ أن الكاتبة عند التعبير عن حالات الجد استخدمت لفظا واحدا (الجد) ولكنها عند التعبير عن الحالة المضادة استخدمت لفظين (الفكاهة والمرح) وإذا كان لفظ (مرح) يدور معناه حول الغبطة والنشاط والفرح فإن معنى الفكاهة يدور حول الدعابة والمزاح وطُرَفِ الكلام، وهذا يعني أن شخصية الأستاذة لم تكن معقدة بالمعنى الحقيقي للتعقيد، ولكنها كانت جادة في غير تعقيد، وهذا ما أشارت إليه الكاتبة في القصة صراحة في قولها على لسان ابتهال تلميذتها/مديرة الدار (نلمس حنانها وخوفها علينا من بين كلماتها الناصحة)، وكذلك بدا هذا الحنان والخوف والحرص على الطالبات حين أطلقن عليها اسم كليوباترا، فتقول ابتهال متحدثة إلى أستاذتها/مس كليوباترا (عندما أوقفتِ إيفون لتسأليها عما كنتُ أهمسُ لها به تسارعت دقات قلبي، ولم تهدأ إلا بعد أن رأيتك تبتسمين وتعودين لمواصلة الدرس)، (كنتُ خائفة منك جدا، خشيت أن ترسلي استدعاءً لولي أمري)، وتتوالى الثنائيات الضدية المشكلة لنسيج القصة ورؤيتها الفكرية، فحين تتحدث عن مس كليوباترا في ماضيها تقول: (نعم هي ، مس كليوباترا ذات الشعر الأصفر الحريري والوجه البيضاوي بلونه الخمري اللطيف) فتعبر بذلك عن حيوية الجسم والروح والجمال الجسماني؛ فالشعر أصفر حريري، والوجه بيضاوي يختلط بياضه باللون الخمري اللطيف، إنه الجمال الجسماني الجذاب، وعندما أطلقت الطالبات عليها اسم مس كليوباترا لم تغضب، بل يبدو أنها سعدت بهذا الاسم؛ إذ كان رد فعلها في قولها: (قالت وهي تمسح على وجهها: وهل تغضب امرأة إذا شبهها أحد بكليوباترا !!)، أما بالنسبة للجانب النفسي فقد أشرنا أنها لم تكن معقدة، وقد بدا ذلك في ردود أفعالها السابقة، وفي حرصها على إبراز الحنان والحب لطالباتها، ولكن هذا الجمال كله قد آل إلى النقيض تماما بمرور الزمن، وهنا يبرز الجانب الآخر من الثنائية الضدية؛ إذ تقول ابتهال في التعبير عن زوال هذا الجمال (أبحث عن ملامح مس كليوباترا فيها فلا أجد إلا صورة باهتة منها، امتلأ جسدها الرشيق كثيرا، بدا وجهها في غطاء الرأس مختلفا، زحفت التجاعيدُ بقسوة للعينين اللتين تميزتا بكحلها الفرعوني ، نعم كحلها الفرعوني الذي كان سببا لإطلاقنا عليها هذا الاسم) إنه الزمن وأفاعيله التي لا ترحم أحدا مهما بدا قويا شامخا، وتقول أيضا معبرة عن الانكسار الذي أصاب تلك الشخصية القوية (وكانت هذه بالطبع أول مرة أرى هذا الوجه الشامخ بهذا الانكسار)، وقد عبَّرت ابتهال عن شفقتها على أستاذتها وما أصابها من عوامل الزمن في قولها: (أخذتها في حضني كأنها طفلتي الصغيرة ومسحت بيدي على ظهرها وشعرت ببلل دموعها يتسرب من بلوزتي إلي صدري ، شهقت كثيرا وطويلا ، هدهدتها كما أهدهد طفلتي )، وتقول ابتهال أيضا واصفة حال أستاذتها التي كانت تتميز بالحيوية والنشاط: (مدت لي يدها لأنهض بها من المقعد فقد أتعبها طول الجلوس كما أخبرتْني، مشيت معها حتى السرير، أجلستها وأسندت ظهرها لقائمة) وإذا كانت مس كليوباترا في الماضي محكمة العبارة، قادرة على صوغ أفكارها، كما بدا في قول ابتهال/تلميذتها عنها (صاحبة العبارات ذات القفلات المحكمة التي تجعلنا نتوقف عن كل شيء إلا متابعة حصتها الممتعة) فإنها بدت في النهاية غير مبالية بشيء، وقد عبَّرت ابتهال عن ذلك حين زارتها في حجرتها، إذ تقول (جالسة على مقعد قبالة النافذة المطلة على الحديقة وقد جعلت ظهرها للداخل من الباب ، منكفئة علي شيء في يدها ، لم تلتفت لتنظر من الداخل)، أما مس كليوباترا نفسها فقد عبَّرت عن العجز وقسوة الزمن في ردِّها على تلميذتها ابتهال/مديرة الدار، فتقول: (تقولين اطلبي ما تحتاجين مني ، هنا لا ينقصني شيء، فالدار على مستوى عال من الخدمة والرعاية ، لكن هل تستطيعين أن تأتي لي بولديَّ من أمريكا وإنجلترا ؟ أن ترققي قلب ابنتي عليّ فتجعلَ زيارتها شهرية بدلا من ربع سنوية ؟ هل تستطيعين أن تعيديني لبيتي؟ لحريتي؟ لذكرياتي؟ لكن دون وحدة) لقد لخصت مس كليوباترا في حديثها السابق كل المعاناة التي تعتصر قلبها، وهي في الحقيقة تعبر عن التغيرالقيمي الذي طرأ على الإنسان من ناحية، والتغيرات الاجتماعية التي أصابت الناس من ناحية أخرى، فإذا كانت التغيرات الناشئة عن عوامل الزمن والتطور الطبيعي للإنسان نتيجة كبر السن، وضعف الجسم، وانهزام الذاكرة شيئا طبيعيا فإن التغيرات التي أكسبت الإنسان جمودا في المشاعر، وانهزاما أمام الجانب المادي للحياة هي التي أثقلت كاهل مس كليوباترا وزادت من معاناتها؛ فهي لا تنكر عوامل الزمن ولكنها تنكر ما فعله أبناؤها حين اغتربوا في كل ناحية وتركوها وحيدة تعاني العجز والوحدة، وتواجه وحدها تغيرات الزمن وتقلبات الأيام غير آبهين بما قد تمر به من معاناة، أو ضعف جسدي، أو احتياج روحي، إنها آفة المجتمعات التي أصابتها المادية في مقتل، فانهزمت أمام طغيان الاحتياجات المادية ونهم الإنسان وانشغاله عن نفسه، وحاجاته الروحية، فتراجعت منظومة القيم أمام هذه التغيرات الاجتماعية والنهم الإنساني للمادة.
لقد كان الزمن وآثاره هو البطل الحقيقي في هذه القصة، وما مس كليوباترا إلا نموذج قدَّمته الكاتبة لإنسان هذا العصر، وقد مارس عليه الزمن أفعاله، فحفر أخاديده بعمق في الجسد والروح، ولم يستطع الإنسان/الأبناء/ابتهال تقديم المساعدة للآخر/مس كليوباترا لاجتياز محنة الزمن، إما نتيجة الانشغال بالحياة والذوبان في تفاصيلها (موقف الأبناء) أو نتيجة العجز عن إقناع البنت أن تغير عاداتها في زيارة أمها (موقف ابتهال/مديرة الدار)، وقد أرادت الكاتبة أن تنقل لنا هذه الصورة بعمق جراحها، ومأساوية الإنسان في هذا الزمن الذي تغيَّر كثيرا عن الماضي.
وسوف نتوقف في الجزء الثاني من الدراسة أمام تشكيل الشخصيات في النص فكريا ونفسيا، كما سنتوقف أمام التشكيل اللغوي للنص، وقدرته على إبراز رؤية الكاتبة الفكرية، وكذلك أمام التشكيل البلاغي للنص ومساهمته في إنتاج الدلالة، وسوف نحاول قياس الجمل على فرضية بوزيمان من حيث الحركية والثبات، مؤمنين أن إنتاج الدلالة ناشئ عن الجدلية المستمرة بين المتلقي والنص، ومحاولة فتح كافة النوافذ أمام النص لفهم أعمق، بعيدا عن القوالب الجاهزة والأكلشيهات المسكوكة، والمقولات المؤدلجة.
==================
قصة ( مس كليوباترا ) للكاتبة المصرية وداد معروف
حينما قدم لي المعاون دفترا بأسماء النزلاء وقفت أمام هذا الاسم طويلا، غير مصدقة … ماجدة عزيز محمود !!!
أتكون هي ؟ تابعت بقية البيانات، مديرة مدرسة درية سعيد الثانوية، نعم هي ، مس كليوباترا ذات الشعر الأصفر الحريري والوجه البيضاوي بلونه الخمري اللطيف، صاحبة العبارات ذات القفلات المحكمة التي تجعلنا نتوقف عن كل شيء إلا متابعة حصتها الممتعة، فقد عودتنا أن تُنوعَها ما بين الجد والفكاهة والمرح، نلمس حنانها وخوفها علينا من بين كلماتها الناصحة
دققت باب الغرفة 18، استأذنت للدخول، أذنت لي ، لمحت امرأة ممتلئة جالسة على مقعد قبالة النافذة المطلة على الحديقة وقد جعلت ظهرها للداخل من الباب ، منكفئة علي شيء في يدها ، لم تلتفت لتنظر من الداخل ، اقتربت منها ووقفت قبالة وجهها، ابتسمت ، مددت يدي أسلم عليها، مدت يدها ، تأملتها وقلت: صباح الخير مس كليوباترا، اندهشت ونظرت لي طويلا وقالت: إذن أنتِ من طالبات مدرستي؟
قلت : نعم ولي الشرف أن تعلمتُ منكِ الإنجليزية، ونطقها الصحيح الذي أتميز به الآن ، أشارت إلى المقعد المقابل لها لأجلس وأغلقت هاتفها ووضعته بجانبها وأنا أبحث عن ملامح مس كليوباترا فيها فلا أجد إلا صورة باهتة منها، امتلأ جسدها الرشيق كثيرا، بدا وجهها في غطاء الرأس مختلفا، زحفت التجاعيدُ بقسوة للعينين اللتين تميزتا بكحلها الفرعوني ، نعم كحلها الفرعوني الذي كان سببا لإطلاقنا عليها هذا الاسم، الذي شاع بعد ذلك،
سألتني: في أي عام كنتِ عندنا بالمدرسة ؟
قلت لها : هل تذكرين ابتهال وإيفون؟
ضحِكتْ وقالت : نعم أنتِ ابتهال
ضحِكتُ وقلتُ : كنتُ خائفة منك جدا، خشيت أن ترسلي استدعاءً لولي أمري، لكن رد فعلك أدهشنى ،
قالت وهي تمسح على وجهها: وهل تغضب امرأة إذا شبهها أحد بكليوباترا !!
عندما أوقفتِ إيفون لتسأليها عما كنتُ أهمسُ لها به تسارعت دقات قلبي … ولم تهدأ إلا بعد أن رأيتك تبتسمين وتعودين لمواصلة الدرس ،
مدت لي يدها لأنهض بها من المقعد فقد أتعبها طول الجلوس كما أخبرتْني ، مشيت معها حتى السرير، أجلستها وأسندت ظهرها لقائمة قالت: عرفت أن مديرة الدار الجديدة اسمها ابتهال، لكن لم أكن أعرف أنها أنت طالبتي النجيبة ، مبارك لكِ،
وأنا أغطيها بالبطانية قلت لها: أنا هنا ابنتك فلا تترددي أن تطلبي مني ما تريدين ، وكأنني نكأت جرحا عميقا فانهمرت دموع مس كليوباترا وكانت هذه بالطبع أول مرة أرى هذا الوجه الشامخ بهذا الانكسار،
أخذتها في حضني كأنها طفلتي الصغيرة ومسحت بيدي على ظهرها وشعرت ببلل دموعها يتسرب من بلوزتي إلي صدري ، شهقت كثيرا وطويلا ، هدهدتها كما أهدهد طفلتي ، همست لها أن اهدئي لا تبكى لا أتحمل أن أراك هكذا،
تقولين اطلبي ما تحتاجين مني ، هنا لا ينقصني شيء، فالدار على مستوى عال من الخدمة والرعاية ، لكن هل تستطيعين أن تأتي لي بولديَّ من أمريكا وإنجلترا ؟ أن ترققي قلب ابنتي عليّ فتجعلَ زيارتها شهرية بدلا من ربع سنوية ؟ هل تستطيعين أن تعيديني لبيتي؟ لحريتي؟ لذكرياتي؟ لكن دون وحدة
وقفتُ عاجزةً وظلت أسئلتُها تدق في عقلي وتحيرني ، ما الذي يمكن أن أقدمه لمس كليوباترا؟ ، حتى لو اقنعتُ ابنتَها بمتابعة زيارتها ربما تستجيب لي شهرا أو شهرين ثم تعود سيرتها الأولى ؛ فالحنان لا يستجدى
وما زلت أفكر ما الذي يمكن أن أقدمه لمس كليوباترا