أحد الجينات المصرية الفريدة لعبادة الفرد، موروث منذ عصر الملك مينا، لا يجلس على قمة الهرم الأكبر إلا شخص واحد، يعيش فوقها، ويموت فوقها، وتظل محجوزة بعد موته ليظل خالدا للأبد. إنه جين الأبدية والفكر الأحادي الصامد، ضد فكرة التعدد، اللهم إلا تعدد الزوجات.
زاملت نجيب محفوظ، منذ أربعين عاما، في لجنة القصة بالمجلس الأعلى للفنون والآداب، كان يرأسها توفيق الحكيم، ويستولى بأحاديثه الجذابة على انتباه الأعضاء، لم يكن أحد يتحدث في اللجنة إلا هو، والكل يناديه «توفيق بيه»، أحاول أن أنطق كلمة «بيه» فتقف في حلقى كالغصة، سقطت ألقاب الأفندي والبيه والباشا مع سقوط الملكية، وارتبطت في خلايا عقلي بالعبودية، أناديه عند الضرورة «يا أستاذ توفيق» فيرشقنى نجيب محفوظ بنظرة من تحت نظارته، ويهمس في أذني «توفيق بيه»، لكن أعصاب الأذن عندي تأبى توصيل الكلمة إلى مركز النطق في مخى.
كنت أرسم في خيالى منذ طفولتى صورة للإنسان الأديب المبدع، تشبه فتى الأحلام، طويلا ممشوق القامة، عيناه نفاذتان يكسوهما بريق أخاذ، لا يرتدي نظارة كالأطباء، كنت أكره الأطباء بأصابعهم الحادة وإبرهم المدببة، وكنت مصابة أيضا بالعنصرية، ضد النظارة الزجاجية البيضاء، يشبه تعصب البيض ضد ذوي البشرة السوداء، ثم شفيت من المرض بعد وقوعي في حب فنان أفريقي أسود اللون يرتدى نظارة طبية.
بالغ الكثيرون في تأليه نجيب محفوظ كعادتهم مع الفرد الواحد الجالس على أي قمة، تسابقوا في تقديسه بعد حصوله على جائزة نوبل، لا شك أن نجيب محفوظ كاتب مبدع كبير، يستحق التمجيد، لكن المبالغة في أي شيء تنقلب للضد أحيانا، كما تتفاوت روايات نجيب محفوظ بالطبع في القيمة الأدبية، فلا يمكن أن تكون الأعمال الإبداعية متساوية لدى الجميع، وتلعب الثقافة والتربية والتعليم والدين والسياسة دورا في اختلاف الأذواق والوعي الإبداعى، لكن الإبداع الشجاع المتمرد يتقدم بخطى أسرع من الحركة النقدية الأكاديمية.
تأثر نجيب محفوظ بأفكار سيجموند فرويد، مثل أغلب أدباء عصره، وانعكس ذلك على الشخصيات في بعض رواياته، أحد أبطاله (فى قصة السراب مثلا) فوجئ ليلة الزفاف بعجزه الجنسي، فانزعج بشدة، وتصور أن الشيطان يخذله في ليلة عمره، إذ يتهدل جسده، ويسقط مرتخيا رغم تأجج شهوته لعروسه الحبيبة، تصور نجيب محفوظ أن هذا العجز الجنسي يرجع إلى الأم المتسلطة وعقدة أوديب، كما فسرها فرويد. فالأم تسعى لامتلاك طفلها تعويضا عن إحساسها بالنقص لعدم امتلاكها العضو الذكوري الذى اعتبره فرويد أصل الوجود مثل أرسطو، ويشعر الطفل بالعجز النفسي تجاه أمه الكبيرة القوية، ثم بالعجز النفسي الجنسي تجاه عروسه، التي يحبها ويقدسها كأمه، إنه الحب العذري الروحي الطاهر المنفصل عن الحب الجسدي المدنس، المرتبط منذ طفولته بحواء حليفة الشيطان، وتعاليم الأسرة والمدرسة والكنيسة والجامع والإذاعات، والتدرب منذ المراهقة على إطفاء شهوته مع بائعات الهوى، ثم الزواج في النهاية من فتاة نقية طاهرة تثبت عذريتها (بالدم) ليلة الزفاف.
يحدث العجز الجنسى النفسي للرجل في معظم الأحيان للأسباب التالية:
تهيب الحبيبة المقدسة ليلة الزفاف، الخوف التاريخي من الأم الكبرى الإلهة القديمة، والرهبة الطفولية من قوة أمه الوالدة المتحكمة فيه، بالإضافة إلى القلق الدفين على كفاءته الجنسية القائمة على مفهوم متضخم للرجولة والفحولة، ويعجز بطل نجيب محفوظ جنسيا مع زوجته الحبيبة الجميلة المعطرة المعقمة المقدسة، رغم غزواته الجنسية السابقة مع المرأة الرخيصة الشبقية.
كشفت علوم الطب النفسي في العقود الأخيرة، بعد مراجعة الباحثين والباحثات للتاريخ الأبوي (البطريكي) ودراسة العلوم البيولوجية والنفسية الجديدة، عن الأسباب الحقيقية لما سمي البرود الجنسي عند المرأة، أو عجز الرجل الجنسي النفسي الدائم، أو المؤقت في ظروف معينة منها ليلة الزفاف.
أدى تفكيك القيم الأخلاقية الأبوية المستمدة من العرف والدين والتربية والتعليم والقانون والسياسة إلى الكشف عن ازدواجيتها وتناقضها، خاصة في مجال العلاقات الحميمة بين الرجل والمرأة، إذ يرتكز النظام الأبوى على سلطة الرجل المطلقة في الدولة والعائلة، أو الاستبداد الذكوري الذي يمنح صاحب السلطة (الرجل) حصانة القانون والعرف والشرع والأخلاق، لامتلاكه القوة السياسية والمال والسلاح والنسب والتراث والإرث.
يتمتع الرجل بحريات جنسية واسعة، في بلادنا والعالم، على حين تفرض القيود الصارمة على المرأة، والسبب الأساسي هو «النسب الأبوى». وهل يمكن معرفة الأبوة (اسم الأب) إلا بفرض زوج واحد على المرأة، والتأكد بكافة القوانين ووسائل التخويف والقمع من عذريتها قبل الزواج وعفافها وإخلاصها، بعد الزواج؟ إن أي شك في سلوك المرأة والتزامها الكامل بالعفة يهدد أركان النظام الأبوي، ويبث الشك في نفوس الآباء بأن أطفالهم جاءوا من صلب رجل آخر.
وإذا فرضت العذرية والإخلاص الزوجى على كل النساء، فمع من يمارس الرجال نشاطهم الجنسي خارج الزواج؟
لهذا قسم النظام الحاكم النساء إلى قسمين: ١- زوجات عفيفات محترمات مخلصات طاهرات زاهدات في الجنس باردات. ٢- نساء بغايا ملتهبات جنسيا غير محترمات يشبعن شهوات الرجال خارج مؤسسة الزواج.
هذه الازدواجية والتناقضات الصارخة في القيم الأبوية الذكورية كانت منبع الإلهام لأغلب المبدعين في القرن الماضى، ومنهم عباس العقاد ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس ويوسف السباعى ولويس عوض وصلاح عبدالصبور وعبدالرحمن الأبنودي وغيرهم، لكن الإبداع العلمي والفني والأدبي والفني يتطور على الدوام.
