كانت طموحاته واسعة لا حدود لها، بل كانت تفوق فى سعتها خياله اللامتناهى وحلمه الكبير فى أن يصبح واحدا من كبار الأثرياء، وضاقت رأسه وقريته الصغيرة بهذه الأحلام والتطلعات.
وبينما كان الشاب أسير هذه الأحلام الكبيرة، تصادف أن التقى بواحد من أصدقائه الذين نزحوا إلى الساحل الشمالى بحثا عن الرزق، وراح الصديق يعدد له ما يدور فى هذا الساحل العجيب من مظاهر الترف والبذخ والثراء والإسراف أيضا، وما ينفق فيه من أموال لا حدود لها فى التشييد والبناء واللهو والسمر والجد والعبث.
وكان الشاب حتى هذه اللحظة لم يهده تفكيره بعد إلى نقطة البداية فى مشوار تحقيق أحلامه، وهنا شعر أن هذا الصديق هو نذير ذلك الهاتف الذى طالما ألح فى أعماقه أن شيئا خطيرا سوف يحدث فى حياته، فلمعت عيناه من شدة الفرح وانفرجت أسارير وجهه، وقرر على الفور أن ينزح إلى هذا الساحل العجيب، وتراقصت خيالات الحلم أمام عينيه وارتسمت صور الثراء فى مخيلته، وطلب من صديقه أن يطير به فورا إلى هناك.
وما أن وطئت قدماه إحدى القرى السياحية الشهيرة، حتى كاد يغشى عليه، إن القرية بما فيها وما حولها تبدو كقطعة من أوروبا، لقد تلقى تعليمه الجامعى بالقاهرة ورأى غرائبها وعجائبها وجمالها ولكنه لم يتخيل أبدا ما وقعت عليه عيناه فى هذا المكان الساحر العجيب .
وانبهر الشاب بما رأى، وشرد بذهنه شرودا عميقا لم يستطع صديقه أن يجد له تفسيرا، ولم يجب هو عن سبب هذا الشرود حين سأله الصديق عما بدا على ملامحه من انفعالات متناقضة، بل أومأ برأسه أنْ لا شىء، وظل ساعتها شاردا مبهورا.
وتعرف الشاب على سبل العمالة فى القرية ولكنه لم يرضخ لأى عمل يقابله كغيره من الشباب، فنفر من العمل فى المعمار بجميع مجالاته،واستاء من حرفة عمال الأمن الخصوصيين بمداخل القرى ومخارجها أو على المحلات الكائنة فيها، وأبَى أن يكون بائعا فى حانوت.
وذات ليلة مقمرة من ليالى الصيف الناعمة،جلس يحتسى فنجانا من القهوة فى ركن خافت الأضواء بإحدى المقاهى الفاخرة، ثم أشعل سيجارته وشرد ينظر فى لا شىء بين سحابات الدخان الذى ينفثه فى الهواء، وراحت صور الثراء الذى يحلم به تتراقص أمام عينيه من جديد .
وبينما كانت تلك الخيالات تدور برأسه وهو على هذه الحالة من الشرود، حتى فوجئ بمن يحدثه، رجل أنيق، يرتدى حُلة فاخرة، وتبدو على ملامحه مظاهر الثراء، وكان هذا الرجل قد جلس منذ قليل إلى جواره لكنه من فرط شروده لم يشعر به إلا وهو يحدثه، فسأله من أى مكان هو، وعن سبب تواجده فى القرية، فقال الشاب فى أدب جم وتواضع ملحوظ إنه يسعى إلى الرزق لأن القوى العاملة لن تنظر فى أمر أمثاله من الخريجين قبل أعوام وأعوام، وربما لا تنظر فى أمرهم أبدا، واستمر الحوار بينهما بعضا من الوقت.
وتوسم الرجل فى ترتيب كلماته، وفى الحد المعقول الذى يحافظ به على مظهره أن يكون الشاب من المقبلين على العمل، فعرض عليه أن يعمل معه، وأنه إن استطاع إثبات أمانته وإخلاصه والدقة فى الأداء فسيكون له معه شأن عظيم، إنه مثتثمر كبير جاء إلى هذا المكان ويحب التفانى فى العمل والإخلاص فيه إلى أبعد الحدود.
واستفسر الشاب عن ماهية العمل الذى سيقوم به، وفرح أيما فرح عندما أخبره الرجل بحاجته إلى شخص أمين متقد النشاط، ليمر على مواقع العمل يقدم تقريرا يوميا صادقا ودقيقا عما تم إنجازه من أعمال وما يراه من ملاحظات، وسوف يخصص له سيارة من أجل هذا الغرض.
وشعر الشاب أَّن ليلة القدر قد فتحت له أبوابها، لا سيما حين أردف الرجل بقوله، أنه سيسلمه مفتاح الشاليه الخاص به ليتخذه مسكنا.
وانتظم الشاب فى العمل وأبلى فيه بلاء حسنا على نحو نال إعجاب الرجل فأجزل له العطاء،حتى بلغ مجمل دخله رقما لم يكن يحلم به على الإطلاق،وتجاوزت العلاقة بينهما رويدًا رويدًا حدود العامل ورب العمل فكان الرجل يصحبه معه فى كل أسفاره، وبدأ يشركه فى تفكيره بشأن مشروعاته وأعماله وكان معجبا بآرائه، وسرعان ما انقلبت العلاقة بينهما شيئا فشيئاً علاقة صديقين حميمين، فتعرف الشاب على أسرة الرجل وعرف كل أسراره ومستودع هذه الأسرار بل والأموال .
ولكن الشاب لم يقنع بالخير الوفير الذى راح يجنيه فى كل يوم حلالاً طيباً، وحدثه شيطانه بأن الطريق إلى بلوغ غايته بهذا الشكل سيظل بعيداً بعيداً، ودارت برأسه الوساوس، لماذا يكون تابعاً لهذا الرجل، لماذا لا يكون متبوعاً مثله ويكون فى خدمته عشرات من أمثاله من الشباب، ووقر فى ذهنه أمراً كان مفعولا .
لقد شاهد الخزينة الخاصة بالرجل والتى يحتفظ بها فى مسكن آخر مستقل، فكم من مرة ذهب معه لنقل مبالغ مالية كبيرة منها بمناسبة أعماله، ومن ثم فقد عرف حجم ما فيها من مبالغ سائلة، وكان شيطانه لم يزل يوسوس له، إنها فرصة، والفرصة لا تأتى إلا مرة واحدة،لا مفر إذن من قتله، والأمر لا صعوبة فيه، فمفتاح الخزينة ضمن مفاتيح السيارة، وراقت له الفكرة واختمرت فى رأسه، وتحيَّن الفرصة .
وفى الليلة المحتومة كان الرجل فى معيته بالشاليه، وبعد أن قضيا سهرتهما فى حديث أخوى رقيق، آوى الرجل إلى فراشه فى حجرة خاصة به داخل الشاليه، وما أن لامست رأسه الوسادة حتى راح من شدة الإرهاق فى نوم عميق، بينما ظل الشاب مستيقظا يدفعه شيطانه دفعا إلى تنفيذ جرمه.
وكانت الجريمة، قام الشاب إلى حجرة الرجل وحمل حجرا كبيرا كان قد أعده لهذا الغرض، وهوى به فوق رأسه فجأة، فانفجر الدم من الرأس المغدور به، ثم عاد وضربه بذات الحجر ضربة أخرى قوية قاصداً إزهاق روحه، فخارت قواه رويداً رويدًا، بيْد أن أنفاسه كانت لم تزل تتردد بين جوانحه، فأسرع الشاب إلى المطبخ واستل سكيناً كبيراً وراح يطعنه به بلا شفقة ولا رحمة طعنات متواليات قاسيات فى بطنه وصدره ورقبته، ثم لم يكتف بكل هذه الخسة وهذا الغدر، فجاء بسلك كهربائى ربطه فى قدميه وأوصله بالتيار ففاضت الروح إلى بارئها .
وكان الليل لم يزل يرخى سدوله على الكون، فربط الشاب حبلا غليظا فى الجثة وجرَّها دون رحمة أو شفقة وألقى بها فى بالوعة للصرف الصحى، ثم تخلص من آثار جريمته فى الشاليه، وفى الصباح توجه مسرعاً إلى تلك المدينة الكائن بها الخزينة ونهب ما فيها عن آخره .
وكانت عدالة السماء بالمرصاد فانكشف أمر الواقعة، ولم يجد الشاب مناصاً من أن يعترف بجرمه اعترافاً تفصيليا لم تشبه ثمة شائبة، ويُساق إلى محكمة الجنايات فتقضى بمعاقبته بالإعدام .
ويجىء دورى ولكنه كان متأخراً فى هذه الواقعة،فلم أكن محققاً ولا مترافعاً فيها، وإنما أُنيط بى مهمة أثقل من ذلك بكثير، حضور تنفيذ الحكم الصادر بالإعدام، يا لها من مهمة شاقة .
وقمتُ بمطالعة التحقيقات وعشتُ أحداثها بقلبى وعقلى ووجدانى وأحسست أن الشنق وحده لا يكفى جزاء لهذا الغادر الحاقد متحجر القلب، بل إننا لنظلم الحجارة إنْ شبهناها به، { وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } صدق الله العظيم، فإنك إنْ تمثلتَ جرمه وخسته ونذالته لتمنيتَ مثلى أن يحيا بعد الشنق مائة مرة ليُشنق من جديد .
وفى تمام الساعة السابعة صباحاً كنت فى ديوان سجن الاستئناف فإن تنفيذ الحكم قد تحدد له الساعة الثامنة،وجلستُ ومن فى معيتى ننتظر مرور الوقت، وكانت الدقائق تمر ثيقلة ثقيلة،ودار أمامى شريط الأحداث وتذكرتُ قول المتهم وهو يحادث نفسه حين راح يصف لصاحبه طموحه " أنَّ هاتفا كان يلح عليه فى أعماقه بأن شيئاً خطيراً سوف يحدث فى حياته ".
نعم،إنَّ شيئاً خطيراً سيحدث اليوم - حقاً - فى حياته،لقد صدق حدْسُه !
ثم كان المشهد الأخير من سيناريو قصة هذا الحلم، ففى الثامنة إلا خمس دقائق خرجنا من مكتب المأمور إلى فناء السجن، واتخذنا من أمام غرفة الإعدام موقعاً، وأحضر " عشماوى " ومساعدوه والحراس الشاب من محبسه، وكان قد أسلم لهم القياد فسار فى معيتهم مستسلماً صاغرا يرفل فى حُلته الحمراء المقرر ارتداؤها لأمثاله ليتذكروا دائما لون الدم الذى سفكوه، وكان رابط الجأش متماسكا، لا أدرى هل فقد من هول هذه اللحظات العصيبةً إحساسه بالمكان والزمان، أم أنه امتثل لقضاء الله راضياً تائباً كى يتطهر بهذا القصاص .
وأوقفوه فى ذات المكان وأمسكوا بذراعيه فى رفقٍ وغلوهما خلف ظهره وأوثقوهما برباط، ووقف أحدهم خلفه واثنان عن اليمين وعن الشمال، ثم تلا مأمور السجن من الحكم الصادر بالإعدام منطوقه والتهمة المحكوم من أجلها على مسمع من الحضور، ثم لقنه واعظ السجن الشهادتين وجعله يردد من خلفه دعاء الاستتابة .
وحانت ساعة القصاص، ففى تمام الساعة الثامنة صباحاً كنا فى قلب غرفة الإعدام، وقد تولى عشماوى ومساعدوه أعمالهم، سحبوا الشاب برفقٍ وأقفوه فى منتصف الحجرة أسفل المقصلة،ثم ألبسوه طاقية حمراء أسدلوها على عينيه وأوثقوا رجليه برباط من فوق القدمين،ثم طوقوه بحبل المقصلة وضبطوا اتساعه حول رقبته،ثم أخذ عشماوى موقعه هناك إلى جوار الحائط حيث يد المقصلة،ثم جذب اليد فأحدثت دويا رهيباً مرعباً،هو صوت انهيار الطبلية من تحت قدميه،فهوى الشاب إلى البئر فى أسرع من لمح البصر .
وهنا، أسدل الستار على قصة هذا الحلم، ويبقى التساؤل الأبدى، ما الذى يريده الإنسان، مأكل طيب وملبس طيب وبدنٌ معاف،ثم ينعدم الرضا وتُسفك هكذا الدماء، لماذا وما هو المطلوب،رُحماك يا ربى.
بهاء المرى
فى يناير 1992 .
وبينما كان الشاب أسير هذه الأحلام الكبيرة، تصادف أن التقى بواحد من أصدقائه الذين نزحوا إلى الساحل الشمالى بحثا عن الرزق، وراح الصديق يعدد له ما يدور فى هذا الساحل العجيب من مظاهر الترف والبذخ والثراء والإسراف أيضا، وما ينفق فيه من أموال لا حدود لها فى التشييد والبناء واللهو والسمر والجد والعبث.
وكان الشاب حتى هذه اللحظة لم يهده تفكيره بعد إلى نقطة البداية فى مشوار تحقيق أحلامه، وهنا شعر أن هذا الصديق هو نذير ذلك الهاتف الذى طالما ألح فى أعماقه أن شيئا خطيرا سوف يحدث فى حياته، فلمعت عيناه من شدة الفرح وانفرجت أسارير وجهه، وقرر على الفور أن ينزح إلى هذا الساحل العجيب، وتراقصت خيالات الحلم أمام عينيه وارتسمت صور الثراء فى مخيلته، وطلب من صديقه أن يطير به فورا إلى هناك.
وما أن وطئت قدماه إحدى القرى السياحية الشهيرة، حتى كاد يغشى عليه، إن القرية بما فيها وما حولها تبدو كقطعة من أوروبا، لقد تلقى تعليمه الجامعى بالقاهرة ورأى غرائبها وعجائبها وجمالها ولكنه لم يتخيل أبدا ما وقعت عليه عيناه فى هذا المكان الساحر العجيب .
وانبهر الشاب بما رأى، وشرد بذهنه شرودا عميقا لم يستطع صديقه أن يجد له تفسيرا، ولم يجب هو عن سبب هذا الشرود حين سأله الصديق عما بدا على ملامحه من انفعالات متناقضة، بل أومأ برأسه أنْ لا شىء، وظل ساعتها شاردا مبهورا.
وتعرف الشاب على سبل العمالة فى القرية ولكنه لم يرضخ لأى عمل يقابله كغيره من الشباب، فنفر من العمل فى المعمار بجميع مجالاته،واستاء من حرفة عمال الأمن الخصوصيين بمداخل القرى ومخارجها أو على المحلات الكائنة فيها، وأبَى أن يكون بائعا فى حانوت.
وذات ليلة مقمرة من ليالى الصيف الناعمة،جلس يحتسى فنجانا من القهوة فى ركن خافت الأضواء بإحدى المقاهى الفاخرة، ثم أشعل سيجارته وشرد ينظر فى لا شىء بين سحابات الدخان الذى ينفثه فى الهواء، وراحت صور الثراء الذى يحلم به تتراقص أمام عينيه من جديد .
وبينما كانت تلك الخيالات تدور برأسه وهو على هذه الحالة من الشرود، حتى فوجئ بمن يحدثه، رجل أنيق، يرتدى حُلة فاخرة، وتبدو على ملامحه مظاهر الثراء، وكان هذا الرجل قد جلس منذ قليل إلى جواره لكنه من فرط شروده لم يشعر به إلا وهو يحدثه، فسأله من أى مكان هو، وعن سبب تواجده فى القرية، فقال الشاب فى أدب جم وتواضع ملحوظ إنه يسعى إلى الرزق لأن القوى العاملة لن تنظر فى أمر أمثاله من الخريجين قبل أعوام وأعوام، وربما لا تنظر فى أمرهم أبدا، واستمر الحوار بينهما بعضا من الوقت.
وتوسم الرجل فى ترتيب كلماته، وفى الحد المعقول الذى يحافظ به على مظهره أن يكون الشاب من المقبلين على العمل، فعرض عليه أن يعمل معه، وأنه إن استطاع إثبات أمانته وإخلاصه والدقة فى الأداء فسيكون له معه شأن عظيم، إنه مثتثمر كبير جاء إلى هذا المكان ويحب التفانى فى العمل والإخلاص فيه إلى أبعد الحدود.
واستفسر الشاب عن ماهية العمل الذى سيقوم به، وفرح أيما فرح عندما أخبره الرجل بحاجته إلى شخص أمين متقد النشاط، ليمر على مواقع العمل يقدم تقريرا يوميا صادقا ودقيقا عما تم إنجازه من أعمال وما يراه من ملاحظات، وسوف يخصص له سيارة من أجل هذا الغرض.
وشعر الشاب أَّن ليلة القدر قد فتحت له أبوابها، لا سيما حين أردف الرجل بقوله، أنه سيسلمه مفتاح الشاليه الخاص به ليتخذه مسكنا.
وانتظم الشاب فى العمل وأبلى فيه بلاء حسنا على نحو نال إعجاب الرجل فأجزل له العطاء،حتى بلغ مجمل دخله رقما لم يكن يحلم به على الإطلاق،وتجاوزت العلاقة بينهما رويدًا رويدًا حدود العامل ورب العمل فكان الرجل يصحبه معه فى كل أسفاره، وبدأ يشركه فى تفكيره بشأن مشروعاته وأعماله وكان معجبا بآرائه، وسرعان ما انقلبت العلاقة بينهما شيئا فشيئاً علاقة صديقين حميمين، فتعرف الشاب على أسرة الرجل وعرف كل أسراره ومستودع هذه الأسرار بل والأموال .
ولكن الشاب لم يقنع بالخير الوفير الذى راح يجنيه فى كل يوم حلالاً طيباً، وحدثه شيطانه بأن الطريق إلى بلوغ غايته بهذا الشكل سيظل بعيداً بعيداً، ودارت برأسه الوساوس، لماذا يكون تابعاً لهذا الرجل، لماذا لا يكون متبوعاً مثله ويكون فى خدمته عشرات من أمثاله من الشباب، ووقر فى ذهنه أمراً كان مفعولا .
لقد شاهد الخزينة الخاصة بالرجل والتى يحتفظ بها فى مسكن آخر مستقل، فكم من مرة ذهب معه لنقل مبالغ مالية كبيرة منها بمناسبة أعماله، ومن ثم فقد عرف حجم ما فيها من مبالغ سائلة، وكان شيطانه لم يزل يوسوس له، إنها فرصة، والفرصة لا تأتى إلا مرة واحدة،لا مفر إذن من قتله، والأمر لا صعوبة فيه، فمفتاح الخزينة ضمن مفاتيح السيارة، وراقت له الفكرة واختمرت فى رأسه، وتحيَّن الفرصة .
وفى الليلة المحتومة كان الرجل فى معيته بالشاليه، وبعد أن قضيا سهرتهما فى حديث أخوى رقيق، آوى الرجل إلى فراشه فى حجرة خاصة به داخل الشاليه، وما أن لامست رأسه الوسادة حتى راح من شدة الإرهاق فى نوم عميق، بينما ظل الشاب مستيقظا يدفعه شيطانه دفعا إلى تنفيذ جرمه.
وكانت الجريمة، قام الشاب إلى حجرة الرجل وحمل حجرا كبيرا كان قد أعده لهذا الغرض، وهوى به فوق رأسه فجأة، فانفجر الدم من الرأس المغدور به، ثم عاد وضربه بذات الحجر ضربة أخرى قوية قاصداً إزهاق روحه، فخارت قواه رويداً رويدًا، بيْد أن أنفاسه كانت لم تزل تتردد بين جوانحه، فأسرع الشاب إلى المطبخ واستل سكيناً كبيراً وراح يطعنه به بلا شفقة ولا رحمة طعنات متواليات قاسيات فى بطنه وصدره ورقبته، ثم لم يكتف بكل هذه الخسة وهذا الغدر، فجاء بسلك كهربائى ربطه فى قدميه وأوصله بالتيار ففاضت الروح إلى بارئها .
وكان الليل لم يزل يرخى سدوله على الكون، فربط الشاب حبلا غليظا فى الجثة وجرَّها دون رحمة أو شفقة وألقى بها فى بالوعة للصرف الصحى، ثم تخلص من آثار جريمته فى الشاليه، وفى الصباح توجه مسرعاً إلى تلك المدينة الكائن بها الخزينة ونهب ما فيها عن آخره .
وكانت عدالة السماء بالمرصاد فانكشف أمر الواقعة، ولم يجد الشاب مناصاً من أن يعترف بجرمه اعترافاً تفصيليا لم تشبه ثمة شائبة، ويُساق إلى محكمة الجنايات فتقضى بمعاقبته بالإعدام .
ويجىء دورى ولكنه كان متأخراً فى هذه الواقعة،فلم أكن محققاً ولا مترافعاً فيها، وإنما أُنيط بى مهمة أثقل من ذلك بكثير، حضور تنفيذ الحكم الصادر بالإعدام، يا لها من مهمة شاقة .
وقمتُ بمطالعة التحقيقات وعشتُ أحداثها بقلبى وعقلى ووجدانى وأحسست أن الشنق وحده لا يكفى جزاء لهذا الغادر الحاقد متحجر القلب، بل إننا لنظلم الحجارة إنْ شبهناها به، { وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } صدق الله العظيم، فإنك إنْ تمثلتَ جرمه وخسته ونذالته لتمنيتَ مثلى أن يحيا بعد الشنق مائة مرة ليُشنق من جديد .
وفى تمام الساعة السابعة صباحاً كنت فى ديوان سجن الاستئناف فإن تنفيذ الحكم قد تحدد له الساعة الثامنة،وجلستُ ومن فى معيتى ننتظر مرور الوقت، وكانت الدقائق تمر ثيقلة ثقيلة،ودار أمامى شريط الأحداث وتذكرتُ قول المتهم وهو يحادث نفسه حين راح يصف لصاحبه طموحه " أنَّ هاتفا كان يلح عليه فى أعماقه بأن شيئاً خطيراً سوف يحدث فى حياته ".
نعم،إنَّ شيئاً خطيراً سيحدث اليوم - حقاً - فى حياته،لقد صدق حدْسُه !
ثم كان المشهد الأخير من سيناريو قصة هذا الحلم، ففى الثامنة إلا خمس دقائق خرجنا من مكتب المأمور إلى فناء السجن، واتخذنا من أمام غرفة الإعدام موقعاً، وأحضر " عشماوى " ومساعدوه والحراس الشاب من محبسه، وكان قد أسلم لهم القياد فسار فى معيتهم مستسلماً صاغرا يرفل فى حُلته الحمراء المقرر ارتداؤها لأمثاله ليتذكروا دائما لون الدم الذى سفكوه، وكان رابط الجأش متماسكا، لا أدرى هل فقد من هول هذه اللحظات العصيبةً إحساسه بالمكان والزمان، أم أنه امتثل لقضاء الله راضياً تائباً كى يتطهر بهذا القصاص .
وأوقفوه فى ذات المكان وأمسكوا بذراعيه فى رفقٍ وغلوهما خلف ظهره وأوثقوهما برباط، ووقف أحدهم خلفه واثنان عن اليمين وعن الشمال، ثم تلا مأمور السجن من الحكم الصادر بالإعدام منطوقه والتهمة المحكوم من أجلها على مسمع من الحضور، ثم لقنه واعظ السجن الشهادتين وجعله يردد من خلفه دعاء الاستتابة .
وحانت ساعة القصاص، ففى تمام الساعة الثامنة صباحاً كنا فى قلب غرفة الإعدام، وقد تولى عشماوى ومساعدوه أعمالهم، سحبوا الشاب برفقٍ وأقفوه فى منتصف الحجرة أسفل المقصلة،ثم ألبسوه طاقية حمراء أسدلوها على عينيه وأوثقوا رجليه برباط من فوق القدمين،ثم طوقوه بحبل المقصلة وضبطوا اتساعه حول رقبته،ثم أخذ عشماوى موقعه هناك إلى جوار الحائط حيث يد المقصلة،ثم جذب اليد فأحدثت دويا رهيباً مرعباً،هو صوت انهيار الطبلية من تحت قدميه،فهوى الشاب إلى البئر فى أسرع من لمح البصر .
وهنا، أسدل الستار على قصة هذا الحلم، ويبقى التساؤل الأبدى، ما الذى يريده الإنسان، مأكل طيب وملبس طيب وبدنٌ معاف،ثم ينعدم الرضا وتُسفك هكذا الدماء، لماذا وما هو المطلوب،رُحماك يا ربى.
بهاء المرى
فى يناير 1992 .