في حديث تسجيلي مع الكاتبة الألمانية: هيرتا مولر، الحاصلة على جائزة نوبل في الأدب منذ عدة سنوات، أكدت أن الكتابة لا تحررها من الخوف الذي عانته أيام إن كانت في رومانيا- شاوشيسكو، وعرضة لرجال دولته الأوفياء له، الذين كانوا ينبشون حياتها، ويطاردون حروفها، ويزرعون الرعب في كل خطوة تخطوها، هي وعشرات المثقفين غيرها، لدرجة أن كثيرين ضاعوا في تلك اللجة الغاشمة.
أعتقد أن هذه وجهة نظر ما، لشخصية من شخصيات الكتابة، تقابلها وجهات نظر أخرى، لشخصيات كاتبة هي الأخرى. ولعل الرعب الذي عانته الكاتبة في تلك الأيام، كان أكبر، من أن تصبح الكتابة بلسما شافيا، أو أداة تحرير للنفس المرتعبة، وكان هناك من كان يقول لنا ونحن صغار: إن كتابة الخواطر الإنشائية، والشعر، وأي خربشة يخربشها الشخص في لحظات البؤس، يمكن أن تحرره من بؤسه وتمنحه السكينة المنشودة، وأذكر أن كثيرين من الطلاب في تلك الأيام، ممن خاضوا قصص حب يائسة، أو واجهوا حوادث فقد في العائلة، أو توهموا أنهم شعراء وكتاب قصة، كانوا يكتبون أي شيء على الورق المدرسي، أو سطوح الخزائن في فصول الدراسة، يقرأونه على الزملاء، بصوت عال ثم يسحبون نفسا عميقا ويتنهدون وهم يرددون: لقد استرخينا بفعل الكتابة.
كان من بين أولئك الطلاب كما أذكر، ولد اسمه عاصم، كان قصيرا، ضئيل الجسم، وعرضة للإساءة بواسطة الزملاء الأضخم دائما. و كان في السنوات الأولى للمرحلة الابتدائية، ذكيا إلى حد ما، ومواظبا على حضور الفصول الدراسية، ثم في السنتين الأخيرتين، ابتدأت تداهمه ما كنا نسميها أعراض الجنون، وكان هو يسميها حالة التلبس بشياطين الشعر. كان ينتفض فجأة، ويعرق ويبدأ في الهمهمة لفترة من الوقت، ثم يكتب ما يطلق عليه قصيدة جديدة، يسترخي بعدها، ويتنفس بعمق، ويردد بصوت منتش، أن الكتابة حررته من التشنج، ونستغرب من ذلك، لكننا لا نعرف ماذا يحدث وكيف يحدث؟، وفي نهاية العامين الأخيرين، كان لدى ذلك الولد، دفتر ضخم، أحمر الغلاف، من تلك التي تستخدم في تدوين الحسابات، ممتلئ بقصائد لا علاقة لها بالشعر، كتبها عن البقر والجمال، والبوم، والدراسة السخيفة، والمدرسين الأغبياء، والشعر المنكوش والرأس الصلعاء، والبنات المتكبرات، وأمه الطيبة جدا، وأبيه العسكري الفقير الذي كان يحرس أحد المستودعات، وإخوته الذين يمنعون شيطان الشعر من الظهور، ولم ينس حتى حواء التي كانت تبيع شطائر الطعمية، والباذنجان المخلل، أمام المدرسة، ودراجة الأستاذ عيسى القديمة، التي هجاها بأكثر من ثلاث قصائد.
كان عاصم يحمل دفتره ملتصقا بصدره، يقرأ منه لمن أراد وأحيانا حتى لمن لا يريد، ولا يسمح لأحد بلمسه، وحدث أن المرحلة الابتدائية انتهت، وانتقلنا لمرحلة أخرى، هي الإعدادية، لكن الشاعر الذي كانت تحرره الكتابة، لم ينتقل معنا، لقد أخفق في إحراز أي نتيجة، وعمل كوالده عسكريا مطحونا أمام أحد المستودعات، وكنت كلما شاهدته، بلا دفتر ولا تشنجات، ويرتدي الزي الرسمي، على جسده الضئيل أتذكر مسألة الكتابة التي يمكن أن تحرر، وأعتقد أنها حررته بالفعل، ليس من القيود التي كانت تكبل هيرتا مولر بالطبع، أعني قيود الديكتاتورية، والهلع ورجال أمن شاوشيسكو، ولكن حررته من سنوات التعليم الطويلة التي سيطرق فيها مراحل دراسية متعددة، وجامعات، ينجح ويفشل وربما يجن حقيقة بعد ذلك أو يموت حزنا، وهو يقرأ ولا تنتهي القراءة.
عبد العزيز، أو عزيزو، كما كنا نسميه في الحي الذي نسكنه في وسط مدينة بورتسودان، قريبا من المستشفى والسينما والسوق، كان في نحو الستين كما أذكر. كان مشردا، لا يعرف أحد من أين جاء، وكان يجلس في ركن من أركان المدرسة الأميرية الإعدادية، وأمامه كومة من الكتب التي تشمل معظم ضروب المعرفة، كتب في السياسة والاقتصاد والعلوم والجغرافيا والتاريخ، والأدب، وحتى الرياضيات وعلم الفلك، كان يحفظ فقرات عديدة من تلك الكتب، وأحيانا كتبا كاملة، يرددها أمام الناس، ولا يطلب أي شيء لكن الناس كانوا يعطونه، ما يظنونه يفيد، من طعام وكساء، وأذكر أننا سمعنا بكتب النظرات والعبرات للمنفلوطي وكتاب النبي لجبران، لأول مرة من عنده، وكان يقرأ شعرا للمتنبي وأبي العتاهية وأبي تمام، لكنني أذكر تماما أنه كان يقول دائما أنه يكتب الشعر، والبحوث العلمية، وأن كتابته تحرره من هموم الدنيا كلها، وتجعله يحس باستقرار عظيم. لكننا حقيقة لم نر تلك الكتابات، ولا كان عزيزو بالنسبة لنا ولكل سكان الحي، أكثر من مجنون، تحرر من العقل لكنه، ظل حبيسا للغياب والتوهان. كان الرجل في الحقيقة، لغزا قطعا فكر الكثيرون في محاولة حله، ولم يحله أحد، حتى مات في أحد الأيام، في الركن ذاته، وقد استحضرت شخصيته في كتاب عن بورتسودان، كتبته منذ أعوام طويلة.
القاصة الشابة التي سأسميها هنا: نغم، التي التقيتها منذ سنوات، في إحدى البلاد العربية، كانت ترتدي الملابس الطويلة الفضفاضة، وتغطي رأسها بغطاء سميك، وتبدو خجولة ومترددة، وأعطتني قصصا لها واختفت، وقرأت القصص بعد ذلك، لأجدها كلها، عن الجسد وأدق تفاصيله، ولا تتناسب في مفرداتها وأجوائها، مع ما يبدو من تردد وخجل. وقالت الكاتبة في رسالة إلكترونية، أن الكتابة القصصية بهذه الطريقة، تحررها من الخجل والصمت ولولا الكتابة لانزوت في ركن بعيد وذبلت، أو ماتت.
إذن تلك هي وجهات النظر المتباينة في مسألة الكتابة، تحرر أو لا تحرر؟ جنون فعلي أم ثرثرة عادية بلا أي تحريف للعقل؟
أنا شخصيا لي وجهة نظري، فقد كتبت منذ طفولتي، وظللت أكتب ولم أحس أن الكتابة تحررني من الكأبة والحزن بل بالعكس تشعرني بالتوتر والحزن أكثر.
أعتقد أن هذه وجهة نظر ما، لشخصية من شخصيات الكتابة، تقابلها وجهات نظر أخرى، لشخصيات كاتبة هي الأخرى. ولعل الرعب الذي عانته الكاتبة في تلك الأيام، كان أكبر، من أن تصبح الكتابة بلسما شافيا، أو أداة تحرير للنفس المرتعبة، وكان هناك من كان يقول لنا ونحن صغار: إن كتابة الخواطر الإنشائية، والشعر، وأي خربشة يخربشها الشخص في لحظات البؤس، يمكن أن تحرره من بؤسه وتمنحه السكينة المنشودة، وأذكر أن كثيرين من الطلاب في تلك الأيام، ممن خاضوا قصص حب يائسة، أو واجهوا حوادث فقد في العائلة، أو توهموا أنهم شعراء وكتاب قصة، كانوا يكتبون أي شيء على الورق المدرسي، أو سطوح الخزائن في فصول الدراسة، يقرأونه على الزملاء، بصوت عال ثم يسحبون نفسا عميقا ويتنهدون وهم يرددون: لقد استرخينا بفعل الكتابة.
كان من بين أولئك الطلاب كما أذكر، ولد اسمه عاصم، كان قصيرا، ضئيل الجسم، وعرضة للإساءة بواسطة الزملاء الأضخم دائما. و كان في السنوات الأولى للمرحلة الابتدائية، ذكيا إلى حد ما، ومواظبا على حضور الفصول الدراسية، ثم في السنتين الأخيرتين، ابتدأت تداهمه ما كنا نسميها أعراض الجنون، وكان هو يسميها حالة التلبس بشياطين الشعر. كان ينتفض فجأة، ويعرق ويبدأ في الهمهمة لفترة من الوقت، ثم يكتب ما يطلق عليه قصيدة جديدة، يسترخي بعدها، ويتنفس بعمق، ويردد بصوت منتش، أن الكتابة حررته من التشنج، ونستغرب من ذلك، لكننا لا نعرف ماذا يحدث وكيف يحدث؟، وفي نهاية العامين الأخيرين، كان لدى ذلك الولد، دفتر ضخم، أحمر الغلاف، من تلك التي تستخدم في تدوين الحسابات، ممتلئ بقصائد لا علاقة لها بالشعر، كتبها عن البقر والجمال، والبوم، والدراسة السخيفة، والمدرسين الأغبياء، والشعر المنكوش والرأس الصلعاء، والبنات المتكبرات، وأمه الطيبة جدا، وأبيه العسكري الفقير الذي كان يحرس أحد المستودعات، وإخوته الذين يمنعون شيطان الشعر من الظهور، ولم ينس حتى حواء التي كانت تبيع شطائر الطعمية، والباذنجان المخلل، أمام المدرسة، ودراجة الأستاذ عيسى القديمة، التي هجاها بأكثر من ثلاث قصائد.
كان عاصم يحمل دفتره ملتصقا بصدره، يقرأ منه لمن أراد وأحيانا حتى لمن لا يريد، ولا يسمح لأحد بلمسه، وحدث أن المرحلة الابتدائية انتهت، وانتقلنا لمرحلة أخرى، هي الإعدادية، لكن الشاعر الذي كانت تحرره الكتابة، لم ينتقل معنا، لقد أخفق في إحراز أي نتيجة، وعمل كوالده عسكريا مطحونا أمام أحد المستودعات، وكنت كلما شاهدته، بلا دفتر ولا تشنجات، ويرتدي الزي الرسمي، على جسده الضئيل أتذكر مسألة الكتابة التي يمكن أن تحرر، وأعتقد أنها حررته بالفعل، ليس من القيود التي كانت تكبل هيرتا مولر بالطبع، أعني قيود الديكتاتورية، والهلع ورجال أمن شاوشيسكو، ولكن حررته من سنوات التعليم الطويلة التي سيطرق فيها مراحل دراسية متعددة، وجامعات، ينجح ويفشل وربما يجن حقيقة بعد ذلك أو يموت حزنا، وهو يقرأ ولا تنتهي القراءة.
عبد العزيز، أو عزيزو، كما كنا نسميه في الحي الذي نسكنه في وسط مدينة بورتسودان، قريبا من المستشفى والسينما والسوق، كان في نحو الستين كما أذكر. كان مشردا، لا يعرف أحد من أين جاء، وكان يجلس في ركن من أركان المدرسة الأميرية الإعدادية، وأمامه كومة من الكتب التي تشمل معظم ضروب المعرفة، كتب في السياسة والاقتصاد والعلوم والجغرافيا والتاريخ، والأدب، وحتى الرياضيات وعلم الفلك، كان يحفظ فقرات عديدة من تلك الكتب، وأحيانا كتبا كاملة، يرددها أمام الناس، ولا يطلب أي شيء لكن الناس كانوا يعطونه، ما يظنونه يفيد، من طعام وكساء، وأذكر أننا سمعنا بكتب النظرات والعبرات للمنفلوطي وكتاب النبي لجبران، لأول مرة من عنده، وكان يقرأ شعرا للمتنبي وأبي العتاهية وأبي تمام، لكنني أذكر تماما أنه كان يقول دائما أنه يكتب الشعر، والبحوث العلمية، وأن كتابته تحرره من هموم الدنيا كلها، وتجعله يحس باستقرار عظيم. لكننا حقيقة لم نر تلك الكتابات، ولا كان عزيزو بالنسبة لنا ولكل سكان الحي، أكثر من مجنون، تحرر من العقل لكنه، ظل حبيسا للغياب والتوهان. كان الرجل في الحقيقة، لغزا قطعا فكر الكثيرون في محاولة حله، ولم يحله أحد، حتى مات في أحد الأيام، في الركن ذاته، وقد استحضرت شخصيته في كتاب عن بورتسودان، كتبته منذ أعوام طويلة.
القاصة الشابة التي سأسميها هنا: نغم، التي التقيتها منذ سنوات، في إحدى البلاد العربية، كانت ترتدي الملابس الطويلة الفضفاضة، وتغطي رأسها بغطاء سميك، وتبدو خجولة ومترددة، وأعطتني قصصا لها واختفت، وقرأت القصص بعد ذلك، لأجدها كلها، عن الجسد وأدق تفاصيله، ولا تتناسب في مفرداتها وأجوائها، مع ما يبدو من تردد وخجل. وقالت الكاتبة في رسالة إلكترونية، أن الكتابة القصصية بهذه الطريقة، تحررها من الخجل والصمت ولولا الكتابة لانزوت في ركن بعيد وذبلت، أو ماتت.
إذن تلك هي وجهات النظر المتباينة في مسألة الكتابة، تحرر أو لا تحرر؟ جنون فعلي أم ثرثرة عادية بلا أي تحريف للعقل؟
أنا شخصيا لي وجهة نظري، فقد كتبت منذ طفولتي، وظللت أكتب ولم أحس أن الكتابة تحررني من الكأبة والحزن بل بالعكس تشعرني بالتوتر والحزن أكثر.