ماذا يمكن لــ فريدريش نيتشه (1844-1900) أن يعلمنا عن الحب؟ أكثر بكثير مما نظن. تكهنات حول حياته الجنسية تزخر بالأسئلة التالية: هل أصيب بمرض الزهري في أحد بيوت الدعارة, على سبيل المثال؟ وماذا عن لو سالومي, هل أحبها؟ أم أن مشاعره نحوها كانت شيئا بالغت هي فيه؟
تختلف الاجابات على هذه الأسئلة، ما يمكن أن نجده في رسائل نيتشه بالفعل هو عدد قليل من الصداقات مع نساء متعلمات وموسيقيات خلال حياته, وأنه قد فكر بالحب والزواج. عزلته وانسجامه مع الوحدة, غالباً ما تم تصورها على أنها قضية أولوية, كانت صعوبات لسنوات ترحاله, عندما اضطر الى السفر بحثاً عن أفضل مناخ لصحته السيئة. حتى خلال تلك الأوقات, بين المعاناة الجسدية وفترات مكثفة من الكتابة, كان يسعى الى مجالسة النساء المثقفات. بالاضافة الى ذلك, نشأ نيتشه في عائلة من النساء, يميل الى صداقة النساء, وشهد مغازلة أصدقائه. كذلك, لم يفشل نيتشه في التعبير عن مخاوفه الفلسفية حول المميزات الفقهية للحب في كتاباته. استخدم أسلوبه الاستفزازي ــ الذي يهدف الى جعل قرّائه يشعرون بعدم الارتياح حول قيمهم وافتراضاتهم ــ في أقواله المأثورة عن الحب في كتاب "العلم المرح" (Die fröhliche Wissenschaft, 1882) دراسة نيتشه الذكية للحب هنا هي مسار واحد لمشروعه الأكبر في فعل علم "المرح" أو "المتعة"، حيث فيه "تصبح الحياة نفسها مشكلة". ويجب التحقق ــ الاستفهام بشكل أكثر عمقاً وصرامة مما حاوله المرء سابقاً. أحد أكثر الاستراتيجيات الفكرية لنيتشه أهمية هي مناقشة الحدود بين التناقضات التقليدية من خلال انهيار افتراضاتنا حول الصفات الجوهرية للأشياء جعلها معادية.
في هذا المعنى, الحب ليس استثناءً. عن طريق استحضار اهتمامنا الى الأساس, الصفات المبتذلة والأنانية لاثارة "الجنس المغاير" أو الحب الجنسي, قصد نيتشه تجريد الحب من حالته المميزة وإثبات أن ما نتصوره نقيض الحب, مثل الأنانية والطمع, هو في كثير من الأحيان مترابط ولا ينفصل حتى في تجربة الحب. لهذا يمكننا أن ندرك هدف نيتشه من أنسنة الحياة من خلال التأكيد الاستفزازي على عدم الانسجام الفطري في الحب الجنسي. وللقيام بذلك, فصل نيتشه الحب عن تراثه المسيحي الأفلاطوني الغيبي, وبهذا أكد ادعاءاته بخصوص قيمة الأرض بالنسبة لحياة الآخرة, وحقيقة الجسد بالنسبة للمقدس.
ولكي ترى كيف وصل نيتشه الى هذه الأهداف, دعنا ننتقل الى عدد من المختارات من النص.
الحب غريزة حيوانية
قوض نيتشه أي مثالية لخداع الذات فيما يخص الحب من خلال فضح دوافع الحب الأقل جاذبية. في الباب 14 من "العلم المرح" تحت عنوان "الأشياء التي يسميها الناس ’حب‘ "تحدى نيتشه المفاهيم الرومانسية للحب الجنسي, الادعاء بأن الحب "ربما قد يكون التعبير الأكثر سذاجة للأنانية "، واقترح أن الحب قريب من الطمع والشهوة من أجل التملك. الحب قوة غريزية مرتبطة برغباتنا البيولوجية والثقافية, وعلى هذا النحو, لا يمكن اعتباره عاطفة أخلاقية (الحكمة 363).
علاوة على ذلك, التنشئة الاجتماعية لهذه الرغبات حولتها الى تحامل, بل وحتى الى معاناة نفسية, وخاصة بالنسبة للنساء (الحكمة 71). مع ذلك, لم يبذل أي جهد واضح لإقناع قرّائه بأن الحب, في تعبيراته عن حب الذات, يجب أن يتغير, ولم يقترح حتى أكثر الأوهام انتشاراً في الحب التي يجب تصحيحها. بدلاً من ذلك, لاحظ أن النزعة البشرية القوية تجاه الوهم في الحب الجنسي ضرورية لنجاح هذا الحب, وامتدح بعض إبداع البراعة الفنية للحب والأدوار التي يتبناها الناس.
الرجال والنساء يلعبون هذه الأدوار بشكل مختلف, ونيتشه قضى وقتاً طويلاً في التركيز على المسافة الدراماتيكية بين الجنسين في الأساليب التي من خلالها يحبون بعضهم البعض. محاولات نيتشه لكشف أكثر الدوافع أنانية في دعم الحب الجنسي تجلت بوضوح في الحكمة رقم 14.
يدعي نيتشه هنا أن الحب هو الرغبة في الامتلاك والاستيعاب, لتغيير "شيء جديد في أنفسنا"، موجود وراء تجربة كل منهما في الحب والطمع. يكتب نيتشه, "الطمع والحب: ما الشعور المختلف الذي يستحضره هذين المصطلحين! لكن, من الممكن أن يكون لنفس الغريزة اسمين ــ في مرة يُهمل من قبل أولئك الذين تهدأ لديهم الغريزة الى حد ما, والذين يخشون على ’ممتلكاتهم‘, وفي مرة أخرى تتم رؤيتها من وجهة نظر أولئك الذين لايرضون ويظلون تواقين, وبالتالي, الذين يمجدون الغريزة على أنها ’عاطفة‘. بمعنى آخر, تجارب الحب والطمع على حد سواء هي نفسها للرغبة أو الغريزة, لكنها تعتمد على مستوى الرضا الذي وصل اليه المرء, تسمى هذه الرغبة بدلاً من ذلك ’الطمع‘ أو ’الحب‘: القنوعين هم من يشعرون بأن ممتلكاتهم (الحبيب على سبيل المثال) مهددة من قبل آخرين يختارون غريزة أخرى لمزيد من الطمع والجشع, في حين أن أولئك الذين لا يزالوا يبحثون عن رغبة جديدة سوف يفرضون تقييماً إيجابياً على تلك الرغبة ويسمونها ’حب‘.
لذا فان الحب الجنسي هو رغبة حقيقية نحو تملك ’مبجل ومؤله‘ (الحكمة 14) من قبل أولئك الذين يبحثون للحصول على شيء يثري أنفسهم. هنا, مفهوم الحب على أنه تضحية, ونقيض للطمع, يدعو الى الشك. يمكننا التعرف على المسحة الخفية لمشروع نيتشه الأكبر في زعزعة الحالة المفترضة للأضداد الثنائية الأخلاقية.
يتبع...
**المصدر: موقع العالم الجديد
تختلف الاجابات على هذه الأسئلة، ما يمكن أن نجده في رسائل نيتشه بالفعل هو عدد قليل من الصداقات مع نساء متعلمات وموسيقيات خلال حياته, وأنه قد فكر بالحب والزواج. عزلته وانسجامه مع الوحدة, غالباً ما تم تصورها على أنها قضية أولوية, كانت صعوبات لسنوات ترحاله, عندما اضطر الى السفر بحثاً عن أفضل مناخ لصحته السيئة. حتى خلال تلك الأوقات, بين المعاناة الجسدية وفترات مكثفة من الكتابة, كان يسعى الى مجالسة النساء المثقفات. بالاضافة الى ذلك, نشأ نيتشه في عائلة من النساء, يميل الى صداقة النساء, وشهد مغازلة أصدقائه. كذلك, لم يفشل نيتشه في التعبير عن مخاوفه الفلسفية حول المميزات الفقهية للحب في كتاباته. استخدم أسلوبه الاستفزازي ــ الذي يهدف الى جعل قرّائه يشعرون بعدم الارتياح حول قيمهم وافتراضاتهم ــ في أقواله المأثورة عن الحب في كتاب "العلم المرح" (Die fröhliche Wissenschaft, 1882) دراسة نيتشه الذكية للحب هنا هي مسار واحد لمشروعه الأكبر في فعل علم "المرح" أو "المتعة"، حيث فيه "تصبح الحياة نفسها مشكلة". ويجب التحقق ــ الاستفهام بشكل أكثر عمقاً وصرامة مما حاوله المرء سابقاً. أحد أكثر الاستراتيجيات الفكرية لنيتشه أهمية هي مناقشة الحدود بين التناقضات التقليدية من خلال انهيار افتراضاتنا حول الصفات الجوهرية للأشياء جعلها معادية.
في هذا المعنى, الحب ليس استثناءً. عن طريق استحضار اهتمامنا الى الأساس, الصفات المبتذلة والأنانية لاثارة "الجنس المغاير" أو الحب الجنسي, قصد نيتشه تجريد الحب من حالته المميزة وإثبات أن ما نتصوره نقيض الحب, مثل الأنانية والطمع, هو في كثير من الأحيان مترابط ولا ينفصل حتى في تجربة الحب. لهذا يمكننا أن ندرك هدف نيتشه من أنسنة الحياة من خلال التأكيد الاستفزازي على عدم الانسجام الفطري في الحب الجنسي. وللقيام بذلك, فصل نيتشه الحب عن تراثه المسيحي الأفلاطوني الغيبي, وبهذا أكد ادعاءاته بخصوص قيمة الأرض بالنسبة لحياة الآخرة, وحقيقة الجسد بالنسبة للمقدس.
ولكي ترى كيف وصل نيتشه الى هذه الأهداف, دعنا ننتقل الى عدد من المختارات من النص.
الحب غريزة حيوانية
قوض نيتشه أي مثالية لخداع الذات فيما يخص الحب من خلال فضح دوافع الحب الأقل جاذبية. في الباب 14 من "العلم المرح" تحت عنوان "الأشياء التي يسميها الناس ’حب‘ "تحدى نيتشه المفاهيم الرومانسية للحب الجنسي, الادعاء بأن الحب "ربما قد يكون التعبير الأكثر سذاجة للأنانية "، واقترح أن الحب قريب من الطمع والشهوة من أجل التملك. الحب قوة غريزية مرتبطة برغباتنا البيولوجية والثقافية, وعلى هذا النحو, لا يمكن اعتباره عاطفة أخلاقية (الحكمة 363).
علاوة على ذلك, التنشئة الاجتماعية لهذه الرغبات حولتها الى تحامل, بل وحتى الى معاناة نفسية, وخاصة بالنسبة للنساء (الحكمة 71). مع ذلك, لم يبذل أي جهد واضح لإقناع قرّائه بأن الحب, في تعبيراته عن حب الذات, يجب أن يتغير, ولم يقترح حتى أكثر الأوهام انتشاراً في الحب التي يجب تصحيحها. بدلاً من ذلك, لاحظ أن النزعة البشرية القوية تجاه الوهم في الحب الجنسي ضرورية لنجاح هذا الحب, وامتدح بعض إبداع البراعة الفنية للحب والأدوار التي يتبناها الناس.
الرجال والنساء يلعبون هذه الأدوار بشكل مختلف, ونيتشه قضى وقتاً طويلاً في التركيز على المسافة الدراماتيكية بين الجنسين في الأساليب التي من خلالها يحبون بعضهم البعض. محاولات نيتشه لكشف أكثر الدوافع أنانية في دعم الحب الجنسي تجلت بوضوح في الحكمة رقم 14.
يدعي نيتشه هنا أن الحب هو الرغبة في الامتلاك والاستيعاب, لتغيير "شيء جديد في أنفسنا"، موجود وراء تجربة كل منهما في الحب والطمع. يكتب نيتشه, "الطمع والحب: ما الشعور المختلف الذي يستحضره هذين المصطلحين! لكن, من الممكن أن يكون لنفس الغريزة اسمين ــ في مرة يُهمل من قبل أولئك الذين تهدأ لديهم الغريزة الى حد ما, والذين يخشون على ’ممتلكاتهم‘, وفي مرة أخرى تتم رؤيتها من وجهة نظر أولئك الذين لايرضون ويظلون تواقين, وبالتالي, الذين يمجدون الغريزة على أنها ’عاطفة‘. بمعنى آخر, تجارب الحب والطمع على حد سواء هي نفسها للرغبة أو الغريزة, لكنها تعتمد على مستوى الرضا الذي وصل اليه المرء, تسمى هذه الرغبة بدلاً من ذلك ’الطمع‘ أو ’الحب‘: القنوعين هم من يشعرون بأن ممتلكاتهم (الحبيب على سبيل المثال) مهددة من قبل آخرين يختارون غريزة أخرى لمزيد من الطمع والجشع, في حين أن أولئك الذين لا يزالوا يبحثون عن رغبة جديدة سوف يفرضون تقييماً إيجابياً على تلك الرغبة ويسمونها ’حب‘.
لذا فان الحب الجنسي هو رغبة حقيقية نحو تملك ’مبجل ومؤله‘ (الحكمة 14) من قبل أولئك الذين يبحثون للحصول على شيء يثري أنفسهم. هنا, مفهوم الحب على أنه تضحية, ونقيض للطمع, يدعو الى الشك. يمكننا التعرف على المسحة الخفية لمشروع نيتشه الأكبر في زعزعة الحالة المفترضة للأضداد الثنائية الأخلاقية.
يتبع...
**المصدر: موقع العالم الجديد