تقديـم
قال حازم القرطاجني: "وكيف يظن إنسان أن صناعة البلاغة يتاتي تحصيلها في الزمن القريب، وهي البحر الذي لم يصل أحد إلى نهايته مع استنفاد الأعمار". (منهاج البلغاء. 88).
وكان حازم قد شبَّه حال من يظن إمكان تحصيل البلاغة والاستفادة منها، في وقت وجيز، بحال الصديق الذي قضى ليلته في تصفح كتب الطب، ثم أصبح وهو يحرر وصفة طبية لإسعاف صديقه المريض، فعجل بنهايته. إن بوسع إنسان ذكي، كما قال، أن يحصل بالاجتهاد في علم من العلوم خلال شهر أو عام، شيئا يعتد به في ذلك العلم، وليس ذلك ممكنا في علم البلاغة، "إذ أكثر ما يستحسن ويستقبح في علم البلاغة له اعتبارات شتى بحسب المواضع". (نفسه).
فالبلاغة كما قال في موضع آخر علم كلي يقتضي ضبطه الإحاطة بعلوم اللسان وعلوم الإنسان المختلفة المتدخلة في تكوين الذات المنتجة للخطاب.
وها نحن، بعد عمر من البحث ـ حسب الطاقة ـ في قضايا الشعرية وقضايا الخطابية، ومعاناة أسئلتهما القديمة والحديثة تحت راية البلاغة، نعود إلى البداية لنتساءل: ما هي البلاغة؟ أو، عى الأقل: أين توجد البلاغة؟ هل هناك بلاغة واحدة، أم بلاغات متعددة؟ وإذا كانت هناك بلاغات متعددة، هل هنا: مشروعية لقيام بلاغة عامة تنسق هذه البلاغات الخاصة وتتحدث باسمها في نادي العلوم المحيطة بها؟
هذه هي الأسئلة التي يعالجها هذا الكتاب مباشرة كما في الفصل والأول، وعبر الاستكشاف التاريخي، كما في الفصل الثاني، وعبر النموذج كما في الفصل الثالث، وبالحفر في أعماق اللغة والفكر ـ لإبراز فعالية المكون الجوهري في البلاغة، أي المجازـ كما في الفصل الرابع.
ركزنا في الفصل الأول على المنطقة التي يتقاطع فيها التخييل والتداول، وهي منطقة الاحتمال. انطلاقا من أن البلاغة هي علم الخطاب الاحتمالي الهادف إلى التأثير أو الإقناع أو هما معا، إيهاما أو تصديقا. وقدمنا وجهتي نظر حديثتين متعارضتين في الموضوع: إحداهما ترجح الفصل بين الشعرية والخطابية، والثانية ترجح الوصل موسعة منطقة التقاطع بما يمسح بجعلها عاصمة لبلاغةٍ العامة. وقد دعمنا الاتجاه الثاني بالمناقشة من جهة وبتقديم وجهة نظر البلاغة العربية من جهة ثانية.
وتتبعنا في الفصل الثاني تاريخ الحوار بين التخييل والتداول في البلاغتين العربية والغربية وما أفرزه من توجهات نحو التعميم والتخصيص. وهو تاريخ يشهد بوجود بلاغات خاصة، بقدر ما يؤكد النزوع الدائم إلى بلورة بلاغة عامة لكل الخطاب الاحتمالي التخييلي والتداولي. كما يبين كيف تتدخل النهضات العلمية في الجوار اللساني والمنطقي خاصة من أجل هيمنة بلاغات جزئية تدعي التعميم، مما دعاه جيرار جينيت البلاغات المعممة: بلاغة الشعر وبلاغة الحجاج. وهي في نظرنا بلاغات فرعية تفتقر إلى ما تقدمه لها البلاغة العامة. وتقوم بداخل هذه البلاغات الفرعية، بلاغات جزئية ملتبسة بين التخييل والإقناع. وقد ضربنا مثالا للبلاغات الجزئية ببلاغة السخرية وبلاغة السيرة الذاتية. وهذا هو موضوع الفصل الثالث.
لقد بذلنا في مبحث السخرية جهدا تنظيريا استمر سنوات، بل هو عصارة كتاب حالت الظروف دون إتمام شكليات إخراجه. لقد حاولنا إبراز الأبعاد المعرفية والحجاجية التي جعلت السخرية مبحثا فلسفيا حجاجيا أثيرا، من جهة، والأبعاد التي جعلتها مبحثا أدبيا تعبيريا أو أسلوبيا من جهة ثانية. وقد تعمدنا جر السخرية نحو الأدبية موسعين مفهوم الأدب تحاشيا للمعني الأخلاقي الديني والوجودي العدمي.
أما السيرة الذاتية فالذي أثار الاتنباه في بنائها، وسمح بإلحاقها بهذا الكتاب هو تأرجحها بين التخييل الروائي و"التصديق" التاريخي. فقارئ السيرة الذاتية المثالية، أي الواقعة في مركز التقاطع بين التخييل والتاريخ، يظل في تنازع بين التاريخ والخيال. ومن الأكيد أنه حين يتيقن أنه أمام تخييل محض أو تاريخ محض سيغير برنامج تلقيه، وسيطالب بشروط أخرى في البناء: الانسجام الداخلي أو الخارجي أولا.
ولمزيد من الحفر في منطقة التقاطع تناولنا في الفصل الرابع الآلية البلاغية المركزية: المجاز. تناولنا المجاز في تأرجحه بين البعد المعرفي الإقناعي والبعد التخييلي الإبداعي. تتبعنا هذه القضية عبر مسار الفكر اللغوي والديني العربي في مرحلة تشكلهما، حيث لعب المجاز والتأويل المتعلق به دور المليِّن بفضل طبيعته الاحتمالية، أي البلاغية.
وقد عملنا على تكميل الرؤية وفتح طرق التوسع في الموضوع بإضافة ملحقات وحواش موسعة وإحالات كثيرة.
وسيصادف القارئ مجموعة من المصطلحات الجديدة التي لا مندوحة عنها للخروج من الخلط والاضطراب في بناء النسق. مثل لفظ الخطابية ترجمة لريطورية أرسطو، والمستَمَع، على وزن مجتمع، ترجمة للكلمة الجوهرية في التداول الحجاجي auditoire، وكلمة صورة مقابلا لكلمة figure، وحجة لكلمة argument، وغيرها مما عرَّفناه في مكان وروده، أو عبر سياقه. فالمرجو ألا يلتقطها بمنقار طائر جوال لا يغادر كبد سمائه. فالمحنة محنة نسق وليست جولة ألفاظ. وقد اقتضي السياق أحيانا مقايضة بعض المصطلحات المنتمية لحقل واحد، إما لتأكيد خصوصية، مثل حلول الحجاج محل التداول في سياق بلاغة الإقناع الجديدة، وحلول كلمة بيان في نفس المحل في سياق الحديث بمفاهيم الجاحظ.
المحمدية. في 2ماي 2004
الفصل الأول
تقاطع التخييل والتداول
توضيحات أولية
ربما لا تطرح كلمة بلاغة في السياق العربي إشكالاً في كونها علم الخطاب الاحتمالي بنوعيه التخييلي والتداولي، وذلك نتيجة الدمج الذي مارسه، في المرحلة الثانية من تاريخها، كل من عبد القاهر الجرجاني وابن سنان الخفاجي ثم السكاكي وحازم القرطاجني، وذلك بعد المحاولة التلفيقية التي قام بها العسكري تحت عنوان: الصناعتين. فبرغم ما أدت إليه هذه العملية من إقصاء واختزال أحيانا، ومن تحويل المركز أحيانا أخرى (من التخييل إلى التداول خاصة) فقد ظل شعار الوحدة البلاغية مرفوعاً، وسنعود لبيان ذلك.
أما في الثقافة الغربية فإن الكلمة المقابلة لكلمة "بلاغة" العربية، حاليا، أي ريطوريك (rhétorique, rhetoric)، تتردد بين ثلاثة مفاهيم كبرى:
1ـ المفهوم الأرسطي الذي يُخصِّصها لمجال الإقناع وآلياته، حيث تشتغل على النص الخطابي في المقامات الثلاثة المعروفة (المشاورة والمشاجرة والمفاضلة). وهي بهذا المفهوم تقابل بويتيك (poétique,poetics) التي تُعنَى بالخطاب المحاكي المخيل أي الشعر حصراً. وهذا هو المفهوم الذي أعاد بيرلمان وآخرون صياغته في اتجاه بناء نموذج منطقي للإقناع.
2 ـ المفهوم الأدبي الذي يجعلها بحثا في صور الأسلوب، هذا المفهوم الذي استقر لها عبر تاريخ من الانكماش رسم بارت خطوطه العامة في محاضراته المشهورة عن تاريخ البلاغة القديمة. وقد أعيدت صياغة هذا الاتجاه حديثا باعتباره بلاغة عامة أحيانا، كما هو الحال في الدراسة المشهورة لجماعة مي، تحت عنوان: البلاغة العامة.
3 ـ المفهوم النسقي الذي يسعى لجعل البلاغة علما أعلى يشمل التخييل والحجاج معاً. أي يستوعب المفهومين الأولين من خلال المنطقة التي يتقاطعان فيها موسعا لهذه المنطقة أقصى ما يمكنه التوسيع. فقد حدث خلال التاريخ أن تقلص البعد الفلسفي التداولي للبلاغة وتوسع البعد الأسلوبي حتى صار الموضوعَ الوحيد لها، فكانت نهضة البلاغة حديثا منصبة على استرجاع البعد المفقود في تجاذب بين المجال الأدبي (حيث يهيمن التخييل) والمجال الفلسفي المنطقي من جهة، واللساني التداولي من جهة ثانية.
وقد يفقد هذا المفهوم الثالث طابعه الإشكالي النسقي سعيا للدمج الكلي للبعدين التخييلي والتداولي فيشرف على حدود التلفيق، كما هو الحال في الكثير من النماذج المنتمية إلى السميائيات وعلم النص.
وقبل أن نخوض في الإشكالات التي يثيرها المفهوم العام النسقي للبلاغة ـ وهو الذي يهمنا هنا ـ نشير إلى أن المفاهيم المذكورة (لكلمة ريطوريك) كثيراً ما خرجت عن سياقها الغربي، أو أُُخرجت منه، بفعل الترجمة إلى العربية بكلمة "بلاغة" دون تقييد، فأدى ذلك إلى الخلط والتشويش على القراء. ويقال نفس الشيء عن ترجمة الريطورية الأرسطية بكلمة خطابة، على الإطلاق، في بعض الأعمال التي حاولت تلافي الخلط. ولذلك نقترح ترجمة الريطورية الأرسطية بكلمةِ "خطابية" قياساً على كلمةِ "شعرية" التي بسطت سلطتها في مجال التخييل؛ موضوع الأولى الخطابة بمعناها العام، وموضوعُ الثانية الشعر بمعناه العام([1]).
وتبعا لذلك نقترح كلمة صورة مقابلا لكلمة figure، وكلمة حجة مقابلا لكلمة argument باعتبارهما الآليتين الأساسيتين في التخييل (الشعري)، من جهة، والحجاج (الخطابي)، من جهة ثانية. وسنورد نموذجاً لفحص العلاقة بين الصورة والحجة ومدى التداخل بينهما.
وتراودني رغبة في إزاحة كلمة "إنشاء" قليلا عن المعنى الذي استقر لها في الكتب المتأخرة لتدل على كل خطابٍ يحمل جهداً تخييليا أو حجاجيا، أي الخطاب الذي فيه "صنعة" قصدية للتأثير والإقناع، الخطاب الذي يوجد بين البرهنة والاعتباط كما سيعبر بول ريكور لاحقـا.
ولعل القارئ يلتقي لأول مرة بكلمة مُستَمَع، وقد دأبتُ على استعمالها مقابلا لكلمة auditoire، وهي تعني المقام الخطابي بمكوناته الثقافية والزمانية والمكانية. فبدون التفاهم حول هذه المصطلحات سيتعذر التخاطب في هذا الموضوع.
من المفارقات التي قد تثير المتتبع لحركة تجديد البلاغة وتشميلها العودةُ إلى خطابية أرسطو (أي الريطوريك) لتكون عنواناً للبلاغة العامة، والحال أن أرسطو هو أول من شطر علم الخطاب الإنشائي إلى شعرية وخطابية (أو بويتيك وريطوريك)، وذلك عوضاً عن كلمة شعريـة poesis التي تقتسِم، في أحـد تصنيفاته، المجالَ المعرفي مع العلوم النظرية والتطبيقية. فالشعرية تعني، في هذا السياق العلمي التصنيفي، الإنتاج([2])La production، أو الإنشاء حسب المفهوم الذي اقترحناه آنفا.
ويرجع ذلك، في نظري، إلى كون خطابيته قد تضمنت عناصر حجاجية وأسلوبية قابلة للتنمية والتوسيع، كما أن أجناسها الثلاثة قابلة لاحتواء أصناف من الخطاب الاحتمالي المؤثر، بخلاف ما أنجز من شعريته التي وقفت عند المحاكاة عن طريق الحكاية ممثلة على الخشبة، أي عند جنس واحد من الشعر. يضاف إلى ذلك بروز البعد التداولي في الشعر الكلاسيكي.
أساس النسق البلاغي
الحديث عن علمٍ للتخييل والتداول باعتبارهما خطابين يتجهان نحو قطبين متباعدين يقتضي بيان العنصر الجوهري الذي يجمعهما، ومدى الإنتاجية الإضافية المترتبة عن الجمع، فضلا عن الحاجة إلى ضبط الحدود مع الجوار المعرفي (المنطق والفلسفة واللسانيات).
لا يختلف المدافعون عن النسق البلاغي العام مع المرتابين في إمكانية قيامه في أن التخييل والتداول (أو الحجاج بشكل أدق) يلتقيان في أنهما خطابان قائمان على الاحتمال؛ الاحتمال توهيماً أو ترجيحاً، التوهيم في التخييل والترجيح في التداول الحجاجي، فحتى تفريق أرسطو لا يَعدُو جهةَ الاحتمال وجودا وعدماً: فخطاب الشاعر "كذب" محتمل الصدق، وكلام الخطيب صدق محتمل الكذب. ومع ذلك فمن الدارسين من رجح الخصوصيات النوعية لكل جنس ففصل، ومنهم من رأى أن منطقة الاتصال واسعة بشكل يجعلها كافية لقيام علم عام للشعرية والخطابية هو علم البلاغة.
الفصل بين الشعرية والخطابية
في سياق الفصل بين الخطابية والشعرية فحص بول ريكور بعمق عناصر الالتقاء وعناصر الافتراق بين الشعرية والخطابية، في مقال مركز تحت عنوان: الخطابية، الشعري، التأويلية. وهو مقال يتيح لنا عرضُه ومناقشتُه أمرين: أولهما تبين عناصر التداخل وتدعيمها بمعطيات أخرى من المجال العربي، كما سيرد في آخر هذا الاستعراض مع حازم القرطاجني، والثاني مناقشة المستندات المعتمدة في الا حتجاج لعدم إمكان قيام بلاغة عامة.
رجع الباحث بالبلاغة إلى مهدها الغربي عند اليونان باحثا عن نواة الشعرية والخطابية. فلاحظ أن نواة الخطابية في أجناسها الثلاثة هي فض نزاع. لا يُستثنى من ذلك حتى الجنس المحفلي (المفاضلة). إذ يتم الحسم عن طريق معاقلة توجد في منتصف الطريق بين الاضطرار البرهاني والاعتباطية، أي داخل الخطاب الإنشائي كما أشرنا. "ففي منتصف الطريق بين الخطاب البرهاني والعنف المستتر وراء الخطاب الإغوائي الخالص يوجد معقول مناسب للمقامات الخطابية عند أرسطو"([3]). والأساس في هذا الخطاب هو الحوار؛ فالحوار هو مدخل نظرية الحجاج الخطابي لغزوِ مجال العقل التطبيقي حيث يقتضي اختيارُ الأحسن اللجوءَ إلى المتداول, سواء تعلق الأمر بالأخلاق أو القانون أو السياسة. وقد يصل انتشار البلاغة إلى مداه فتدعي تغطية المجال الفلسفي، أو حيزا واسعا منه، كما الحال عند بيرلمان.
غير أن هذا الطموح يصطدم بأمر جوهري في الخطابية الأرسطية وبلاغة الحجاج عامة وهو الاحتكام إلى المُستمعات (auditoires)، إذ يظل هدف الحجاج هو الإقناع، أي الحصول على موافقة المستَمع ودفعه للفعل، فالخطابية هي فن الخطاب الفاعل. أضف إلى ذلك أن اعتبار حال المستَمع في بناء الخطاب يطرح مدى صلابة المنطلقات الحجاجية، "فالتوجه نحو مستَمع يستتبع انطلاق الخطيب من الأفكار المقبولة التي يتقاسمها معه".
والنتيجة أن على الخطيب أن يتلاءم مع المستمع قبل أن يسحبه (نحو قضيته، في حين أن المتوقع من الفيلسوف أن يتعامل، باعتراف بيرلمان نفسه، مع مستَمع كوني، فهو صاحب أطروحات لا قضايا.
وتلتقي الشعرية مع الخطابية في كونها، هي الأخرى تعالج إنتاجا لنصوص نواتها الاحتمال، فـ"إذا لم نقف ـ حسب عبارة ريكورـ عند اعتبار الوزن والإيقاع فارقا بين وحدة الخطابية والشعرية فسيكون من الصعب التفريق بين المبحثين"، ذلك أن poesis تعني، هي الأخرى، عند أرسطو إنتاج الخطاب؛ فهل الخطابية شيء آخر غير تركيب الخطاب، أي أنها هي الأخرى بويزيس poesis".
أضف إلى ذلك أن أرسطو قد صرح بصدد الحديث عن الانسجام في بناء حبكة القصيدة (التراجيدية والكوميدية والملحمية) بضرورة الاستجابة لما هو محتمل الوقوع، أو ما هو ضروريه. بل ألم يقل، أكثر من ذلك، بأن هذا الاحتمال أو الضرورة هو ما يسمح للشعر بأن يكون ذا طابع كوني، وبذلك يظهر أكثر فلسفية وأسمى من التاريخ. "لاشك، إذن، بأن الشعري والخطابي يتقاطعان في منطقة (région)المحتمل". (ص147)
وبرغم استعمال الباحث لفظ région ذات الدلالة الجغرافية القوية فإن ذلك غير مبرر في نظره لجعل هذا الإقليم المشترك عاصمة فيدرالية للشعرية والخطابية؛ مع كل ما يضمنه ذلك من حرية معالجة الخصوصيات للطرفين، والسبب في نظره هو اختلاف المنطلق والهدف يقول: "غير أن تقاطعهما يعني مجيئهما من مكانين مختلفين، وتوجههما نحو هدفين مختلفين" ([4]).
فالشاعر هو صانع حبكات وحكايات وليس صانع كلمات وجمل فحسب، وهذا ما يشهد به في نظره مهد الشعر الذي عرف الملحمة والتراجيديا والكوميديا، وهو المهد الوحيد الذي يسمح بالمقابلة بين الشعرية والخطابية. يقول: "الفعل الشعري هو خلق حكايات ـ حبكة، والفعل الخطابي هو تقديم حجج". من الأكيد أن هناك خطابة في الشعر وشعراً في الخطابة، غير أن الأمر ليس بنفس القوة في الحالتين؛ فالشاعر لا يُحاجج بمعنى الكلمة، حتى وإن كانت شخصياته تحاجج؛ فالحجاج عنده يساهم في حدود تنمية الحبكة، والخطيب لا يخلق حبكاً للحكاية حتى وإن ضمن خطابه عنصراً سردياً".
إن نواة الشعرية تتبلور في العلاقة بين كلمات مفاتيح هي: الإنتاج (poesis ) والحكي (muthos) والمحاكاة (mimesis) والحبكة (intrigne) وبهذا يعارض نواة الخطابية التي هي الحجاج.
أما من حيث الهدف والوظيفة فإن الشعر يستهدف التطهير في حين تستهدف الخطابة الإقناع، الخطابة حمالة أيديولوجيا والشعر حمال إيطوبيا (الحلم والوهم).
وعليه فليس من الممكن، في نظره، قيام علم يستوعب الشعرية والخطابية (بل والتأويلية أيضا). فالملائم إذن هو أن "تتحدث كل واحدة باسمها الخاص؛ فتختص الخطابية بفن الحجاج الهادف لإقناع المستمَع بكون رأي ما مقدما على منازعه، وتختص الشعرية بفن بناء الحُبَك مستهدفة توسيعَ الخيال الفردي والجماعي.." (ص155).
تعليق
هذا التحليل الحجاجي الهادف إلى الفصل بين الشعرية والخطابية قابل للنقاش من عدى وجوه وزوايا:
1 ـ اعتبر الباحث تقسيم أرسطو مهدا، ومهداً واحداً للنشأة المزدوجة للبلاغة. والواقع أن هناك مهدا أخر مُسعفاً ، على الأقل، وهو مهد البلاغة العربية التي سنعرض لها، وقد عرفت نشأة شبيهة دون أن تكون نواة الشعر فيها مماثلة لما عند أرسطو. أضف إلى ذلك أن أرسطو ليس المهد الأول للبلاغة اليونانية، بل هو الذي شطرها بعد أن كان فنٌُ القولِ واحداً مشاعاً بين الفلاسفة والخطباء والشعراء.
2 ـ معروف عند القدماء والمحدثين أن ما وصلنا من شعرية أرسطو لا يمثل تصوره في مشروعه، فأحرى أن يمثل الشعر في عصره كاملاً، فكتاب أرسطو مبتور كما هو معلوم. وأهم غائب فيه الشعر الغنائي، ولو حضر لكان الحديث عن الحبكة والحكاية محل نقاش، فنواة الشعر قابلة للمراجعة من خلال قراءة تاريخية موسعة. وقد انتبه البلاغيون الفلاسفة العرب إلى غياب المتن العربي أو ما يماثله عن تصور أرسطو، ولو حضر لديه لأضاف فصولا إلى كتابه([5]).
3 ـ يبدو أن هذا التوجه تأثر بالنزعة الطليعية الخاضعة للتصورات الأيديولوجية للأدب، أو هو، على الأقل، يخدمها. وقد بين ميشيل بوفور كيف وقفتْ هذه النزعة عقبة دون فهمنا للعلاقات التي استمرت بين الخطابة والنص الإنشائي زمنا طويلا. "ذلك أن مجيئ الأدب في الغرب الذي نتفق ـ حسب نص عبارته ـ على أنه كان في حوالي القرن الثامن عشر صادف تردي المؤسسة الخطابية الموروثة عن القدماء وتهميشها"([6]).
4ـ الدلالة التاريخية للبحث الحديث عن علم شامل للخطاب تحت مسميات مختلفة منها: علم النص، الذي صرح فان ديك بأنه الوريث الشرعي للبلاغة([7])، ومنها سميائيات النص وسميائيات النص الأدبي. غير أن هذه المحاولات المنطلقة من مجالات معرفية خارجية (اللسانيات وعلم العلامات خاصة) لم تؤد بالبلاغيين إلى الزهد في خدمات هذا العلم العتيق: البلاغة([8]).
الوصل بين الشعرية والخطابية: البلاغة العامة
بذل بلاغيون محدثون كبار جهداً فلسفيا ومخبريا، إن صح التعبير، في بيان مدى صلابة الأساس العلمي لقيام بلاغة عامة بالمفهوم الذي تحدث عنه حازم القرطاجني، البلاغة باعتبارها علماً كليا يستوعب ثمار علوم اللسان. وفي هذا الإطار يرى ميشيل مايير أن بناء بلاغة كلية يتطلب الخروج من المقابلة القضوية بين الوجود واللا وجود التي بني عليها تفريق أرسطو بين الشعرية والخطابية، حيث: الشعر "لا وجود يحتمل الوجود" والخطابة "وجود يحتمل اللا وجود"([9]). أو بعبارة أقرب إلى المصطلحات المستعملة في القراءة العربية لأرسطو: الشعر كذب يحتمل الصدق، والخطابة صدق يحتمل الكذب، فبدل هذا التقابل القضوي الوجودي يمكن تحقيق وحدة البلاغة باعتماد التفاعل القائم على الإشكال والمساءلة.
وقد توجهت جهود بعض الباحثين إلى المنطقة المشتركة قصد توسيعها، وتهييئها لتكون موضوعا للبلاغة العامة. واستعمل بعضهم في التعبير عن هذه المنطقة نفس الكلمة التي استعملها ريكور في سياق الفصل وهي région كما نجد عند أوليفيي روبول Olivier Reboul في كتابه البلاغة(la rhétorique). حيث قال:
"سنتبني نحن حلا ثالثا؛ لن نبحث عن جوهر البلاغة لا في الأسلوب ولا في الحجاج، بل في المنطقة région التي يتقاطعان فيها بالتحديد. بعبارة أخرى، ينتمي إلى البلاغة بالنسبة إلينا كل خطاب يجمع بين الحجاج والأسلوب، كل خطاب تحضر فيه الوظائف الثلاث: المتعة والتعليم والإثارة مجتمعة متعاضدة؛ كل خطاب يقنع بالمتعة والإثارة مدعمتين بالحجاج"([10]).
وقد اعتمدت عملية التوسيع إجرائين: إما النحت من الجوار المنطقي واللساني، كما فعل في مقالة: هل يمكن أن يوجد حجاج غير بلاغي؟ وقد ترجمناه في مناسبة سابقة[11]، أو التقريب بين قطبي الاحتمال (الصدق والكذب) من خلال فحص طبيعة الآليات الجوهرية الخاصة بكل منهما، أو المعتبرة كذلك وهي: الصور (figures) والحجج (arguments) حيث صار من الشائع الحديث عن بلاغة الصورة (أو الصور) وبلاغة الحجاج.
سنعرض هنا التفاصيل الحجاجية لمقاله الصورة والحجة [12]figure et L’ argument La وهو مقال يكشف مدى الطموح الذي يحذو البلاغة الجديدة لاسترجاع أطرافها المفقودة، والتقريب بين مكونيها، حتى وإن بدت جاذبية الحجاج أقوى عند الباحث.
تبدأ المقالة بهذا السؤال: "هل يمكن أن تكون الصورة حجة، أو على الأقل عنصراً حجاجيا؟"
وللجواب يقترح التعريف التالي للصورة: "الصورة هي، على العموم، إجراء أسلوبي، أي طريقة في التعبير حرة ومقننة".
والمقصود بكون الصورة حرة لجوء المتحدث إليها بمحض اختياره([13])، بحيث يمكنه تعويضها بغيرها. والمقصود بكونها مقننة انتسابُ كل صورة إلى نسق أو بنية معروفة يمكن نقلُها من محتوى إلى آخر مثل الاستعارة والكناية.
ورغبة في استقصاء الموضوع يقترح تقسيم الصور إلى ثلاثة أنواع: صور الكلمات، وصور المعنى، وصور التركيب. (وعنده قسم رابع في كتاب la rhétorique : صور الفكر). فصور الكلمات تبدو خاصة بالقول الشعري والهزلي ولكنها تلعب، مع ذلك، دوراً حجاجيا. في حين تبدو صور المعنى أو المجازات أكثر ملاءة وقربا من تقنين الحجاج مثل الاستعارة والكناية والمبالغة، فهي باستعمالها معنى غير معتاد تثير أزمة داخل الخطاب (ص177). وقد حظيت الاستعارة عنده بعناية خاصة، وكذلك حالها في أعمال كل التداوليين مناطقة ولسانيين ([14]). وينتهي من تحليل عينات من الأنواع الثلاثة إلى أن الصور تلعب دورين خارجي وداخلي: يتمثل دورها الخارجي في تسهيل عملية الحجاج، فهي تشد الانتباه من خلال خرق المعتاد، فتطبع الذكرى في الذهن، كما أنها تلائمُ بين الأفكار والمستمَع، أي تسهل المعاقلة. أما دورها الداخلي فيتجلى في دخولها، هي نفسها، صلب الحجاج كما هو حال الجناس حيث يوهم تجانس الألفاظ تجانس المعاني([15]).
والوظيفات الخارجية (المساعدة) والداخلية (الفاعلة) متلازمتان؛ فخصوصية البلاغة تكمن في عدم التمييز بين الإحساس والموافقة، أو التسليم([16])، وبذلك تكون الصورة البلاغية أقوى من الحجة التي تقوم بتكثيفها.
وينتهي هذا التتبع للوظائف الحجاجية للصور إلى قلب اتجاه السؤال والنظر من الزاوية الأخرى؛ فيتساءل الباحث عما إذا لم يكن من الممكن القول بأن الحجة هي نفسها مجرد صورة كُلاًٌَ أو بعضاً (؟) يقتضي الجواب عن هذا السؤال في نظره بيان ما يميز الحجاج عن البرهنة المنطقية حيث يمكن رصد أربعة ملامح تجعل الحجة احتمالية مثل الصورة:
1ـ ارتباط الحجاج بمستَمع معين خاص أو متخصص، فالمستمع الخاص مثل الشباب واليسار والفلاحين، والمتخصص مثل المحكمة والأطباء..الخ "ومن ثم فإن المقدمات الحجاجية لا تكون بديهية منطقية، ولا وقائعَ مبرهناً عليها، بل هي قضايا مقبولة من طرف المستَمع المستهدف، ولذلك فإن مبدأ الموضوعية يُخلي المكان للمتوافق عليه...(ص184)
إن نجاعة الخطاب ترتبط بمدى الاستناد إلى هذا التوافق، ومدى التلاءم مع مستوى المستمع والاستجابة لتطلعاته.
2ـ استعمال اللغة الطبيعية في الحجاج ، وهي لغة ألفاظها ملتبسة أو متعددةُ الدلالات متراوحة بين الحقيقة والمجاز، وهذا يطبعها بالاحتمال.
3ـ مسار الحجاج لا يأخذ طريق الصرامة البرهانية، إذا أخذها، إلا في اتجاه السلب: أي إثبات ما ليس ممكنا لا ما هو ممكن، (فيمكن أن نثبت أن قانوناً ما لا يوافق الدستور، ولكننا لا نستطيع أن نثبت أنه نافع يقيناً، يمكن أن نثبت أن دواء لا يعالج بعض الناس، ولكننا لا نثبت أنه يعالج كل الناس). وهذا الملمح يبدو لي محل جدل: فالقول بأنه لا يسير في اتجاه الصرامة البرهانية هو الدعوى المراد البرهنة عليها، ولا يمكن أن تكون الدعوى حجة على نفسها، والقول بإمكان إثبات السلب وتعذر إثبات الإيجاب غير واضح.
4 ـ كون الحجاج سجالاً، فهو يعارض على الدوام ـ ولو ضمنيا ـ حجة ما قابلة للتفنيد: حجة اليسار ضد حجة اليمين مثلا..الخ (ص186). غير أن السجال لا يعني القطيعة والتحارب، فما دمنا نتحدث فلن نقتتل، كما لا يعني الشك وتساوي الحجج أو ملاءمتها كلها برغم التعارض (لكلٌٍ أن يقول ما يريد)، بل إن الطابع السجالي يقتضي الترجيح. وفي هذه الأحوال تكون الاستعارة، مثلا، أنسب للرد على استعارة أخرى، وتكون السخرية دعوة إلى العودة إلى الحوار الإيجابي.
ويمكن إجمال القول "بأن الحجة تصبح صورة حين تتعذر ترجمتها أو شرحها، حين يتعذر التعبير عنها بطريقة أخرى دون إضعافها". (ص186)
يقول روبول: "لعلي أستطيع الآن الإجابة عن تلك الأسئلة الثلاثة الأساسية: نعم، الصورة تسهل الحجاج، نعم، إنها تشارك هي نفسها في الحجاج، وتكاد الوظيفتان تكونان متلازمتين على الدوام، وهذا التلازم هو في العمق جوهر البلاغة". (ص186)
وبذلك فقد تكون الحجة هي نفسها صورة يسري عليها ما يسري على الصور من انعدام الدقة، ومن التذاوت (تفاعل الذوات)، والسجـال([17]).
تعليق:
لابد من التنبيه إلى أن منظري الحجاج والمنقبين عن المشترك بين التخييل والتداول انطلاقا منه متأثرون بالمتن الإنشائي القديم (الشعر الكلاسيكي بالتحديد). وهو متن ذو طابع خطابي؛ ينطلق من وجود معنى تتوارد عليه الصور اللفظية فتتناوب الدلالات، كما عبر السكاكي في تعريف علم البيان.
وقد انتبه بيرلمان وأولبريشت تيتيكا إلى ذلك وحسماه في سياق الحديث عن الاستعارة، وذلك حين استبعدا التوجه التفاعلي في تفسير عمل الاستعارة كما دافع عنه ريتشاردز Richards في كتابه فلسفة البلاغة. وقد ذكرا هناك باعتمادهما على مفهوم المشابهة كما بسطته البلاغة القديمة([18]).
وقد عرف التراث البلاغي القديم نفسه ملاحظات عميقة تتجاوز المعنى الوضعي المعبر عنه بصورة من الصور البلاغية إلى المعنى المبني في النفس، والمعنى الذي هو الصورة نفسها، حيث يتعذر بناء معنى معدول عنه، وفي هذا السياق وصلت التجارب الطليعية في العصر الحديث إلى الصورة بدل المعنى، بل إلى الحديث عن اللا معنى..الخ، وبذلك يبقى قطب التخييل قائم الذات.
ولعل حديث البلاغيين العرب عن وظائف المشابهة (التمثيلية والاستعارية) خير ما يوضح ذلك. فالتشبيه عندهم قد يكون للبيان وقد يكون للتخييل، وقد يتفاعلان فيه وهو الأوسع مساحة.
التخييل والتداول في مسار البلاغة العربية([19]).
أول تفكير في اللغة هو التفكير البلاغي كما يقول تودوروف، والمفصود أن اللغة الواصفة الأولى هي البلاغة، وتبدو المسألة كالبديهية، ذلك أن الملاحظات الأولى ملاحظات نقدية ترصد الخارج عن المعيار العادي للخطاب.
فقد ظهرت الملاحظات الأسلوبية قبل ظهور العروض والنحو والمنطق كما روي من تاريخ التلقي الشعري العربي في الجاهلية وصدر الإسلام. وكان من مظاهر ذلك ربط الشعر بالعوالم غير العادية؛ بالجن والشياطين. كانت هذه الملاحظات هي المصدر الأول للبلاغة العربية حيث جمعت لاحقاً تحت اسم البديع ومحاسن الكلام (ابن المعتز)، وقد تطور هذا المسار من خلال الخصومات حول ما هو بديع وما ليس كذلك([20]).
أما المسار الثاني فكان لاحقا بالأول حيث ارتبط بتقعيد اللغة من جهة وبيان الانسجام الخطابي للنص القرآني وما أثير حول ذلك من إشكالات اقتضى التحاور حولها الاستعانة بالمنطق اليوناني والبلاغة الأرسطية. ومفاتيح هذا الموضوع "غريب القرآن" و "مجازاته" و"الكلام" حول الذات والصفات حيث يتداخل عالم المطلق (الله) وعالم النسبي (الإنسان): جعل ما لله للإنسان أو جعل ما للإنسان لله (؟).
ففي هذا السياق الفكري اللغوي المنطقي ظهر الطموح إلى صياغة نظرية عامة للفهم والإفهام أو للبيان والتبيين، وهذا هو المصدر الثاني الكبير للبلاغة العربية، الذي ظهر الجاحظ رائدا فيه، وهو الذي انتبه إلى أن اللغوي لا يستطيع مهما أوتي من معرفة أن يحاجج في مجال الإقناع حول المسائل الدينية ما لم يستعن بعلم الكلام، وعلم الكلام هو علم الحجاج العقلي في المجال الديني ومركز التأويل القادر على ردم الهوة بين مستويات الخطاب في الحقيقة والمجاز. وكان من ثمار هذا التوجه علم المناظرة والجدل([21]).
فللبلاغة العربية إذن مهدان كبيران أنتجا مساران كبيرين: مسار البديع يغذيه الشعر، ومسار البيان تغذيه الخطابة. ونظراً للتداخل الكبير بين الشعر والخطابة في التراث العربي، فقد ظل المساران متداخلين وملتبسين رغم الجهود الكبيرة النيرة التي ساهم بها الفلاسفة وهم يقرؤون بلاغة أرسطو وشعريته. ومن العوامل الملموسة التي عقدت المهمة النظرية في هذا المجال البحث عن بلاغة القرآن من خلال الشعر العربي، ذلك السراب الذي جرى خلفه الأشاعرة وتخلص منه بعض المعتزلة بالقول بالصرفة.
والنموذج الأمثل للاضطراب في هذا المضمار المسيرة الطويلة لعبد القاهر الجرجاني بحثا عن الخصيصة البلاغية من خلال الشعر والقرآن في آن، فقد أدى به الأمر منذ المنطلق إلى اختزال البلاغة في التحويل الدلالي القائم على الإلحاق والإبدال عن طريق المشابهة والمجاز مستعينا بالقراءة العربية لنظرية المحاكاة الأرسطية([22]). غير أن استحضار النص القرآني جعله يقلص التخييل إلى درجة تفقده معناه المولد لكل الصور خلافَ ما عليه حال المحاكاة التي جاء منها، بل جعله يستأنف المسيرة في كتاب الدلائل من منطلق مغاير هو منطلق النحو (النظم)، ويحيل كل ما اعتبره "أسرار بلاغة" إلى عنصر مُساعد أو مشارك في أقصى الأحوال.
لقد انتقل الجرجاني من الغرابة الشعرية (أي من التخييل) إلى المناسبة المقامية أو السياقية (أي إلى تداولية لسانية) كما بينا بتفصيل في كتاب البلاغة العربية([23]).
وتنبه قراؤُه إلى نهاية هذه المسيرة الاستكشافية فقلبوا ترتيب الأسبقيات، كما فعل السكاكي حيث جعل مركز البلاغة في التراكيب والمقاصد (علم المعاني) وامتدادها في التحويلات الدلالية (علم البيان)، وجعل ما أقصاه الجرجاني (الأصوات) أو أهمله (المقابلات الدلالية..الخ) في هامش البلاغة (علم البديع). ومع ذلك ظل المسار البديعي يراكم الصور في غير نسق (تحرير التجبير) أو في نسق غير دال (المنزع البديع). فتكون لدينا ما عرف في البلاغة الغربية ببلاغة الصور، وفي غياب النظر الفلسفي المنطقي اِنزوى علم المعاني، أو البعد التداولي في هامش النحو وهيمنت عليه مصطلحاته ومفاهيمه.
لقد بذل الفلاسفة العرب، في إطار قراءتهم لعمل أرسطو في الشعر والخطابة جهداً محموداً لبيان الخصوصية الشعرية (التخييل) والخصوصية الخطابية (التصديق)، وما بينهما من التداخل والتخارج، غير أن هيمنة الخلفيات الدينية وتراجع الحضارة الإسلامية حالا دون استثمار هذا التراث في مجال البلاغة تنظيرا وتطبيقا. ولعل المحاولة النظيرية الوحيدة الجادة في هذا المجال هي التي بذلها حازم القرطاجني. غير أن محاولته ظلت في حاجة إلى كثير من التهذيب والتكميل والتمثيل، الشيء الذي لم يكن ممكنا في ذلك المسار الحضاري التردي.
وسنكتفي في هذه المناسبة بإيراد فقرات دالة من نص طويل متماسك مضمونا وتركيبا بين فيه المؤلف منطقة تقاطع الشعر والخطابة باعتبارهما بعدين بلاغيين متداخلين تداخل التخييل والإقناع، قال:
"لما كان علم البلاغة مشتملا على صناعتي الشعر والخطابة، وكان الشعر والخطابة يشتركان في مادة المعاني ويفترقان بصورتي التخييل والإقناع ... وكان القصد في التخييل والإقناع حمل النفوس على فعل شيء أو اعتقاده أو التخلي عن فعله واعتقاده … وكانت عُلقة جل أغراض الناس وآرائهم بالأشياء التي اشترك الخاصة والجمهور في اعتقادهم أنها خير أو شر… وجب أن تكون أعرق المعاني في الصناعة الشعرية ما اشتدت علقته بأغراض الإنسان…
… فأما بالنظر إلى حقيقة الشعر فلا فرق بين ما انفرد به الخاصة دون العامة وبين ما شاركوهم فيه، ولا ميزة بين ما اشتدت علقته بالأغراض المألوفة وبين ما ليس له علقة، إذا كان التخييل في جميع ذلك على حد واحد، إذ المعتبر في حقيقة الشعر إنما هو التخييل والمحاكاة في أي معنى اتفق ذلك"([24]).
يكمل حازم في هذا النص عمل الفلاسفة في الملاءمة بين التصور الأرسطي في كتابي الشعر والخطابة، وخاصة حديثه عن وظائف المحاكاة، وبين واقع الشعر العربي الذي يبدو في أكثره جمهوريا خطابيا، وكذا واقع الخطابة التي نشأت في حمى ذلك الشعر وتأثرت به. إذّ لم تكن المسافة بين الشعر والخطابة واسعة، كما بينا في كتاب: في بلاغة الخطاب الإقناعي، حين الحديث عن الأسلوب. وقد ورَدَ هذا النص، كما يفهم من منطوقه، في سياق الحديث عن "المعاني" البلاغية التي رأى فيها المؤلف المنطقة المركزية للتقاطع بين الشعري والخطابي. ومركز المركز في هذا التقاطع هو التأثير في النفوس ودفعها نحو اعتقادٍ أو فعل([25]).
فما دام جل "أغراض الناس" مرتبطا بما "اشتهر" أنه خير أو شر، فإن المعاني المؤثرة فيهم هي المعاني المشتركة بين الجمهور والخاصة، في الشعر والخطابة على حد سواء. غير أن للشعر من حيث جوهره أن يخرج عن هذه الحدود المشتركة مع الخطابة، إذ يمكن أن يكون خاصيًّا منغلقا بالنسبة للعامة. (ولا شك أنه يستحضر هنا الاختلاف حول التعابير المستغلقة التي أثارت نقاشا حادا في العصر العباسي).
يستحضر حازم هنا التصور الأرسطي لمفهوم التحسين والتقبيح والمطابقة كما صاغه ابن سينا، ففي هذه الحالة الثالثة يبتعد الشعر عن الخطابة، ولكنه لا ينفصل عنها، إذ تحمل المطابقة نفسها جرثومة الميل لهذا الطرف أو ذاك، قال: "وتنقسم التخاييل والمحاكيات بحسب ما يقصد بها إلى: محاكاة تحسين، ومحاكاة تقبيح، ومحاكاة مطابقة؛ لا يقصد بها إلا ضرب من رياضة الخواطر والملح في بعض المواضع… وربما كان القصد بذلك ضربا من التعجيب والاعتبار. وربما كانت محاكاة المطابقة في قوة المحاكاة التحسينية أو التقبيحية… فكأن التخييل بالجملة لم يخل من تحريك النفوس إلى استحسان أو استقباح"([26]).
ويرغم كل هذا التداخل الوظيفي بين الشعري والخطابي فإن كل واحد منهما يحتفظ بخصوصيته. ومن هنا يتحدث عن العمدة والتابع في الاتجاهين. وكلامه في ذلك أحسن ختام في هذا الموضوع: "وينبغي أن تكون الأقاويل المقنعة، الواقعة في الشعر، تابعة لأقاويل مخيلة، مؤكدة لمعانيها، مناسبة لها فيما قصد بها من الأغراض، وأن تكون المخيلة هي العمدة. وكذلك الخطابة، ينبغي أن تكون الأقاويل المخيلة الواقعة فيها تابعة لأقاويل مقنعة، مناسبة لها، مؤكدة لمعانيها، وأن تكون الأقاويل المقنعة هي العمدة"([27]).
وفي الفصل الثاني مزيد بيان لتصور حازم، ودعم تاريخي لمجموع الأفكار المقدمة هنا.
هوامـش
[1]- تلافيا للخلط استعملنا عبارة: بلاغة الخطاب الإقناعي، عنوانا لأول كتاب صدر لنا في الموضوع، في منتصف الثمانينيا. هو كتاب: في بلاغة الخطاب الإقناعي. وقد بدا لنا اليوم أن الأجدى اصطلاحا، والمناسب دلالة، استعمال كلمة واحدة هي: الخطابية.
[2]- انظر O. Hamelin. Le système d ‘Aristote. P 82 وقد جاء فيه: "ميز أرسطو، كما نعلم، ثلاثة أصناف (أو مراتب classe) من العلوم: علوم نظرية، وعلوم تطبيقية وعلوم شعرية" (ص82). وقد أشار إلى أن رافيسو Ravaisson، وهو أحد قراء أرسطو، رجح إلحاق الخطابية والجدل بالعلوم الشعرية.
[3]- .Rhétorique- poétique- herméneutique”. p.144."
[4]- نفسه 148 Rhétorique- poétique- herméneutique”. p."
[5]- قال حازم في منهاج البلغاء (ص 68): "ولو وجد الحكيم أرسطو في شعر اليونانيين ما يوجد في شعر العرب من كثرة الحكم والأمثال والاستدلالات واختلاف ضروب الإبداع في فنون الكلام… لزاد على ما وضع من القوانين الشعرية".
[6]- Michel Beaufour. “Rhétorique et littérature". P.159
[7]- انظر "النص بنياته ووظائفه". ترجمة محمد العمري. ضمن كتاب نظرية الأدب في القرن العشرين. إفريقيا الشرق. الدار البيضاء/بيروت.
[8]- ذلك أن الالتزامات الخارجية لهذه المباحث، مع مصادر انطلاقها تؤدي بالضرورة إلى غياب السؤال الذي تجيب عنه البلاغة، وهو التداخل والتخارج بين التخييل والتداول، ففي إطار هذا السؤال تتحدد الهويات، وتبرز الوظائف والفعاليات. إذ الصفاء الحجاجي أو التخييلي قطبان افتراصيان ربما أمكن رصدهما في المهد والنواة، ولكنهما لا يغطيان مساحة تضاهي مساحى التدخل. أضف إلى ذلك المشروعية التاريخية التي تحدث عنها هنريت بليت.
[9]- Michel Meyer. "Conclusion: ya-t-il un fondement possible à l'unite de la rhetorique?”. P.255. .
[10] - الخيارات الآخران المشار إليهما هما: بلاغة الحجاج عند بيرلمان وبلاغة الأسلوب عند جماعة مي. وسنتطرق إليهما في الفصل الأول.
[11]- وقد ألحقناه بآخر هذا الكتاب لأهميته.
[12]- Olivier Reboul.. “la figure et l’argument".pp 175-187
[13]- ما دام الحديث هنا عن الصورة بصفة عامة شعريةً وخطابيةً.. فيمكن الاعتراض بأن الصورة قد تكون في التخييل الشعري اضطرارية، إذ لا يكون هناك غير احتمال واحد، وإلا صرنا أمام نص آخر. وربما كان بيرلمان دقيقاً حين استبعد نظرية ريتشاردز التفاعلية، كما سترد الإحالة عليـه.
[14]- أحيل هنا على بيرونضوني Alain Berrendonner الذي خصص مبحثين مفصلين لكل من السخرية والاستعارة في كتابه Elément de pragmatique linguistique. Minuit. Paris. 1982.
[15]- من أمثلة ذلك ربط عبد اللطيف جبرو بين اسم المناضل الاتحادي محمد الفقيه البصري، و وزير الداخلية المغربي السيئ الذكر إدريس البصري. انظر تحليل ذلك في كتابنا: دائرة الحوار.
[16]- “La figure et l’argumentation.”. P 184.في المرجع المذكور أعلاه.
[17]- ومع هذه المنازعة في منطقية الحجاج وموضوعيته فإن الباحث يتمنى له أن يغتنم أي فرصة تتيح له حظا من الموضوعية، رغم ندرة هذه الفرص في مجال "أفعال الحياة" كما قال ديكارت، ففي هذا المجال تبقى الهيمنة للمحتمل الذي لا ينفع معه إلا الحوار. (نفسه 186-187).
[18] - انظر مزيد بيان في Traité de l’argumentation..p.535.
[19] - نرسم هنا الخطوط العامة الضرورية لانسجام هذا المدخل، وسيأتي مزيد بيان في الفصل الأول.
[20]- للتوسع في هذا الموضوع انظر الفصل الأول (من الباب الأول) من كتابنا: البلاغة العربية أصولها وامتداداتها.
[21]- المرجع السابق. الفصول 2،3،4
[22]- المرجع السابق. الفصل5 من الباب الأول. والقسم الثاني منه.
[23]- نفسه. الفصل الأول من القسم الثاني.
[24]- منهاج البلغاء. ص19-20.
[25] - . لم يصلنا، كما هو معلوم، القسم الأول من كتاب منهاج البلغاء، الذي يحتمل أن يتضمن مقدمة في تعريف البلاغة بصفة عامة بعيدا عن المباحث الجزئية. وإن كنا نعتقد أن ما ورد في هذا القسم الثتني المخصص للمعنى يستوعب كل ما يمكن أن يقوله المؤلف، انطلاقا من تصريحه بأن المعاني هي منطقة التقاطع الشعري الخطابي.
[26]- منهاج البلغاء 92.
[27] - نفسه 135.
قال حازم القرطاجني: "وكيف يظن إنسان أن صناعة البلاغة يتاتي تحصيلها في الزمن القريب، وهي البحر الذي لم يصل أحد إلى نهايته مع استنفاد الأعمار". (منهاج البلغاء. 88).
وكان حازم قد شبَّه حال من يظن إمكان تحصيل البلاغة والاستفادة منها، في وقت وجيز، بحال الصديق الذي قضى ليلته في تصفح كتب الطب، ثم أصبح وهو يحرر وصفة طبية لإسعاف صديقه المريض، فعجل بنهايته. إن بوسع إنسان ذكي، كما قال، أن يحصل بالاجتهاد في علم من العلوم خلال شهر أو عام، شيئا يعتد به في ذلك العلم، وليس ذلك ممكنا في علم البلاغة، "إذ أكثر ما يستحسن ويستقبح في علم البلاغة له اعتبارات شتى بحسب المواضع". (نفسه).
فالبلاغة كما قال في موضع آخر علم كلي يقتضي ضبطه الإحاطة بعلوم اللسان وعلوم الإنسان المختلفة المتدخلة في تكوين الذات المنتجة للخطاب.
وها نحن، بعد عمر من البحث ـ حسب الطاقة ـ في قضايا الشعرية وقضايا الخطابية، ومعاناة أسئلتهما القديمة والحديثة تحت راية البلاغة، نعود إلى البداية لنتساءل: ما هي البلاغة؟ أو، عى الأقل: أين توجد البلاغة؟ هل هناك بلاغة واحدة، أم بلاغات متعددة؟ وإذا كانت هناك بلاغات متعددة، هل هنا: مشروعية لقيام بلاغة عامة تنسق هذه البلاغات الخاصة وتتحدث باسمها في نادي العلوم المحيطة بها؟
هذه هي الأسئلة التي يعالجها هذا الكتاب مباشرة كما في الفصل والأول، وعبر الاستكشاف التاريخي، كما في الفصل الثاني، وعبر النموذج كما في الفصل الثالث، وبالحفر في أعماق اللغة والفكر ـ لإبراز فعالية المكون الجوهري في البلاغة، أي المجازـ كما في الفصل الرابع.
ركزنا في الفصل الأول على المنطقة التي يتقاطع فيها التخييل والتداول، وهي منطقة الاحتمال. انطلاقا من أن البلاغة هي علم الخطاب الاحتمالي الهادف إلى التأثير أو الإقناع أو هما معا، إيهاما أو تصديقا. وقدمنا وجهتي نظر حديثتين متعارضتين في الموضوع: إحداهما ترجح الفصل بين الشعرية والخطابية، والثانية ترجح الوصل موسعة منطقة التقاطع بما يمسح بجعلها عاصمة لبلاغةٍ العامة. وقد دعمنا الاتجاه الثاني بالمناقشة من جهة وبتقديم وجهة نظر البلاغة العربية من جهة ثانية.
وتتبعنا في الفصل الثاني تاريخ الحوار بين التخييل والتداول في البلاغتين العربية والغربية وما أفرزه من توجهات نحو التعميم والتخصيص. وهو تاريخ يشهد بوجود بلاغات خاصة، بقدر ما يؤكد النزوع الدائم إلى بلورة بلاغة عامة لكل الخطاب الاحتمالي التخييلي والتداولي. كما يبين كيف تتدخل النهضات العلمية في الجوار اللساني والمنطقي خاصة من أجل هيمنة بلاغات جزئية تدعي التعميم، مما دعاه جيرار جينيت البلاغات المعممة: بلاغة الشعر وبلاغة الحجاج. وهي في نظرنا بلاغات فرعية تفتقر إلى ما تقدمه لها البلاغة العامة. وتقوم بداخل هذه البلاغات الفرعية، بلاغات جزئية ملتبسة بين التخييل والإقناع. وقد ضربنا مثالا للبلاغات الجزئية ببلاغة السخرية وبلاغة السيرة الذاتية. وهذا هو موضوع الفصل الثالث.
لقد بذلنا في مبحث السخرية جهدا تنظيريا استمر سنوات، بل هو عصارة كتاب حالت الظروف دون إتمام شكليات إخراجه. لقد حاولنا إبراز الأبعاد المعرفية والحجاجية التي جعلت السخرية مبحثا فلسفيا حجاجيا أثيرا، من جهة، والأبعاد التي جعلتها مبحثا أدبيا تعبيريا أو أسلوبيا من جهة ثانية. وقد تعمدنا جر السخرية نحو الأدبية موسعين مفهوم الأدب تحاشيا للمعني الأخلاقي الديني والوجودي العدمي.
أما السيرة الذاتية فالذي أثار الاتنباه في بنائها، وسمح بإلحاقها بهذا الكتاب هو تأرجحها بين التخييل الروائي و"التصديق" التاريخي. فقارئ السيرة الذاتية المثالية، أي الواقعة في مركز التقاطع بين التخييل والتاريخ، يظل في تنازع بين التاريخ والخيال. ومن الأكيد أنه حين يتيقن أنه أمام تخييل محض أو تاريخ محض سيغير برنامج تلقيه، وسيطالب بشروط أخرى في البناء: الانسجام الداخلي أو الخارجي أولا.
ولمزيد من الحفر في منطقة التقاطع تناولنا في الفصل الرابع الآلية البلاغية المركزية: المجاز. تناولنا المجاز في تأرجحه بين البعد المعرفي الإقناعي والبعد التخييلي الإبداعي. تتبعنا هذه القضية عبر مسار الفكر اللغوي والديني العربي في مرحلة تشكلهما، حيث لعب المجاز والتأويل المتعلق به دور المليِّن بفضل طبيعته الاحتمالية، أي البلاغية.
وقد عملنا على تكميل الرؤية وفتح طرق التوسع في الموضوع بإضافة ملحقات وحواش موسعة وإحالات كثيرة.
وسيصادف القارئ مجموعة من المصطلحات الجديدة التي لا مندوحة عنها للخروج من الخلط والاضطراب في بناء النسق. مثل لفظ الخطابية ترجمة لريطورية أرسطو، والمستَمَع، على وزن مجتمع، ترجمة للكلمة الجوهرية في التداول الحجاجي auditoire، وكلمة صورة مقابلا لكلمة figure، وحجة لكلمة argument، وغيرها مما عرَّفناه في مكان وروده، أو عبر سياقه. فالمرجو ألا يلتقطها بمنقار طائر جوال لا يغادر كبد سمائه. فالمحنة محنة نسق وليست جولة ألفاظ. وقد اقتضي السياق أحيانا مقايضة بعض المصطلحات المنتمية لحقل واحد، إما لتأكيد خصوصية، مثل حلول الحجاج محل التداول في سياق بلاغة الإقناع الجديدة، وحلول كلمة بيان في نفس المحل في سياق الحديث بمفاهيم الجاحظ.
المحمدية. في 2ماي 2004
الفصل الأول
تقاطع التخييل والتداول
توضيحات أولية
ربما لا تطرح كلمة بلاغة في السياق العربي إشكالاً في كونها علم الخطاب الاحتمالي بنوعيه التخييلي والتداولي، وذلك نتيجة الدمج الذي مارسه، في المرحلة الثانية من تاريخها، كل من عبد القاهر الجرجاني وابن سنان الخفاجي ثم السكاكي وحازم القرطاجني، وذلك بعد المحاولة التلفيقية التي قام بها العسكري تحت عنوان: الصناعتين. فبرغم ما أدت إليه هذه العملية من إقصاء واختزال أحيانا، ومن تحويل المركز أحيانا أخرى (من التخييل إلى التداول خاصة) فقد ظل شعار الوحدة البلاغية مرفوعاً، وسنعود لبيان ذلك.
أما في الثقافة الغربية فإن الكلمة المقابلة لكلمة "بلاغة" العربية، حاليا، أي ريطوريك (rhétorique, rhetoric)، تتردد بين ثلاثة مفاهيم كبرى:
1ـ المفهوم الأرسطي الذي يُخصِّصها لمجال الإقناع وآلياته، حيث تشتغل على النص الخطابي في المقامات الثلاثة المعروفة (المشاورة والمشاجرة والمفاضلة). وهي بهذا المفهوم تقابل بويتيك (poétique,poetics) التي تُعنَى بالخطاب المحاكي المخيل أي الشعر حصراً. وهذا هو المفهوم الذي أعاد بيرلمان وآخرون صياغته في اتجاه بناء نموذج منطقي للإقناع.
2 ـ المفهوم الأدبي الذي يجعلها بحثا في صور الأسلوب، هذا المفهوم الذي استقر لها عبر تاريخ من الانكماش رسم بارت خطوطه العامة في محاضراته المشهورة عن تاريخ البلاغة القديمة. وقد أعيدت صياغة هذا الاتجاه حديثا باعتباره بلاغة عامة أحيانا، كما هو الحال في الدراسة المشهورة لجماعة مي، تحت عنوان: البلاغة العامة.
3 ـ المفهوم النسقي الذي يسعى لجعل البلاغة علما أعلى يشمل التخييل والحجاج معاً. أي يستوعب المفهومين الأولين من خلال المنطقة التي يتقاطعان فيها موسعا لهذه المنطقة أقصى ما يمكنه التوسيع. فقد حدث خلال التاريخ أن تقلص البعد الفلسفي التداولي للبلاغة وتوسع البعد الأسلوبي حتى صار الموضوعَ الوحيد لها، فكانت نهضة البلاغة حديثا منصبة على استرجاع البعد المفقود في تجاذب بين المجال الأدبي (حيث يهيمن التخييل) والمجال الفلسفي المنطقي من جهة، واللساني التداولي من جهة ثانية.
وقد يفقد هذا المفهوم الثالث طابعه الإشكالي النسقي سعيا للدمج الكلي للبعدين التخييلي والتداولي فيشرف على حدود التلفيق، كما هو الحال في الكثير من النماذج المنتمية إلى السميائيات وعلم النص.
وقبل أن نخوض في الإشكالات التي يثيرها المفهوم العام النسقي للبلاغة ـ وهو الذي يهمنا هنا ـ نشير إلى أن المفاهيم المذكورة (لكلمة ريطوريك) كثيراً ما خرجت عن سياقها الغربي، أو أُُخرجت منه، بفعل الترجمة إلى العربية بكلمة "بلاغة" دون تقييد، فأدى ذلك إلى الخلط والتشويش على القراء. ويقال نفس الشيء عن ترجمة الريطورية الأرسطية بكلمة خطابة، على الإطلاق، في بعض الأعمال التي حاولت تلافي الخلط. ولذلك نقترح ترجمة الريطورية الأرسطية بكلمةِ "خطابية" قياساً على كلمةِ "شعرية" التي بسطت سلطتها في مجال التخييل؛ موضوع الأولى الخطابة بمعناها العام، وموضوعُ الثانية الشعر بمعناه العام([1]).
وتبعا لذلك نقترح كلمة صورة مقابلا لكلمة figure، وكلمة حجة مقابلا لكلمة argument باعتبارهما الآليتين الأساسيتين في التخييل (الشعري)، من جهة، والحجاج (الخطابي)، من جهة ثانية. وسنورد نموذجاً لفحص العلاقة بين الصورة والحجة ومدى التداخل بينهما.
وتراودني رغبة في إزاحة كلمة "إنشاء" قليلا عن المعنى الذي استقر لها في الكتب المتأخرة لتدل على كل خطابٍ يحمل جهداً تخييليا أو حجاجيا، أي الخطاب الذي فيه "صنعة" قصدية للتأثير والإقناع، الخطاب الذي يوجد بين البرهنة والاعتباط كما سيعبر بول ريكور لاحقـا.
ولعل القارئ يلتقي لأول مرة بكلمة مُستَمَع، وقد دأبتُ على استعمالها مقابلا لكلمة auditoire، وهي تعني المقام الخطابي بمكوناته الثقافية والزمانية والمكانية. فبدون التفاهم حول هذه المصطلحات سيتعذر التخاطب في هذا الموضوع.
من المفارقات التي قد تثير المتتبع لحركة تجديد البلاغة وتشميلها العودةُ إلى خطابية أرسطو (أي الريطوريك) لتكون عنواناً للبلاغة العامة، والحال أن أرسطو هو أول من شطر علم الخطاب الإنشائي إلى شعرية وخطابية (أو بويتيك وريطوريك)، وذلك عوضاً عن كلمة شعريـة poesis التي تقتسِم، في أحـد تصنيفاته، المجالَ المعرفي مع العلوم النظرية والتطبيقية. فالشعرية تعني، في هذا السياق العلمي التصنيفي، الإنتاج([2])La production، أو الإنشاء حسب المفهوم الذي اقترحناه آنفا.
ويرجع ذلك، في نظري، إلى كون خطابيته قد تضمنت عناصر حجاجية وأسلوبية قابلة للتنمية والتوسيع، كما أن أجناسها الثلاثة قابلة لاحتواء أصناف من الخطاب الاحتمالي المؤثر، بخلاف ما أنجز من شعريته التي وقفت عند المحاكاة عن طريق الحكاية ممثلة على الخشبة، أي عند جنس واحد من الشعر. يضاف إلى ذلك بروز البعد التداولي في الشعر الكلاسيكي.
أساس النسق البلاغي
الحديث عن علمٍ للتخييل والتداول باعتبارهما خطابين يتجهان نحو قطبين متباعدين يقتضي بيان العنصر الجوهري الذي يجمعهما، ومدى الإنتاجية الإضافية المترتبة عن الجمع، فضلا عن الحاجة إلى ضبط الحدود مع الجوار المعرفي (المنطق والفلسفة واللسانيات).
لا يختلف المدافعون عن النسق البلاغي العام مع المرتابين في إمكانية قيامه في أن التخييل والتداول (أو الحجاج بشكل أدق) يلتقيان في أنهما خطابان قائمان على الاحتمال؛ الاحتمال توهيماً أو ترجيحاً، التوهيم في التخييل والترجيح في التداول الحجاجي، فحتى تفريق أرسطو لا يَعدُو جهةَ الاحتمال وجودا وعدماً: فخطاب الشاعر "كذب" محتمل الصدق، وكلام الخطيب صدق محتمل الكذب. ومع ذلك فمن الدارسين من رجح الخصوصيات النوعية لكل جنس ففصل، ومنهم من رأى أن منطقة الاتصال واسعة بشكل يجعلها كافية لقيام علم عام للشعرية والخطابية هو علم البلاغة.
الفصل بين الشعرية والخطابية
في سياق الفصل بين الخطابية والشعرية فحص بول ريكور بعمق عناصر الالتقاء وعناصر الافتراق بين الشعرية والخطابية، في مقال مركز تحت عنوان: الخطابية، الشعري، التأويلية. وهو مقال يتيح لنا عرضُه ومناقشتُه أمرين: أولهما تبين عناصر التداخل وتدعيمها بمعطيات أخرى من المجال العربي، كما سيرد في آخر هذا الاستعراض مع حازم القرطاجني، والثاني مناقشة المستندات المعتمدة في الا حتجاج لعدم إمكان قيام بلاغة عامة.
رجع الباحث بالبلاغة إلى مهدها الغربي عند اليونان باحثا عن نواة الشعرية والخطابية. فلاحظ أن نواة الخطابية في أجناسها الثلاثة هي فض نزاع. لا يُستثنى من ذلك حتى الجنس المحفلي (المفاضلة). إذ يتم الحسم عن طريق معاقلة توجد في منتصف الطريق بين الاضطرار البرهاني والاعتباطية، أي داخل الخطاب الإنشائي كما أشرنا. "ففي منتصف الطريق بين الخطاب البرهاني والعنف المستتر وراء الخطاب الإغوائي الخالص يوجد معقول مناسب للمقامات الخطابية عند أرسطو"([3]). والأساس في هذا الخطاب هو الحوار؛ فالحوار هو مدخل نظرية الحجاج الخطابي لغزوِ مجال العقل التطبيقي حيث يقتضي اختيارُ الأحسن اللجوءَ إلى المتداول, سواء تعلق الأمر بالأخلاق أو القانون أو السياسة. وقد يصل انتشار البلاغة إلى مداه فتدعي تغطية المجال الفلسفي، أو حيزا واسعا منه، كما الحال عند بيرلمان.
غير أن هذا الطموح يصطدم بأمر جوهري في الخطابية الأرسطية وبلاغة الحجاج عامة وهو الاحتكام إلى المُستمعات (auditoires)، إذ يظل هدف الحجاج هو الإقناع، أي الحصول على موافقة المستَمع ودفعه للفعل، فالخطابية هي فن الخطاب الفاعل. أضف إلى ذلك أن اعتبار حال المستَمع في بناء الخطاب يطرح مدى صلابة المنطلقات الحجاجية، "فالتوجه نحو مستَمع يستتبع انطلاق الخطيب من الأفكار المقبولة التي يتقاسمها معه".
والنتيجة أن على الخطيب أن يتلاءم مع المستمع قبل أن يسحبه (نحو قضيته، في حين أن المتوقع من الفيلسوف أن يتعامل، باعتراف بيرلمان نفسه، مع مستَمع كوني، فهو صاحب أطروحات لا قضايا.
وتلتقي الشعرية مع الخطابية في كونها، هي الأخرى تعالج إنتاجا لنصوص نواتها الاحتمال، فـ"إذا لم نقف ـ حسب عبارة ريكورـ عند اعتبار الوزن والإيقاع فارقا بين وحدة الخطابية والشعرية فسيكون من الصعب التفريق بين المبحثين"، ذلك أن poesis تعني، هي الأخرى، عند أرسطو إنتاج الخطاب؛ فهل الخطابية شيء آخر غير تركيب الخطاب، أي أنها هي الأخرى بويزيس poesis".
أضف إلى ذلك أن أرسطو قد صرح بصدد الحديث عن الانسجام في بناء حبكة القصيدة (التراجيدية والكوميدية والملحمية) بضرورة الاستجابة لما هو محتمل الوقوع، أو ما هو ضروريه. بل ألم يقل، أكثر من ذلك، بأن هذا الاحتمال أو الضرورة هو ما يسمح للشعر بأن يكون ذا طابع كوني، وبذلك يظهر أكثر فلسفية وأسمى من التاريخ. "لاشك، إذن، بأن الشعري والخطابي يتقاطعان في منطقة (région)المحتمل". (ص147)
وبرغم استعمال الباحث لفظ région ذات الدلالة الجغرافية القوية فإن ذلك غير مبرر في نظره لجعل هذا الإقليم المشترك عاصمة فيدرالية للشعرية والخطابية؛ مع كل ما يضمنه ذلك من حرية معالجة الخصوصيات للطرفين، والسبب في نظره هو اختلاف المنطلق والهدف يقول: "غير أن تقاطعهما يعني مجيئهما من مكانين مختلفين، وتوجههما نحو هدفين مختلفين" ([4]).
فالشاعر هو صانع حبكات وحكايات وليس صانع كلمات وجمل فحسب، وهذا ما يشهد به في نظره مهد الشعر الذي عرف الملحمة والتراجيديا والكوميديا، وهو المهد الوحيد الذي يسمح بالمقابلة بين الشعرية والخطابية. يقول: "الفعل الشعري هو خلق حكايات ـ حبكة، والفعل الخطابي هو تقديم حجج". من الأكيد أن هناك خطابة في الشعر وشعراً في الخطابة، غير أن الأمر ليس بنفس القوة في الحالتين؛ فالشاعر لا يُحاجج بمعنى الكلمة، حتى وإن كانت شخصياته تحاجج؛ فالحجاج عنده يساهم في حدود تنمية الحبكة، والخطيب لا يخلق حبكاً للحكاية حتى وإن ضمن خطابه عنصراً سردياً".
إن نواة الشعرية تتبلور في العلاقة بين كلمات مفاتيح هي: الإنتاج (poesis ) والحكي (muthos) والمحاكاة (mimesis) والحبكة (intrigne) وبهذا يعارض نواة الخطابية التي هي الحجاج.
أما من حيث الهدف والوظيفة فإن الشعر يستهدف التطهير في حين تستهدف الخطابة الإقناع، الخطابة حمالة أيديولوجيا والشعر حمال إيطوبيا (الحلم والوهم).
وعليه فليس من الممكن، في نظره، قيام علم يستوعب الشعرية والخطابية (بل والتأويلية أيضا). فالملائم إذن هو أن "تتحدث كل واحدة باسمها الخاص؛ فتختص الخطابية بفن الحجاج الهادف لإقناع المستمَع بكون رأي ما مقدما على منازعه، وتختص الشعرية بفن بناء الحُبَك مستهدفة توسيعَ الخيال الفردي والجماعي.." (ص155).
تعليق
هذا التحليل الحجاجي الهادف إلى الفصل بين الشعرية والخطابية قابل للنقاش من عدى وجوه وزوايا:
1 ـ اعتبر الباحث تقسيم أرسطو مهدا، ومهداً واحداً للنشأة المزدوجة للبلاغة. والواقع أن هناك مهدا أخر مُسعفاً ، على الأقل، وهو مهد البلاغة العربية التي سنعرض لها، وقد عرفت نشأة شبيهة دون أن تكون نواة الشعر فيها مماثلة لما عند أرسطو. أضف إلى ذلك أن أرسطو ليس المهد الأول للبلاغة اليونانية، بل هو الذي شطرها بعد أن كان فنٌُ القولِ واحداً مشاعاً بين الفلاسفة والخطباء والشعراء.
2 ـ معروف عند القدماء والمحدثين أن ما وصلنا من شعرية أرسطو لا يمثل تصوره في مشروعه، فأحرى أن يمثل الشعر في عصره كاملاً، فكتاب أرسطو مبتور كما هو معلوم. وأهم غائب فيه الشعر الغنائي، ولو حضر لكان الحديث عن الحبكة والحكاية محل نقاش، فنواة الشعر قابلة للمراجعة من خلال قراءة تاريخية موسعة. وقد انتبه البلاغيون الفلاسفة العرب إلى غياب المتن العربي أو ما يماثله عن تصور أرسطو، ولو حضر لديه لأضاف فصولا إلى كتابه([5]).
3 ـ يبدو أن هذا التوجه تأثر بالنزعة الطليعية الخاضعة للتصورات الأيديولوجية للأدب، أو هو، على الأقل، يخدمها. وقد بين ميشيل بوفور كيف وقفتْ هذه النزعة عقبة دون فهمنا للعلاقات التي استمرت بين الخطابة والنص الإنشائي زمنا طويلا. "ذلك أن مجيئ الأدب في الغرب الذي نتفق ـ حسب نص عبارته ـ على أنه كان في حوالي القرن الثامن عشر صادف تردي المؤسسة الخطابية الموروثة عن القدماء وتهميشها"([6]).
4ـ الدلالة التاريخية للبحث الحديث عن علم شامل للخطاب تحت مسميات مختلفة منها: علم النص، الذي صرح فان ديك بأنه الوريث الشرعي للبلاغة([7])، ومنها سميائيات النص وسميائيات النص الأدبي. غير أن هذه المحاولات المنطلقة من مجالات معرفية خارجية (اللسانيات وعلم العلامات خاصة) لم تؤد بالبلاغيين إلى الزهد في خدمات هذا العلم العتيق: البلاغة([8]).
الوصل بين الشعرية والخطابية: البلاغة العامة
بذل بلاغيون محدثون كبار جهداً فلسفيا ومخبريا، إن صح التعبير، في بيان مدى صلابة الأساس العلمي لقيام بلاغة عامة بالمفهوم الذي تحدث عنه حازم القرطاجني، البلاغة باعتبارها علماً كليا يستوعب ثمار علوم اللسان. وفي هذا الإطار يرى ميشيل مايير أن بناء بلاغة كلية يتطلب الخروج من المقابلة القضوية بين الوجود واللا وجود التي بني عليها تفريق أرسطو بين الشعرية والخطابية، حيث: الشعر "لا وجود يحتمل الوجود" والخطابة "وجود يحتمل اللا وجود"([9]). أو بعبارة أقرب إلى المصطلحات المستعملة في القراءة العربية لأرسطو: الشعر كذب يحتمل الصدق، والخطابة صدق يحتمل الكذب، فبدل هذا التقابل القضوي الوجودي يمكن تحقيق وحدة البلاغة باعتماد التفاعل القائم على الإشكال والمساءلة.
وقد توجهت جهود بعض الباحثين إلى المنطقة المشتركة قصد توسيعها، وتهييئها لتكون موضوعا للبلاغة العامة. واستعمل بعضهم في التعبير عن هذه المنطقة نفس الكلمة التي استعملها ريكور في سياق الفصل وهي région كما نجد عند أوليفيي روبول Olivier Reboul في كتابه البلاغة(la rhétorique). حيث قال:
"سنتبني نحن حلا ثالثا؛ لن نبحث عن جوهر البلاغة لا في الأسلوب ولا في الحجاج، بل في المنطقة région التي يتقاطعان فيها بالتحديد. بعبارة أخرى، ينتمي إلى البلاغة بالنسبة إلينا كل خطاب يجمع بين الحجاج والأسلوب، كل خطاب تحضر فيه الوظائف الثلاث: المتعة والتعليم والإثارة مجتمعة متعاضدة؛ كل خطاب يقنع بالمتعة والإثارة مدعمتين بالحجاج"([10]).
وقد اعتمدت عملية التوسيع إجرائين: إما النحت من الجوار المنطقي واللساني، كما فعل في مقالة: هل يمكن أن يوجد حجاج غير بلاغي؟ وقد ترجمناه في مناسبة سابقة[11]، أو التقريب بين قطبي الاحتمال (الصدق والكذب) من خلال فحص طبيعة الآليات الجوهرية الخاصة بكل منهما، أو المعتبرة كذلك وهي: الصور (figures) والحجج (arguments) حيث صار من الشائع الحديث عن بلاغة الصورة (أو الصور) وبلاغة الحجاج.
سنعرض هنا التفاصيل الحجاجية لمقاله الصورة والحجة [12]figure et L’ argument La وهو مقال يكشف مدى الطموح الذي يحذو البلاغة الجديدة لاسترجاع أطرافها المفقودة، والتقريب بين مكونيها، حتى وإن بدت جاذبية الحجاج أقوى عند الباحث.
تبدأ المقالة بهذا السؤال: "هل يمكن أن تكون الصورة حجة، أو على الأقل عنصراً حجاجيا؟"
وللجواب يقترح التعريف التالي للصورة: "الصورة هي، على العموم، إجراء أسلوبي، أي طريقة في التعبير حرة ومقننة".
والمقصود بكون الصورة حرة لجوء المتحدث إليها بمحض اختياره([13])، بحيث يمكنه تعويضها بغيرها. والمقصود بكونها مقننة انتسابُ كل صورة إلى نسق أو بنية معروفة يمكن نقلُها من محتوى إلى آخر مثل الاستعارة والكناية.
ورغبة في استقصاء الموضوع يقترح تقسيم الصور إلى ثلاثة أنواع: صور الكلمات، وصور المعنى، وصور التركيب. (وعنده قسم رابع في كتاب la rhétorique : صور الفكر). فصور الكلمات تبدو خاصة بالقول الشعري والهزلي ولكنها تلعب، مع ذلك، دوراً حجاجيا. في حين تبدو صور المعنى أو المجازات أكثر ملاءة وقربا من تقنين الحجاج مثل الاستعارة والكناية والمبالغة، فهي باستعمالها معنى غير معتاد تثير أزمة داخل الخطاب (ص177). وقد حظيت الاستعارة عنده بعناية خاصة، وكذلك حالها في أعمال كل التداوليين مناطقة ولسانيين ([14]). وينتهي من تحليل عينات من الأنواع الثلاثة إلى أن الصور تلعب دورين خارجي وداخلي: يتمثل دورها الخارجي في تسهيل عملية الحجاج، فهي تشد الانتباه من خلال خرق المعتاد، فتطبع الذكرى في الذهن، كما أنها تلائمُ بين الأفكار والمستمَع، أي تسهل المعاقلة. أما دورها الداخلي فيتجلى في دخولها، هي نفسها، صلب الحجاج كما هو حال الجناس حيث يوهم تجانس الألفاظ تجانس المعاني([15]).
والوظيفات الخارجية (المساعدة) والداخلية (الفاعلة) متلازمتان؛ فخصوصية البلاغة تكمن في عدم التمييز بين الإحساس والموافقة، أو التسليم([16])، وبذلك تكون الصورة البلاغية أقوى من الحجة التي تقوم بتكثيفها.
وينتهي هذا التتبع للوظائف الحجاجية للصور إلى قلب اتجاه السؤال والنظر من الزاوية الأخرى؛ فيتساءل الباحث عما إذا لم يكن من الممكن القول بأن الحجة هي نفسها مجرد صورة كُلاًٌَ أو بعضاً (؟) يقتضي الجواب عن هذا السؤال في نظره بيان ما يميز الحجاج عن البرهنة المنطقية حيث يمكن رصد أربعة ملامح تجعل الحجة احتمالية مثل الصورة:
1ـ ارتباط الحجاج بمستَمع معين خاص أو متخصص، فالمستمع الخاص مثل الشباب واليسار والفلاحين، والمتخصص مثل المحكمة والأطباء..الخ "ومن ثم فإن المقدمات الحجاجية لا تكون بديهية منطقية، ولا وقائعَ مبرهناً عليها، بل هي قضايا مقبولة من طرف المستَمع المستهدف، ولذلك فإن مبدأ الموضوعية يُخلي المكان للمتوافق عليه...(ص184)
إن نجاعة الخطاب ترتبط بمدى الاستناد إلى هذا التوافق، ومدى التلاءم مع مستوى المستمع والاستجابة لتطلعاته.
2ـ استعمال اللغة الطبيعية في الحجاج ، وهي لغة ألفاظها ملتبسة أو متعددةُ الدلالات متراوحة بين الحقيقة والمجاز، وهذا يطبعها بالاحتمال.
3ـ مسار الحجاج لا يأخذ طريق الصرامة البرهانية، إذا أخذها، إلا في اتجاه السلب: أي إثبات ما ليس ممكنا لا ما هو ممكن، (فيمكن أن نثبت أن قانوناً ما لا يوافق الدستور، ولكننا لا نستطيع أن نثبت أنه نافع يقيناً، يمكن أن نثبت أن دواء لا يعالج بعض الناس، ولكننا لا نثبت أنه يعالج كل الناس). وهذا الملمح يبدو لي محل جدل: فالقول بأنه لا يسير في اتجاه الصرامة البرهانية هو الدعوى المراد البرهنة عليها، ولا يمكن أن تكون الدعوى حجة على نفسها، والقول بإمكان إثبات السلب وتعذر إثبات الإيجاب غير واضح.
4 ـ كون الحجاج سجالاً، فهو يعارض على الدوام ـ ولو ضمنيا ـ حجة ما قابلة للتفنيد: حجة اليسار ضد حجة اليمين مثلا..الخ (ص186). غير أن السجال لا يعني القطيعة والتحارب، فما دمنا نتحدث فلن نقتتل، كما لا يعني الشك وتساوي الحجج أو ملاءمتها كلها برغم التعارض (لكلٌٍ أن يقول ما يريد)، بل إن الطابع السجالي يقتضي الترجيح. وفي هذه الأحوال تكون الاستعارة، مثلا، أنسب للرد على استعارة أخرى، وتكون السخرية دعوة إلى العودة إلى الحوار الإيجابي.
ويمكن إجمال القول "بأن الحجة تصبح صورة حين تتعذر ترجمتها أو شرحها، حين يتعذر التعبير عنها بطريقة أخرى دون إضعافها". (ص186)
يقول روبول: "لعلي أستطيع الآن الإجابة عن تلك الأسئلة الثلاثة الأساسية: نعم، الصورة تسهل الحجاج، نعم، إنها تشارك هي نفسها في الحجاج، وتكاد الوظيفتان تكونان متلازمتين على الدوام، وهذا التلازم هو في العمق جوهر البلاغة". (ص186)
وبذلك فقد تكون الحجة هي نفسها صورة يسري عليها ما يسري على الصور من انعدام الدقة، ومن التذاوت (تفاعل الذوات)، والسجـال([17]).
تعليق:
لابد من التنبيه إلى أن منظري الحجاج والمنقبين عن المشترك بين التخييل والتداول انطلاقا منه متأثرون بالمتن الإنشائي القديم (الشعر الكلاسيكي بالتحديد). وهو متن ذو طابع خطابي؛ ينطلق من وجود معنى تتوارد عليه الصور اللفظية فتتناوب الدلالات، كما عبر السكاكي في تعريف علم البيان.
وقد انتبه بيرلمان وأولبريشت تيتيكا إلى ذلك وحسماه في سياق الحديث عن الاستعارة، وذلك حين استبعدا التوجه التفاعلي في تفسير عمل الاستعارة كما دافع عنه ريتشاردز Richards في كتابه فلسفة البلاغة. وقد ذكرا هناك باعتمادهما على مفهوم المشابهة كما بسطته البلاغة القديمة([18]).
وقد عرف التراث البلاغي القديم نفسه ملاحظات عميقة تتجاوز المعنى الوضعي المعبر عنه بصورة من الصور البلاغية إلى المعنى المبني في النفس، والمعنى الذي هو الصورة نفسها، حيث يتعذر بناء معنى معدول عنه، وفي هذا السياق وصلت التجارب الطليعية في العصر الحديث إلى الصورة بدل المعنى، بل إلى الحديث عن اللا معنى..الخ، وبذلك يبقى قطب التخييل قائم الذات.
ولعل حديث البلاغيين العرب عن وظائف المشابهة (التمثيلية والاستعارية) خير ما يوضح ذلك. فالتشبيه عندهم قد يكون للبيان وقد يكون للتخييل، وقد يتفاعلان فيه وهو الأوسع مساحة.
التخييل والتداول في مسار البلاغة العربية([19]).
أول تفكير في اللغة هو التفكير البلاغي كما يقول تودوروف، والمفصود أن اللغة الواصفة الأولى هي البلاغة، وتبدو المسألة كالبديهية، ذلك أن الملاحظات الأولى ملاحظات نقدية ترصد الخارج عن المعيار العادي للخطاب.
فقد ظهرت الملاحظات الأسلوبية قبل ظهور العروض والنحو والمنطق كما روي من تاريخ التلقي الشعري العربي في الجاهلية وصدر الإسلام. وكان من مظاهر ذلك ربط الشعر بالعوالم غير العادية؛ بالجن والشياطين. كانت هذه الملاحظات هي المصدر الأول للبلاغة العربية حيث جمعت لاحقاً تحت اسم البديع ومحاسن الكلام (ابن المعتز)، وقد تطور هذا المسار من خلال الخصومات حول ما هو بديع وما ليس كذلك([20]).
أما المسار الثاني فكان لاحقا بالأول حيث ارتبط بتقعيد اللغة من جهة وبيان الانسجام الخطابي للنص القرآني وما أثير حول ذلك من إشكالات اقتضى التحاور حولها الاستعانة بالمنطق اليوناني والبلاغة الأرسطية. ومفاتيح هذا الموضوع "غريب القرآن" و "مجازاته" و"الكلام" حول الذات والصفات حيث يتداخل عالم المطلق (الله) وعالم النسبي (الإنسان): جعل ما لله للإنسان أو جعل ما للإنسان لله (؟).
ففي هذا السياق الفكري اللغوي المنطقي ظهر الطموح إلى صياغة نظرية عامة للفهم والإفهام أو للبيان والتبيين، وهذا هو المصدر الثاني الكبير للبلاغة العربية، الذي ظهر الجاحظ رائدا فيه، وهو الذي انتبه إلى أن اللغوي لا يستطيع مهما أوتي من معرفة أن يحاجج في مجال الإقناع حول المسائل الدينية ما لم يستعن بعلم الكلام، وعلم الكلام هو علم الحجاج العقلي في المجال الديني ومركز التأويل القادر على ردم الهوة بين مستويات الخطاب في الحقيقة والمجاز. وكان من ثمار هذا التوجه علم المناظرة والجدل([21]).
فللبلاغة العربية إذن مهدان كبيران أنتجا مساران كبيرين: مسار البديع يغذيه الشعر، ومسار البيان تغذيه الخطابة. ونظراً للتداخل الكبير بين الشعر والخطابة في التراث العربي، فقد ظل المساران متداخلين وملتبسين رغم الجهود الكبيرة النيرة التي ساهم بها الفلاسفة وهم يقرؤون بلاغة أرسطو وشعريته. ومن العوامل الملموسة التي عقدت المهمة النظرية في هذا المجال البحث عن بلاغة القرآن من خلال الشعر العربي، ذلك السراب الذي جرى خلفه الأشاعرة وتخلص منه بعض المعتزلة بالقول بالصرفة.
والنموذج الأمثل للاضطراب في هذا المضمار المسيرة الطويلة لعبد القاهر الجرجاني بحثا عن الخصيصة البلاغية من خلال الشعر والقرآن في آن، فقد أدى به الأمر منذ المنطلق إلى اختزال البلاغة في التحويل الدلالي القائم على الإلحاق والإبدال عن طريق المشابهة والمجاز مستعينا بالقراءة العربية لنظرية المحاكاة الأرسطية([22]). غير أن استحضار النص القرآني جعله يقلص التخييل إلى درجة تفقده معناه المولد لكل الصور خلافَ ما عليه حال المحاكاة التي جاء منها، بل جعله يستأنف المسيرة في كتاب الدلائل من منطلق مغاير هو منطلق النحو (النظم)، ويحيل كل ما اعتبره "أسرار بلاغة" إلى عنصر مُساعد أو مشارك في أقصى الأحوال.
لقد انتقل الجرجاني من الغرابة الشعرية (أي من التخييل) إلى المناسبة المقامية أو السياقية (أي إلى تداولية لسانية) كما بينا بتفصيل في كتاب البلاغة العربية([23]).
وتنبه قراؤُه إلى نهاية هذه المسيرة الاستكشافية فقلبوا ترتيب الأسبقيات، كما فعل السكاكي حيث جعل مركز البلاغة في التراكيب والمقاصد (علم المعاني) وامتدادها في التحويلات الدلالية (علم البيان)، وجعل ما أقصاه الجرجاني (الأصوات) أو أهمله (المقابلات الدلالية..الخ) في هامش البلاغة (علم البديع). ومع ذلك ظل المسار البديعي يراكم الصور في غير نسق (تحرير التجبير) أو في نسق غير دال (المنزع البديع). فتكون لدينا ما عرف في البلاغة الغربية ببلاغة الصور، وفي غياب النظر الفلسفي المنطقي اِنزوى علم المعاني، أو البعد التداولي في هامش النحو وهيمنت عليه مصطلحاته ومفاهيمه.
لقد بذل الفلاسفة العرب، في إطار قراءتهم لعمل أرسطو في الشعر والخطابة جهداً محموداً لبيان الخصوصية الشعرية (التخييل) والخصوصية الخطابية (التصديق)، وما بينهما من التداخل والتخارج، غير أن هيمنة الخلفيات الدينية وتراجع الحضارة الإسلامية حالا دون استثمار هذا التراث في مجال البلاغة تنظيرا وتطبيقا. ولعل المحاولة النظيرية الوحيدة الجادة في هذا المجال هي التي بذلها حازم القرطاجني. غير أن محاولته ظلت في حاجة إلى كثير من التهذيب والتكميل والتمثيل، الشيء الذي لم يكن ممكنا في ذلك المسار الحضاري التردي.
وسنكتفي في هذه المناسبة بإيراد فقرات دالة من نص طويل متماسك مضمونا وتركيبا بين فيه المؤلف منطقة تقاطع الشعر والخطابة باعتبارهما بعدين بلاغيين متداخلين تداخل التخييل والإقناع، قال:
"لما كان علم البلاغة مشتملا على صناعتي الشعر والخطابة، وكان الشعر والخطابة يشتركان في مادة المعاني ويفترقان بصورتي التخييل والإقناع ... وكان القصد في التخييل والإقناع حمل النفوس على فعل شيء أو اعتقاده أو التخلي عن فعله واعتقاده … وكانت عُلقة جل أغراض الناس وآرائهم بالأشياء التي اشترك الخاصة والجمهور في اعتقادهم أنها خير أو شر… وجب أن تكون أعرق المعاني في الصناعة الشعرية ما اشتدت علقته بأغراض الإنسان…
… فأما بالنظر إلى حقيقة الشعر فلا فرق بين ما انفرد به الخاصة دون العامة وبين ما شاركوهم فيه، ولا ميزة بين ما اشتدت علقته بالأغراض المألوفة وبين ما ليس له علقة، إذا كان التخييل في جميع ذلك على حد واحد، إذ المعتبر في حقيقة الشعر إنما هو التخييل والمحاكاة في أي معنى اتفق ذلك"([24]).
يكمل حازم في هذا النص عمل الفلاسفة في الملاءمة بين التصور الأرسطي في كتابي الشعر والخطابة، وخاصة حديثه عن وظائف المحاكاة، وبين واقع الشعر العربي الذي يبدو في أكثره جمهوريا خطابيا، وكذا واقع الخطابة التي نشأت في حمى ذلك الشعر وتأثرت به. إذّ لم تكن المسافة بين الشعر والخطابة واسعة، كما بينا في كتاب: في بلاغة الخطاب الإقناعي، حين الحديث عن الأسلوب. وقد ورَدَ هذا النص، كما يفهم من منطوقه، في سياق الحديث عن "المعاني" البلاغية التي رأى فيها المؤلف المنطقة المركزية للتقاطع بين الشعري والخطابي. ومركز المركز في هذا التقاطع هو التأثير في النفوس ودفعها نحو اعتقادٍ أو فعل([25]).
فما دام جل "أغراض الناس" مرتبطا بما "اشتهر" أنه خير أو شر، فإن المعاني المؤثرة فيهم هي المعاني المشتركة بين الجمهور والخاصة، في الشعر والخطابة على حد سواء. غير أن للشعر من حيث جوهره أن يخرج عن هذه الحدود المشتركة مع الخطابة، إذ يمكن أن يكون خاصيًّا منغلقا بالنسبة للعامة. (ولا شك أنه يستحضر هنا الاختلاف حول التعابير المستغلقة التي أثارت نقاشا حادا في العصر العباسي).
يستحضر حازم هنا التصور الأرسطي لمفهوم التحسين والتقبيح والمطابقة كما صاغه ابن سينا، ففي هذه الحالة الثالثة يبتعد الشعر عن الخطابة، ولكنه لا ينفصل عنها، إذ تحمل المطابقة نفسها جرثومة الميل لهذا الطرف أو ذاك، قال: "وتنقسم التخاييل والمحاكيات بحسب ما يقصد بها إلى: محاكاة تحسين، ومحاكاة تقبيح، ومحاكاة مطابقة؛ لا يقصد بها إلا ضرب من رياضة الخواطر والملح في بعض المواضع… وربما كان القصد بذلك ضربا من التعجيب والاعتبار. وربما كانت محاكاة المطابقة في قوة المحاكاة التحسينية أو التقبيحية… فكأن التخييل بالجملة لم يخل من تحريك النفوس إلى استحسان أو استقباح"([26]).
ويرغم كل هذا التداخل الوظيفي بين الشعري والخطابي فإن كل واحد منهما يحتفظ بخصوصيته. ومن هنا يتحدث عن العمدة والتابع في الاتجاهين. وكلامه في ذلك أحسن ختام في هذا الموضوع: "وينبغي أن تكون الأقاويل المقنعة، الواقعة في الشعر، تابعة لأقاويل مخيلة، مؤكدة لمعانيها، مناسبة لها فيما قصد بها من الأغراض، وأن تكون المخيلة هي العمدة. وكذلك الخطابة، ينبغي أن تكون الأقاويل المخيلة الواقعة فيها تابعة لأقاويل مقنعة، مناسبة لها، مؤكدة لمعانيها، وأن تكون الأقاويل المقنعة هي العمدة"([27]).
وفي الفصل الثاني مزيد بيان لتصور حازم، ودعم تاريخي لمجموع الأفكار المقدمة هنا.
هوامـش
[1]- تلافيا للخلط استعملنا عبارة: بلاغة الخطاب الإقناعي، عنوانا لأول كتاب صدر لنا في الموضوع، في منتصف الثمانينيا. هو كتاب: في بلاغة الخطاب الإقناعي. وقد بدا لنا اليوم أن الأجدى اصطلاحا، والمناسب دلالة، استعمال كلمة واحدة هي: الخطابية.
[2]- انظر O. Hamelin. Le système d ‘Aristote. P 82 وقد جاء فيه: "ميز أرسطو، كما نعلم، ثلاثة أصناف (أو مراتب classe) من العلوم: علوم نظرية، وعلوم تطبيقية وعلوم شعرية" (ص82). وقد أشار إلى أن رافيسو Ravaisson، وهو أحد قراء أرسطو، رجح إلحاق الخطابية والجدل بالعلوم الشعرية.
[3]- .Rhétorique- poétique- herméneutique”. p.144."
[4]- نفسه 148 Rhétorique- poétique- herméneutique”. p."
[5]- قال حازم في منهاج البلغاء (ص 68): "ولو وجد الحكيم أرسطو في شعر اليونانيين ما يوجد في شعر العرب من كثرة الحكم والأمثال والاستدلالات واختلاف ضروب الإبداع في فنون الكلام… لزاد على ما وضع من القوانين الشعرية".
[6]- Michel Beaufour. “Rhétorique et littérature". P.159
[7]- انظر "النص بنياته ووظائفه". ترجمة محمد العمري. ضمن كتاب نظرية الأدب في القرن العشرين. إفريقيا الشرق. الدار البيضاء/بيروت.
[8]- ذلك أن الالتزامات الخارجية لهذه المباحث، مع مصادر انطلاقها تؤدي بالضرورة إلى غياب السؤال الذي تجيب عنه البلاغة، وهو التداخل والتخارج بين التخييل والتداول، ففي إطار هذا السؤال تتحدد الهويات، وتبرز الوظائف والفعاليات. إذ الصفاء الحجاجي أو التخييلي قطبان افتراصيان ربما أمكن رصدهما في المهد والنواة، ولكنهما لا يغطيان مساحة تضاهي مساحى التدخل. أضف إلى ذلك المشروعية التاريخية التي تحدث عنها هنريت بليت.
[9]- Michel Meyer. "Conclusion: ya-t-il un fondement possible à l'unite de la rhetorique?”. P.255. .
[10] - الخيارات الآخران المشار إليهما هما: بلاغة الحجاج عند بيرلمان وبلاغة الأسلوب عند جماعة مي. وسنتطرق إليهما في الفصل الأول.
[11]- وقد ألحقناه بآخر هذا الكتاب لأهميته.
[12]- Olivier Reboul.. “la figure et l’argument".pp 175-187
[13]- ما دام الحديث هنا عن الصورة بصفة عامة شعريةً وخطابيةً.. فيمكن الاعتراض بأن الصورة قد تكون في التخييل الشعري اضطرارية، إذ لا يكون هناك غير احتمال واحد، وإلا صرنا أمام نص آخر. وربما كان بيرلمان دقيقاً حين استبعد نظرية ريتشاردز التفاعلية، كما سترد الإحالة عليـه.
[14]- أحيل هنا على بيرونضوني Alain Berrendonner الذي خصص مبحثين مفصلين لكل من السخرية والاستعارة في كتابه Elément de pragmatique linguistique. Minuit. Paris. 1982.
[15]- من أمثلة ذلك ربط عبد اللطيف جبرو بين اسم المناضل الاتحادي محمد الفقيه البصري، و وزير الداخلية المغربي السيئ الذكر إدريس البصري. انظر تحليل ذلك في كتابنا: دائرة الحوار.
[16]- “La figure et l’argumentation.”. P 184.في المرجع المذكور أعلاه.
[17]- ومع هذه المنازعة في منطقية الحجاج وموضوعيته فإن الباحث يتمنى له أن يغتنم أي فرصة تتيح له حظا من الموضوعية، رغم ندرة هذه الفرص في مجال "أفعال الحياة" كما قال ديكارت، ففي هذا المجال تبقى الهيمنة للمحتمل الذي لا ينفع معه إلا الحوار. (نفسه 186-187).
[18] - انظر مزيد بيان في Traité de l’argumentation..p.535.
[19] - نرسم هنا الخطوط العامة الضرورية لانسجام هذا المدخل، وسيأتي مزيد بيان في الفصل الأول.
[20]- للتوسع في هذا الموضوع انظر الفصل الأول (من الباب الأول) من كتابنا: البلاغة العربية أصولها وامتداداتها.
[21]- المرجع السابق. الفصول 2،3،4
[22]- المرجع السابق. الفصل5 من الباب الأول. والقسم الثاني منه.
[23]- نفسه. الفصل الأول من القسم الثاني.
[24]- منهاج البلغاء. ص19-20.
[25] - . لم يصلنا، كما هو معلوم، القسم الأول من كتاب منهاج البلغاء، الذي يحتمل أن يتضمن مقدمة في تعريف البلاغة بصفة عامة بعيدا عن المباحث الجزئية. وإن كنا نعتقد أن ما ورد في هذا القسم الثتني المخصص للمعنى يستوعب كل ما يمكن أن يقوله المؤلف، انطلاقا من تصريحه بأن المعاني هي منطقة التقاطع الشعري الخطابي.
[26]- منهاج البلغاء 92.
[27] - نفسه 135.