تعريفه: تهدف الدراسة الى التأسيس لمذهب فى الترقى الروحى، ينطلق من مفهوم الاستخلاف القرانى، بابعاده الحكمية "الفلسفية" والمنهجية والمذهبيه.
طبيعته(الانسانيه – الروحيه): وهذا المذهب ذو طبيعة إنسانية – روحية " دينية " ، لأن مفهوم الاستخلاف- الذى يستند اليه - قائم على التأكيد على قيمه الوجود الانسانى، وإثباته لهذا الوجود بأبعاده المتعددة، كوجود محدود تكوينيا بالسنن الالهيه ، التي تضبط حركه الوجود" الشهادى "، وتكليفيا بالمفاهيم والقيم والقواعد الكلية التي مصدرها الوحي . فهو يجعل العلاقة بين الوجود الإلهى والوجود الإنساني- بأبعاده المتعددة - علاقة تحديد وتكامل، وليست علاقة إلغاء وتناقض كما في الفلسفات الإنسانية الغربية.
إقرار القيمة المتساوية لأبعاد الوجود الانسانى : كما ان هذا المذهب بانطلاقه من التصور الإسلامي " الصحيح" للوجود الانسانى –والمنطلق من مفهوم الاستخلاف- والذى مضمونه أن الوجود الانسانى وجود مركب وليس وجود بسيط ، فهو ذو أبعاد متعددة. ينتهى الى الإقرار بالقيمة المتساوية لهذه الأبعاد المتعددة . لذا فهو يرفض التطرف فى التأكيد على بعض أبعاد الوجود الانسانى ، لدرجه إلغاء أبعاد أخرى له ، كما يلزم من مذاهب اخرى فى الترقي الروحى، ومثال لها مذاهب الترقى الروحى فى الفلسفات الدينية"الوضعيه "الشرقيه القديمه ، والفلسفات المثاليه فى الفلسفه الغربيه ، والتصوف البدعي- الذي يطلق عليه البعض خطأ اسم "التصوف الفلسفى"- والذى ظهرت مذاهبه " القديمه والحديثه والمعاصرة "، فى السياق الجغرافى والتاريخى للفكر الإسلامي ، دون ان يعبر عن جوهره ، لأنه ينطلق من مفاهيم اجنبية "كالحلول والاتحاد ووحده الوجود" . هذا التطرف الذي يقابل ايضا بتطرف الفلسفات الشكية الالحاديه ، في تأكيد بعض أبعاد الوجود الإنساني"كابعاده الماديه"، لدرجه الغاء ابعاد اخرى "كابعاده الروحيه"، وبالتالي قصر الترقى على أبعاده المادية وإنكار أبعاده الروحيه، اى إنكار وجود ترقى روحى انسانى.
الانتقال بالتصوف من الاستضعاف الى الاستخلاف: فهذا المذهب فى الترقى الروحى هو محاولة للانتقال بالتصوف، من بعض أنماطه المتصله بالمذاهب المذكورة أعلاه ،والتى يلزم منها تكريس الاستضعاف، بإلغائها للوجود الانسانى – بإلغائها لبعض أبعاده – ومن ثم إلغائها لفاعليته ، ومن ثم تفتح الطريق امام الخضوع للاستكبار بأشكاله المتعددة – لذا يمكن أن نطلق عليها اسم التصوف الاستضعافى - . الى نمط من أنماط التصوف ، القائم على الربط بين التصوف ومفهوم الاستخلاف بأبعاده الفلسفية والمعرفية والمنهجية، والذى يلزم منه- كمحصلة لإقراره بالقيمه المتساوية للابعاد المتعددة للوجود الانسانى- كما اشرنا اعلاه- اثبات الوجود الإنساني بأبعاده المتعددة – ومن ثم إثبات فاعليته، ومن ثم يفتح الطريق امام تحقيق الاستخلاف بأبعاده المتعددة" السياسية والاقتصادية والاجتماعية…"، ومن ثم يمكن ان نطلق عليه اسم التصوف الاستخلافى
الانطلاق من التصوف السنى: وهذا المذهب فى الترقى الروحى- والذى هو شكل من اشكال ما يمكن ان نطلق عليه اسم التصوف الاستخلافى - يستند إلى التصوف السني (المستند عقديا الى مذاهب اهل السنه الاعتقاديه " الكلاميه" كالمذهب الاشعرى والماتريدى والطحاوى والحنبلى...)، والقائم على الضبط الشرعي للاعتقاد والسلوك الصوفي ،والمتضمن للالتزام بالضوابط الشرعية لهما، من خلال موافقة مذهب أهل ألسنه ، القائم على الضبط الشرعي لاعتقاد وسلوك المسلم ، ومفارقة الاعتقاد بالمفاهيم الاجنبيه ” كالحلول والاتحاد ووحده الوجود” ، والسلوك المخالف للكتاب والسنة. لانه لا يلزم من تأكيد هذا النمط من أنماط التصوف على بعض أبعاد الوجود الإنساني إلغاء أبعاد أخرى،ومن ثم الغاء فاعليته،كما يلزم من نمط التصوف النقيض له – وهو التصوف البدعى الذى اشرنا اليه اعلاه-
الأساس الحكمى"الفلسفى" للمذهب: ويتمثل فى استناد المذهب الى حكمة "فلسفة" الاستخلاف ، وبالتالى الاستناد الى المفاهيم القرآنية الكليه الثلاثة- التي تتخذها مسلمات اولى- وهى: التوحيد والتسخير والاستخلاف – مع التركيز على الاخير ، الذى مضمونه إظهار الإنسان لربوبية وإلوهية الله تعالى في الأرض ،على المستوى الصفاتى، على وجه الاختيار، وهو ما يكون بالعبودية والعبادة. يقول الالوسى ( فلابد من إظهار من تم استعداده وقابليته ليكون مجليا لي ومراه لاسمائى وصفاتي)( روح المعنى،ص223) . فالاستخلاف يتضمن
اولا: اظهار صفات الالوهيه: ويكون بالاتى:ا/ توحيد الالوهية : ومضمونه أن الله تعالى ينفرد بكونه الغاية المطلقة، اى الغاية المطلوب بتعبير الإمام ابن تيمية الذى يقول ( …. ولكن المراد المستعان على قسمين: منه ما يراد لغيره ….. ومنه ما يراد لنفسه فمن المرادات ما يكون هو الغاية المطلوب فهو الذي يذل له الطالب ويحبه وهو الإله المعبود ومنه ما يراد لغيره).. ب/ العبادة: ولها معنى خاص ومعنى عام ، ومضمون الأخير كل فعل الغاية المطلقة منه الله تعالى ، يقول الإمام ابن تيميه ( العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة) (رسالة العبودية ، ص 38) .
ثانيا: إظهار صفات الربوبية: ويكون بالاتى:ا/ توحيد الربوبيه: ومضمونه أن الله تعالى ينفرد بكونه الفاعل المطلق، اى الدائم كونه فاعلا بتعبير الامام ابن تيميه، الذى يقول في معرض رفضه لاست دلال المتكلمين على وجود الله بطريقه الأعراض الدالة على حدوث الأجسام ( إن هذا المسلك مبنى على امتناع دوام كون الرب فاعلا وامتناع قيام الأفعال الاختيارية بذاته) (درء التعارض : 1/98).ب/العبودية : و تعنى تحديد – وليس إلغاء – الفعل المطلق الذي ينفرد به الله تعالى- والذي عبر عنه القران بمصطلح الربوبيه - للفعل الإنساني .
الظهور الصفاتى جزء من الجزاء الدنيوى على اظهار صفات الالوهيه والربوبيه: والظهور الصفاتى هو جزء من – وليس كل - الجزاء الدنيوي على اظهار صفات الربوبية والالوهية، كما ان الاحتجاب الصفاتى هو جزء من – وليس كل- العقاب الدنيوي على محاولة كتم صفات الربوبية و الألوهية .
الاصل فى الظهور الذاتي"التجلى" انه اخروى وليس دنيوى: اما الظهور الذاتى فهو ظهور ذات الفعل المطلق ، وقد عبر عنه القران بمصطلح التجلي كما في قوله تعالى (…فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (الأعراف: 143)، ولهذا الظهور الذاتي شكلين:
الشكل الأول :مقيد: ويتم في الحياة الدنيا ، وله شكل تكويني يتمثل في معجزات الأنبياء، وشكل تكليفي يتمثل في نزول الوحي على الأنبياء. فهو - بشكليه - مقصور على الانبياء، وبالتالى فانه لا مجال للقول بحدوثه بعد ختم النبوه بوفاه الرسول (صلى الله عليه وسلم).
الشكل الثاني : مطلق: ويتم في الآخرة ، فالحياة الاخره هي درجة من درجات الوجود قائمة على الظهور الذاتي " التجلي" ، قال تعالى(وأشرقت الأرض بنور ربها). هذا التجلي يترتب عليه تغيير الوجود الشهادى المحدود بالزمان والمكان- والقائم على الظهور الصفاتى- بوجود غيبي- قائم على الظهور الذاتى - قال تعالى (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا)،وقال تعالى ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ )، غير أن هذا الظهور الذاتي أو التجلي" بالنسبة إلي الناس" ليس شاملا لجميعهم، بل هو مقصور على المؤمنين، وهو ما عبر عنه أهل السنة برؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة،استنادا إلى العديد من النصوص كقوله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ . إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ (القيامة: 22- 23). فهذا الظهور الذاتى "التجلى" هو جزء من- وليس كل - الجزاء الأخروي على اظهار صفات الربوبية والألوهية فى الدنيا . كما أن الاحتجاب الذاتي هو جزء من- وليس كل - العقاب اخروى على كتم صفات الربوبية الالوهية فى الدنيا (كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ).
احصاء اسماء الله الحسنى"معرفتها والعمل بمقتضاها": والترقى الروحى فى المنظور الروحى الاسلامى يستند الى قاعده "احصاء اسماء الله الحسنى" ، التى اشارت اليها النصوص، كالحديث : عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) )إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ(،والمقصود باحصائها معرفتها - على المستوى المعرفى "الذاتى " – والعمل بمقتضاها -على المستوى السلوكى" الموضوعى"-
ينقل ابن حجر في الفتح (وأما إحصاؤها فللعلماء في ذلك أقوال، أبرزها: وليس معنى إحصائها أن تكتب في رقاع ثم تكرر حتى تحفظ ولكن معنى ذلك: أولاً: الإحاطة بها لفظاً. ثانياً: فهمها معنى. ثالثاً: العمل بمقتضاها).
التمييز بين كيفيتى العمل بمقتضى اسماء الله الحسنى: غير انه يجب التمييز بين كيفيتين لإحصاء أسماء الله الحسنى،استنادا الى التمييز بين اظهار صفات الالوهية وإظهار صفات الربوبية كما اشرنا اعلاه:
الكيفيه الاولى: العمل بمقتضى صفات الالوهيه ، بالاقتداء بالله تعالى فيها- فالالوهيه تتصل بالمطلق من هذه الصفات وليس المحدود منها - وذلك باتخاذ الله تعالى وحده غاية مطلقة ، واتخاذ صفات الوهيته " ما دل على كونه تعالى غايه مطلقه " قيم - مثل عليا - مطلقة يسعى الإنسان لتحقيقها في الأرض " اى في واقعة المحدود زمانا ومكانا"، دون ان تتوافر له إمكانية التحقيق النهائي لها - لذا تمد الذات بإمكانيات غير محدوده للترقى الروحى - ولا يكون ذلك بإلغاء تصور الإنسان للقيم - للمثل العليا- المحدودة زمانا ومكانا، بل بتحديده باتخاذ مقتضى صفات الالوهيه ضوابط موضوعيه - مطلقة له .
الكيفيه الثانيه: العمل بمقتضى صفات الربوبيه، بالخضوع لها- فالربوبيه تتصل بهذه الصفات فى ذاتها - بافراد الفعل المطلق لله تعالى، واتخاذ مقتضى صفات الربوبيه "ما دل على كونه تعالى فاعل مطلق" ضوابط موضوعيه مطلقه للفعل الإنساني تحدده كما يحدد الكل الجزء فيكمله ويغنيه ولكن لا يلغيه .
اشاره العلماء الى الكيفيتين: يقول ابن بطّال (طريق العمل بها: أنّ الذي يسوغ الاقتداء به فيها كالرحيم والكريم: فإنّ الله يحب أن يرى حالها على عبده، فليمرن العبد نفسه على أن يصح له الاتصاف بها، وما كان يختص بالله تعالى، كالجبار والعظيم: فيجب على العبد الإقرار بها، والخضوع لها، وعدم التحلي بصفة منها، وما كان فيه معنى الوعد: نقف منه عند الطمع والرغبة، وما كان فيه معنى الوعيد: نقف منه عند الخشية والرهبة(،ويقول ابن القيم: )لما كان سبحانه يحبّ أسماءه وصفاته: كان أحبّ الخلق إليه من اتصف بالصفات التي يحبها، وأبغضهم إليه: من اتصف بالصفات التي يكرهها، فإنّما أبغض من اتصف بالكبر والعظمة والجبروت، لأنّ اتصافه بها ظلم، إذ لا تليق به هذه الصفات ولا تحسن منه؛ لمنافاتها لصفات العبيد، وخروج من اتصف بها من ربقة العبودية، ومفارقته لمنصبه ومرتبته، وتعديه طوره وحدّه، وهذا خلاف ما تقدم من الصفات كالعلم والعدل والرحمة والإحسان والصبر والشكر، فإنّها لا تنافي العبودية، بل اتصاف العبد بها من كمال عبوديته، إذ المتصف بها من العبيد لم يتعد طوره، ولم يخرج بها من دائرة العبودية(.
البعد المنهجى للمذهب: يتمثل فى الانطلاق من الاستخلاف كمنهج للمعرفة ،وطبقا له يصبح الترقي الروحي للإنسان مقيد تكليفيا بمفاهيم وقيم وقواعد الوحي الكلية ، وتكوينيا بالسنن الإلهية الكلية والنوعية التي تضبط حركه الوجود الشهادى الشامل للوجود الاستخلافى “الإنسان” والتسخيرى “الطبيعي “. وهذا الترقي الروحي يمثل البعد التكليفى لسنه “الكدح إلى الله “النوعيه ، المشار إليها في الآية “يا أيها الإنسان انك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه ” والذي مضمونه أن تأخذ حركة الإنسان شكل فعل غائي محدود بغاية مطلقه (الألوهية) وفعل مطلق( الربوبية) ، والذي يحدد – ولا يلغى – بعدها التكويني الذي مضمونه أن حركة الإنسان تتم عبر ثلاثة خطوات: المشكلة فالحل فالعمل .
القيمه المتساويه لابعاد الوجود الانسانى: كما اشرنا اعلاه فان المذهب الاستخلافى فى الترقي الروحي ينطلق من الإقرار بالقيمة المتساوية للأبعاد المتعدده للوجود الانسانى- شانه شان التصوف السنى الذى يستند اليه- وفيما يلى نوضح ذلك بشىء من التفصيل:
اولا: الابعاد السلبية والايجابية للوجود الانسانى: فالبعد السلبي للوجود الانسانى ” التحرر من القيود المفروضة على مقدره الإنسان على الترقي” لا يلغى البعد الايجابي له ” المقدرة على الترقى” فكلاهما متساويان في القيمة، واولويه البعد الأول على البعد الثاني أولوية ترتيب لا اولويه تفضيل. وقد اقر التصوف السني البعد الأول دون إلغاء البعد الثاني يقول أبو الحسن الشاذلي : ( التصوف : تدريب النفس على العبودية ، وردها لأحكام الربوبية ). أما التصوف البدعى فقد تطرف في تأكيد على البعد الأول ، لدرجه إلغاء البعد الثاني، ممثلا في تحرره من الضوابط ألتكليفيه ” بالقول بسقوط التكاليف” والتكوينية” بالقول بخرق العادة المضطردة ” ، التي وضعها الإسلام لضمان استمرار مقدره الإنسان على الترقي الروحي والمادي .
ثانيا:الأبعاد ألروحيه والمادية: والبعد الروحي للوجود الانسانى ” الترقي الروحي اى إشباع الحاجات الروحية ” ، لا يلغى البعد المادي له “الترقى المادي اى إشباع الحاجات المادية ” ، بل يحدده كما يحدد الكل الجزء فيكمله وبغنية، وقد أكد التصوف السني على البعد الأول، من خلال قوله بالاولويه القيميه- وليست الوجودية- للبعد الأول دون إلغاء البعد الثاني ، في حين تطرف التصوف البدعى في تأكيد البعد الأول ، لدرجه إلغاء البعد الثاني .
ثالثا:الأبعاد الذاتية والموضوعية: كما أن البعد الذاتي للوجود الانسانى ” تصور الذات للغايات”، لا يلغى البعد الموضوعي له ” لفعل اللازم لتحقيق الغايات “، فالعلاقة بينهما لا تخرج عن إطار جدل المعرفة من الموضوعي (المشكلة التي يطرحها الواقع) إلى الذاتي (الحل الذهني) إلى موضوعي مره أخرى من اجل تغييره (تنفيذ الحل في الواقع بالعمل). وقد اختار التصوف السنى تأكيد البعد الذاتي للوجود الانسانى،وهو ما يتضح في التركيز على النفس ، لكنه لم يلغى البعد الثاني ،فى حين تطرف التصوف البدعى في تأكيد على البعد الأول لدرجه إلغاء البعد الثاني فسقط في هوه الذاتية المطلقة وهو ما يتضح في : تصوره الهرمي للمعرفة (من الموضوعي إلى الذاتي)كبديل للتصور الجدلي للمعرفة(من الموضوعي إلى الذاتي إلى الموضوعي )
رابعا: الأبعاد الفردية والجماعية: كما ان البعد الفردي للوجود الانسانى ” الترقي الفردي:اى حل المشاكل الخاصة” لا يلغى البعد الجماعي له ” الترقي الاجتماعي: اى حل المشاكل العامة”. فالجماعة بالنسبة للفرد كالكل بالنسبة للجزء تحده فتكمله وتغنيه ولكن لا تلغيه . وقد اختار التصوف السني التأكيد على البعد الفردي للوجود الانسانى، ممثلا في التركيز على الفرد دون إلغاء البعد التانى ، فى حين تطرف التصوف السني في تأكيد على البعد الأول لدرجه إلغاء البعد الثاني وهو ما يتضح من قوله العزلة والخلوة المستمرة والدائمة التى تؤدى الى انقطاع الصلة بالواقع - وليست المتقطعه والمؤقته التى لا بؤدى الى انقطاع الصله بالواقع - وكذلك تصوره الصفوى – المطلق وليس النسبي- القائم على تقسيم الناس إلى عامة وخاصة وخاصة الخاصة-بشكل ثابت وليس بشكل متغير -
الضبط الشرعى لمفهوم “الأحوال والمقامات “: ويقوم المذهب الاستخلافى فى الترقي الروحي على الضبط الشرعي لمفهوم” الأحوال والمقامات ،الذي أشار إليه أعلام التصوف الاسلامى من خلال: أولا: اعتبار أن الأحوال والمقامات هى درجات “مراحل” الترقي الروحي للإنسان وتستند في ذلك إلى تقرير القرآن أن الوجود الإنساني ينبغي أن يكون في صعود دائم عبر درجات كما في قوله تعالى ﴿ يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات﴾،وقوله تعالى ﴿ ورفعنا بعضكم فوق بعض درجات ﴾. و أوجه الاختلاف بين الأحوال والمقامات، أن الأحوال تمثل الدرجات الذاتية لهذا الترقي الروحي ، متمثلة في الأنماط الانفعالية والمعرفية ، التي تجئ كمحصلة لالتزام الإنسان بمجموعة من القواعد التي تحدد للإنسان ما ينبغي أن يكون عليه وجدانه وتفكيره. بينما المقامات تمثل درجات هذا الترقي الروحي الموضوعية، متمثلة في الأنماط السلوكية، التي تجئ كمحصلة لالتزام الإنسان بمجموعة القواعد ، التي تحدد له ما ينبغي أن يكون عليه سلوكه.
ثانيا: رفض تصور التصوف البدعى للأحوال والمقامات ، والقائم على أن لهذا الترقي الروحي نهاية هي الوصول إلى الله تعالى “بالحلول أو الاتحاد او الوحدة “) ، وان كل درجة من درجات هذا الترقي الروحي تنعدم بالانتقال إلى درجة اعلي ، لأنه يتعارض مع العقيدة الإسلامية ،والاخذ بتصور للأحوال والمقامات – هو مضمون تصور التصوف السني لها – مضمونه أنه ليس الترقي الروحي للإنسان نهاية ، وأن كل درجة من درجات هذا الترقي الروحي لا تنعدم بالانتقال إلى درجه اعلي ، وهنا نستأنس بقول الإمام ابن القيم (اعلم أن ترتيب هذه المقامات ليس باعتبار أن السالك يقطع المقام ويفارقه وينتقل منه إلى التالي بعده ، كمنازل السير الحسي، وإنما هذا الترتيب ترتيب المشروط المتوقف على شرط المصاحب له )( مدارج السالكين: 1/ 108 -109 ).
الضبط الشرعي لمفهوم الولاية:كما يقوم المذهب الاستخلافى على الضبط الشرعى لمفهوم الولايه ، كما قرره أعلام التصوف السني.
تعريفها: الولاية لغة : لها معنيان: المعنى الأول القرب ( معجم مقاييس اللغة : 6/141) . والمعنى الثاني النصرة ( مفردات ألفاظ القرآن ، للراغب الأصفهاني ، ص 885). اما اصطلاحا فان الولاية: علاقة مضمونها القرب والنصرة، بين طرفين هما العبد وربه، فهي من جهة العبد التزام بشروطها الذاتية (التي عبر القران عن جملتها بالأيمان)، والموضوعية(التي عبر القران عن جملتها بالتقوى)، ومن جهة الله تعالى وعد بنفي الخوف والحزن،والبشرى في الدنيا والاخره. قال تعالى( أَلا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ ) [يونس : 62 – 64] .
أقسامها: وللولاية قسمان:القسم الاول: ولاية خاصة: وهى علاقة قرب ونصره بين الله تعالى وفرد معين ، وهذا القسم من أقسام الولايه يكون بواسطة الوحي، و يستلزم العصمة، وهو مقصور على الأنبياء والرسل، وبالتالي فانه بختم النبوة وانقطاع الوحي بوفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) انتهى هذا القسم من أقسام الولاية.القسم الثانى: ولاية عامه: وهى علاقة قرب ونصره بين الله تعالى ومن التزم بشروط الولاية(الذاتية والموضوعية) بدون تعيين، لعموم الخطاب القرآني إلى الالتزام بشروط الولاية (الايمان والتقوى) ،يقول ابن كثير في تفسير الايه ( يُخْبِر تَعَالَى أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ هُمْ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ كَمَا فَسَّرَهُمْ رَبّهمْ فَكُلّ مَنْ كَانَ تَقِيًّا كَانَ لِلَّهِ وَلِيًّا). وهذا القسم من أقسام الولايه لا يكون بواسطة الوحي ، بل بالالتزام بالوحي .ولا يستلزم العصمة إنما العدالة . لان الوحي والعصمة مقصوران على الرسل والأنبياء. وتتفاوت درجات الولاية العامة. مع اختصاص الصحابة(رضي الله عنهم) فى الامه المحمدية بأعلى هذه الدرجات لقربهم من الرسول(ص)،ولشهادة القران لهم بالولاية.بناء على ما سبق فان المقصود بمراتب الولاية بعد وفاة الرسول )(صلى الله عليه وسلم ) وختم النبوة مراتب الولايه العامة، وليس مراتب الولاية الخاصة المقصورة على الأنبياء (عليهم السلام)،ويترتب على هذا انه لا يجوز المساواة في الدرجة، بين من نال اى مرتبه من مراتب الولاية العامة ، بعد وفاه الرسول (صلى الله عليه وسلم ) والأنبياء لان لهم درجه الولاية الخاصة ، كما لا يجوز المساواة بينه وبين الصحابة (رضي الله عنهم ) ، لان لهم الدرجات العليا للولاية العامة. وتنقسم الولاية إلى قسمين :الأول :ولاية تكليفيه :متصلة الالتزام بمفاهيم وقيم وقواعد الوحي الكلية ، والاجتهاد في المفاهيم والقيم والقواعد الجزئية،وتتضمن المجددين والعلماء بالدين.الثاني:ولاية تكوينيه: وتتصل بالالتزام بالسنن الالهيه التي تضبط حركه الوجود الشهادى، الشامل للوجود الاستخلافي “الانسانى ” والتسخيري “الطبيعي” ، وتتضمن الحكام العادلين وزعماء الامه عبر التاريخ الاسلامى…
الضبط الشرعي لمراتب الولاية والانتقال من الاجمال الى التفصيل : اتفق الفكر الصوفي الاسلامى مع أهل السنة بمذاهبهم المتعددة فى اثبات الولاية ، استنادا إلى ثبوتها بنصوص يقينية الورود قطعيه الدلالة. لكنه اختار بيان مراتب هذه الولاية ودرجاتها، وعبر عن هذه المراتب بمصطلحات معينه كالأقطاب والابدال والاوتاد والنقباء والنجباء … غير أن إثبات أو نفى هذه المراتب ، ظل محل خلاف في الفكر الاسلامى بين مذاهب متعددة:
اولا: مذاهب الاجمال: وهى المذاهب الذي تضع حكما كليا بالرفض أو القبول لهذه المراتب والدرجات، وتتضمن مذهبين رئيسيين هما:ا/مذهب الإثبات: فهناك المذهب الذي يثبت هذه المراتب والدرجات، استدلالا ببعض النصوص، واحتجاجا بأقوال بعض العلماء، كما يفصل هذه المرتب و الدرجات ويبين خصائصها :فقد استدل هذا المذهب ببعض النصوص، ومنها ما أورده جلال الدين السيوطي في رسالة ( الخبر الدال على وجود القطب والأوتاد والنجباء والابدال ) المتضمنة في ( مجموع الحاوى للفتاوى ) . ب/مذهب النفي : وهناك المذهب الذي ينفى هذه المراتب والدرجات ، ويرى أنها لا أصل لها في الشرع ، وأنها تستند إلى مفاهيم بدعيه " كالحلول والاتحاد ووحده الوجود " ،كما يستند هذا المذهب إلى نقد بعض علماء أهل السنة للنصوص الواردة فيها ، ومنهم ابن القيم في كتاب "المنار المنيف" .
ثانيا: مذهب التفصيل : ويقوم على يميز بين الكيفيات المتعددة لهذه المراتب والدرجات:
الكيفية الأولى : الاستناد إلى المفاهيم الاجنبيه ( المرفوضة) : فهناك الكيفية التي تستند إلى مفاهيم ونظريات ذات مصدر أجنبي ، تتعارض مع الإسلام كدين “كالحلول والاتحاد ووحده الوجود”، وهذه الكيفية مرفوضة من أعلام التصوف المعتبرين، لأنهم رفضوا هذه المفاهيم والنظريات الاجنبيه كما ذكرنا اعلاه.
الكيفية الثانية: الاستناد إلى مفاهيم وقيم وقواعد الدين(المقبولة) : وهناك الكيفية التي تستند إلى المفاهيم والقيم والقواعد الكلية للدين ، والفهم الصحيح للدين ، كما قرره السلف الصالح وعلماء أهل السنة ، وهذه الكيفية مقبولة .
الاستئناس بالموقف الحقيقي للإمام ابن تيميه من مراتب الولايه: وهنا نستانس بالموقف الحقيقي للإمام ابن تيميه من مراتب ودرجات الولاية عند الصوفية الذى يتجاوز موقفي الإثبات المطلق لكل كيفيات هذه المراتب والدرجات، أو النفي المطلق لكل كيفياتها ، إلى موقف قائم على نفى كيفيه معينه لهذه المراتب والدرجات لأنها تتعارض مع الشرع ، واثبات كيفيه أخرى لها لأنها تتفق مع الشرع. فهو يقرر أولا أن هذه الأسماء لا توجد عند السلف – طبقا للترتيب الشائع لها – ولا هي ماثوره عن المشائخ المقبولين – طبقا للترتيب والمعاني الشائعة لها – حيث يقول( ولا توجد هذه الأسماء في كلام السلف كما هي على هذا الترتيب ، ولا هي مأثورة على هذا الترتيب والمعانى عن المشائخ المقبولين عند الأمة قبولا عاما ، وإنما توجد على هذه الصورة عن بعض المتوسطين من المشائخ ، وقد قالها إما آثرا لها عن غيره ، أو ذاكرا ، ..) .فابن تيميه هنا يرفض الإقرار بكيفية معينه لهذه المراتب والدرجات ( أو هذه الصورة التي توجد بها بتعبيره) ،وهى كيفيه قائمه على ترتيب معين ومعانى معينه لهذه الأسماء.و يرفض ابن تيميه اسم الغوث والغياث ( فأما لفظ الغوث والغياث فلا يستحقه إلا الله..) . إما اسم الأوتاد فيقبله ابن تيميه لكن بمعنى معين هو: من يثبت الله به الإيمان والدين دون حصره بعدد معين، حيث يقول( ... فكل من حصل به تثبيت العلم والإيمان في جمهور الناس كان بمنزلة الأوتاد العظيمة والجبال الكبيرة ، ومن كان بدونه كان بحسبه ، وليس ذلك محصورا في أربعة ولا أقل ولا أكثر .. ). كما لا يرفض ابن تيميه اسم القطب بمعنى كل من دار عليه آمر من أمور الدين والدنيا دون حصره في عدد معين( ...فكل من دار عليه أمر من أمور الدين أو الدنيا باطنا أو ظاهرا فهو قطب ذلك الأمر ومداره ، ولا اختصاص لهذا المعنى بسبعة ولا أقل ولا أكثر ..) . كما لا يرفض اسم البدل بمعانيه التي لا تتعارض مع الشرع مع عدم حصره في عدد معين ، حيث يقول (والذين تكلموا باسم ( البدل ) فسروه بمعان ، منها : أنهم أبدال الأنبياء – اى العلماء كونهم ورثه الانبياء- ومنها : أنه كلما مات منهم رجل أبدل الله تعالى مكانه رجلا ، ومنها : أنهم أبدلوا السيئات من أخلاقهم وأعمالهم وعقائدهم بحسنات ، وهذه الصفات كلها لا تختص بأربعين ، ولا بأقل ولا بأكثر ، ولا تحصر بأهل بقعة من الأرض ) ( مجموع فتاوى ابن تيمية :11/433-444)
درجات للترقي القيمى – الروحي وليست درجات للوجود: بناء على ما سبق فانه يمكن القول أن مضمون مراتب ودرجات الولاية هي أنها درجات للترقي الروحي – القيمى للإنسان (كما تقرر الكيفية الثانية المقبولة )،وليست درجات للوجود (كما تقرر الكيفية الأولى )،فهي درجات لتحديد لحركه الإنسان – بما هي فعل غائي – بفعل مطلق ” الربوبية” وغاية مطلقه ” الالوهيه ” أو درجات للكدح إلى الله تعالى بالتعبير القرانى (يا أيها الإنسان انك ادح إلى ربك كدحا فملاقيه )،اى هي درجات للعبودية والعبادة ، وليست إلغاء لتوحيد الربوبية والالوهيه. كما أنها درجات للصلاح ، قال تعالى (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً) (النساء).
مراتب الولاية لا تفيد القطع إلا بورود نص : ومراتب الولاية – في الكيفية الثانية المقبولة – لا تفيد القطع إلا في حاله وجود نص يفيد ذلك ، كما هو الحال عند الأنبياء (عليهم السلام ) والرسول (صلى الله عليه وسلم )، والصحابة( رضي الله عنهم)، لأنه لا يمكن القطع بدخول احد الجنة أو النار ما لم يرد نص يفيد ذلك . قال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) (إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة، ثم يختم له بعمل أهل النار، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار، ثم يختم له بعمل أهل الجنة) ( رواه الشيخان من حديث ابن مسعود ).
الكرامات والاخذ بمذهب الاثبات المقيد: اثبت أهل السنة بمذاهبهم المختلفة كرامات الأولياء ، غير أن هناك مذهبين في إثباتها، و بالتالي تفسيرها:
الأول:مذهب الإثبات المطلق:اى إثبات الكرامة دون تقييد مضمونها – تكوينيا- فالكرامة يمكن أن تتم بانقطاع اضطراد السنن الالهيه التي تضبط حركه الوجود،وإلغاء السببية ، اى إلغاء علاقة التلازم بين السبب والمسبب. وهو ما عبر عنه أصحاب هذا التفسير بتعريف الكرامة بأنها " خرق للعادة "، والمقصود بالعادة عند أصحاب هذا التفسير العادة المضطرة ، اى السنن الالهيه. غير أن هذا التفسير لا يوضح الفرق بين الكرامة والمعجزة، لذا رفضه عدد من متأخري الأشاعرة والمتصوفة منهم ألسبكي القائل (معاذ الله أن يتحدى نبي بكرامه تكررت على ولي... و لما كانت مرتبة النبي أعلى و أرفع من مرتبة الولي ، كان الولي ممنوعا مما يأتي به النبي على الإعجاز و التحدي، أدبا مع النبي )( طبقات الشافعية، ج 2، ص 320 ).
الثاني:مذهب الإثبات المقيد: وهو المذهب الذى ياخذ به المذهب الاستخلافى فى الترقى الروحى, ومضمونه إثبات الكرامة مع تقييد مضمونها – تكوينيا- بالتزام حتمية السنن الالهيه التي تضبط حركه الوجود , وبالتالي فان الكرامة هي تكريم الله تعالى لشخص صالح، بمنحه قدره تفوق قدره تفوق قدره غيره من أشخاص عاديين، دون انقطاع باضطراد السنن الالهيه التي تضبط حركه الوجود،ودون إلغاء السببية ، اى دون إلغاء علاقة التلازم بين السبب والمسبب, لان الكرامه ظهور صفاتي وليس ذاتي "كما في المعجزة" للفعل الالهى المطلق , يقول الاسفرائينى (إن الكرامة لا تبلغ مبلغ خرق العادة ، وإنما هي إجابة دعوة أو موافاة ماء في غير موقع المياه أو ما ضاهي ذلك، وكل ما جاز معجزة لنبي لم يجز كرامة لولي)( الموافقات: ص25) ، وهو يقارب رأى عدد من العلماء الذين فرقوا بين الكرامة والمعجزة بأن ما جاز معجزه لنبي لا يجوز كرامه لولى ، يقول الإمام النووي (... قال وصار بعض أصحابنا إلي أن ما وقع معجزة للنبي لا يجوز تقدير وقوعه كرامه لولي فيمتنع عند هؤلاء أن ينفلق البحر وينقلب العصا ثعبان ويحي الموتى إلي غير ذلك من آيات الأنبياء كرامة لولي )( الإمام النووي، بستان العارفين، ص 30.)، ورفض أبو محمد بن أبي زيد المالكي الكرامة طبقا للتفسير الأول إلا بشرط حدوثها في المنام , وتبعه في هذا الراى عددا من العلماء منهم أبا الحسن علي القابسي ،وأبا جعفر أحمد الداودي . وجوز الإمام ابن حزم من أهل الظاهر الكرامة طبقا للتفسير الأول في حياة الرسول، أما بعد موته صلى الله عليه وسلم ، فيرى انه لا سبيل إلى شيء من هذا (الأصول والفروع،دار الكتب العلمية،بيروت،1984.)، وطبقا لهذا التفسير يجوز الأخذ بالتعريف الكرامة بأنها"خرق للعادة"، بشرط أن يكون المقصود بالعادة ما اعتاد عليه الناس لا العادة المضطردة، ورد في شرح العقيدة الطحاوية (فالمعجزة في اللغة كل أمر خارق للعادة ،وكذلك الكرامة في عرف ألائمه أهل العلم المتقدمين، ولكن كثير من المتأخرين يفرقون في اللفظ بينهما...وجماعها الأمر الخارق للعادة...وإنما ينال من تلك الثلاثة بقدر ما يعطيه الله ،ويعلمه ما علمه الله إياه، ويستغني عما أغناه الله ،ويقدر على ما أقدره الله عليه من الأمور المخالفة للعادة المضطردة أو لعاده اغلب الناس ،فجميع المعجزات والكرامات لا تخرج عن هذه الأنواع )( شرح العقيدة الطحاويه ،مكتبه الدعوة الاسلاميه،القاهرة،ص 499.)، ونحن إذ نرجح التفسير الثاني ، فإننا نرى انه بفرض صحة التفسير الأول، فانه لا يجوز القول به بعد ختم النبوة ،ونستأنس هنا بموقف الإمام ابن حزم السابق ذكره.
د. صبرى محمد خليل/ أستاذ فلسفة القيم الاسلامية فى جامعة الخرطوم
- للاطلاع على دراسات أخرى للدكتور صبري محمد خليل يمكن زيارة المواقع التالية:
1/ الموقع الرسمي للدكتور/ صبري محمد خليل خيري | دراسات ومقالات: الموقع الرسمي للدكتور صبري محمد خليل خيري
2/ القناه الرسميه للدكتور صبرى محمد خليل على اليوتيوب:
د. صبري محمد خليل
طبيعته(الانسانيه – الروحيه): وهذا المذهب ذو طبيعة إنسانية – روحية " دينية " ، لأن مفهوم الاستخلاف- الذى يستند اليه - قائم على التأكيد على قيمه الوجود الانسانى، وإثباته لهذا الوجود بأبعاده المتعددة، كوجود محدود تكوينيا بالسنن الالهيه ، التي تضبط حركه الوجود" الشهادى "، وتكليفيا بالمفاهيم والقيم والقواعد الكلية التي مصدرها الوحي . فهو يجعل العلاقة بين الوجود الإلهى والوجود الإنساني- بأبعاده المتعددة - علاقة تحديد وتكامل، وليست علاقة إلغاء وتناقض كما في الفلسفات الإنسانية الغربية.
إقرار القيمة المتساوية لأبعاد الوجود الانسانى : كما ان هذا المذهب بانطلاقه من التصور الإسلامي " الصحيح" للوجود الانسانى –والمنطلق من مفهوم الاستخلاف- والذى مضمونه أن الوجود الانسانى وجود مركب وليس وجود بسيط ، فهو ذو أبعاد متعددة. ينتهى الى الإقرار بالقيمة المتساوية لهذه الأبعاد المتعددة . لذا فهو يرفض التطرف فى التأكيد على بعض أبعاد الوجود الانسانى ، لدرجه إلغاء أبعاد أخرى له ، كما يلزم من مذاهب اخرى فى الترقي الروحى، ومثال لها مذاهب الترقى الروحى فى الفلسفات الدينية"الوضعيه "الشرقيه القديمه ، والفلسفات المثاليه فى الفلسفه الغربيه ، والتصوف البدعي- الذي يطلق عليه البعض خطأ اسم "التصوف الفلسفى"- والذى ظهرت مذاهبه " القديمه والحديثه والمعاصرة "، فى السياق الجغرافى والتاريخى للفكر الإسلامي ، دون ان يعبر عن جوهره ، لأنه ينطلق من مفاهيم اجنبية "كالحلول والاتحاد ووحده الوجود" . هذا التطرف الذي يقابل ايضا بتطرف الفلسفات الشكية الالحاديه ، في تأكيد بعض أبعاد الوجود الإنساني"كابعاده الماديه"، لدرجه الغاء ابعاد اخرى "كابعاده الروحيه"، وبالتالي قصر الترقى على أبعاده المادية وإنكار أبعاده الروحيه، اى إنكار وجود ترقى روحى انسانى.
الانتقال بالتصوف من الاستضعاف الى الاستخلاف: فهذا المذهب فى الترقى الروحى هو محاولة للانتقال بالتصوف، من بعض أنماطه المتصله بالمذاهب المذكورة أعلاه ،والتى يلزم منها تكريس الاستضعاف، بإلغائها للوجود الانسانى – بإلغائها لبعض أبعاده – ومن ثم إلغائها لفاعليته ، ومن ثم تفتح الطريق امام الخضوع للاستكبار بأشكاله المتعددة – لذا يمكن أن نطلق عليها اسم التصوف الاستضعافى - . الى نمط من أنماط التصوف ، القائم على الربط بين التصوف ومفهوم الاستخلاف بأبعاده الفلسفية والمعرفية والمنهجية، والذى يلزم منه- كمحصلة لإقراره بالقيمه المتساوية للابعاد المتعددة للوجود الانسانى- كما اشرنا اعلاه- اثبات الوجود الإنساني بأبعاده المتعددة – ومن ثم إثبات فاعليته، ومن ثم يفتح الطريق امام تحقيق الاستخلاف بأبعاده المتعددة" السياسية والاقتصادية والاجتماعية…"، ومن ثم يمكن ان نطلق عليه اسم التصوف الاستخلافى
الانطلاق من التصوف السنى: وهذا المذهب فى الترقى الروحى- والذى هو شكل من اشكال ما يمكن ان نطلق عليه اسم التصوف الاستخلافى - يستند إلى التصوف السني (المستند عقديا الى مذاهب اهل السنه الاعتقاديه " الكلاميه" كالمذهب الاشعرى والماتريدى والطحاوى والحنبلى...)، والقائم على الضبط الشرعي للاعتقاد والسلوك الصوفي ،والمتضمن للالتزام بالضوابط الشرعية لهما، من خلال موافقة مذهب أهل ألسنه ، القائم على الضبط الشرعي لاعتقاد وسلوك المسلم ، ومفارقة الاعتقاد بالمفاهيم الاجنبيه ” كالحلول والاتحاد ووحده الوجود” ، والسلوك المخالف للكتاب والسنة. لانه لا يلزم من تأكيد هذا النمط من أنماط التصوف على بعض أبعاد الوجود الإنساني إلغاء أبعاد أخرى،ومن ثم الغاء فاعليته،كما يلزم من نمط التصوف النقيض له – وهو التصوف البدعى الذى اشرنا اليه اعلاه-
الأساس الحكمى"الفلسفى" للمذهب: ويتمثل فى استناد المذهب الى حكمة "فلسفة" الاستخلاف ، وبالتالى الاستناد الى المفاهيم القرآنية الكليه الثلاثة- التي تتخذها مسلمات اولى- وهى: التوحيد والتسخير والاستخلاف – مع التركيز على الاخير ، الذى مضمونه إظهار الإنسان لربوبية وإلوهية الله تعالى في الأرض ،على المستوى الصفاتى، على وجه الاختيار، وهو ما يكون بالعبودية والعبادة. يقول الالوسى ( فلابد من إظهار من تم استعداده وقابليته ليكون مجليا لي ومراه لاسمائى وصفاتي)( روح المعنى،ص223) . فالاستخلاف يتضمن
اولا: اظهار صفات الالوهيه: ويكون بالاتى:ا/ توحيد الالوهية : ومضمونه أن الله تعالى ينفرد بكونه الغاية المطلقة، اى الغاية المطلوب بتعبير الإمام ابن تيمية الذى يقول ( …. ولكن المراد المستعان على قسمين: منه ما يراد لغيره ….. ومنه ما يراد لنفسه فمن المرادات ما يكون هو الغاية المطلوب فهو الذي يذل له الطالب ويحبه وهو الإله المعبود ومنه ما يراد لغيره).. ب/ العبادة: ولها معنى خاص ومعنى عام ، ومضمون الأخير كل فعل الغاية المطلقة منه الله تعالى ، يقول الإمام ابن تيميه ( العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة) (رسالة العبودية ، ص 38) .
ثانيا: إظهار صفات الربوبية: ويكون بالاتى:ا/ توحيد الربوبيه: ومضمونه أن الله تعالى ينفرد بكونه الفاعل المطلق، اى الدائم كونه فاعلا بتعبير الامام ابن تيميه، الذى يقول في معرض رفضه لاست دلال المتكلمين على وجود الله بطريقه الأعراض الدالة على حدوث الأجسام ( إن هذا المسلك مبنى على امتناع دوام كون الرب فاعلا وامتناع قيام الأفعال الاختيارية بذاته) (درء التعارض : 1/98).ب/العبودية : و تعنى تحديد – وليس إلغاء – الفعل المطلق الذي ينفرد به الله تعالى- والذي عبر عنه القران بمصطلح الربوبيه - للفعل الإنساني .
الظهور الصفاتى جزء من الجزاء الدنيوى على اظهار صفات الالوهيه والربوبيه: والظهور الصفاتى هو جزء من – وليس كل - الجزاء الدنيوي على اظهار صفات الربوبية والالوهية، كما ان الاحتجاب الصفاتى هو جزء من – وليس كل- العقاب الدنيوي على محاولة كتم صفات الربوبية و الألوهية .
الاصل فى الظهور الذاتي"التجلى" انه اخروى وليس دنيوى: اما الظهور الذاتى فهو ظهور ذات الفعل المطلق ، وقد عبر عنه القران بمصطلح التجلي كما في قوله تعالى (…فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (الأعراف: 143)، ولهذا الظهور الذاتي شكلين:
الشكل الأول :مقيد: ويتم في الحياة الدنيا ، وله شكل تكويني يتمثل في معجزات الأنبياء، وشكل تكليفي يتمثل في نزول الوحي على الأنبياء. فهو - بشكليه - مقصور على الانبياء، وبالتالى فانه لا مجال للقول بحدوثه بعد ختم النبوه بوفاه الرسول (صلى الله عليه وسلم).
الشكل الثاني : مطلق: ويتم في الآخرة ، فالحياة الاخره هي درجة من درجات الوجود قائمة على الظهور الذاتي " التجلي" ، قال تعالى(وأشرقت الأرض بنور ربها). هذا التجلي يترتب عليه تغيير الوجود الشهادى المحدود بالزمان والمكان- والقائم على الظهور الصفاتى- بوجود غيبي- قائم على الظهور الذاتى - قال تعالى (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا)،وقال تعالى ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ )، غير أن هذا الظهور الذاتي أو التجلي" بالنسبة إلي الناس" ليس شاملا لجميعهم، بل هو مقصور على المؤمنين، وهو ما عبر عنه أهل السنة برؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة،استنادا إلى العديد من النصوص كقوله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ . إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ (القيامة: 22- 23). فهذا الظهور الذاتى "التجلى" هو جزء من- وليس كل - الجزاء الأخروي على اظهار صفات الربوبية والألوهية فى الدنيا . كما أن الاحتجاب الذاتي هو جزء من- وليس كل - العقاب اخروى على كتم صفات الربوبية الالوهية فى الدنيا (كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ).
احصاء اسماء الله الحسنى"معرفتها والعمل بمقتضاها": والترقى الروحى فى المنظور الروحى الاسلامى يستند الى قاعده "احصاء اسماء الله الحسنى" ، التى اشارت اليها النصوص، كالحديث : عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) )إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ(،والمقصود باحصائها معرفتها - على المستوى المعرفى "الذاتى " – والعمل بمقتضاها -على المستوى السلوكى" الموضوعى"-
ينقل ابن حجر في الفتح (وأما إحصاؤها فللعلماء في ذلك أقوال، أبرزها: وليس معنى إحصائها أن تكتب في رقاع ثم تكرر حتى تحفظ ولكن معنى ذلك: أولاً: الإحاطة بها لفظاً. ثانياً: فهمها معنى. ثالثاً: العمل بمقتضاها).
التمييز بين كيفيتى العمل بمقتضى اسماء الله الحسنى: غير انه يجب التمييز بين كيفيتين لإحصاء أسماء الله الحسنى،استنادا الى التمييز بين اظهار صفات الالوهية وإظهار صفات الربوبية كما اشرنا اعلاه:
الكيفيه الاولى: العمل بمقتضى صفات الالوهيه ، بالاقتداء بالله تعالى فيها- فالالوهيه تتصل بالمطلق من هذه الصفات وليس المحدود منها - وذلك باتخاذ الله تعالى وحده غاية مطلقة ، واتخاذ صفات الوهيته " ما دل على كونه تعالى غايه مطلقه " قيم - مثل عليا - مطلقة يسعى الإنسان لتحقيقها في الأرض " اى في واقعة المحدود زمانا ومكانا"، دون ان تتوافر له إمكانية التحقيق النهائي لها - لذا تمد الذات بإمكانيات غير محدوده للترقى الروحى - ولا يكون ذلك بإلغاء تصور الإنسان للقيم - للمثل العليا- المحدودة زمانا ومكانا، بل بتحديده باتخاذ مقتضى صفات الالوهيه ضوابط موضوعيه - مطلقة له .
الكيفيه الثانيه: العمل بمقتضى صفات الربوبيه، بالخضوع لها- فالربوبيه تتصل بهذه الصفات فى ذاتها - بافراد الفعل المطلق لله تعالى، واتخاذ مقتضى صفات الربوبيه "ما دل على كونه تعالى فاعل مطلق" ضوابط موضوعيه مطلقه للفعل الإنساني تحدده كما يحدد الكل الجزء فيكمله ويغنيه ولكن لا يلغيه .
اشاره العلماء الى الكيفيتين: يقول ابن بطّال (طريق العمل بها: أنّ الذي يسوغ الاقتداء به فيها كالرحيم والكريم: فإنّ الله يحب أن يرى حالها على عبده، فليمرن العبد نفسه على أن يصح له الاتصاف بها، وما كان يختص بالله تعالى، كالجبار والعظيم: فيجب على العبد الإقرار بها، والخضوع لها، وعدم التحلي بصفة منها، وما كان فيه معنى الوعد: نقف منه عند الطمع والرغبة، وما كان فيه معنى الوعيد: نقف منه عند الخشية والرهبة(،ويقول ابن القيم: )لما كان سبحانه يحبّ أسماءه وصفاته: كان أحبّ الخلق إليه من اتصف بالصفات التي يحبها، وأبغضهم إليه: من اتصف بالصفات التي يكرهها، فإنّما أبغض من اتصف بالكبر والعظمة والجبروت، لأنّ اتصافه بها ظلم، إذ لا تليق به هذه الصفات ولا تحسن منه؛ لمنافاتها لصفات العبيد، وخروج من اتصف بها من ربقة العبودية، ومفارقته لمنصبه ومرتبته، وتعديه طوره وحدّه، وهذا خلاف ما تقدم من الصفات كالعلم والعدل والرحمة والإحسان والصبر والشكر، فإنّها لا تنافي العبودية، بل اتصاف العبد بها من كمال عبوديته، إذ المتصف بها من العبيد لم يتعد طوره، ولم يخرج بها من دائرة العبودية(.
البعد المنهجى للمذهب: يتمثل فى الانطلاق من الاستخلاف كمنهج للمعرفة ،وطبقا له يصبح الترقي الروحي للإنسان مقيد تكليفيا بمفاهيم وقيم وقواعد الوحي الكلية ، وتكوينيا بالسنن الإلهية الكلية والنوعية التي تضبط حركه الوجود الشهادى الشامل للوجود الاستخلافى “الإنسان” والتسخيرى “الطبيعي “. وهذا الترقي الروحي يمثل البعد التكليفى لسنه “الكدح إلى الله “النوعيه ، المشار إليها في الآية “يا أيها الإنسان انك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه ” والذي مضمونه أن تأخذ حركة الإنسان شكل فعل غائي محدود بغاية مطلقه (الألوهية) وفعل مطلق( الربوبية) ، والذي يحدد – ولا يلغى – بعدها التكويني الذي مضمونه أن حركة الإنسان تتم عبر ثلاثة خطوات: المشكلة فالحل فالعمل .
القيمه المتساويه لابعاد الوجود الانسانى: كما اشرنا اعلاه فان المذهب الاستخلافى فى الترقي الروحي ينطلق من الإقرار بالقيمة المتساوية للأبعاد المتعدده للوجود الانسانى- شانه شان التصوف السنى الذى يستند اليه- وفيما يلى نوضح ذلك بشىء من التفصيل:
اولا: الابعاد السلبية والايجابية للوجود الانسانى: فالبعد السلبي للوجود الانسانى ” التحرر من القيود المفروضة على مقدره الإنسان على الترقي” لا يلغى البعد الايجابي له ” المقدرة على الترقى” فكلاهما متساويان في القيمة، واولويه البعد الأول على البعد الثاني أولوية ترتيب لا اولويه تفضيل. وقد اقر التصوف السني البعد الأول دون إلغاء البعد الثاني يقول أبو الحسن الشاذلي : ( التصوف : تدريب النفس على العبودية ، وردها لأحكام الربوبية ). أما التصوف البدعى فقد تطرف في تأكيد على البعد الأول ، لدرجه إلغاء البعد الثاني، ممثلا في تحرره من الضوابط ألتكليفيه ” بالقول بسقوط التكاليف” والتكوينية” بالقول بخرق العادة المضطردة ” ، التي وضعها الإسلام لضمان استمرار مقدره الإنسان على الترقي الروحي والمادي .
ثانيا:الأبعاد ألروحيه والمادية: والبعد الروحي للوجود الانسانى ” الترقي الروحي اى إشباع الحاجات الروحية ” ، لا يلغى البعد المادي له “الترقى المادي اى إشباع الحاجات المادية ” ، بل يحدده كما يحدد الكل الجزء فيكمله وبغنية، وقد أكد التصوف السني على البعد الأول، من خلال قوله بالاولويه القيميه- وليست الوجودية- للبعد الأول دون إلغاء البعد الثاني ، في حين تطرف التصوف البدعى في تأكيد البعد الأول ، لدرجه إلغاء البعد الثاني .
ثالثا:الأبعاد الذاتية والموضوعية: كما أن البعد الذاتي للوجود الانسانى ” تصور الذات للغايات”، لا يلغى البعد الموضوعي له ” لفعل اللازم لتحقيق الغايات “، فالعلاقة بينهما لا تخرج عن إطار جدل المعرفة من الموضوعي (المشكلة التي يطرحها الواقع) إلى الذاتي (الحل الذهني) إلى موضوعي مره أخرى من اجل تغييره (تنفيذ الحل في الواقع بالعمل). وقد اختار التصوف السنى تأكيد البعد الذاتي للوجود الانسانى،وهو ما يتضح في التركيز على النفس ، لكنه لم يلغى البعد الثاني ،فى حين تطرف التصوف البدعى في تأكيد على البعد الأول لدرجه إلغاء البعد الثاني فسقط في هوه الذاتية المطلقة وهو ما يتضح في : تصوره الهرمي للمعرفة (من الموضوعي إلى الذاتي)كبديل للتصور الجدلي للمعرفة(من الموضوعي إلى الذاتي إلى الموضوعي )
رابعا: الأبعاد الفردية والجماعية: كما ان البعد الفردي للوجود الانسانى ” الترقي الفردي:اى حل المشاكل الخاصة” لا يلغى البعد الجماعي له ” الترقي الاجتماعي: اى حل المشاكل العامة”. فالجماعة بالنسبة للفرد كالكل بالنسبة للجزء تحده فتكمله وتغنيه ولكن لا تلغيه . وقد اختار التصوف السني التأكيد على البعد الفردي للوجود الانسانى، ممثلا في التركيز على الفرد دون إلغاء البعد التانى ، فى حين تطرف التصوف السني في تأكيد على البعد الأول لدرجه إلغاء البعد الثاني وهو ما يتضح من قوله العزلة والخلوة المستمرة والدائمة التى تؤدى الى انقطاع الصلة بالواقع - وليست المتقطعه والمؤقته التى لا بؤدى الى انقطاع الصله بالواقع - وكذلك تصوره الصفوى – المطلق وليس النسبي- القائم على تقسيم الناس إلى عامة وخاصة وخاصة الخاصة-بشكل ثابت وليس بشكل متغير -
الضبط الشرعى لمفهوم “الأحوال والمقامات “: ويقوم المذهب الاستخلافى فى الترقي الروحي على الضبط الشرعي لمفهوم” الأحوال والمقامات ،الذي أشار إليه أعلام التصوف الاسلامى من خلال: أولا: اعتبار أن الأحوال والمقامات هى درجات “مراحل” الترقي الروحي للإنسان وتستند في ذلك إلى تقرير القرآن أن الوجود الإنساني ينبغي أن يكون في صعود دائم عبر درجات كما في قوله تعالى ﴿ يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات﴾،وقوله تعالى ﴿ ورفعنا بعضكم فوق بعض درجات ﴾. و أوجه الاختلاف بين الأحوال والمقامات، أن الأحوال تمثل الدرجات الذاتية لهذا الترقي الروحي ، متمثلة في الأنماط الانفعالية والمعرفية ، التي تجئ كمحصلة لالتزام الإنسان بمجموعة من القواعد التي تحدد للإنسان ما ينبغي أن يكون عليه وجدانه وتفكيره. بينما المقامات تمثل درجات هذا الترقي الروحي الموضوعية، متمثلة في الأنماط السلوكية، التي تجئ كمحصلة لالتزام الإنسان بمجموعة القواعد ، التي تحدد له ما ينبغي أن يكون عليه سلوكه.
ثانيا: رفض تصور التصوف البدعى للأحوال والمقامات ، والقائم على أن لهذا الترقي الروحي نهاية هي الوصول إلى الله تعالى “بالحلول أو الاتحاد او الوحدة “) ، وان كل درجة من درجات هذا الترقي الروحي تنعدم بالانتقال إلى درجة اعلي ، لأنه يتعارض مع العقيدة الإسلامية ،والاخذ بتصور للأحوال والمقامات – هو مضمون تصور التصوف السني لها – مضمونه أنه ليس الترقي الروحي للإنسان نهاية ، وأن كل درجة من درجات هذا الترقي الروحي لا تنعدم بالانتقال إلى درجه اعلي ، وهنا نستأنس بقول الإمام ابن القيم (اعلم أن ترتيب هذه المقامات ليس باعتبار أن السالك يقطع المقام ويفارقه وينتقل منه إلى التالي بعده ، كمنازل السير الحسي، وإنما هذا الترتيب ترتيب المشروط المتوقف على شرط المصاحب له )( مدارج السالكين: 1/ 108 -109 ).
الضبط الشرعي لمفهوم الولاية:كما يقوم المذهب الاستخلافى على الضبط الشرعى لمفهوم الولايه ، كما قرره أعلام التصوف السني.
تعريفها: الولاية لغة : لها معنيان: المعنى الأول القرب ( معجم مقاييس اللغة : 6/141) . والمعنى الثاني النصرة ( مفردات ألفاظ القرآن ، للراغب الأصفهاني ، ص 885). اما اصطلاحا فان الولاية: علاقة مضمونها القرب والنصرة، بين طرفين هما العبد وربه، فهي من جهة العبد التزام بشروطها الذاتية (التي عبر القران عن جملتها بالأيمان)، والموضوعية(التي عبر القران عن جملتها بالتقوى)، ومن جهة الله تعالى وعد بنفي الخوف والحزن،والبشرى في الدنيا والاخره. قال تعالى( أَلا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ ) [يونس : 62 – 64] .
أقسامها: وللولاية قسمان:القسم الاول: ولاية خاصة: وهى علاقة قرب ونصره بين الله تعالى وفرد معين ، وهذا القسم من أقسام الولايه يكون بواسطة الوحي، و يستلزم العصمة، وهو مقصور على الأنبياء والرسل، وبالتالي فانه بختم النبوة وانقطاع الوحي بوفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) انتهى هذا القسم من أقسام الولاية.القسم الثانى: ولاية عامه: وهى علاقة قرب ونصره بين الله تعالى ومن التزم بشروط الولاية(الذاتية والموضوعية) بدون تعيين، لعموم الخطاب القرآني إلى الالتزام بشروط الولاية (الايمان والتقوى) ،يقول ابن كثير في تفسير الايه ( يُخْبِر تَعَالَى أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ هُمْ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ كَمَا فَسَّرَهُمْ رَبّهمْ فَكُلّ مَنْ كَانَ تَقِيًّا كَانَ لِلَّهِ وَلِيًّا). وهذا القسم من أقسام الولايه لا يكون بواسطة الوحي ، بل بالالتزام بالوحي .ولا يستلزم العصمة إنما العدالة . لان الوحي والعصمة مقصوران على الرسل والأنبياء. وتتفاوت درجات الولاية العامة. مع اختصاص الصحابة(رضي الله عنهم) فى الامه المحمدية بأعلى هذه الدرجات لقربهم من الرسول(ص)،ولشهادة القران لهم بالولاية.بناء على ما سبق فان المقصود بمراتب الولاية بعد وفاة الرسول )(صلى الله عليه وسلم ) وختم النبوة مراتب الولايه العامة، وليس مراتب الولاية الخاصة المقصورة على الأنبياء (عليهم السلام)،ويترتب على هذا انه لا يجوز المساواة في الدرجة، بين من نال اى مرتبه من مراتب الولاية العامة ، بعد وفاه الرسول (صلى الله عليه وسلم ) والأنبياء لان لهم درجه الولاية الخاصة ، كما لا يجوز المساواة بينه وبين الصحابة (رضي الله عنهم ) ، لان لهم الدرجات العليا للولاية العامة. وتنقسم الولاية إلى قسمين :الأول :ولاية تكليفيه :متصلة الالتزام بمفاهيم وقيم وقواعد الوحي الكلية ، والاجتهاد في المفاهيم والقيم والقواعد الجزئية،وتتضمن المجددين والعلماء بالدين.الثاني:ولاية تكوينيه: وتتصل بالالتزام بالسنن الالهيه التي تضبط حركه الوجود الشهادى، الشامل للوجود الاستخلافي “الانسانى ” والتسخيري “الطبيعي” ، وتتضمن الحكام العادلين وزعماء الامه عبر التاريخ الاسلامى…
الضبط الشرعي لمراتب الولاية والانتقال من الاجمال الى التفصيل : اتفق الفكر الصوفي الاسلامى مع أهل السنة بمذاهبهم المتعددة فى اثبات الولاية ، استنادا إلى ثبوتها بنصوص يقينية الورود قطعيه الدلالة. لكنه اختار بيان مراتب هذه الولاية ودرجاتها، وعبر عن هذه المراتب بمصطلحات معينه كالأقطاب والابدال والاوتاد والنقباء والنجباء … غير أن إثبات أو نفى هذه المراتب ، ظل محل خلاف في الفكر الاسلامى بين مذاهب متعددة:
اولا: مذاهب الاجمال: وهى المذاهب الذي تضع حكما كليا بالرفض أو القبول لهذه المراتب والدرجات، وتتضمن مذهبين رئيسيين هما:ا/مذهب الإثبات: فهناك المذهب الذي يثبت هذه المراتب والدرجات، استدلالا ببعض النصوص، واحتجاجا بأقوال بعض العلماء، كما يفصل هذه المرتب و الدرجات ويبين خصائصها :فقد استدل هذا المذهب ببعض النصوص، ومنها ما أورده جلال الدين السيوطي في رسالة ( الخبر الدال على وجود القطب والأوتاد والنجباء والابدال ) المتضمنة في ( مجموع الحاوى للفتاوى ) . ب/مذهب النفي : وهناك المذهب الذي ينفى هذه المراتب والدرجات ، ويرى أنها لا أصل لها في الشرع ، وأنها تستند إلى مفاهيم بدعيه " كالحلول والاتحاد ووحده الوجود " ،كما يستند هذا المذهب إلى نقد بعض علماء أهل السنة للنصوص الواردة فيها ، ومنهم ابن القيم في كتاب "المنار المنيف" .
ثانيا: مذهب التفصيل : ويقوم على يميز بين الكيفيات المتعددة لهذه المراتب والدرجات:
الكيفية الأولى : الاستناد إلى المفاهيم الاجنبيه ( المرفوضة) : فهناك الكيفية التي تستند إلى مفاهيم ونظريات ذات مصدر أجنبي ، تتعارض مع الإسلام كدين “كالحلول والاتحاد ووحده الوجود”، وهذه الكيفية مرفوضة من أعلام التصوف المعتبرين، لأنهم رفضوا هذه المفاهيم والنظريات الاجنبيه كما ذكرنا اعلاه.
الكيفية الثانية: الاستناد إلى مفاهيم وقيم وقواعد الدين(المقبولة) : وهناك الكيفية التي تستند إلى المفاهيم والقيم والقواعد الكلية للدين ، والفهم الصحيح للدين ، كما قرره السلف الصالح وعلماء أهل السنة ، وهذه الكيفية مقبولة .
الاستئناس بالموقف الحقيقي للإمام ابن تيميه من مراتب الولايه: وهنا نستانس بالموقف الحقيقي للإمام ابن تيميه من مراتب ودرجات الولاية عند الصوفية الذى يتجاوز موقفي الإثبات المطلق لكل كيفيات هذه المراتب والدرجات، أو النفي المطلق لكل كيفياتها ، إلى موقف قائم على نفى كيفيه معينه لهذه المراتب والدرجات لأنها تتعارض مع الشرع ، واثبات كيفيه أخرى لها لأنها تتفق مع الشرع. فهو يقرر أولا أن هذه الأسماء لا توجد عند السلف – طبقا للترتيب الشائع لها – ولا هي ماثوره عن المشائخ المقبولين – طبقا للترتيب والمعاني الشائعة لها – حيث يقول( ولا توجد هذه الأسماء في كلام السلف كما هي على هذا الترتيب ، ولا هي مأثورة على هذا الترتيب والمعانى عن المشائخ المقبولين عند الأمة قبولا عاما ، وإنما توجد على هذه الصورة عن بعض المتوسطين من المشائخ ، وقد قالها إما آثرا لها عن غيره ، أو ذاكرا ، ..) .فابن تيميه هنا يرفض الإقرار بكيفية معينه لهذه المراتب والدرجات ( أو هذه الصورة التي توجد بها بتعبيره) ،وهى كيفيه قائمه على ترتيب معين ومعانى معينه لهذه الأسماء.و يرفض ابن تيميه اسم الغوث والغياث ( فأما لفظ الغوث والغياث فلا يستحقه إلا الله..) . إما اسم الأوتاد فيقبله ابن تيميه لكن بمعنى معين هو: من يثبت الله به الإيمان والدين دون حصره بعدد معين، حيث يقول( ... فكل من حصل به تثبيت العلم والإيمان في جمهور الناس كان بمنزلة الأوتاد العظيمة والجبال الكبيرة ، ومن كان بدونه كان بحسبه ، وليس ذلك محصورا في أربعة ولا أقل ولا أكثر .. ). كما لا يرفض ابن تيميه اسم القطب بمعنى كل من دار عليه آمر من أمور الدين والدنيا دون حصره في عدد معين( ...فكل من دار عليه أمر من أمور الدين أو الدنيا باطنا أو ظاهرا فهو قطب ذلك الأمر ومداره ، ولا اختصاص لهذا المعنى بسبعة ولا أقل ولا أكثر ..) . كما لا يرفض اسم البدل بمعانيه التي لا تتعارض مع الشرع مع عدم حصره في عدد معين ، حيث يقول (والذين تكلموا باسم ( البدل ) فسروه بمعان ، منها : أنهم أبدال الأنبياء – اى العلماء كونهم ورثه الانبياء- ومنها : أنه كلما مات منهم رجل أبدل الله تعالى مكانه رجلا ، ومنها : أنهم أبدلوا السيئات من أخلاقهم وأعمالهم وعقائدهم بحسنات ، وهذه الصفات كلها لا تختص بأربعين ، ولا بأقل ولا بأكثر ، ولا تحصر بأهل بقعة من الأرض ) ( مجموع فتاوى ابن تيمية :11/433-444)
درجات للترقي القيمى – الروحي وليست درجات للوجود: بناء على ما سبق فانه يمكن القول أن مضمون مراتب ودرجات الولاية هي أنها درجات للترقي الروحي – القيمى للإنسان (كما تقرر الكيفية الثانية المقبولة )،وليست درجات للوجود (كما تقرر الكيفية الأولى )،فهي درجات لتحديد لحركه الإنسان – بما هي فعل غائي – بفعل مطلق ” الربوبية” وغاية مطلقه ” الالوهيه ” أو درجات للكدح إلى الله تعالى بالتعبير القرانى (يا أيها الإنسان انك ادح إلى ربك كدحا فملاقيه )،اى هي درجات للعبودية والعبادة ، وليست إلغاء لتوحيد الربوبية والالوهيه. كما أنها درجات للصلاح ، قال تعالى (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً) (النساء).
مراتب الولاية لا تفيد القطع إلا بورود نص : ومراتب الولاية – في الكيفية الثانية المقبولة – لا تفيد القطع إلا في حاله وجود نص يفيد ذلك ، كما هو الحال عند الأنبياء (عليهم السلام ) والرسول (صلى الله عليه وسلم )، والصحابة( رضي الله عنهم)، لأنه لا يمكن القطع بدخول احد الجنة أو النار ما لم يرد نص يفيد ذلك . قال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) (إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة، ثم يختم له بعمل أهل النار، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار، ثم يختم له بعمل أهل الجنة) ( رواه الشيخان من حديث ابن مسعود ).
الكرامات والاخذ بمذهب الاثبات المقيد: اثبت أهل السنة بمذاهبهم المختلفة كرامات الأولياء ، غير أن هناك مذهبين في إثباتها، و بالتالي تفسيرها:
الأول:مذهب الإثبات المطلق:اى إثبات الكرامة دون تقييد مضمونها – تكوينيا- فالكرامة يمكن أن تتم بانقطاع اضطراد السنن الالهيه التي تضبط حركه الوجود،وإلغاء السببية ، اى إلغاء علاقة التلازم بين السبب والمسبب. وهو ما عبر عنه أصحاب هذا التفسير بتعريف الكرامة بأنها " خرق للعادة "، والمقصود بالعادة عند أصحاب هذا التفسير العادة المضطرة ، اى السنن الالهيه. غير أن هذا التفسير لا يوضح الفرق بين الكرامة والمعجزة، لذا رفضه عدد من متأخري الأشاعرة والمتصوفة منهم ألسبكي القائل (معاذ الله أن يتحدى نبي بكرامه تكررت على ولي... و لما كانت مرتبة النبي أعلى و أرفع من مرتبة الولي ، كان الولي ممنوعا مما يأتي به النبي على الإعجاز و التحدي، أدبا مع النبي )( طبقات الشافعية، ج 2، ص 320 ).
الثاني:مذهب الإثبات المقيد: وهو المذهب الذى ياخذ به المذهب الاستخلافى فى الترقى الروحى, ومضمونه إثبات الكرامة مع تقييد مضمونها – تكوينيا- بالتزام حتمية السنن الالهيه التي تضبط حركه الوجود , وبالتالي فان الكرامة هي تكريم الله تعالى لشخص صالح، بمنحه قدره تفوق قدره تفوق قدره غيره من أشخاص عاديين، دون انقطاع باضطراد السنن الالهيه التي تضبط حركه الوجود،ودون إلغاء السببية ، اى دون إلغاء علاقة التلازم بين السبب والمسبب, لان الكرامه ظهور صفاتي وليس ذاتي "كما في المعجزة" للفعل الالهى المطلق , يقول الاسفرائينى (إن الكرامة لا تبلغ مبلغ خرق العادة ، وإنما هي إجابة دعوة أو موافاة ماء في غير موقع المياه أو ما ضاهي ذلك، وكل ما جاز معجزة لنبي لم يجز كرامة لولي)( الموافقات: ص25) ، وهو يقارب رأى عدد من العلماء الذين فرقوا بين الكرامة والمعجزة بأن ما جاز معجزه لنبي لا يجوز كرامه لولى ، يقول الإمام النووي (... قال وصار بعض أصحابنا إلي أن ما وقع معجزة للنبي لا يجوز تقدير وقوعه كرامه لولي فيمتنع عند هؤلاء أن ينفلق البحر وينقلب العصا ثعبان ويحي الموتى إلي غير ذلك من آيات الأنبياء كرامة لولي )( الإمام النووي، بستان العارفين، ص 30.)، ورفض أبو محمد بن أبي زيد المالكي الكرامة طبقا للتفسير الأول إلا بشرط حدوثها في المنام , وتبعه في هذا الراى عددا من العلماء منهم أبا الحسن علي القابسي ،وأبا جعفر أحمد الداودي . وجوز الإمام ابن حزم من أهل الظاهر الكرامة طبقا للتفسير الأول في حياة الرسول، أما بعد موته صلى الله عليه وسلم ، فيرى انه لا سبيل إلى شيء من هذا (الأصول والفروع،دار الكتب العلمية،بيروت،1984.)، وطبقا لهذا التفسير يجوز الأخذ بالتعريف الكرامة بأنها"خرق للعادة"، بشرط أن يكون المقصود بالعادة ما اعتاد عليه الناس لا العادة المضطردة، ورد في شرح العقيدة الطحاوية (فالمعجزة في اللغة كل أمر خارق للعادة ،وكذلك الكرامة في عرف ألائمه أهل العلم المتقدمين، ولكن كثير من المتأخرين يفرقون في اللفظ بينهما...وجماعها الأمر الخارق للعادة...وإنما ينال من تلك الثلاثة بقدر ما يعطيه الله ،ويعلمه ما علمه الله إياه، ويستغني عما أغناه الله ،ويقدر على ما أقدره الله عليه من الأمور المخالفة للعادة المضطردة أو لعاده اغلب الناس ،فجميع المعجزات والكرامات لا تخرج عن هذه الأنواع )( شرح العقيدة الطحاويه ،مكتبه الدعوة الاسلاميه،القاهرة،ص 499.)، ونحن إذ نرجح التفسير الثاني ، فإننا نرى انه بفرض صحة التفسير الأول، فانه لا يجوز القول به بعد ختم النبوة ،ونستأنس هنا بموقف الإمام ابن حزم السابق ذكره.
د. صبرى محمد خليل/ أستاذ فلسفة القيم الاسلامية فى جامعة الخرطوم
- للاطلاع على دراسات أخرى للدكتور صبري محمد خليل يمكن زيارة المواقع التالية:
1/ الموقع الرسمي للدكتور/ صبري محمد خليل خيري | دراسات ومقالات: الموقع الرسمي للدكتور صبري محمد خليل خيري
2/ القناه الرسميه للدكتور صبرى محمد خليل على اليوتيوب:
د. صبري محمد خليل