(8)
* السلام الآن !
لم تصدق سارة حين أخبرتها الحقيقة . اتصلت بي مساء تسألني عمّا إذا بإمكاني أن أصحبها في رحلة صيد لأن لديها عطلة . وافقت وقلت لها أن تحضر في الصباح . كنت في حاجة لأن أبوح لها بقصتي مع عارف نذير الحق ، وسر البندقية التي لم تعد معي لبضعة أيام . فهي الوحيدة القادرة على تفهمّي . وكنت في حاجة إلى رأيها في فهم شخصية عارف ومراقبته ومعرفة فكره . حضرت مبكّرا مرتدية بنطالا وحذاء رياضيا وقبعة . انطلقنا بعد تناول القليل من الطعام . اصطحبت معي منظارا للبحث عن الصيد، رغم أنني لا أشعر برغبة لي فيه ، لكنني اصطحبته من اجل سارة . لم أتوغل بها في أودية سحيقة ، حتى لا تتعب كثيرا. حرصت على أن نتجول في أراض غير منخفضة تتخللها أخاديد وأودية صغيرة وبطاح غير وعرة . كانت تحمل البندقية في وضع أقرب إلى التهيؤ، متوقعة أن يفر من أمامنا طائر ما أو أرنب لتطلق النار، غير أن ذلك لم يحدث إلا بعد قرابة ساعة من التجول ، حين فر طائر درّاج ، على مسافة أمتار منّا ، تأخرت في إطلاق النارفلم تصبه . هتفت وهي تضحك :
- يبدو أنني صيادة فاشلة باب !
- ليس بالضرورة آبا . كان الطائر قد ابتعد حين أطلقت النارعليه وهو طائر .
وتابعت بأن طلبت إليها أن نستريح . وافقت وأبدت رغبتها في أنها تريد ذلك أيضا . صعدنا إلى تلّة مرتفعة بعض الشيء وجلسنا على قمتها . حانت الفرصة لأن أصارحها.
كان راعيا فلسطينيا يسرح بقطيع من المعز والنعاج على سفح هضبة مواجهة لنا . وكان يعزف على ناية
ببراعة مدهشة فيما كان القطيع ينتشر من حوله . هتفت فيما كانت سارة ترقب القطيع والراعي وتصغي إلى العزف :
- في الحقيقة ساراي أنني اصطحبتك لأطلعك على أمر أحتاج إلى رأيك فيه .
فاجأتني سارة حين قالت :
- أشكرك باب لثقتك بي . كنت أدرك أن قصة تخبئة البندقية قصة مختلقة وأنك تخفي علينا أمراً مهماً !
- ماذا كنت تتوقعين ؟
هتفت ضاحكة:
- ربما عشقت عربية باب وأرادت أن تبقي البندقية معها !
ضحكت .. وأنا أهتف " يا ريت !"
- ماذا اذن ؟
- خلصني عربي إياها !
بدت سارة وكأنها لم تصدق .
- معقول باب !
- هذا ما حدث ساراي ..استمعي إلي لأقص عليك كل شيء .
أراحت سارة من وضع جلستها ، فيما شرعت أنا في الحديث عن معظم ما عرفته عن عارف نذير الحق ، وسارة تستمع بكل جوانحها !
*****
ظلت سارة صامتة للحظات وكأنها لا ترغب في التعقيب على ما تحدثت به عن عارف نذير الحق لقرابة ساعة ونصف من الزمن . قلت :
- كأنه ليس لديك ما تقولينه ساراي على ضوء حديثي المطوّل :
- بل لدي الكثيرباب .. يا ليتك لم تخبرعمّا جرى معك للشاباك ، ويا ليتك لم تقبل مراقبة عارف . إنسان على هذا القدر من الإنسانية والثقافة الرفيعة لن يسلم من أذاهم ، وآمل أن لا يطلبوا إليك أن تقتله ذات يوم !
- معقول ؟
- معقول جدا باب !
- لا أستطيع مجرد تصوّر قتل هذا الرجل بعد أن عرفت نبله وثقافته وإنسانيته !
- إن لم تقبل أنت ، سيكلفون غيرك بقتله ، أو يقدمون هم على اغتياله .
- أرجو أن لا أرى ذلك اليوم ساراي .
- شي عظيم أن أرى هذا التحوّل في رأيك باب، من التعصب لإسرائيل إلى التفكير في التعايش مع العرب
على هذه الأرض . أرغب في التعرف إلى عارف باب.
- وهو يرغب في التعرف إليك بعد أن أخبرته عنك .
انطلق عزف أرغول من السفح المقابل حيث يسرح الراعي بقطيعه ، وراح يدوي مرددا رجع صداه من البطاح ..
- ياي ما أروع هذا العزف !
- وألقت نظرة عبر المنظار نحوالعازف وما لبثت أن هتفت :
- إن العازف هو رجل جاء قبل قليل إلى الراعي .
أخذت المنظار لأرى إن كان عارف. كان هو بالفعل ،وبدا متوحدا مع الأرغول في حالة من الهيام . لا أذكر أنه أخبرني إلا عن الناي ، وهو الآن يعزف على أرغول . قلت لساره :
- إنّه عارف نذير الحق نفسه باب !
سارعت إلى أخذ المنظار مني وراحت تنظر إلى عارف متأملة . كان عارف قد توقف عن العزف وبدأ أنه ينظر نحونا .
- يبدو وسيما بذقنه قصيرة الشعر باب .
- أجل باب هو رجل وسيم رغم شيخوخته ، وملامحه توحي بالوقار أيضا .
- رجل يجمع بين الوسامة والوقار والثقافة والإنسانية والعقلانية ، يملك ما لا يملكه كثيرون غيره ، وإنّه لمن الإجرام أن يراقب عقله وسلوكه .
- للأسف هذا ما حدث باب .
- هل في الإمكان أن نلتقي به اليوم ؟
- سأسأله باب .
أخرجت هاتفي وخابرته . رحب بالأمر حين عرف أن سارة معي .
*****
التقينا في منتصف المسافة الفاصلة بين السفح والتل الذي كنا نجلس عليه . صافح سارة بحرارة ، وسارع إلى قول جملة، بدا وكأنه يريد رفع الكلفة بينه وبينها من أول لقاء :
- أوه لم يخبرني يعقوب أنك جميلة إلى هذا الحد !
- أشكرك استاذ وآمل أن أظل جميلة في نظرك !
- دون أستاذ ودون سيد ودون أية ألقاب مهما كانت أرجوك .
- سأحاول!
- تفضلا اجلسا .
جلسنا. تابع عارف اطراء جمال سارة وهو يذهب بعيدا في التاريخ .
- تبدين عراقية قح ومن نسل جلجامش أو مردوخ العظيم !
راحت سارة تضحك وهي تردد :
- يسعدني أن أكون كذلك وأن أحظى بهذا الإعجاب منك .
- يؤسفني أن لقاءنا هنا لا يتيح لي ان أضيفكما شيئا ما . لكن قد يضيفنا ابن أخي القليل من حليب المعز إن أحببتما !
- هل هذا الراعي هو ابن أخيك ؟
هتفت أنا ، فيما رد عارف بالإيجاب ، وأبلغني أن القطيع له .
قالت سارة :
- لم أذق حليب المعز في حياتي ولا أمانع في ذلك إذا ثمة امكانية للأمر .
شرع عارف ينادي ابن أخيه الذي كان يرعى قطيعه على مقربة منا ، ويسأله إذا بإمكانه أن يأتينا بشيء من حليب المعز . أجاب الآخر أن بإمكانه وسارع إلى البحث عن وعاء في خرج حمار كان يرعى مع القطيع . دنا من ماعز وأخذ قائمتها الخلفية اليمنى ووضعها بين فخذه وساقه اليمنى أيضا ، وجلس على قدميه ضاغطا عليها، حادا من حركة العنزة، ماددا يده من بين قائمتيها الخلفيتين ليمسك ضرعها ويشرع في الحلب. جاء بعد بضع دقائق حاملا وعاء الحليب وكأس من الألمنيوم . ملأ الكأس وقدمه لسارة وهو يرحب بنا :
- أهلا وسهلا بكما ، وعذرا لأنني لا أملك غيركأس واحدة! يمكنك أن تشرب من الوعاء يا عم !
تذوقت سارة الحليب لتستطيب طعمه وتشرع في شربه ، فيما رحت أنا أحتسي الحليب من الوعاء .
******
- يبدو أنكما لم تصطادا شيئا !
هتف عارف . قلت :
- لم نعثر إلا على طائر أخطأته ساره !
- الصيد يكون غالبا في الأودية والسفوح المنخفضة وليس في المرتفعات .
- صحيح لكني خفت أن أتعب سارة .
وبدا أن سارة ترغب في الحديث عن أي موضوع غير الصيد . فقد سارعت إلى ابداء رأيها في احتلالنا لتقدم نفسها لعارف كما تحب :
- انا آسفة عارف لموقف حكومتنا الرافضة للتوقف عن بناء المستوطنات والدخول في مفاوضات جدية مع السلطة الفلسطينية .
- لا عليك سارة ، فهذه الحكومة لن تدوم إلى الأبد، طالما وجد أمثالك ممن يسعون إلى السلام ، المهم العمل بجد للإكثارمن هذه القوى وزيادة الضغط على الحكومات .
- المشكلة أن هذه القوى ليست فاعلة كما يجب في ظل هيمنة اليمين وقدرته على التوسع والإنتشار والتكاثر.
- أعتقد أن السبب يكمن في المنهاج الذي تتبعه هذه القوى لعدم وضوح مشروعها والسعي لتحقيقة حسب برنامج عملي . إن ما يجري هو مجرد تعاطف دون أي برنامج عملي شامل ومدروس، تسعى إلى تحقيقه، بحيث تؤثر حتى في القوى اليمينية . فاليميني لم يخلق يمينيا ولم يصبح كذلك إلا لأن ثمّة من نمّى الفكر اليميني لديه ، الأمر نفسه ينطبق على التعصب ، فلو لم يكن هناك من يدفع إلى التعصب الأعمى لما كان هناك متعصبون . حين وجد أبوك شخصا مثلي يطلعه على ما يجهله بمنطق علمي موضوعي لم يمانع في الإستماع إلي ، وبدأ يتفهم وجهة نظري ويتحوّل عن تعصبه ولو بحدود ، لأن طبيعته في الأساس ليست كذلك . المشاركة في تظاهرة من أجل السلام ، أو رفض الاستيطان عمل جيد لكنه لا يكفي ، لا بد من مخاطبة العقل وطرح المسألة بكافة أبعادها بما في ذلك البعد الديني ومستقبل الأجيال.
عقب عارف.
- الحق معك . ليس هناك رؤية واضحة، ومنهج عملي شامل لدى هذه القوى المحدودة ، وأنصارها ليسوا على عجلة من أمرهم ، لأنهم غير واقعين تحت معاناة شديدة، كتلك التي يرزح تحتها الفلسطيني بعلاقته مع الإحتلال.. الذين استنكروا قرار ترامب، بجعل القدس عاصمة لإسرائل، قد لا يتجاوزون بضعة آلاف . ترامب لا يعي أبعاد قراره ، كما لا يعيه نتنياهو واليمين الإسرائيلي كله . لم يفكروا في كم الدم الذي سيزهق من قبل الطرفين المتصارعين وربما أطراف أخرى ستدخل الصراع ، وما سيجر إليه هذا القرار الأرعن من عواقب وخيمة .
عقبت سارة وتابعت:
مسألة البعد الديني مسألة معقدة للغاية فلا يفهم الدين تاريخيا غيرنفر قليل من المثقفين ، ومعظم هؤلاء يتخوفون من طرح فهمهم على الناس ، كون الدين مسلمات لا يمكن نقدها.
- يمكن لو تشكلت جماعات علمانية وطرحت رؤيتها لكسرت حاجز الخوف . الجماعات والأحزاب اليسارية التي تدعي العلمانية تتخوف من تناول مسألة الدين ، لذلك تتجنب الخوض فيها ، كما هي الحال مع الأحزاب العربية .
- يبدو لي أنه ليس أمام المثقفين سوى اتباع هذا الأسلوب إذا ما كانوا يطمحون في تغيير شامل للعقليات السائدة . وثمة مشكلة في الأرضية المشتركة التي سينطلق منها المثقفون .. فهل المشكلة في وجود إله أم عدمه ، أم أن المشكلة في الدين ، وفي النص الديني تحديدا .
- صحيح سارة ! هذه كانت مشكلة العلمانيين وربما خلال القرن الماضي كله ، فإما الإلحاد وإما الإيمان . المؤمن يؤمن بوجود خالق ويؤمن بالنص الديني . والملحد لا يعتقد بوجود خالق ولا يعترف بالنص الديني. فالملحد العلماني يكاد أن يغلق عقله على مبدأ الإلحاد ، كما يغلق المؤمن عقله على مبدأ الإيمان ، وبهذا يمكن القول إن الطرفين منغلقان ! لا بد من التفريق بين النص الديني وبين الخالق . فالنص الديني مجرد اجتهاد لعقل بشري بدائي قابل للخطأ والصواب ، وربما للخطأ بالمطلق ، ووجود الله أو وجود خالق أو قائم بالخلق ، مسألة أخرى لم يتوصل العقل البشري حتى يومنا إلى معرفة حقيقتها المطلقة. العقل العلمي يذهب نحو المادة والطاقة ويركز على البحث فيهما لعله يصل يوما إلى حقيقة ما .. المطلوب من المثقفين أن يركزوا في تناولهم على النص الديني وفشله في تقديم فهم للخالق يستند إلى العلم والمنطق . من هنا يأتي الإلحاد ، استنادا إلى نص بدائي لا يقتنع به الإنسان فيلحد! مع أنه لا علاقة للخالق أو للقائم بالخلق إن كان الطبيعة مثلا، بوضع ذلك النص ، فما ذنب الطبيعة حتى يلحد بها هذا الإنسان استنادا إلى نص خطأ لم تضعه هي ؟
- المشكلة تكمن في النص إذن .
- أجل النص الذي قدّم لنا إلها عجيبا لا يريد معرفة وخلودا للإنسان ، ويريده في الوقت نفسه عابدا له ومطيعا . وحاشا لخالق أن يكون كذلك إذا كان هناك خالق .
- حدثني أبي عن بعض فهمك للخالق دون أن يستوعبه تماما . ويهمني أن أعرفه لأنه من صلب عملي في الفلسفة .
- ما حاجتك إلى وجع الرأس هذا ؟ يمكنك أن تعتبريه كالمحرك الأول عند ارسطو !
- لا أعتقد أنه كذلك .
- في الحقيقة أنا أميل إلى مذهب وحدة الوجود ، إنما اجتهدت لأن أتعمق فيه إلى حد كبير، بحيث نسفت معظم ما جاء فيه من أفكار وتصورات ، إنطلاقا من أن الوجود مكوّن من مادة وطاقة وأن الخالق يكمن فيهما .. وأعمق ما توصل إليه اجتهادي الفلسفي، هو أن الوجود وهم ، وأن عملية الخلق المنشودة من قبل الخالق ، لم تبدأ بعد.
- هذا كلام يصعب على الفهم هل لك أن توضح بعض الشيء ؟
- يمكن القول أن الوجود هوالتصورغيرالمجلو في العقل الكوني للخالق ، أريد لنا أن نراه حقيقة وهو ليس كذلك، لنساهم في صنع التصور وتطويره ، إلى أن يكتمل بما يرضي الخالق، ليتم اظهاره كوجود حقيقي مكتمل .
- كيف لي أن أفهم هذا الكلام بشكل دقيق !
- أعتقد أن المسألة صعبة . لكن يمكنك تصوّر روائي يكتب مسوّدة رواية ، يطلع بعض أصدقائه عليها ، فيبدون ملاحظاتهم التي يفيد منها الروائي ، وهكذا إلى أن يكتمل النص لينشرإلى الناس .
- المشكلة أن المسودة عند الخالق وجود، ليس من السهل تصوره ، وليس من السهل على البشر أن يشاركوا في صنعه !
- وهنا تكمن المشكلة يا سارة . أعتقد أن الوجود ككون وكواكب ونجوم اكتمل عند الخالق، أو أنه أقرب إلى الإكتمال، المشكلة في هذا الإنسان البائس الذي ما زال يتخبط دون أن يعرف الطريق السليم إلى الكمال ، ولا يعرف الخالق بدوره كيف يجعل منه انسانا كاملا دون أن يتعاون معه ..
- ما هو الكمال حسب رأيك وكيف يمكن أن يتحقق ؟
- الكمال هو أن يحقق الإنسان الغاية من وجوده، وهي: تحقيق قيم الخير والمحبة والعدل والجمال والرقي الإنساني، ببناء الحضارة الإنسانية . وهذا لن يتحقق دون أن يعي الإنسان ذلك ويعمل على تحقيقه .
أطرقت سارة للحظات تفكر في كلام عارف، ويبدو أنها اكتشفت أن فهمه يحتاج إلى لقاءات مطولة وليس إلى لقاء عابر ..قالت :
- أشكرك أستاذ ..كم أشعرتني أننا تافهون كبشر أمام ما تطرحه من فكر إنساني حضاري. أحتاج لأن التقي بك مطولا لأنني في حاجة إلى ما يغني ثقافتي المتواضعة .. لقد وضعتني أمام أسئلة كونية عميقة أجهل الإجابة المقنعة أوحتى المقبولة عنها . هل ستسمح لي بذلك ؟
- أهلا بك في أي وقت ، لكن دون أستاذ !
- سامحني ، فالأستاذية قليلة جدا عليك !
*******
* السلام الآن !
لم تصدق سارة حين أخبرتها الحقيقة . اتصلت بي مساء تسألني عمّا إذا بإمكاني أن أصحبها في رحلة صيد لأن لديها عطلة . وافقت وقلت لها أن تحضر في الصباح . كنت في حاجة لأن أبوح لها بقصتي مع عارف نذير الحق ، وسر البندقية التي لم تعد معي لبضعة أيام . فهي الوحيدة القادرة على تفهمّي . وكنت في حاجة إلى رأيها في فهم شخصية عارف ومراقبته ومعرفة فكره . حضرت مبكّرا مرتدية بنطالا وحذاء رياضيا وقبعة . انطلقنا بعد تناول القليل من الطعام . اصطحبت معي منظارا للبحث عن الصيد، رغم أنني لا أشعر برغبة لي فيه ، لكنني اصطحبته من اجل سارة . لم أتوغل بها في أودية سحيقة ، حتى لا تتعب كثيرا. حرصت على أن نتجول في أراض غير منخفضة تتخللها أخاديد وأودية صغيرة وبطاح غير وعرة . كانت تحمل البندقية في وضع أقرب إلى التهيؤ، متوقعة أن يفر من أمامنا طائر ما أو أرنب لتطلق النار، غير أن ذلك لم يحدث إلا بعد قرابة ساعة من التجول ، حين فر طائر درّاج ، على مسافة أمتار منّا ، تأخرت في إطلاق النارفلم تصبه . هتفت وهي تضحك :
- يبدو أنني صيادة فاشلة باب !
- ليس بالضرورة آبا . كان الطائر قد ابتعد حين أطلقت النارعليه وهو طائر .
وتابعت بأن طلبت إليها أن نستريح . وافقت وأبدت رغبتها في أنها تريد ذلك أيضا . صعدنا إلى تلّة مرتفعة بعض الشيء وجلسنا على قمتها . حانت الفرصة لأن أصارحها.
كان راعيا فلسطينيا يسرح بقطيع من المعز والنعاج على سفح هضبة مواجهة لنا . وكان يعزف على ناية
ببراعة مدهشة فيما كان القطيع ينتشر من حوله . هتفت فيما كانت سارة ترقب القطيع والراعي وتصغي إلى العزف :
- في الحقيقة ساراي أنني اصطحبتك لأطلعك على أمر أحتاج إلى رأيك فيه .
فاجأتني سارة حين قالت :
- أشكرك باب لثقتك بي . كنت أدرك أن قصة تخبئة البندقية قصة مختلقة وأنك تخفي علينا أمراً مهماً !
- ماذا كنت تتوقعين ؟
هتفت ضاحكة:
- ربما عشقت عربية باب وأرادت أن تبقي البندقية معها !
ضحكت .. وأنا أهتف " يا ريت !"
- ماذا اذن ؟
- خلصني عربي إياها !
بدت سارة وكأنها لم تصدق .
- معقول باب !
- هذا ما حدث ساراي ..استمعي إلي لأقص عليك كل شيء .
أراحت سارة من وضع جلستها ، فيما شرعت أنا في الحديث عن معظم ما عرفته عن عارف نذير الحق ، وسارة تستمع بكل جوانحها !
*****
ظلت سارة صامتة للحظات وكأنها لا ترغب في التعقيب على ما تحدثت به عن عارف نذير الحق لقرابة ساعة ونصف من الزمن . قلت :
- كأنه ليس لديك ما تقولينه ساراي على ضوء حديثي المطوّل :
- بل لدي الكثيرباب .. يا ليتك لم تخبرعمّا جرى معك للشاباك ، ويا ليتك لم تقبل مراقبة عارف . إنسان على هذا القدر من الإنسانية والثقافة الرفيعة لن يسلم من أذاهم ، وآمل أن لا يطلبوا إليك أن تقتله ذات يوم !
- معقول ؟
- معقول جدا باب !
- لا أستطيع مجرد تصوّر قتل هذا الرجل بعد أن عرفت نبله وثقافته وإنسانيته !
- إن لم تقبل أنت ، سيكلفون غيرك بقتله ، أو يقدمون هم على اغتياله .
- أرجو أن لا أرى ذلك اليوم ساراي .
- شي عظيم أن أرى هذا التحوّل في رأيك باب، من التعصب لإسرائيل إلى التفكير في التعايش مع العرب
على هذه الأرض . أرغب في التعرف إلى عارف باب.
- وهو يرغب في التعرف إليك بعد أن أخبرته عنك .
انطلق عزف أرغول من السفح المقابل حيث يسرح الراعي بقطيعه ، وراح يدوي مرددا رجع صداه من البطاح ..
- ياي ما أروع هذا العزف !
- وألقت نظرة عبر المنظار نحوالعازف وما لبثت أن هتفت :
- إن العازف هو رجل جاء قبل قليل إلى الراعي .
أخذت المنظار لأرى إن كان عارف. كان هو بالفعل ،وبدا متوحدا مع الأرغول في حالة من الهيام . لا أذكر أنه أخبرني إلا عن الناي ، وهو الآن يعزف على أرغول . قلت لساره :
- إنّه عارف نذير الحق نفسه باب !
سارعت إلى أخذ المنظار مني وراحت تنظر إلى عارف متأملة . كان عارف قد توقف عن العزف وبدأ أنه ينظر نحونا .
- يبدو وسيما بذقنه قصيرة الشعر باب .
- أجل باب هو رجل وسيم رغم شيخوخته ، وملامحه توحي بالوقار أيضا .
- رجل يجمع بين الوسامة والوقار والثقافة والإنسانية والعقلانية ، يملك ما لا يملكه كثيرون غيره ، وإنّه لمن الإجرام أن يراقب عقله وسلوكه .
- للأسف هذا ما حدث باب .
- هل في الإمكان أن نلتقي به اليوم ؟
- سأسأله باب .
أخرجت هاتفي وخابرته . رحب بالأمر حين عرف أن سارة معي .
*****
التقينا في منتصف المسافة الفاصلة بين السفح والتل الذي كنا نجلس عليه . صافح سارة بحرارة ، وسارع إلى قول جملة، بدا وكأنه يريد رفع الكلفة بينه وبينها من أول لقاء :
- أوه لم يخبرني يعقوب أنك جميلة إلى هذا الحد !
- أشكرك استاذ وآمل أن أظل جميلة في نظرك !
- دون أستاذ ودون سيد ودون أية ألقاب مهما كانت أرجوك .
- سأحاول!
- تفضلا اجلسا .
جلسنا. تابع عارف اطراء جمال سارة وهو يذهب بعيدا في التاريخ .
- تبدين عراقية قح ومن نسل جلجامش أو مردوخ العظيم !
راحت سارة تضحك وهي تردد :
- يسعدني أن أكون كذلك وأن أحظى بهذا الإعجاب منك .
- يؤسفني أن لقاءنا هنا لا يتيح لي ان أضيفكما شيئا ما . لكن قد يضيفنا ابن أخي القليل من حليب المعز إن أحببتما !
- هل هذا الراعي هو ابن أخيك ؟
هتفت أنا ، فيما رد عارف بالإيجاب ، وأبلغني أن القطيع له .
قالت سارة :
- لم أذق حليب المعز في حياتي ولا أمانع في ذلك إذا ثمة امكانية للأمر .
شرع عارف ينادي ابن أخيه الذي كان يرعى قطيعه على مقربة منا ، ويسأله إذا بإمكانه أن يأتينا بشيء من حليب المعز . أجاب الآخر أن بإمكانه وسارع إلى البحث عن وعاء في خرج حمار كان يرعى مع القطيع . دنا من ماعز وأخذ قائمتها الخلفية اليمنى ووضعها بين فخذه وساقه اليمنى أيضا ، وجلس على قدميه ضاغطا عليها، حادا من حركة العنزة، ماددا يده من بين قائمتيها الخلفيتين ليمسك ضرعها ويشرع في الحلب. جاء بعد بضع دقائق حاملا وعاء الحليب وكأس من الألمنيوم . ملأ الكأس وقدمه لسارة وهو يرحب بنا :
- أهلا وسهلا بكما ، وعذرا لأنني لا أملك غيركأس واحدة! يمكنك أن تشرب من الوعاء يا عم !
تذوقت سارة الحليب لتستطيب طعمه وتشرع في شربه ، فيما رحت أنا أحتسي الحليب من الوعاء .
******
- يبدو أنكما لم تصطادا شيئا !
هتف عارف . قلت :
- لم نعثر إلا على طائر أخطأته ساره !
- الصيد يكون غالبا في الأودية والسفوح المنخفضة وليس في المرتفعات .
- صحيح لكني خفت أن أتعب سارة .
وبدا أن سارة ترغب في الحديث عن أي موضوع غير الصيد . فقد سارعت إلى ابداء رأيها في احتلالنا لتقدم نفسها لعارف كما تحب :
- انا آسفة عارف لموقف حكومتنا الرافضة للتوقف عن بناء المستوطنات والدخول في مفاوضات جدية مع السلطة الفلسطينية .
- لا عليك سارة ، فهذه الحكومة لن تدوم إلى الأبد، طالما وجد أمثالك ممن يسعون إلى السلام ، المهم العمل بجد للإكثارمن هذه القوى وزيادة الضغط على الحكومات .
- المشكلة أن هذه القوى ليست فاعلة كما يجب في ظل هيمنة اليمين وقدرته على التوسع والإنتشار والتكاثر.
- أعتقد أن السبب يكمن في المنهاج الذي تتبعه هذه القوى لعدم وضوح مشروعها والسعي لتحقيقة حسب برنامج عملي . إن ما يجري هو مجرد تعاطف دون أي برنامج عملي شامل ومدروس، تسعى إلى تحقيقه، بحيث تؤثر حتى في القوى اليمينية . فاليميني لم يخلق يمينيا ولم يصبح كذلك إلا لأن ثمّة من نمّى الفكر اليميني لديه ، الأمر نفسه ينطبق على التعصب ، فلو لم يكن هناك من يدفع إلى التعصب الأعمى لما كان هناك متعصبون . حين وجد أبوك شخصا مثلي يطلعه على ما يجهله بمنطق علمي موضوعي لم يمانع في الإستماع إلي ، وبدأ يتفهم وجهة نظري ويتحوّل عن تعصبه ولو بحدود ، لأن طبيعته في الأساس ليست كذلك . المشاركة في تظاهرة من أجل السلام ، أو رفض الاستيطان عمل جيد لكنه لا يكفي ، لا بد من مخاطبة العقل وطرح المسألة بكافة أبعادها بما في ذلك البعد الديني ومستقبل الأجيال.
عقب عارف.
- الحق معك . ليس هناك رؤية واضحة، ومنهج عملي شامل لدى هذه القوى المحدودة ، وأنصارها ليسوا على عجلة من أمرهم ، لأنهم غير واقعين تحت معاناة شديدة، كتلك التي يرزح تحتها الفلسطيني بعلاقته مع الإحتلال.. الذين استنكروا قرار ترامب، بجعل القدس عاصمة لإسرائل، قد لا يتجاوزون بضعة آلاف . ترامب لا يعي أبعاد قراره ، كما لا يعيه نتنياهو واليمين الإسرائيلي كله . لم يفكروا في كم الدم الذي سيزهق من قبل الطرفين المتصارعين وربما أطراف أخرى ستدخل الصراع ، وما سيجر إليه هذا القرار الأرعن من عواقب وخيمة .
عقبت سارة وتابعت:
مسألة البعد الديني مسألة معقدة للغاية فلا يفهم الدين تاريخيا غيرنفر قليل من المثقفين ، ومعظم هؤلاء يتخوفون من طرح فهمهم على الناس ، كون الدين مسلمات لا يمكن نقدها.
- يمكن لو تشكلت جماعات علمانية وطرحت رؤيتها لكسرت حاجز الخوف . الجماعات والأحزاب اليسارية التي تدعي العلمانية تتخوف من تناول مسألة الدين ، لذلك تتجنب الخوض فيها ، كما هي الحال مع الأحزاب العربية .
- يبدو لي أنه ليس أمام المثقفين سوى اتباع هذا الأسلوب إذا ما كانوا يطمحون في تغيير شامل للعقليات السائدة . وثمة مشكلة في الأرضية المشتركة التي سينطلق منها المثقفون .. فهل المشكلة في وجود إله أم عدمه ، أم أن المشكلة في الدين ، وفي النص الديني تحديدا .
- صحيح سارة ! هذه كانت مشكلة العلمانيين وربما خلال القرن الماضي كله ، فإما الإلحاد وإما الإيمان . المؤمن يؤمن بوجود خالق ويؤمن بالنص الديني . والملحد لا يعتقد بوجود خالق ولا يعترف بالنص الديني. فالملحد العلماني يكاد أن يغلق عقله على مبدأ الإلحاد ، كما يغلق المؤمن عقله على مبدأ الإيمان ، وبهذا يمكن القول إن الطرفين منغلقان ! لا بد من التفريق بين النص الديني وبين الخالق . فالنص الديني مجرد اجتهاد لعقل بشري بدائي قابل للخطأ والصواب ، وربما للخطأ بالمطلق ، ووجود الله أو وجود خالق أو قائم بالخلق ، مسألة أخرى لم يتوصل العقل البشري حتى يومنا إلى معرفة حقيقتها المطلقة. العقل العلمي يذهب نحو المادة والطاقة ويركز على البحث فيهما لعله يصل يوما إلى حقيقة ما .. المطلوب من المثقفين أن يركزوا في تناولهم على النص الديني وفشله في تقديم فهم للخالق يستند إلى العلم والمنطق . من هنا يأتي الإلحاد ، استنادا إلى نص بدائي لا يقتنع به الإنسان فيلحد! مع أنه لا علاقة للخالق أو للقائم بالخلق إن كان الطبيعة مثلا، بوضع ذلك النص ، فما ذنب الطبيعة حتى يلحد بها هذا الإنسان استنادا إلى نص خطأ لم تضعه هي ؟
- المشكلة تكمن في النص إذن .
- أجل النص الذي قدّم لنا إلها عجيبا لا يريد معرفة وخلودا للإنسان ، ويريده في الوقت نفسه عابدا له ومطيعا . وحاشا لخالق أن يكون كذلك إذا كان هناك خالق .
- حدثني أبي عن بعض فهمك للخالق دون أن يستوعبه تماما . ويهمني أن أعرفه لأنه من صلب عملي في الفلسفة .
- ما حاجتك إلى وجع الرأس هذا ؟ يمكنك أن تعتبريه كالمحرك الأول عند ارسطو !
- لا أعتقد أنه كذلك .
- في الحقيقة أنا أميل إلى مذهب وحدة الوجود ، إنما اجتهدت لأن أتعمق فيه إلى حد كبير، بحيث نسفت معظم ما جاء فيه من أفكار وتصورات ، إنطلاقا من أن الوجود مكوّن من مادة وطاقة وأن الخالق يكمن فيهما .. وأعمق ما توصل إليه اجتهادي الفلسفي، هو أن الوجود وهم ، وأن عملية الخلق المنشودة من قبل الخالق ، لم تبدأ بعد.
- هذا كلام يصعب على الفهم هل لك أن توضح بعض الشيء ؟
- يمكن القول أن الوجود هوالتصورغيرالمجلو في العقل الكوني للخالق ، أريد لنا أن نراه حقيقة وهو ليس كذلك، لنساهم في صنع التصور وتطويره ، إلى أن يكتمل بما يرضي الخالق، ليتم اظهاره كوجود حقيقي مكتمل .
- كيف لي أن أفهم هذا الكلام بشكل دقيق !
- أعتقد أن المسألة صعبة . لكن يمكنك تصوّر روائي يكتب مسوّدة رواية ، يطلع بعض أصدقائه عليها ، فيبدون ملاحظاتهم التي يفيد منها الروائي ، وهكذا إلى أن يكتمل النص لينشرإلى الناس .
- المشكلة أن المسودة عند الخالق وجود، ليس من السهل تصوره ، وليس من السهل على البشر أن يشاركوا في صنعه !
- وهنا تكمن المشكلة يا سارة . أعتقد أن الوجود ككون وكواكب ونجوم اكتمل عند الخالق، أو أنه أقرب إلى الإكتمال، المشكلة في هذا الإنسان البائس الذي ما زال يتخبط دون أن يعرف الطريق السليم إلى الكمال ، ولا يعرف الخالق بدوره كيف يجعل منه انسانا كاملا دون أن يتعاون معه ..
- ما هو الكمال حسب رأيك وكيف يمكن أن يتحقق ؟
- الكمال هو أن يحقق الإنسان الغاية من وجوده، وهي: تحقيق قيم الخير والمحبة والعدل والجمال والرقي الإنساني، ببناء الحضارة الإنسانية . وهذا لن يتحقق دون أن يعي الإنسان ذلك ويعمل على تحقيقه .
أطرقت سارة للحظات تفكر في كلام عارف، ويبدو أنها اكتشفت أن فهمه يحتاج إلى لقاءات مطولة وليس إلى لقاء عابر ..قالت :
- أشكرك أستاذ ..كم أشعرتني أننا تافهون كبشر أمام ما تطرحه من فكر إنساني حضاري. أحتاج لأن التقي بك مطولا لأنني في حاجة إلى ما يغني ثقافتي المتواضعة .. لقد وضعتني أمام أسئلة كونية عميقة أجهل الإجابة المقنعة أوحتى المقبولة عنها . هل ستسمح لي بذلك ؟
- أهلا بك في أي وقت ، لكن دون أستاذ !
- سامحني ، فالأستاذية قليلة جدا عليك !
*******