المستشار بهاء المري - أهمية المرافعة أمام القضاء

المرافعة في ساحة القضاء مُباراة، أو قُل مَعركة، سلاحها شَريف، هو قوة البَيان، وثَبات الجِنان، وقَرْع الحُجة بالحُجة، والتدليل المنطقي، والاستعانة في النهاية بتأثير العاطفة واستدرار الرحمة من جانب الدفاع، أو استثارة الغَضَب من جانب مُمثل الاتهام.
فعضو النيابة يُفتش عما تحويه الصدور، وما تُخفيه القلوب، ويَستنطق الجماد، ويَستشف القرائن والآثار، وإن لم يَمنحه ربه القُدرة على التعبير يَبقى عمله ضعيف الأثر، ويَسهر المحامي الليالي الطوال يسأل أوراق التحقيق أسرارها، ويستلهمها خفاياها، ويستنبط الحجج التي تكون في صالح موكله، فإذا لم ينطلق لسانه بالبيان كان عمله هباءً منثورًا.
ويدور كل ذلك في مكان هو أشبه ما يكون بالمسرح، فالمنصة عليها قاض أو ثلاثة أو أكثر، يتصدرون المَشهد في قاعات مُتشابهة، يَجلس إلى يمينهم ممثل الاتهام، وإلى يسارهم كاتب الجلسة، ليكتب ما يجري أمامه وما يُدلي به المُتبارون من دفوع ودفاع وحجج، ويُسجِّل لهم ما يَربحون وما يَخسرون، وأمام المحكمة يجلس المحامي إلى ناحية قفص الاتهام بجوار المتهم، فهو يُمثله، أو يُمثل الذي أثكلها المتهم زَوجها، أو الابن الذي حَرَمهُ أباه، ومن خلف هؤلاء جميعًا الجمهور - أو المتفرجون - أتوا لأنهم يَتصلون إلى المتهم بسبب، أو جاء بهم مَيلهم لمشاهدة مظاهر العدل كيف تأخذ مَجراها وسفينة الحق كيف تصل إلى مَرساها، فإذا بدأت المباراة وجَبَ على كلٍّ من المُتبارين أن يَبذل قصارى جهده ليُقنعَ المحكمة بحقه.
والمباراة في سبيل العدل لا يُستعمل فيها إلا سلاح الحق والصِّدق، فكلمة الحق يجب أن تُقال ولو أضرَّت بقائلها، وحُجَّة الخصم يجب أن تُسَلِّم بها النيابة العامة ولو خَسرت المعركة بسببها، فمُمثل الاتهام وإن جاء ليُمثل الهيئة الاجتماعية لم يجئ ليقتص لها من المتهم وإن ثبتت براءته، أو لينتقم منه بالعقوبة القاسية وإن بدا له مَعذورًا أو مدفوعًا إلى جُرمه بعوامل لا قِبَلَ له بمقاومتها.
والمحامي وواجبه الدفاع عن المتهم، ليس مَفروضًا عليه أن يَسعى لتبرئته وإن كان مُجرمًا، أو أن يُجادلَ في إدانته وقد ثَبُتت لا تقبل جدلاً، بل كل منهما مُطالب بأن يُقر الحق متى وضَحَ له، وأن يُسَلِّمَ لخصمه قانعًا راضيًا، فالخاسر في هذه المباراة والكاسبُ سواء، كل منهما سَعى لنُصرة الحق وبها فاز.
وحين يُقضى بالعقوبة يتعين أن يكون ممثل الاتهام من التفوق في المرافعة بمكان، حتى يطمئن الناس إلى أن أحكام القضاء صادفت الحق والعدل، لا سيما إذا وجد نفسه أمام هيئة من الدفاع لها بلاغة في التعبير وقوة في الإدلاء بالحجة.
والمحاكمة - لا سيما الجنائية - تَتطلب أن يُتركَ للدفاع كامل حُريته. فالمحامي يقف ليدفع عن المتهم ما أحاطته به النيابة العامة والبوليس من سِياج مَتين من الأدلة والبَراهين، وأحاطه الرأي العام والإعلام بحكمٍ قاسٍ سَبَقَ به حكم القضاء، وليس للمتهم الأعزل إلا ذلك الرجل - المحامي - الذي وقَفَ عِلمه ولسانه في الدفاع عنه، فإن ضَيَّقَت عليه المحكمة الخِناق لم تُمكنه من أداء واجبه، فحرية الدفاع مِلكٌ للمحامي، أُعطِيَت له للمصلحة العامة، مصلحة المواطنين جميعًا، وليس لأحدٍ أن ينالَ منها.
ولقد وقفَ محامٍ فرنسي مشهور يترافع في قضية، فنَسَبَ إلى النائب المُترافع أنه لجأ في مرافعته إلى استغلال الشهوات الضارة وأنَّ هذا ليس بالأمر الحَسَن، فعُدَّ قوله هذا مُخالفة تأديبية وحُوكم من أجلها، وكان دفاعه عن نفسه أنْ قال: "... أما شخص النائب المُترافع فمُنفصلٌ عن مُرافعته، فشخصه محل إجلالي واحترامي، ولا أُبيح لنفسي أن أُهاجمه، ولكني أُهاجمُ مرافعته، فهي مِلكي ومِن حقي أن أُمزِّقُها إربًا وأن أطأها بقدمي" وقد أدانته محكمة الاستئناف بباريس، وقالت إنَّ من حق المحامي أن يُدافع عن موكله ولكن ليس من حقه أن يُهاجم. فردَّت عليها محكمة النقض بأنه لا دفاع بغير هُجوم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
الأدب القضائي - المحاكمات والمحاكمات الأدبية
المشاهدات
723
آخر تحديث
أعلى