د. أحمد كمال ابراهيم - أدب الرعب والخيال العلمى وتمظهرات السرد الإجتماعىالتخييلى في رواية "جبل التيه" للكاتبة المصرية / منى العساسى

تعد الرواية أحد الفنون الغربية النشأة، العربية الجذور، الشرقية الهوى؛ وهى احدى فنون الإمتاع، التى تجسد حياتنا، وواقعنا، بمتخيلات قد يُضَمِّنها الكاتب روايته ليزيد من إدهاشيةالقارىء، وليجذبه إليه عبر رحلة حياتية معاشة، يتجسدها، وتؤثر فيه، وربما تعدّل من مسار حياته، ففيها العظة والدرس الجمالى، وفيها المتعة المقترنة بالخيال، وفيها الإشراق المقترن بالحسن، فتشعر وكأنك أحد أبطالها، وبالتالى تنجح الرواية في اشراك القارىء طوال الوقت في سير الأحداث، وتلك لعمرى الرواية الماتعة؛ والجميلة والتي تأخذ بالألباب، وتستهوى الذات، وتؤثر في الفرد والمجتمع والحياة

ويعدُّفنالروايةمنالفنونالأدبيّةالتيزادَانتشارهافيالآونةالأخيرة – كما يقول النقاد - سواءأكانذلكعلىمستوىالنتاجالأدبيالروائيّ؛أمعلىمستوىشريحةالقُرَّاءالمهتمةبهذاالجنسالأدبيوماينتجعنكاتبيهمنمؤلفاتتثريالقارئ،وتجعلهمنفتحًاًعلىالثقافاتوالحضاراتالأخرى،وقديأتيالعملالروائيعلىذكرمشكلاتاجتماعيةمنأجلعلاجها،أوقديتناولبعضالقضاياالتاريخيةأوالدينية،كمايعدُّمنأهمأدواتالمعرفة؛لماتحتويهالرواياتمنمعلوماتوعِبَرٍموجَّهةإلىالوجدانوالعقل،ويتميّزالعملالروائيعنالقصةباتساعالبعدالزمنيووجودعددكبيرمنالأحداثوالقضاياالتييعالجها.

ولعل هذا التوصيف الفنى من جانب النقاد، والذى أشرنا إليه يجعلنا ندخل إلى رواية " جبل التيه " للروائية المصرية /" منى العساسى"، والتي - منذ البداية – تجعلنا نبحر عبر بحر متلاطم من الجمال الطبيعى للريف وحكاياته، وللأساطير وحكايات الجن والعفاريت، وقصص الغولة، وما كان من الثعابين، وما حدث لدى الساحرة، أو العرافة التى تحيل المكان إلى نار، فهى تفتح منذ أول وهلة مسارات للسرد ممتدة، عبر وصف رائع، ومثير ، وغريب، ومدهش، وجميل كذلك، لذا فإن الرواية التى تدهش القارىء منذ البداية تجعله يقع في حبائلها، فلا يترك الكتاب إلا بعد أن يعرف الأحداث المتتابعة التى نجحت الكاتبة في تسريع مسارات الأحداث بغية إشراك القارىء، ليصبح في جوقة الحدث، ويتماهى معه ليصبح أحد أبطال الرواية .

هى– إذن – رواية خيالية، رواية رعب، لكنها رواية واقعية تشير إلى عدة مشكلات في المجتمع مثل : " فقر أهل الريف، عدم وجود تعليم، تفشى المرض والجهل والأمية،وبالتالى ينتج مجتمعاً تسود فيه الخرافة والأساطير، ويلعب الخيال الشعبى دوراً فاعلاً في تسيير الأحداث، وتنامى هارمونية السرد، عبر الشخوص التى تظهر وتختفى، وهى في كل الأوقات استطاعت أن تحكم قبضتها على السرد الساحر الجميل، المخيف والذى يرمز إلى ظلم مجتمعى، أو خوف من المستقبل ، فهذه البطلة ( أمينة ) تسرد لنا حكايات الرعب والإثارة والخيال العلمى عبر اتصالها بالجن، والعرافة،وما كان من " الجنية ليليث " تلك المرأة الشيطانة التى تكره البشر وتود القضاء على ذريتهم، بل كل سكان الأرض لتتسيد الكون، وهى وإن تشبه فيلماً بوليسياً ، أو أحد أفلام ( هوليودد ) فقد نجحت في تجسيد الخوف، ورسم واصفاته عبر احالات خاصة، وإشارات تعبر بنا الزمن إلى زمن السرد، ومن زمن السرد إلى الخيال الشعبى، أو غير المتوقع، وكأنها ترحل بنا في رحلة عبر الزمن إلى اللازمان، واللامكان في ( جبل التيه السحرى ) المغلف بطلاسم وأحجياتومرموزات وخرائط يصعب فك شيفراتها، لتحيلنا إلى ذواتنا المقهورة، أو قل : " هى رواية تستنطق الذات الإنسانية فينا وكوامن الخوف، الهلع، الرهبة، الإنطواء، والبطولة كذلك"، فلبليث رمز الشر مقابل الإبن ( سيد الجبل ) رمز الخير، حيث تحكى الحكاية ( حكاية أمينة ) التى ذهبت لتبرىء ولديها لدى العرافة ، فإذا بليليث ( الجنية التى تستوطن القرية وتجعل السكان ينامون من الساعة الخامسة ) تتلبس الطفلان وتسحرهما، وتجعل من الحية ( رمز الشر ) حارساً للطفل كى يكبر لتتزوجه وتحارب به سكان الأرض – كما اعتقدت – فيما بعد ، لكن يد الأقدار تأتى بأحد الشباب من سكان الأرض وفى يده جهاز محمول ليعيد فك الأحاجى والألغاز لتنتصر ارادة الخير على الشر، ثم تجىء النهاية المفارقة فقد كانت هذه الرواية كلها ( حالة أمينة ) وهذيانها داخل المستشفى، لتعيد انتاجية الرواية ( السينمائية ) والتي تصلح لأن تكون ( أحد أفلام الرعب) أو أحد ( الأفلام النفسية ) التى تستخدم فيها تقنيات الفلاش باك، والإسترجاعالنفسى للشخصية المريضة، الحالمة، والتي جعلت أمينة تلهج بالسرد الدافق الوضىء الجميل

إن / منى العساسى هنا تستخدم تقنيات ( عالمية الرواية ) وتأخذنا من واقعنا الكئيب إلى واقع جديد خيالى حالم ،عبر الميثولوجيا لتعيد نسج أسطورة الإنسان عبر صراعه الأول مع الخير والشر، عبر سيمفونية لغة واصفة، ماتعة، وعبر صور غاية في الروعة فكأنك تعيش الحدث الحقيقى، لا الخيال، وتعيش الحلم بل تتجسد فيه بذاتك وكل جوارحك لتتعاطف مع أمينة تارة الأم ، ومع الحية التى تحرس السيد لجبل التيه والذى سيذهب لخلاص أخيه، ولكنه يتمهل ليتدخل البطل الجديد، عبر العلم ( جهاز المحمول ) ليفك طلاسم المعادلات والأحاجى؛ لتنكشف مسيرة السرد عن ( علمية السرد ) تارة، وفضاءاته التخييلية ( عبر الخيال العلمى) و( قصص الرعب ) تارة أخرى،وتلك لعمرى من الروايات التى تعد حديثاً وتسمى:( البست سيلر ) الأكثر رواجاً ،ومبيعاً – إذا أحسن الترويج لها -، بل يمكن أن تستحوز أرفع الجوائز الأدبية والأوسمة، لإنها تجتذب الشباب والأطفال، بل والكبار أيضاً ، ولقد نجحت الكاتبة الرائعة الكبيرة أ. / منى العساسى إلى أبعد حد في تغييب العقل المتابع لسردها السحرى، او إيقاع القارىء في غواية سردها الماتع، البليغ، المقنع لنقف أمام روائية مائزة، تعرف طرق السرد، وأمكنته، وسهوله، ووهاده : فهى تعرف متى تتوقف، وتغير الموضوع، ومتى تزيد وتسهب في الوصف ، فغدت رواياتها أكثر امتاعاً وإشراقاً ، وجمالية كذلك .

ولعلنا نؤكد أنها روائية تركز على الحدث ؛ لا الشخصيات، ويمكن لنا أن نلحظ توهانالقارىء مع السرد الماتع الجميل، فلا يهمه من قام بهذه البطولة لمجابهة الشيطانة ليليث وثعابينها، ونيرانها، وتحطيمها للشجر والحجر وكل شىء، لكن الأحداث – كما أرى –هى البطل هنا، ولقد نجحت بإمتياز في رسم الحدث وتنامية، ولم تفقد هارمونية السرد في أى وقت ، لذا جاءت روايتها كثيرة العمق، لا ينفك القارىء ليستريح، لكنه لا يفكر مطلقاً في أن يتركها مطلقاً لتنجح / منى العساسى في اجتذابنا لنتحدث عن الإحداث الماتعة التى تسم السرد وتناميه الرائع ؛ العبقرى الفريد .

ولست مع الذين يحاولون الحديث عن الشخصيات ودورها فهنا حكاية انسانية / فلسفية / اجتماعية / خيالية تمزج فيها كل ذلك عبر السرد المدهش؛ لتصنع لنا رواية تصلح لأن تكون فيلماً سينمائياً ، أو مسلسلاً للرعب، لواقع الريفى عبر الأساطير التى تحيط بسكان القرية الطيبين البسطاء .

ولى في النهاية أن أقول : هذه رواية انتقلت فيها الكاتبة من الواقع الإجتماعى إلى الواقع التخييلى ؛ وكأنها تهرب بالقارىء قليلاً ليبتعد عن مشكلا ت الواقع وهمومه ليعيش واقعاً آخر، أو أنها نزهة في عمر القارىء عبر الزمن، أو السفر عبر الزمن، ليجد تخالف التقويم ، وتعدد الأزمنة، ودهشة المكان والسكان ،وحكام " جبل التيه " والذى يشبه جبل الأساطير في التوراة، أو جبال الصحراء ، حيث هناك متسع للحكى والقصص والحكايات .

لكننا إذا علمنا إنها رواية تعود فيها في النهاية بالقارىء إلى الواقع عبر ( أمينة ) المريضة، وأن ما كان من أحداث ووقائع كان محض ملابسات وهلاوس لمريضة فقدت عقلها، أو بالكاد أرهقتها أوجاع الحياة ومشكلاتها فغدت مريضة، وحولها الجميع يطببونها ؛ لأدركنا عمق المغزى الجمالىوالنفسى لرواية الكاتبة المصرية المائزة / منى العساسى ،في هذه الرواية الممتعة، والتي تستحق أن تكون أحد العلامات المميزة لمسيرة السرد المصرى الحديث .

تظل / منى العساسى كاتبة مرهقة، ممتعة، ومرعبة، ومخيفة، تأخذنا إلى عالم الرعب والخوف ، ربما لننتفض من جديد ولنحرر الخوف في واقعنا المزرى، ونرتق بالقيم الإنسانية، ونعبر بالعلم إلى ما نطمح إليه لتغيير العالم، بدلاً من صراع الحضارات، بل السعى إلى حوار الثقافات، وتباين وتجاور بنى البشر ؛ وعيشهم معاً في سلام .

تظل الرواية تحتاج إلى الكثير ، لكننا استخدمنا منهجاً يعيد تفكيك مرموزات السرد ؛ عبر بنائياته المتشابكة، لكنها معمارية شاهقة ومثيرة، وجميلة أيضاً .



د./ أحمد كمال ابراهيم / مصر





1607335962394.png

1607335943551.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى