ربما تكون عادة السرقة « البريئة « إحدى عادات الطفولة المتأخرة الشقية، أو المراهقة الأولى المرحة. ففي السرقة ـ كما نعلم ـ جرأة واندفاع، و»شجاعة» غير محسوبة ولا ملجومة، وعدم خوف مما سيقع غِبّها، وعدم تقدير لما سيترتب عنها كأن تؤول بصاحبها إلى ما لا ينتظر، وما لا يحمد عقباه. ومن تلك السرقات البريئات الموصوفات، سرقة الأرغفة الشهية الساخنة من الأفران التقليدية المحشورة في خواصر الأزقة والأحياء الشعبية المكتظة. وسرقة الفواكه « الفردوسية» التي لم يكن في طوق آبائنا شراؤها لغلائها وعلائها كالموز مثلا ( وكان أعجوبة في تلك الأيام )، والتفاح ذي الوجنتين الحمراوين الضاحكتين الغمازتين أين منهما وَجْنَتا بنت الجيران؟. وفي صنف المشتقات الحليبية، كانت الأجبان الصفراء المُخَرَّمة الثمينة ( أجبان الكفار )، هدفا ودريئة لغاراتنا إذ كانت توضع خلف زجاج واطئ شفاف ــ ما يجعلها طوع اليد ــ بغاية الإغراء والتشهية وإسالة اللعاب: لعابنا في الأقل.
لكن السرقة الباقية الشافية والأهم، هي سرقة المجلات والكتب التي لم يكن لنا من سبيل إلى حيازتها واقتنائها، وكيف؟ والوضع صعب والدرهم الأبيض مرصود أساسا للالتفاف على غائلة الجوع. كُتُبٌ نعرفها حق المعرفة من عناوينها، ومؤلفيها الذين كانوا ملء المشهد والسوق الثقافيين مغربيا بلْهَ عربيا؛ وعلى ألسنتنا وأحاديثنا. نتلمظ ونتحرق شوقا لِلُقْيَاهم أي لقراءتهم ولمس أحاسيسهم وصورهم البديعة المندلقة ضمن وطَيَّ لغة شفيفة رفيعة، تندفق ماء سلسبيلا مطفئا لعطش عواطفنا المتأججة، وحماساتنا المتقدة الفوارة، وزَعِيب نحل مثير لشهواتنا المراهقة، وعسل خيالاتنا المشتعلة.
وغالبا ما قادتنا إغاراتنا ( وكنا فريقا يتحرش بالمكتبات أو بالمفروشات حذو الأرض، بمكر ذئبي غاية في التخطيط، وتوزيع المهام )، قادتنا إلى أقباء الشرطة حيث نتلقى ألوانا من الشتائم والأوصاف القدحية، وأصنافا من أساليب الإذلال والتعنيف، وصولا إلى الضرب المبرح صفعا ولطما، وركلا وعَفْسا وَسَفْعا، ونطحا بالرأس حتى؛ وكان أحد الأشاوس متخصصا وماهرا في النطح ربما لأنه ينحدر سلاليا من فصيلة البقر الوحشي، أو تيوس جبال سيبيريا المجانين.
ومع ذلك، ونحن في الخارج، نستعرض المرآةَ لنتضاحك من كدماتنا، ودوائر أعيننا المُزْرَقَّة، ومحيطها المنتفخ من وجنات وجباه وأحناك، نصمم على الإغارة ثانية وثالثة ورابعة وما لا يعد في الأحد القادم أي في السوق الأسبوعي الموالي.
لذةٌ ما بعدها لذة تلك التي تسري في الجسم جميعه حتى تعروه هزةٌ، وتنتابه نشوة ونحن نقلب صفحات ما غنمناه بعرقنا وجهدنا، وسيقاننا التي أطلقناها للريح: جبران عندي، وعنده جرجي زيدان، وعند الآخر يوسف السباعي، ورابعنا بحوزته طه حسين، وصنوه لديه إحسان عبد القدوس، أو محمد عبد الحليم عبد الله، أو نجيب محفوظ.
وليس يعني هذا أن الإغارة استولت على متاع المكتبة بقضه وقضيضه، وبغثه وثمينه، فأضحت بلقعا مَرْقَعا وخلاء، أبداً. إنَّ ما « غنمناه « بسياسة الذئب، وتَحَصَّلْنا ما تحصلناه، وأحصيت لكم ما أحصيت بمثابة حصاد ما « مَنْجَلْناهُ « طيلة أسابيع وأشهر. وكنا كرماء حتى لا مزيدَ، والشاهد على ذلك أننا نسلف ونهدي ما بأيدينا إلى من لم يكن معنا ، إلى أولئك المرتعدين من سياط آبائهم؛ أترابنا وزملائنا الذين كنا نتوسم فيهم ( لاحظ هذه الأريحية والمروءة التي كنا نتحلى بهما )، الذكاء والفطنة والاجتهاد داخل القسم وفي الصف رغم فقرهم وعريهم، ومسيس حاجتهم إلى الخبز والكتاب والدواء.
لم تعد معنا، لم تعد معي تلك الكتب، ولا كتاب واحد منها، تفرقت أيدي سبأ، وضاعت في زحمة الأيام، وتغير الأحوال، والانتقال من مكان إلى مكان، وتقدم العمر الذي أمالني ونزع بي إلى صراط آخر، ونوعية أخرى من الكتب والأسفار، ومضمار مختلف من الأدب والفكر والثقافة، أقتنيها بما ملك جيبي بل وفوق طاقة جيبي على حساب أسرتي وسكينتي وراحتي ولهوي ولذائذي.
محمد بودويك
بتاريخ : 23/10/2020
لكن السرقة الباقية الشافية والأهم، هي سرقة المجلات والكتب التي لم يكن لنا من سبيل إلى حيازتها واقتنائها، وكيف؟ والوضع صعب والدرهم الأبيض مرصود أساسا للالتفاف على غائلة الجوع. كُتُبٌ نعرفها حق المعرفة من عناوينها، ومؤلفيها الذين كانوا ملء المشهد والسوق الثقافيين مغربيا بلْهَ عربيا؛ وعلى ألسنتنا وأحاديثنا. نتلمظ ونتحرق شوقا لِلُقْيَاهم أي لقراءتهم ولمس أحاسيسهم وصورهم البديعة المندلقة ضمن وطَيَّ لغة شفيفة رفيعة، تندفق ماء سلسبيلا مطفئا لعطش عواطفنا المتأججة، وحماساتنا المتقدة الفوارة، وزَعِيب نحل مثير لشهواتنا المراهقة، وعسل خيالاتنا المشتعلة.
وغالبا ما قادتنا إغاراتنا ( وكنا فريقا يتحرش بالمكتبات أو بالمفروشات حذو الأرض، بمكر ذئبي غاية في التخطيط، وتوزيع المهام )، قادتنا إلى أقباء الشرطة حيث نتلقى ألوانا من الشتائم والأوصاف القدحية، وأصنافا من أساليب الإذلال والتعنيف، وصولا إلى الضرب المبرح صفعا ولطما، وركلا وعَفْسا وَسَفْعا، ونطحا بالرأس حتى؛ وكان أحد الأشاوس متخصصا وماهرا في النطح ربما لأنه ينحدر سلاليا من فصيلة البقر الوحشي، أو تيوس جبال سيبيريا المجانين.
ومع ذلك، ونحن في الخارج، نستعرض المرآةَ لنتضاحك من كدماتنا، ودوائر أعيننا المُزْرَقَّة، ومحيطها المنتفخ من وجنات وجباه وأحناك، نصمم على الإغارة ثانية وثالثة ورابعة وما لا يعد في الأحد القادم أي في السوق الأسبوعي الموالي.
لذةٌ ما بعدها لذة تلك التي تسري في الجسم جميعه حتى تعروه هزةٌ، وتنتابه نشوة ونحن نقلب صفحات ما غنمناه بعرقنا وجهدنا، وسيقاننا التي أطلقناها للريح: جبران عندي، وعنده جرجي زيدان، وعند الآخر يوسف السباعي، ورابعنا بحوزته طه حسين، وصنوه لديه إحسان عبد القدوس، أو محمد عبد الحليم عبد الله، أو نجيب محفوظ.
وليس يعني هذا أن الإغارة استولت على متاع المكتبة بقضه وقضيضه، وبغثه وثمينه، فأضحت بلقعا مَرْقَعا وخلاء، أبداً. إنَّ ما « غنمناه « بسياسة الذئب، وتَحَصَّلْنا ما تحصلناه، وأحصيت لكم ما أحصيت بمثابة حصاد ما « مَنْجَلْناهُ « طيلة أسابيع وأشهر. وكنا كرماء حتى لا مزيدَ، والشاهد على ذلك أننا نسلف ونهدي ما بأيدينا إلى من لم يكن معنا ، إلى أولئك المرتعدين من سياط آبائهم؛ أترابنا وزملائنا الذين كنا نتوسم فيهم ( لاحظ هذه الأريحية والمروءة التي كنا نتحلى بهما )، الذكاء والفطنة والاجتهاد داخل القسم وفي الصف رغم فقرهم وعريهم، ومسيس حاجتهم إلى الخبز والكتاب والدواء.
لم تعد معنا، لم تعد معي تلك الكتب، ولا كتاب واحد منها، تفرقت أيدي سبأ، وضاعت في زحمة الأيام، وتغير الأحوال، والانتقال من مكان إلى مكان، وتقدم العمر الذي أمالني ونزع بي إلى صراط آخر، ونوعية أخرى من الكتب والأسفار، ومضمار مختلف من الأدب والفكر والثقافة، أقتنيها بما ملك جيبي بل وفوق طاقة جيبي على حساب أسرتي وسكينتي وراحتي ولهوي ولذائذي.
محمد بودويك
بتاريخ : 23/10/2020
الــســرقـــة الــبــريــئـــة - AL ITIHAD
ربما تكون عادة السرقة « البريئة « إحدى عادات الطفولة المتأخرة الشقية، أو المراهقة الأولى المرحة. ففي السرقة ـ كما
alittihad.info