وقفت الكاتبة عزة أبو العز في مجموعتها القصصية ”نزف الوردة” الصادرة عن سلسلة كتاب طيوف لعام 2020م على قارعة الزمان لتجمع ـ عبر جغرافية المكان والإنسان معا ـ أزاهير النزف المتنوع والمتباين؛ فأتت بهذه المجموعة التي استعدتْ لها بإحكام وإتقان، وأنضجتها على نار هادئة عبر خطة بحثية أشبه بالأكاديمية، التزمت خلالها بالمناهج التاريخية، والوصفية والتحليلية، فأخرجت للحياة كتابًا مرجعيا يفيد منه قارئ القص، ودارس علمي النفس والاجتماع، بل ومن يدرس الجغرافية البشرية، ومن يهتم بالتغير الاجتماعي ونظرياته، والإنسان وتحولاته، والدارس لعلم الأخلاق، والأكسيولوجي أي مبحث القيم في نسبيته وإطلاقه ثباتًا وتغيرا.
فالرصد من الكاتبة ـ كما جاء في العنوان ـ مقصود؛ فلم تجمع كل نزفٍ صادفته في رحلتها المريرة بعمق مرارة تجارب كل صاحبة نزف، بل جَدْوَلتْ، وصَنَّفتْ واختارت بحنكة وحكمة؛ فلا يجد القارئ نزفًا لوردة يشبه نزف الأخرى، ولا استعارت تشبيها أو عنوانا من قصة لقصصها نفسها في قصة أخرى، كما التزمت النهج العلمي الحيادي في تجنب التدخل المباشر منها أو الغير المباشر، فالراوي يأخذ مهمة سرد الحوادث، ووصف الأماكن، وتقديم الشخصيات، ونقل كلامها، والتعبير عن أفكارها ومشاعرها وأحاسيسها، كما تقول سيزا قاسم في "بناء الرواية"، على أنها حاولت أن تتوسط المسافة بين الراوي العليم أو "كلي العلم" الذي يعلم بكل شيء متعلق بما يرويه، والراوي المحدود العلم أو "جزئي العلم" الذي غالبا ما يكون هو نفسه شخصية من شخصيات الرواية أو القصة.
غير أن الكاتبة هنا قد نجحت في عبور جسر الذاتية المتمثل في مجموعتها السابقة "بوح الروح" لتقدم بوحًا جديدًا لا يعلم القارئ الغريب عنها الفواصل التاريخية بين قصتها وقصص الآخرين؛ فقد صار لون نزفها من لونهن، وأنَّاتها من أناتهن، وصرخاتها الموجوعة المكتومة من صرخاتهن، كما نجحت في عبور جسر نزفها لتقدمه للمكتبة الأدبية الإنسانية في عمومها قصًا إنسانيا عالميا مضمونه الإنسان في كل الكون عبر كل الأزمنة، ونجحت الكاتبة أيضًا في سردها دون أن تتدخل بحذف أو وضع نهاية غير التي انتهت بها كل قصة في الواقع، حتى في تحليلها للعلاقات بين الشخصيات قدمتها بما يخدم النص المحكي دون الميل الوجداني لشخصية دون أخرى، تاركة للقارئ إسقاط الوصف المناسب على كل شخصية؛ فلم تنصِّبْ من نفسها قاضية تصدر الأحكام.
ربما تخيل القارئ أن تحكي هذه المجموعة القصصية للكاتبة عزة أبو العز نزفها الذاتي، وهذا تخيل منه صحيح في توقفه عند إهداء الكاتبة: (إلى مَنْ جعلني أنزفُ بغَزَارَةٍ وبعُمْقٍ وفي صمتٍ، إلى مَنْ ذبحني في الليلة ألف مرةٍ؛ لأفقِد قدرتي على البوحِ والتحليقِ والاتِّـزان، إلى مَنْ أراد موتى بنزفي؛ فبثَّ في جَـنَبَـاتِ روحي القُدرةَ على الشعور والرؤية والتأمل؛ حتى باتت كل آلامِي الجَسِيمَةِ ذرَّاتٍ مُتَنَاهِيَةً فى خِضَـمِّ نزْفِه الغائر)، غير أنه سيغادره هذا التوهم عندما يدخل في المتن الحكائي لقصص المجموعة، كما كان الإهداء منها نيابة منها عن حال النازفات المنتصرات على من تعمدوا طعنهن وقتلهن، فصار الإهداء في ذاته قصة قصيرة جدا عند إتمام قراءته: (أُهديكَ ـ وكُلَّ مَنْ علَى شاكِلَـتِك من أشباهِ الرجال ـ "نزْف الوردة" لعلَّ وعسى أنْ تعترفُوا بِـأنَّ مُهلِكَ الوردة ليس كـراعِيها، فشَـتَّان ما بين القُبحِ والجَمال)، وجمعها الرجل أو شبيهه على أشباه الرجال هو ما يلامس الذاتية ويفارقها في آن، ويؤكد نيابتها عن النازفات.
جاء عنوان المجموعة "نزفُ الوردةِ" يحمل في ثناياه رمزية، ودلالية، وحقيقة ومجازا، وزمانية النزف بين الماضي والحضور في مضارعته الآنية، أو في شموليته واحتضانه لكل الأزمنة التي تتداخل فيها طعنة الأمس التي تترك جرحًا لا ينمحي أثره، أو يندمل في الجسد، أو يبقى في الذاكرة والخاطر والهاجس واليقظة والمنام في الحياة الحاضرة للمطعون ويترك أثره على القادمات من الأيام حتى الممات؛ فالحقيقة والمجاز حاضران بقوة والجمع في جواز إطلاق اللفظ الواحد على مدلوله الحقيقي والمجازي في وقت واحد اختلف فيه علماء الأصول، غير أن النزف هنا معلوم في ذهنية القارئ في حقيقته الصحية من خروج الدم من مكانٍ ما في الجسم، وبين النزف المجازي في خروج الدم من القلب والعمر.
وجاءت الوردة رمزًا للأنثى على اختلاف مراحلها العمرية؛ فالوردة تتميز بالضعف، والنعومة، والذبول السريع، والانسحاق أمام الرياح العاتية، كما أنها من تمنح الحياة الأريج والعبق، والجمال بتنوع الأشكال والألوان، وتدخل البهجة على النفوس، إلا أنها في كل حالاتها لا تصدر صوتا كالمرأة في أغلب قصص الكاتبة القديرة عزة أبو العز التي تنزف في صمت، وترحل في صمت، وتموت في صمت، كما استخدمت الكاتبة نفس اللفظة في بعض النهايات.
لم تجعل الكاتبة "الرجل" دائما في قفص الاتهام باعتباره المتسبب الوحيد في نزف الوردة، بل كانت "الوردة/الأنثى" في بعض الأحيان هي "الشوكة" التي تسببت في نزف "الوردة/ الأنثى" أو ما يعني النزف بنيران صديقة، كما خرج النزف الأنثوي عن سياقه لصالح رجلين كما في قصتي: "شبكة وصنارة" و"حُب البنات" وإن كان في الأخيرة نزف ذكوري يتصل بسبب أنثوي، وهو ما يعني أن الكاتبة لم يكن من ديدنها السردي تعزيز قهر المرأة في المجتمع الذكوري المتسلط، كما أثبتت أن "الأنثى/ الوردة "قد تتحول إلى "الأنثى/ الشوكة" في بعض الأحيان خروجًا على النسق.
استطاعت الكاتبة أن تتعامل مع النزف وتنويعاته عبر تنوع مسبباته، الأمر الذي يسر لها رصد عددا وافرا من التوغل في جغرافية الأحداث وجغرافية تموضع الأنثى في تنويعات بيئية مختلفة بين الريف والمدينة، والوطن والغربة، والانتقال من الريف إلى المدينة ثم الارتداد إلى الريف مرة أخرى للانطلاق في المجهول الغامض القادم وإليه كما في قصة "الاختيار".
لقد ضمت المجموعة قصصا تناولت النزف الأنثوي في: الاغتصاب، والتحرش، وزواج القاصرات، والزواج الثاني، والختان، والزواج الفاشل، والعلاقات غير المشروعة، والنسب، وتَلَبُس الجن بالإنسان، افتقاد الاهتمام والعطف والكفاءة بين الزوجين، عدم الإنجاب، الاغتراب المكاني والنفسي، انفصال الزوجين وأثره على الأنثى خاصة، والوفاء، والتضحية بتنوعاتها وكثير من العلاقات النوعية الفرعية المنبثقة عن الأصل.
تعاملت الكاتبة عزة أبو العز مستفيدة من كونها ناقدة في امتلاك أدوات القص وتقنياته التي نثرتها بذكاء ودون إقحام في نصوصها، كما استخدمت التقديم والتأخير ليس في ترتيب الأحداث فقط بل واقتران تقديم اللفظة بالحدث دون الإشارة إليه ـ أي إلى الحدث ـ مسبقا ثم الإتيان به متأخرًا لتزول الدهشة عن عقل القارئ، وذلك في قصتها "أمل ورجاء": (فأخذت تسرح بين القفزة والأخرى)، وللوهلة الأولى سيظن القارئ أنها إنما قصدت "الفينة والأخرى" غير أنها تذكر بعد عدة أسطر كثيرة: (تقفز من على الكرسي لمدة ساعتيْن كاملتين وعيناها معلقتان على أطفالها).
إن أهم ما سيستفيد به قارئ هذه المجموعة هو الوقوف على كيفية تفكير الأنثى/ الوردة، وكيف تستطيع التخطيط، والتدبير، والدفاع عن حقوقها ومكتسباتها ونفسها، وأن يستمع الرجل باهتمام لنظرات المرأة حين تتحدث، وأن يعي أنها تريده هو في الوقت الذي قد تظهر شعورًا على النقيض من ذلك، وأن الوردة قد تذبل بالإهمال، والقسوة، والجبروت، وأن حنان الرجل واهتمامه هو قطرات الندى التي تعيدها للحياة أو تعيد الحياة إليها.
ونصيحتي للقارئ أن يدخل في عوالم هذه المجموعة بعين يقظة؛ فيقرأ كل قصة بتروٍ ودون انتقال سريع بين السطور، فالقصص محكمة من حيث التماسك النصي في البناء، وبعيدة عن الترهل، ولا يُجدي سردها شفاهة أو مبسترة بل في قراءة سطورها وما بين السطور، والتشبيهات، والإحالات؛ فالكاتبة تنهي أغلب قصصها إن لم يكن كلها بكسر بداهة التوقع عند من يقرأ وتتركه وقد ألجمته المفاجأة بحيث لا يستطيع الانتقال للقصة التالية دون أن يتأمل ويفكر ويسترجع.
حسبي من العرض أن أقدم أهم الملامح الأساسية والخطوط العريضة للقارئ؛ لأنني من المؤمنين بأن ليس من مهمة الناقد أن يكون مفسرا، أو شارحا، أو مُصادِرًا لوجهة نظر القراء أو النقاد خاصةً وأن هذه المجموعة تتميز بكثرة العطاء الوفير في النقد والتنظير.
لا يتبقى لي غير أن أشيد بهذه القفزة الواسعة المحسوبة من الكاتبة الكبيرة والناقدة الخبيرة عزة أبو العز في مشوارها السردي من حيث الجرأة في اقتحام عوالم جديدة، ومضامين اجتماعية وفكرية بنَفَسٍ هادئ ودارس ومتعمق، وجرأة في الألفاظ والتشبيهات، والمزاوجة المحسوبة بين العامية والفصحى في الحوار الذي اقترب كثيرا من نفسية وعقلية القارئ وواقعية الحدث، على أمل اللقاء في مجموعة قصصية جديدة تغوص بنا في أغوار النفس البشرية للرجل والمرأة معا.