يجب الانتباه أولا أن دلالة السؤال الفلسفي موجه لنا ككائنات مفكرة موجودة لأجل ذاتها وللآخر معا، وجود مزدوج في قلب هذا العالم الذي وجدنا أنفسنا مصارعين في معترك الحياة، نعيش مخاض الولاة العسيرة كذوات تحاول البحث عن الوجود الأصيل، ضد أشكال القهر والسقوط في الهاوية والابتذال، ضد المواقف والآراء في النظريات العلمية وفي الحياة اليومية، الراغبة في تنميطنا وفق قوالب جاهزة، عند النظر للإنسان كصورة منفعلة، وذات تتوزعها ميولات محددة ببنيات ثابتة، لا يجرؤ الكائن الإنساني في الانفلات منها . ينبغي التأمل في دلالة السؤال من الناحية الفلسفية للبحث في معنى الوجود والحياة، يعني أن السؤال لا يحمل شحنة دينية صرفة، بقدر ما هو سؤال فلسفي، في طياته يبرز لنا الوجود الأصيل من الوجود المزيف، سؤال يدفعنا للتعمق أكثر في الإنسان والعالم، بما يحمله من خير وشر، ومواقف في الحياة التي تنم عن إمكانية الإنسان في الفعل، وقدرته في التغيير، لا يحمل العالم في صميمه ممكنات السعادة والرخاء، والإنسانية في أوسع معانيها، العالم الذي نرسمه في أدهانها، ونسعى لفهمه ومن ثمة تغييره بالآليات المتاحة، سرعان ما يتوارى ويختفي عنا ، إدراكه بالعقل ليس بالسبيل النهائي، والكشف عنه بالقلب لا يمنحك المعرفة التامة، عالمنا يزداد تعقيدا وتشعبا من جراء الأفكار الجاهزة التي تترسخ فينا، ومن هيمنة الأيديولوجيات، والأفكار النمطية التي تكبل العقول في فهم المعنى والمغزى من وجودنا ، زمانية الكائن الإنساني، وحدود الموجود في الزمان والمكان، يعني تلاشي الإنسان ونهايته ككائن لا يرقى للخلود، ولا يسمو إلا بالتجارب والاحتكاك في عالم تقني ومادي، الفيلسوف الألماني "هايدغر" يعيد السؤال من جديد، ويلوذ للوراء نحو عالم اليونان، في مسعى حثيث للبحث عن قيمة الكائن، وحقيقة الكينونة في واقع التفكير الذي ينفتح فيه الإنسان على الوجود، النماذج الأصيلة من الفلاسفة هيراقليد وبارمينيد، فيلسوف الوجود الثابت، وفيلسوف الوجود الصائر والمتغير . ملهمه في ذلك موقف نيتشه من فلاسفة الوجود الذين كانت نظرتهم ثاقبة للتفكير في الوجود وليس الانهمام بالموجود ، كتب نيتشه كتابه "الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي" في مضمون الكتاب الاعتراف بالحمولة الفكرية العالية للتفكير الفلسفي السابق على أفلاطون ، مهمة شاقة ومفيدة في الكشف عن مزايا هذا النوع من التفكير الذي انطلق من الوجود والأشياء في الطبيعة حتى اكتشاف المبدأ الأصيل في العنصر الطبيعي ، وإدراك الحقيقة بالحدس .
تتفق أغلب الآراء في الفلسفة الوجودية، أن الإنسان قذف إلى العالم، الوجود هنا لا يتماهى واختيار الإنسان لذاته ، لكننا في غمار وجودنا الفعلي ملزمين أن نختار ما يناسبنا من قناعات ومبادئ ، نحن هنا نحقق وجودنا بفعل ما نرسمه لأنفسنا من آفاق مستقبلية، حياتنا وتفكيرنا لا يتوقف على غيرنا إلا من حيث أننا نقيم في عالم واحد، ويسكننا الوجود مع الآخر، لأننا نشترك معه في المعيش والمصير والكرامة ، وجود الإنسان لذاته تمليه الحاجة للحرية والتحرر من الاستلاب، وكل أشكال النبذ والتبعية العمياء، تعالي الإنسان عن الضرورة، وما يقيد أفعالنا، يعني أننا نمتلك ملكات كالتفكير والحرية، لا ينفك الفكر الوجودي يعيد طرح السؤال عن الوجود الإنساني، ويؤسس للنزعة الإنسانية من خلال العلاقة التفاعلية بين الأنا والآخر، نزوع نحو الذاتية، لا تعني الانغلاق والتقوقع على الذات، لكن لأجل البحث في التفرد والتميز، عمق الإشكال يتجلى في التأسيس للكائن، والنظر في الكينونة من خلال السؤال المزدوج، وبناء على مرامي الفكر الغارق في الميتافيزيقا والتقنية، والنزعة الموضوعية في العلم، عودة للوراء والغوص في المشاعر والعواطف، وما ينسينا كالتفكير في الوجود الأصيل بعيدا عن الرتابة والتنميط ، جوهر الوجودية كفكرة مركزية، أن الوجود سابق على الماهية ، الإنسان يوجد أولا ، يخرج للعالم، ويصادف في حياته ألوان من الصعوبات والاكراهات، يبقى لهذا الكائن ما يصنعه عندما يقرر مصيره، ويختار المناسب في حياته، من قناعات ذاتية بعيدا عن سلطة المجتمع ، الإنسان غير قابل للتعريف كما يقول سارتر ، لا يمتلك ماهية ثابتة، يتملك وجوده، ويسعى للتجاوز، وإزالة الغموض عن عالمه الخاص، عندما يعتنق الحرية، ويجعلها أساس الفعل والسلوك، وجودنا مع الآخر يعني أننا نتقاسم هذا العالم حتى لو كان الآخر لا يقاسمنا هذا النوع من الوجود، نختلف في الرؤى والمرامي، وكل ذات حرة ومستقلة تريد أن تكون مطابقة لذاتها ومختلفة عن الآخر ، ومن يدعي غير ذلك يمكنه الدخول في عالم من التصنع أو يصير جبانا، لا يعبر بصدق عن ذاته .
النظر للإنسان كمشروع مستقبلي دليل على صدق النوايا، والمسؤولية الجسيمة الملقاة على عاتق الإنسان في نيل الرضا التام لذاته، وتحقيق الممكن في التجاوز للماضي والارتماء في المستقبل، غالبا ما يتحول هذا السؤال في المعنى الديني إلى الغاية من خلق الإنسان ، أن الله عليم بعباده، خلقهم لأجل الغايات القصوى منها إعمار الأرض، والتعبد والعمل الصالح والشعور بالسعادة، كما ينال البشر كل الأجر والثواب في الآخرة ، ولكل كائن إنساني بداية ونهاية والعاقبة للمتقين ، سؤالنا هنا فلسفي بامتياز في مجال الفكر والفلسفة الوجودية، وفي مجال التفكير الفلسفي الذي يضع هذا النوع من الأسئلة في صيغة المفرد أو في صيغة الجماعة، واقعنا وحدود الفعل الإنساني يترك لدينا انطباعا عن الحياة ومعنى الوجود ، تظهر لنا مجموعة من التقابلات : كالخير والشر، اليأس والأمل، السعادة والشقاء، الحياة والموت، الألم والنشوة ، وتتولد فينا الأسئلة الوجودية من قبيل: لماذا نحن هنا ولسنا هناك؟ لماذا عالمنا يزداد قتامة والوضع الإنساني يشتد صعوبة بالمعاناة والصراعات؟ هل نحن أسياد على أنفسنا أم أننا نتاج للبنيات والحتميات ؟
القلق يعري الذات، ويساعد الإنسان على فهم ذاته والآخر، قلق من المصير والحياة، ويتجلى القلق الوجودي كفكرة عميقة يلمسها المفكر عندما ينفذ لأعماق ذاته، ويتأمل في الطبيعة الإنسانية والحقيقة، الوجود المفعم بالقلق عند هايدغر هو الوجود الأصيل، والحرية التي تجتمع عليها آراء ومواقف الوجوديين، هي جوهر الإنسان وماهيته الحقيقية ، بعيدا عن الثرثرة والفضول والسقوط في الابتذال، والعيش في ذوات الآخرين دون الالتفاف للذات كتجربة حرة ومستقلة، معرفة الإنسان لوجوده أرفع الدرجات من العيش في الرتابة، هذا يمنعنا من السقوط في الهاوية، وفي عصرنا الحالي، هناك زمن يكشف عن الاغتراب والضياع والتيه، الذي نعاني منه، وينغمس فيه الإنسان حتى يصبح نسخة من الجميع ، القلة من الناس من يسعون للقلق، والعيش بعيدا عن الرتابة، أن يشعر الإنسان بالقلق اتجاه مصيره ، هذا الخوف على الوجود من الموت يعيد الإنسان للتفكير في ذاته وفي أحواله ، عندها يؤسس الكائن للمعنى، ويميط اللثام عن حقيقة الوجود في عالم يتميز باغتراب الذات وضياعها من جراء التغير الذي أصاب الحياة، والقلق الذي ينتاب الإنسان معنى ذلك أن الكائن الإنساني محدد بالزمان والمكان ، القلق يكشف ماهية العدم والمصير ، فلسفة هايدغر التفاف على الإنسان من البداية حتى النهاية، قلق الإنسان مرده للهوة العميقة التي ُتشعر الإنسان أنه كائن يسكنه العدم المتأصل في طبيعته، ويحدده الوجود ككائن يحيا في العالم الذي قذف إليه دون أن يختاره، ولذلك من حقه أن يعيش بحرية عندما يختار نمط وجوده، وأمام العبث الذي لا يليق بالوجود الإنساني، عليه العيش في درجة معينة من القلق الوجودي، حتى يقيم في الوجود، ويسعى لامتلاك معنى الحياة من خلال فعله، ولن يكون هذا الفعل سوى مواقفه في الحياة بعيدا عن التنميط .
مجال السؤال يندرج ضمن رؤية الفلاسفة للوجود الإنساني الذي لا يقارن بباقي الموجودات، التي لا تدرك معنى وجودها، ولا تتأمل في الحياة والموت، ولا تعيش تجربة القلق، الكائن الذي يزيل الغموض عن العالم هو الإنسان بتجربته الحية في الوجود والاشتراك مع الآخر، إنه محاط بشتى ضروب التهديد، ونهايته حتمية، وحياته محفوفة بالمخاطر، وعندما يرغب في امتلاك المعنى والفهم الأصيل لوجوده تعترضه مجموعة من الصعوبات والحتميات، ويزداد هذا الكائن حبا في المعرفة لأحواله، وعندما يرغب الفيلسوف في ملامسة هذا الوجود الذي يظهر ويتحجب، يتحول للفن والشعر، والمثال من هايدغر الذي وجد في أشعار "هولدرلين" متنفسا في المعنى والدلالة، عن الكلمات التي تخبئ حقيقة الوجود، وتكشف رغبة الشاعر لإمساكه. فالعودة للشعر مهمة ومفيدة لأجل نقد الميتافيزيقا والفكر المثالي، وترسبات الحقائق التي شيدت عالما متماسكا يحتفي بالموجود دون التفكير في الوجود الأصيل، فقد الإنسان بوصلته في ظل هيمنة العلم والتقنية، مسار الهيمنة للحداثة الغربية، وهيمنة العصر التقني، والخبراء من الذين يرسمون عالم الإنسان اليوم، السقوط في الهاوية والابتذال، فترة كسوف الوجود وراء الموجود، زمن نهاية السؤال والاكتفاء بالجاهز، والتسطيح الممنهج للعقول والنفوس وغياب الحرية . فجاء سؤال لماذا نحن هنا ؟ كسؤال فلسفي وديني يحمل دلالات مختلفة وفق ما يرمي إليه السؤال من مقاصد كبرى، وغايات من وجود الإنسان في الحياة ، طرائق العيش والأهداف النبيلة من الوجود الإنساني، الذي يعتبر في الفلسفة الوجودية أسمى الموجودات ، واقعنا يزيدنا قناعة للبحث في مغزى الحياة، وما ينقص الوجود الإنساني حتى يكتمل، عندما نعيد فحص ذواتنا، ونتملك الآليات الممكنة في التفلسف والفهم لأجل بناء الذات على أسس صلبة، في مجابهة اليأس والسقوط في أحوال الوجود المزيف، وتلك مرامي بعض الفلاسفة الذين تأملوا في الواقعي والتاريخي، وحاولوا بناء الإنسان على الحرية والاختيار . لاشك أن السؤال في وجودنا يعيدنا للنظر في أهدافنا وحاجتنا للفهم، حتى نكتشف ما يريحنا ويسعدنا بعيدا عن الملل وجلد الذات، أو إسقاط عيوبنا على الآخر . سؤال مشروع في أحوالنا، والغايات التي نرسمها لأنفسنا في عالم بدون ذوق، تتقاذفنا أمواج التيارات، وتستقطبنا ثقافة الاستهلاك، ونحتار في المسارات الصائبة والخاطئة، ونعود للوراء نلتمس الجواب من زمن ولى ، وتصيبنا الدهشة من الحاضر، ويبقى المستقبل مبهما، ونشك في اليقين، ولا نثق بالحقائق العابرة والمتدفقة بالصورة، نميل كالقطيع نحو الفكرة والحدث، ونهدأ قليلا حتى ننسى، وتصيبنا سهام "الميديا" في صميمنا، وتخترقنا العبارات الجديدة، وتموت في أعماقنا المبادئ المثالية، وتزرع قيم بديلة، ساهمت في تشكيلها ثقافة الحداثة السائلة حتى أصبحت عقولنا متشابهة بفعل ما نقتات عليه من أفكار موجهة، نرسم عالما من الأحلام والأوهام، إنه بالفعل عالم هش ينذر بنهاية وجودنا .