إبراهيم فرغلى - الكاتب الذى لا شبيه له... صبرى موسى الكاتب المستقبلى.. سابق عصره بامتياز

لا أذكر بالضبط عدد السنوات التى فصلت بين قراءتى للنص الفاتن «السيد من حقل السبانخ»، حينما كنت فى الخامسة عشر من عمرى تقريبا، وبين لقائى مع كاتب هذا العمل فى مكتبه فى روزاليوسف، حين بدأت العمل هناك مطلع التسعينات. ربما نحو عشر سنوات. لكن أبرز ما أذكره فى هذا اللقاء حينما حكى لى صبرى موسى أنه كان يكتب أغلب أعماله مسلسلة فى حلقات تنشر أسبوعيا فى «روزاليوسف» و«صباح الخير»، وأنه كان من الكتاب الذين لا يكتبون إلا تحت الضغط.

كنت أتعمد الصعود للطابق السابع حيث تقع مجلة «صباح الخير»، والذى يعلو الطابقين المخصصين لمجلة «روزاليوسف»، فكل غرفة فى «صباح الخير» كان من الممكن أن يجد المرء بها، أو يفاجئه من أحد ابوابها، إطلالة مباغتة من كاتب أو فنان من أساطير الفن والعمل الصحفى فى مصر، التى ضمّت كتيبة كتّاب وكاتبات وفنانين وفنانات من أبرز صحفيى مصر وفنانيها. وكان لقائى الأول بصبرى موسى، فى الحقيقة، واحدا من هذه اللقاءات المرتجلة.

حين حاورته بعد نحو عدّة سنوات أخرى، وبعد انتقالى للأهرام، فى «صفحة الكتب» قال لى بالحرف عن تلك التجربة: «أنا فى الكتابة لا أشعر أننى كاتب محترف، بل أكتب مثل الهواة، لأن الكاتب المحترف، كما نعرفه، لا بد أن يلتزم بنظام صارم وساعات عمل محددة، وساعات راحة محددة، ونظام معيشى صارم، بينما أنا فى الحقيقة فوضوى بالكامل. وعلى مدى حياتى كلها عجزت عن أقيم هذا النظام. لا أريد أن أقول اننى أعتبر نفسى حالة شاذة، لكننى مثلا كتبت «حالة النصف متر»، «وفساد الأمكنة» و«السيد من حقل السبانخ» حلقة حلقة، فبمجرد من أن أنتهى من كتابة أول حلقتين يبدأ النشر مسلسلا فى «روزاليوسف»، ثم تبدأ المطاردة. كنت أكتب فى حالة توتر مصحوبة بالخوف واليأس والأمل، والإحساس الرهيب بالمسئولية تجاه القراء. وفى بعض الأحيان كان الرسام ينتهى من رسم الحلقة، والخطاط من وضع العناوين، وتبدأ المطبعة فى طباعة أجزاء أخرى من المجلة، بينما أجلس هنا على مكتبى كأنى أجلس على «خازوق»، اشعر كأنى خارج عن وعيي، وفى بعض الأحيان تستعصى الكتابة لدرجة كانت تجعلنى أبكى فعلا. ثم تحدث المعجزة، فأكتب وأنا لا أشعر بما يدور حولى حتى أنتهى فى اللحظة الأخيرة».

والحقيقة أننى ما زلت أذكر حالتى أنا نفسى حينما كان يحكى لى هذه الحكاية لأول مرة فى «روزاليوسف»، فقد كنت أتمثل الموقف، متخيلا نفسى مكانه، ويكاد قلبى أن يتوقف.

فلم أتخيل أبدا، وربما لا يمكن أن يخطر ببالى أساسا، أن هذه الكتب الثلاثة الفاتنة قد كُتبت على هذا النحو، ولولا أننى سمعت منه هذا الكلام بأذنى لما صدقته. لأنى أعتقد أنها تجربة مرعبة حقا فى الكتابة. ولأن هذه النصوص الثلاثة، كما كل أعماله، من النصوص الإبداعية الاستثنائية، والمتقنة فنيا، بشكل لا يمكن لقارئها أن يتخيل إلا أنها كتبت ونضجت على نار هادئة جدا.

فأغلب أعمال صبرى موسى فى تقديري، سواء هذه النصوص أو غيرها من القصص وأدب الرحلة وسواها، من أكثر ألوان الكتابة المعاصرة فى مصر خصوصية، وإحداها تقترح لونا من الخيال العلمي، أو الكتابة المستقبلية، وهى «السيد من حقل السبانخ»، لكنه قدم من خلالها نقدا سياسيا واجتماعيا لاذعا. رواية عن المستقبل كما اقترحها صبرى موسى، متنبأ بالكيفية التى سيصبح الإنسان فيها عبدا للتكنولوجيا وتأثير ذلك على مفاهيمه عن الحرية والفردية. نص مبتكر، شخصيات مرسومة بعناية، خيال استثنائى ولغة جميلة، وأفكار فلسفية ومناقشات. أعتقد أن الكتاب كان مفاجأة وكشفا حين قرأته فى مطلع الثمانينات، بعد صدوره مباشرة. ويظل من الكتب التى لا يمكن أن ينساها المرء بين قطوف ما قرأ. ما زلت حتى الآن أذكر الانطباعات الأولى التى رسمتها فى ذهنى عن بطل العمل السيد هومو وحركته فى المدينة المستقبلية، كما أذكر الفترة والأماكن التى كنت أقرأ فيها هذا النص الجميل حتى اليوم. بل أذكر مرات إعادة قراءتى له أيضا.

«فساد الأمكنة» أيضا من النصوص الاستثنائية فى النص المصرى المعاصر بسبب الأجواء المدهشة التى اقترحها، والتى تدور بين الجبال وفى الصحراء، ويختلط فيها الواقع بما وراء الواقع، وهو من الأعمال القليلة، بل النادرة ربما، التى ينصت فيها الفنان المصرى لصوت الطبيعة، ويجعل منها بطلا من أبطال العمل، وكانت تستوقفنى فيها طريقة وصفه للطبيعة كما يقول مثلا فى أحد مقاطعها: «لو أتيح للملمح أن يكون مرئيا لطائرٍ يحلّق عاليا، محاذرا فى دورانه المغرور أن يصطدم رأسه المريش بقمم الصخور ونتوءاتها، لرأى جبل الدرهيب هلالا عظيم الحجم، لا بد أنه هوى من مكانه بالسماء فى زمن ما، وجثم على الارض منهارا متحجرا، يحتضن بذراعيه الضخمتين الهلاليتين شبه وادٍ غير ذى زرع، أشجاره نتوءات صخرية وتجاويف، أحدثتها الرياح وعوامل التعرية خلال آلاف السنين»، ولا يفوتنى هنا الإشارة إلى الكيفية التى استخدم فيها التقنية السينمائية فى وصف المشهد من مسقط رأسى بعينى الطائر.

وبطبيعة الحال، كانت هذه الرواية الفاتنة موضوعا لسؤالى حينما التقيته، فحكى لى كيف كانت ثمرة تجربة صحفية قام بها فى الستينات بصحبة الرسام مصطفى رمزي، تمثلت فى رحلتين لاكتشاف المناطق المجهولة، غير المأهولة، فى مصر، حيث انطلق فى الرحلة الأولى ليتتبع كل البحيرات الموجودة من منطقة بورسعيد وحتى الواحات الخارجة، أما الرحلة الثانية، والتى استمرت 45 يوما، فقد زار خلالها الصحراء الشرقية، بصحبة الفنان مصطفى رمزى أيضا، فى تقليد جديد كانت «صباح الخير» قد استنتجته بغية تجديد الأفكار الصحفية عبر سلسلة تحقيقات غير تقليدية، تمثلت فى مجموعة رحلات للمناطق النائية والكتابة عنها، على أن يقوم أحد الرسامين برسم تفاصيلها.

أخبرنى الأستاذ الكبير صبرى موسى أن رحلة الصحراء الشرقية كانت أشبه بمغامرة فى تيه الصحراء، تنقل خلالها مع زميله الفنان، بين قبائل البدو الذين استضافوهما هناك، وبين معسكرات التعدين. ولم تكن هناك، فى أغلب الأحيان، أية وسيلة للتنقل فى الصحراء إلا بمساعدة مهربى الجمال. وقد كان أبرز نجاحات تلك السلسلة من التحقيقات إنشاء محافظة البحر الأحمر، وبداية الاهتمام بهذه المنطقة شبه المعزولة عن مصر آنذاك.

لكن ظلّت هذه الرحلة الاستثنائية وتفاصيلها تناوش عقل صبرى موسى لفترة ثلاث سنوات، وكان قد منح النص اسما مؤقتا هو «جبل الدرهيب»، المستوحى من اسم أحد الجبال هناك، لكنه، لم يبدأ فى كتابة النص بشكل مستمر إلا حين وقع على عنوان «فساد الأمكنة».

وما كان لافتا للانتباه فى كل نصوصه، وبينها أعماله القصصية الأخرى التى ضمّها فى عدة كتب، بالإضافة للطابع الحداثى للتناول الفني، وللغة، هى القدرة المدهشة على الاختزال والمشهدية، ربما لافتتانه بفن القصة، إضافة لأنه كان مبهورا بالسينما، وقد كتب سيناريو عدد من الأفلام السينمائية المهمة منها مثلا فيلم البوسطجي.

كنت مبهورا، وما زلت، بخبرته الصحفية والأدبية، وكثيرا ما تمنيت أن يكون أكثر غزارة فى إنتاجه الأدبي، ولكنه، على ما يبدو، من بين الكُتّاب الذين لا يمكن لهم، بسبب المزاجية، الكتابة إلا تحت ضغط الوقت والالتزام بمواعيد تسليم.

حينما أجريت معه حوار «الأهرام»، وأظننى أجريته معه فى منزله فى منطقة الهرم، قريبا من أكاديمية الفنون، على قدر ما تسعفنى ذاكرتى الآن، كان يكتب رواية، بعنوان «ذاكرة الشهوات»، أراد أن يمزج فيها بين تتبع الأصول الأولى للإنسان، وتأمل بعض الأفكار حول الطفولة ومشاعر الأمومة، وعلاقة البنوة والجنس وغير ذلك. وكان قد بدأ فى كتابة هذه الرواية قبل عشر سنوات من لقائى به لإجراء الحوار. وحين سألته متى سينتهى منها؟ ضحك قائلا: «أنا الآن متروك لحريتي، وهو ما يعنى أننى ربما لن أتمكن من الانتهاء منها، لكن ربما لو كلفنى أحد بنشرها على حلقات فلربما انتهيت منها بسرعة».

ولست متأكدا إذا ما كان قد أتمّها أم لا، وإن كان ظنى أنه لم ينجزها.

صبرى موسى كاتب استثنائى فى أجوائه الروائية، ومغامراته الفنية، لم يشبه غيره، ولم يكرر نفسه فى أى عمل من أعماله. وسوف يظل ملهما لأجيال عديدة من الكتاب كما فعل مع جيلنا وغيره.

إبراهيم فرغلي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى