جمال بنورة - القبر.. قصة قصيرة

هو صديق قديم من أيام الدراسة. ذهبت إليه عندما علمت باعتزامه السفر إلى أمريكا مهاجراً، وفي نيّتي أن أثنيه عن عزمه.

وجدته إنسانا آخر.. غير الذي أعرفه. لم يكن أبداً بمثل هذا اليأس والحزن. ذهبت إليه في فندق المهد (الفندق الذي أصبح ملاذاً للهاربين من القصف). يعيش فيه بعد أن هُدم بيته.

استغربت انهزاميته ويأسه، خاصة وأنه والد شهيد ولا أعدو الحقيقة إذا قلت أنني حزنت جداً لنبأ سفره المفاجئ، علاوة على ما أثاره في نفسي من امتعاض وأسف لتصرفه الذي يتسم بالهروب واللامسؤولية، في الوقت الذي يتعرض فيه أبناء شعبنا للقتل والاغتيال وتدمير البيوت، وكان قد اتخذ كل الترتيبات في صمت دون أن يشعر أحداً بما عقد العزم عليه. ولأنني لم أصدق ذلك في البداية -لأن له شيئاً عزيزاً هنا لا يستطيع أن يتركه- فقد فوجئت بحقيقة قراره بالهجرة إلى أمريكا.

قابلني فرحاً بمجيئي.. لأنني تذكرت صديقاً في ظروف صعبة، كما قال لي. وحينما بدأت بمفاتحته فيما جئت فيه.. بدأ الغضب يرتسم على وجهه، وارتفعت نبرة صوته. بادرني قائلاً:

-كيف عرفت؟

-هل كنت تعتقد أن سفرك سيظل سراً، لا يعلم به أحد؟

-نعم.. سوف أسافر.. هذه حقيقة! ما المانع؟

قلت باستهجان:-يمكن أن أصدق لو كان إنسانا آخر.. أما أنت.. ثم تقول.. هذه حقيقة!

-ولماذا لا تصدق؟ ماذا بقي لي هنا.. لأبقى من أجله؟

بعد فترة صمت، وأنا أفكر كيف أستطيع أن أُحرك مشاعره، قلت:-بقي لك كل شيء.. ذكرياتك.. ماضيك.. حياتك التي عشتها على تراب هذا الوطن.. كيف تتخلى عن كل ذلك؟

أجاب بأسى:-ولكنك لم تتحدث عما خسرته: فقدت ابني، وبيتي، وعملي.. ثم تقول: بقي لي كل شيء!!

ولاذ بالصمت لفترة طويلة، استعاد خلالها هدوءه، ثم بدأ يحدثني عن رغبته في السفر منذ استشهاد ابنه.. شعرت أنه يفتح صدره لي، ليخرج كل ما كان يكبته في أعماقه، حيث قال إنه لا يريد أن يفقد ابنا آخر، وإنه كان دائماً يتمنى لو يستطيع أن يسافر إلى بلد بعيد آمن، وقال أيضاً إنه يريد أن يبتعد عن المكان الذي يذكره باستشهاد ابنه، فهو لا يستطيع أن ينسى، ولا يستطيع أن يتعزى عن فقدان ابنه الذي لم يورثه إلا الحسرة التي انغرست في قلبه إلى الأبد. وأضاف منهياً حديثه:

-ماذا يجبرني على البقاء هنا معرضاً حياتنا للخطر في كل ليلة؟

وبدأت أحدثه عن الوطن، وضرورة التمسك به في الوقت الذي يحتاجنا فيه. فقال بامتعاض:

-لا تلق عليّ درساً في الوطنية!.. فأنا في غنى عن ذلك.. عندما يصبح لنا وطن.. سأعود إليه..

قلت بغضب:-ولكنه لن يصبح وطنك بالهروب منه، بل بالنضال من أجل أن يعود إليك، لتشعر فيه بالأمن والاستقرار. انه وطننا ما دمنا ندافع عنه.. ولن يكون كذلك إذا تخلينا عنه.

قال بلهجة تملص:-ولماذا تلومني أنا؟

-مَن علي أن ألوم؟

-هناك عشرات، بل مئات غيري.. اذهب إلى القنصلية الأمريكية في القدس لترى بنفسك. إن حصولك على تأشيرة إلى أمريكا أسهل من وصولك إلى مدينة القدس.

-إفهم إذن لماذا يفعلون ذلك!

-أعرف.. ولكن هناك ما يجبرني على السفر.

-لا يا صديقي.. لا أريدك أن تخطئ.. هذا الوطن الذي ضحينا لأجله يريدنا أن نبقى فيه.. أن نحافظ عليه.. أن نضعه في عيوننا.. هل يهون عليك بكل هذه البساطة؟

-أي وطن تتحدث عنه؟

-لست بحاجة إلى أن أخبرك.. أنت تعلم ما أريد أن أقول.

-بل عليك أن تقول!! أريد أن أسمع ذلك منك!

-إنه الوطن الذي ضحى ابنك من أجله.. الذي قدم حياته لأجل تحريره.. ضحى بأغلى ما عنده.. حتى لو ذهبت لآخر الدنيا.. سيبقى ابنك في وطنه.. لأنك لا تستطيع أن تحمل قبراً معك..

كنا نجلس في صالة الفندق، وفي تلك اللحظة أتت زوجته لتجلس معنا.. وكأنما أرادت أن تعرف ما الذي جاء بي إليهم. قال زوجها بألم:

-أنا والد شهيد.. وهذا شرف كبير لي.. ولكن هذا بالضبط ما أريد أن أنساه.. لأنني لا أستطيع أن أعيش مع الألم الذي يسببه لي هذا الشعور..

قاطعته قائلاً:- هذا ما يجب أن يجعلك تشعر بالفخر..

قال مستدركاً:-أريد أن أسافر.. أريد أن أنسى..

قالت زوجته تخاطبه:-لماذا تعذب نفسك الآن؟ ألم نقرر السفر؟ أليس هذا ما تريده؟ وهذا ما سنفعله.. فلا داعي لأن تعذب نفسك أكثر من ذلك!

نفض يده باتجاهها كأنما يدعوها للسكوت وأردف قائلاً:

-ماذا جنيت أنا؟ وماذا جنى ابني؟.. لا أحد يكترث بنا.. لا أحد يسأل عنا.. ماذا نحن؟ نحن رقم مالي يضاف إلى أرصدة المتاجرين بالقضية..

-أنت مخطئ.. نحن القضية.. لن يتاجر بنا أحد.. ألا ترى الجماهير الثائرة؟ لماذا ترى السلبيات، ولا ترى الإيجابيات؟ ثم هل هناك ثورة ليس فيها سلبيات.. لو رفعت صوتك منادياً بالإصلاح، ستجد الجميع يؤيد مطلبك.. ولكنك لن تجد شخصاً واحداً يؤيد رحيلك عن وطنك..

-مازلت تقول وطنك.. أعطني وطناً لأبقى فيه.. أنا أحس أنني غريب في وطني.. مهاجر.. أنام في أوتيل.. الأوتيل ليس وطناً.. ما الفرق بين أن أكون في الأوتيل في بيت لحم أو في ديترويت؟

تدخلت زوجته مرة أخرى قائلة لي هذه المرة:

-عليك أن تعذره.. أنت لا تعرف كم قاسينا!

قلت:-بل أعرف، وأحس معكم.. من حسن حظكم أنكم تجدون إنسانا يفهمكم.. ولكن هذا الإنسان الذي يشعر معكم ويحس بمعاناتكم لا يقركم على ما تفعلون!

رمق زوجته بنظرة تأنيب على مقاطعتها له، واستأنف قائلاً:-وطن الإنسان بيته.. إحساسه بما يوفره له. من أمن وانتماء.. وأنا لم يعد لي بيت.. ولا شيء يصدّ عني قذائف المدفعية والصواريخ. أصبحت عرضة للموت في كل لحظة.

قلت محتداً:

-الوطن ليس حجارة فقط، أو حفنة تراب. الوطن هو الإنسان. البيت لا يكون وطناً بدون إنسان يسكنه. الوطن أنت وأنا.. ومكان عزيز علينا جميعاً.. انه المكان الذي يرقد فيه ابنك.

-هل أصبح القبر وطناً؟

-هو كذلك فعلاً.. هو دليل على وجودنا في هذه الأرض.. أين يرقد آباؤنا وأجدادنا..؟ أليس في تراب هذا الوطن؟ حتى لو سافرت ستظل قطعة منك مدفونة هنا.. لا تستطيع أن تأخذها معك. فهل ستترك الأرض التي تحتضن جزءاً منك؟

مسح بيده دمعة حاول أن يخفيها عني، وردّ بأسى عميق:

-لم يعد لي.. انه لكم!!

قال ذلك بحزن كبير.. بحزن الإنسان الذي بلغ به اليأس أن يتخلى عن نفسه.

-كيف؟ أليس ابنك؟

-منذ استشهد، لم يعد لي وحدي.. أصبح ابن الجميع. لأنه استشهد من أجل الجميع..

قلت بشيء من الغضب:

-أنت تتنكر لابنك.. ولما ضحى لأجله.

حدجني بنظرة طويلة معاتبة. لم يستطع أن يرد. وقفت غصة في حلقه. وانسابت دموع صامتة على خديه. كان يبذل مجهوداً كبيراً حتى لا ينفجر بالبكاء. شعرت أنني آلمته كثيراً فيما قلت. تداركت قائلاً لأخفف عنه:

-أنا آسف. لم أقصد أن أجرحك.. أنا أقول ذلك من محبتي لك..

-لا بل انك صادق فيما تقول!

-في النهاية.. أعتقد أنك ستفعل ما تعتقد أنه صحيح.. ولن أحقد عليك مهما فعلت.. فأنت أدرى بمصلحتك. وسأظل صديقاً لك، كما كنت..

هزّ رأسه في صمت، وأنا أنهض قلت:

-لم تعد هذه اللحظة مناسبة للوداع.. سأعود في وقت آخر.

***

عُدت-بعد يومين-إلى نفس الفندق. شعرت أن واجب الصداقة يحتم علي أن أودعه، مهما كان بيننا من خلافات، ولكي أزيل ما رسب في نفسه من كلام جارح قلته له في ساعة غضب. ذهبت إليه وأنا أحمل في أعماقي حزناً كبيراً يثقل كاهلي. فلم أجده.

سألت موظف الفندق عنه. قال:

-عاد إلى بيته.

رددت مندهشاً:-عاد إلى بيته؟

ولم أنتظر رداً. أسرعت إلى هناك، وأنا لا أكاد أصدق.. لماذا فعل ذلك؟

وجدت زوجته، وأحد أبنائه يكومان بعض الأثاث في الغرفة الوحيدة التي نجت من القصف، ويعيدان ترتيبها من جديد لتتسع لما تبقى لديهم من أثاث.

-أين ذهب؟ سألت. فردت زوجته أنه ذهب في زيارة قصيرة، وأنه سيعود بعد قليل.

لم أحتج إلى إعمال الفكر طويلاً لأعرف أين أجده.

قلت:-حسناً.. سأرجع فيما بعد.

قبل أن أخرج، نظرت إلى زوجته وقلت:

-أليس في عودتكم الآن خطر على حياتكم؟

قالت في لا مبالاة:- إذا كان لنا أن نموت. لنمت في بيوتنا.. فلسنا أفضل من ابننا.

ثم توجهتُ إلى حيث اعتقدتُ أنني سأجده.

كان يقف فوق ضريح ولده في حالة سهوم وتأمل.

انتظرت بعض الوقت حتى شعرت أنه أحس بوجودي. اقتربت منه ببطء. لمست كتفه برفق من الخلف. بقي على حاله قليلاً.. ثم استدار إلي وعانقني.

رجعنا معاً إلى بيته المتهدم. جلسنا في الغرفة الوحيدة التي بقيت سالمة من البيت.

بعد أن شربنا القهوة. قلت له:

-وهكذا قررت ألا تهرب!؟

-بالعكس.. أنا هربت من الأوتيل إلى بيتي..

وأكمل قائلاً:-حتى أحس أنني في وطني، يجب أن أعود إلى بيتي.. الأوتيل ليس وطناً. الأوتيل تجده في أي مكان في العالم.. انه وطن الذين لا وطن لهم.. ولذلك قررت العودة إلى بيتي، حتى لو كان مهدماً..

ثم تطلع حوله وقال:

-من أين لي النقود، لأعيد بناء بيتي؟.. لقد دفعت فيه شقاء العمر..

ثم استأنف قائلاً:

-جاء موظفو السلطة والبلدية لتقدير الخسائر. وقالوا إنهم سيعوضوننا.. هل تصدق ذلك؟

-أعتقد.. سيدفعون.. إذا توفر لديهم الدعم المالي..

هزّ رأسه عدة مرات، ثم قال:

-كان هناك –دائما- دعم، ولم نكن نرى شيئاً.. نحن نقدم التضحيات والشهداء.. وغيرنا تنتفخ جيوبهم من دماء الشهداء.

تدخلت زوجته قائلة، ودموعها تنساب على خديها:

-كنت أريد وأتمنى أن نسافر.. فلم يبق لنا شيء هنا. ولكن ما كان يعذبني، أنني لم أكن أستطيع الابتعاد عن ابني.. ولقد شعرت بالارتياح عندما تدخلت أنت لتحول بيننا وبين السفر.

ثم أردفت بعد قليل:

-لم يبق لنا شيء سوى قبر نزوره بين حين وآخر..

قلت لها مؤاسياً:

-وهذا أغلى ما بقي لكم..

قال زوجها معذباً:

-لا شيء يعوضني عن ابني.. فهل سيعوضونني عن بيتي؟ ثم قال في توكيد:

-لا أعتقد أن شيئاً ما، أو أحداً ما سيعوضني عما فقدته.

قلت له:-عزاؤك هو إحساسك بأنك فعلت ما كان يجب أن تفعله. أنت لم تُضح من أجل أحد، و إنما من أجل ما تؤمن به.. ويكفيك ذلك عزاءً.

قال بلهجة تسليم:

-أرجو أن أكون قد فعلت الصواب.. حتى لا أندم على ذلك ما حييت.



أعلى