حسن محمد إدريس - عيون ومقهى ضامر

"أن تحب وتخسر أفضل ألف مرة من ألا تحب إطلاقاَ" ( لويس أَرغوان)

تُحمص قلوب الرواد مع حبات البن ، لتنكأ فيّ جرحاً ، وتتعثر الأحرف لتتلاشي مع بخور أنفاسها ، تتهاوي أنجم في فضاءات قلبي ، أعتصر اللذة متجرعاً كؤوس الصبر ، وهي مُتدثرة بثوب الكبرياء ، وشئ قليل من العفة . " تربال"1 يغرق في بركة هواها ، يحترق ، وهو يغرس الأمنيات مع شتلات البصل . يشتمُّها في رائحة البن ، ويراها في خضرة الحقل الممتد أمام ناظريه ، مُتوسدٌاً جمال صوتها ، وهو يحكي لها عن النيل الذي جرف أشجار النخيل التي تشبه رفيف خطواتها ، يُقدم لها قلبه هديةً ، فيما هي تُقلب القلوب في كل لمحة . وفي كل لحظة يضبط أحد المعجبين متلبساً بنظراته الفاضحة .. حتى ذاك الشيخ المتصابي يسترق السمع ، وهو يتجرع حسرته مع الحليب خالي الدسم والسكّر . وكمحاولة منها للهروب من تلك العيون المحدقة بجسدها تضغط أزرار الجوال فإذا به خارج نطاق التغطية ، ترتشف الشاي وأنا أَحاول أن أدنو منها فتبدي النفور دائماً ، غير إن عينيها تضُجان بالتوسُل لي لأغدو أكثر جرأة ؛ مثل ذاك " التربال " المكتوي بنارها .
في الطريق إلى مقهاها هذا الصباح، أختلي بنفسي وطيفها.. أطراف المدينة غاصة بفتيات الشاي ، وهي منتصبة أمامي في الناحية الأخري من الشارع ، تُحدثني عيناها لأتغابي، ولكن يُراودني إحساس بأنّا نتعارف مُنذ أمد بعيد فالغنج في حديثها ، وضحكتها محفوران في مكان ما داكن في ذاكرتي .
سائق سمج يتفوه بعبارات سوقية فترسل ضحكة تهكم مُتهتكة ، يحس بوخزاتها في أحشائه .
أتمتم : (بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت
يا حانة مفروشة بالرمل ) .
تقاطعني
- سجمي دا ما شعر
أتأمل تلكم الحانة الشعبية في مخيلتي.. روادها يفترشون الرمل ويتوسدون حُقَقَ " الصاعوط "2 ، والكؤوس تدار من علي يد (الكنج)3
تقطع علي خيالي فيما وفناجين القهوة تدار بطقوسها المتفردة ، وأنا أتمرغ في وحل أحزاني ، طاحونة تدور رحاها لتشاركني بعضاً من ألآمي ، كل الأعين ممتلئة بالرغبة. والتوجس كأنما يرمي بظلاله علي أهداب البخور العدني ، لتنبجس عيون الحكاوي من ذاك الفتي الأمدرماني ،الجالس قبالتها ؛ هي تدري ما يريد ولكنها تتجاهله ، وتتجاهل أيضاً مساحيق العهر التي تغطي وجوه الحاضرين .
أنسرب في حلم فأراها فرساً ضابحاً ، وأمتطي أنا صهوتها. فيما هي حاضرة كالغائبة. هذا النهار تمر ساعاته متثاقلة ، وأحداثه متلاطمة ، شاحنة تدهس طفلة ، بغي تُحاول الإنتحار ، حريق يلتهم أحدي الحانات ، وأنا أحبو على رمل المسافة بيننا، الذي يُبطن فجيعتي .
.... وأنت تدقين مسامير نعشي على عُتمة شَعرك .
جارتها تُبدي لنا حياءاً مصطنعاً ، وهي تقطع علينا خيوط الحكاوي ، أدير مؤشر قلبي فإذا به مُتوقف عند محطات خوفي منها عليها ؛ أنا الذي اراقب اندلاق الرغبة يظلل اللحي ، لتنطلق فيهم ألحاناً من الحرمان .
- سيدتي لك عطر شديد الغرابة يقع في بقعة ما بين قلبي وخط الإستواء ، فيه شئٌ من رائحة البن وأريج البرتقال ، أيسكُن فيّ أم أنا مسكون بجنونه ؟ .
تحدثني عن كثرة راغبيها ، وذاك الذي يشكو لها ليالي الوحدة والحنين للديار، والنخلا ت التي جرفها النيل ، تضن عليه باللقيا ، ليهيم بشوارع المدينة الحديثة باحثاً عن راحلة تفضي به لتخوم قلبها ، فإذا بها أمامه يصطدم بجذور هواها , وهو يشتل بنات أفكاره في طين أردافها ، فيما هي تشد ستائر الخفر .
إبتسامتها مشهد سافر للدفء ، أطبع قبلة على خدها خلسة، فإذا بها تعلق اللوحة على جدار قلبها : (أو تدري يا صفي القلب !! مايلج توأمك المقهى حتى يعتريني الارتباك) تنبثق في ذهني صاحبة تلكم الحانة الأسمراوية، وهي تقول :
ــــ مشربي ، وكل ما فيه تحت أمرك يا سيدي " سنهيئ لنا كل شيء في غرفتي الخلفية الخاصة ... هو يشبهك حد التطابق : الاسم، القامة الفارعة ، الضحكة ، واليد الممدودة للمصافحة دوماً، حتى تلكم القبلة الضائعة يحمل سمتها . غير إنه ممتنع عن إغواء تلكم النجمة) .
في ذاك الصباح الغائم أنفض عنيّ غبار حبها ، وشوارع البلدة مغتسلة بالمطر، أروي لكم قصة إنزوائي في هذه المدينة التي لست أدري أهي: المعسكر ، أم الوادي ، أم " الورنوب " 4 التي قامت على زراعة الخُضر ، وتهريب سلع استهلاكية وبشر محبطين. نصف هذا الكأس يشطرني لنصفين ، أفتح بريدي الإلكتروني فإذا برسائلي كلها معنونة بإسمها ،أحاول أن أمسك بقصاصة أفكاري ، وأكتب على سحب من الدُخان ، ورُقعة تشبه كفني ، لأسجيها من على حبر كلماتي التي كانت أحياناً تقع على مسامعها كالشرر المتطاير من موقدها .
وهي تزرع المقهي جيئة وذهابا . أسألها
- ماذا لو جمعنا عدد خطواتك على خط مستقيم ! إلى أين ستصل بكِ ؟
- إلى تخوم قلبك القاسي
- ألا تشتمين رائحة الشواء؟
تجيب بإبتسامة .
وحينها أسحب قابس الكهرباء لعل موجات إرسالها تنقطع لأتوسد سراب أحلامي ، فيما هي تمدد غُيوم ذياك السراب و تقول( أنيب دوان هوك)5. ليتردد صدى صوتها بلحن بجاويّ قديم ويعم الوادي ....... (ب ا د و ن ا ... بـــــــــــــادونـــــــا .................. بادونا)6

* حسن محمد إدريس
(قاص من إرتريا)

القصة الحائزة على المركز الثاني في الدورة الرابعة لمسابقة جائزة (محمد سعيد ناود) للقصة القصيرة 2018م


* الرابط/ صحيفة إيلاف الإلكترونية:
https://elaphjournal.com/Web/Culture/2018/09/1221436.html

#مكتبة_أغردات_العامة.




أعلى