- (1).. إدمان الحدود
مضى يوميَ الأوّل في الحجر الصحي بفندق مينا تايكي بالعاصمة عمّان… الملل هو ذاته. لمْ أعتد بعد الخروج من حالة الاغتراب التي تتملّكني ولا أستغربُ أنّي ما زلتُ ميّالاً للانجذاب نحو الحدود، حتى أنّي قررتُ الجلوس هذه الليلة على الحدّ الفاصل لشرفة حجرتي الأنيقة في الطابق الرابع، نصف رأسي للداخل يصفع خدّه الأيسر الهواء الصناعي للمكيف فيما تداعب خدي الأيمن نسمات عمّان الطبيعية. قبل أيام أرسلتْ لي صغيرتي فيديو لعصفورين جميلين محبوسين في قفص أنيق اشترتهما من مدينة السلط، كلما أصابني الملل أشاهد نفسي فيهما.
لا نرى من البشر أحداً إلّا في أوقات الطعام حينما يُطرَقُ باب الحجرة فأفتحه على الفور لعلّي أُشاهد إنسيّاً، بيد أنّي لا أجد إلا طعاماً ساخناً مغلّفاً بإحكامٍ وموضوعاً على الحدّ. أُخْرِجُ نصف رأسي من إطار الباب فألمحُ خيال فضائيٍ يبتعد عنّي بخطوات نشيطة، يوزّع الموائد على الغرف الأخرى، يَطرُقُ أبوابها ثمّ يجري بخفّة وراء عربته الفضّيّة ليذكّرني بالطائرات اللامعة التي كانت تسابق الصوت وهي تشقّ سماء طفولتنا في الأغوار… الصوت فوق رأسي والصورة بعيدة جداً تتجه إلى الغرب، لا أدري! لعلّها كانت تجتاز الحدود…
***
- (2)… خطّة العُبور نحو جناح الرئيس الرَّاحل أبو عمّار
في العاشرة صباحاً قابلتُ فضائِيين على هيئة بشر، كانت خمس دقائق مُشبعات، يا له من زمن باذخ للحديث مع آدميين بعد صمتٍ طويل! طلبوا منّي سحب كرسي من داخل الحجرة والجلوس عليه ثمّ بدأوا مهمّتهم الأولى باختراق أنفي واستجواب أغشيته الداخلية، لقد استباحوا جيوبي (الأنفيّة) لمسافات عميقة أبعد مما كنت أتصوّر، وفي نهاية النفق المستقيم أخذ الفضائي يبرم أداته الطويلة إلى أنْ تأكّد من اعتقال بعض أنسجة أنفي. غادروا بعد أن تركوها نازفة…. محترفون هُم بلا شكّ إذ لمْ يُشعروني بألمٍ بالغ، غير أنّهم أوقدوا في نفسي حماساً شديداً لوجوب مخالطة البشر. أنّى لي ذلك والتعليمات مشدّدة: لا تغادر غرفتك مطلقاً، فما الحل؟!
الالتفاف على العائق مطلوب حينما تواجهك جدران صلبة. سوف تنجحُ كثيراً يا ولدي وستفشلُ كثيراً، بيد أنّ الأمر غير مُكلف على الإطلاق؛ النطق والمنطق لهما سحرهما أيضاً، كل ما عليك فعله أنْ تُحسن الإنصات لشكوى الآخرين، لا تُقاطعهم حينما يفتحون لك أبواب قلوبهم، شاركهم الدفق وعِش لحظاتهم … فرح، غضب، حزن أو عتاب. وهكذا أنْصَتُّ لخواطر أحد موظّفي الأوتيل وهو يبثّ لواعجه فَطَيّبتُ خاطره بمراهم الحروف، كل ذلك على الهاتف. النتيجة كانت بأنْ استفاض الشاب بالحديث وسرّب لي معلومة مفادها أنّ في هذا الفندق جناح خاصّ للزعيم الراحل ياسر عرفات، كان يحبّذ الإقامة فيه حينما يستوجب النضال وجوده بعمّان. ما أجمل أن تشمّ عبير المقاومة حتى ولو كان الأنف راعفاً! بلا شك فالدماء ستبقى الرائحة المثلى للمقاومة.
اتصلت بالسَّيد المُهذّب وزوّدته بخُطّتي المُحكمة للخروج من حجرتي وزيارة جناح السَّيد المقاوم، أشرتُ عليه بتعطيل الكاميرات، ولإخلائه من التبعات اقترحتُ السَّير وحدي إلى مقرّ الختيار الذي أشغل العالم. سأعثر عليه وسيقودني أنفي لأفضل خارطة طريق تُغني عن عبثية الخرائط الخريطية. ما زلتُ أُعوّلُ عليه كثيراً، وما يزال يلقي القبض بسهولة على رائحتين حتى وإنْ بالغتا في التنكّرِ: رائحة البارود، ورائحة سجائر طلابي المراوغين وإنْ لمْ يُشعلوها.
وللحديث بقيّة….
***
- (3)… لقد فشل التكتيك"
نعم، فالتكتيك فَشلَ رغم أنّه كان (مُحكماً وغير مفهوم في آنٍ معاً)، لمْ أستغرب كثيراً فهذا ديدن (التكتيك العربي يا متكتك) كما جاء في أُنشودة الفنان الراحل عبدالله حدّاد أمام الزعيم الراحل أبو عمّار في عدن عام 1983.
في النهاية، أعترفُ لكم بأنّي فشلت في الوصول إلى جناح الرئيس أبو عمّار ولقد توقّفتُ عن الاستمرار في عمليات التكتكة والتسلل نحو جناح الختيار بعد أنْ قبض عليّ السيد (ز، خ) مدير الأوتيل نتيجة بلاغ كيدي من
معاذ البلاونه
المهم أنّ الرجل قد اعتذر منّي بأدبٍ يفوق كل ما تعلّمته في دورات "الإتيكيت والسَّنع" التي اجتزتها بتفوّق، وللأمانة فقد وُعِدتُ باستضافتي في الجناح بعد انتهاء جائحة كورونا.
الدنيا حظوظ، ففيما أنا اليوم محجوراً أحاول جاهداً الوصول لجناح الختيار المناضل لمعاينة أطلال المقاومة ثمّ أفشلُ، كان صديقي الجميل وزميل التلمذة المدرسيّة، العملاق الألماني الأشقر
عبدالكريم سميرات
قد حظي فعلاً بفرصة حقيقية لاحتضان الزعيم المناضل، بل وطواه بلحظةٍ تحت إبطهِ كطيّ الكتب، لحمايته… فكيف حدث ذلك ومتى؟
يقول صديقي الألماني الأردني المُشبع حبّاً وعشقاً بوطننا الجميل أنّه وفي ديسمبر من عام 1993 قرّر أبو عمّار زيارة ألمانيا، وضمن جدول الزيارة كان عليه أن يلتقي في القاعة الرئيسة لمدينة "بون" بالعديد من الشخصيات السياسية الألمانية المحلّيّة إضافة لشخصيات محدّدة من الجالية الفلسطينية والعربية في تلك المدينة. ولأنّ الحاسوب كان حينها مُضغة هجينة، والويندوز لمْ يُصبح نُطفة بَعدُ، فقد استعان بي أحد أصدقائي من الفريق الإعلامي للمنظمة في مدينة بون الذي كان يُقدّر مهاراتي الحاسوبيّة المعتبرة كي أُنَظّم له قائمة على كمبيوتري الشخصي بأسماء المدعوّين للحفل. سأحصل في المقابل على بطاقة دعوة لحضور اللقاء. يا لها من صفقة رابحة!
وقفتُ بطولي الفارع جوار منصّة الرئيس أرتدي بذلة رسمية يستفزّ مقاسها عضلات ذراعيَّ التي كادت تمزّق قماش الصوف الانجليزي وتُطلّ برؤوسها الثلاثة على جمهور عريض كان يملأ القاعة بالكامل فيما كان نسيج صدري النافر يملأ واجهتي تماماً، يتكوّر تارة ثمّ يقسو مع كل شهيق غريب ينتابني بين الفينة والأخرى وأنا أسمو بهيئتي الجديدة؛ حارس شخصي وسط غابة من الحرس. عوامل كثيرة تحالفتْ لخلق مكانتي الجديدة: الحظُّ، نظاراتي السوداء، ملامح وجهي الصارمة، وذاك المزيج الخلاسي البرونزي الأشقر الناتج من صفقة عاطفية شرعيّة ناجحة لوالدي الشرق أوسطي مع والدتي ذات العرق البافاري، وأخيراً لغتي الألمانية الصافية ولهجتي الأردنيّة الصرفة. كل ذلك قد منحني هيبة واحتراماً جعلت الأمر يختلط على الأمن الألماني والأمن الفلسطيني معاً فيتجنّباني، كل فريق منهما يحسبني من حرس الفريق الآخر.
وبعد انتهاء الحفل، وصلنا إلى الفقرة الاعتياديّة للختيار الذي كان يعتزّ كثيراً بالثوب الفلسطيني التقليدي، فانهالتْ زخّات من القُبل على وجنتيه قابلها بالمثل على وجنات كثيرات، كان عليّ أن أتصرّف كحارس شخصي دونما تكليف من أحدٍ حينما أخذ الجمع الغفير يسحب الرئيس من ثيابه وهو يتجه إلى المخرج الجانبي. وضعت يدي فوق كوفيّته الشهيرة وأنا أطول الحاضرين قامَة وحِلتُ بينه وبين الجموع الهائجة، وفي الأثناء تلقّيتُ أمراً صارماً من رئيس مجموعة حرس الحدود باللغة الألمانية بضرورة الإسراع به نحو الطائرة العمودية التي ستقلّه فوراً إلى حفل العشاء في قصر بيترزبيرغ.
لمْ أحلم يوماً أنْ أضمّ عرفات تحت إبطي وأحمي كوفيّته من الوقوع على الأرض…..
وللحديث بقيّة…
***
- (4).. فضاء وفضائيتان ورائدتان في التهريب"
على الصعيد العربي، تغيّرتْ اليوم اتجاهات أنظارنا فوق هذه الأرض، لمْ تعد أبصارنا تنزلق لمواقع أقدامنا، فقد أطلق العرب مسبارهم إلى المرّيخ بحثاً عن المعرفة وعن أصدقائنا الفضائيين، سترحل عيوننا معه إلى الأعلى... فخورٌ بهذا الإنجاز للإمارات كافتخاري في الأردن بالبتراء وفي غرناطة بقصر الحمراء.
أمّا على الصعيد المحلّي، فقد سَوَّلَتْ لي نفسي بإحداث تحويلاتٍ أساسيّة في حُجرة الحَجر الخاصّة بي تتماهى ومواسم التغيير الرائجة.
بدّلتُ الاتجاهات سعياً للنَّيْلِ من الملل، حملتُ كالعادة رأسي واحتضنتُ وسائدي النظيفة وألقيتُ الكلَّ في الجهة المقابلة عند مواضع القدمين في الوقت الذي ارتحلتْ به قدماي نحو مواضع الرأس، يا لها من خطّة عجيبة! ويا له من تبديل مُريب! الوحيدة التي لمْ تستوعب مبررات حركتي التصحيحية هي فرشتي الطبيّة الوثيرة المزدوجة التي ترقد تحتي، لقد ضحكتْ منّي كثيراً، ليس الأمرُ جديداً عليها فمنذ ليلتي الأولى وهي تستفزّني! المهم أنّ ظهري أصبح الآن مواجهاً لباب حجرتي وأنا الذي أفتحه في اليوم والليلة ثلاث مرّات فقط، فما حاجتي به؟ فيما أصبح وجهي يُطلّ على نافذة واسعة مفتوحة على فضاءات الجنوب الغربي ممّا يسمح لي بمراقبة أضواء عمّان والاستمتاع بانعكاس أشعة شمس الصباح عن بناياتها الحديثة. تلك العمائر فوق تلك الذرى مثلي؛ تستحمّ صباحاً بنور الشمس من رأسها إلى أقدامها الراسخة في تراب أخفتْ حُمرة خجلهِ قوالب الإسمنت والإسفلت حتى لمْ يعد شيئاً منه ظاهراً للعيان. ليست النافذة كالباب؛ أستطيع فتحها أنّى شئت ليرحل بصري يجوب الأزقة النظيفة من دون قيود ويمسح بكفّيه على حجارة قصورها اللامعة ثمّ يصعد نحو الأفق الأزرق ليغترف منه حفنة ألماس قبل أن يعود إليّ… العيون مغارف ترحل إلى حيث نريد وتأتينا بكل جديد…
نهار الأمس كان مُثيراً! فعلى غير العادة جاءتنا هذه المرّة فضائيتان اثنتان مليئتان بالطاقة تُعلِّمان المُقيمين على هواتفنا تطبيق "بادر" استعداداً لمرحلة "الأساور الإلكترونية" ضمن خطّة الحجر المنزلي التي تمّ تخفيضها لأسبوع واحد والحمد لله.
"أسماء بنت أبي بكر " كانت مُهرّبة، و"ليلى بنت أبي بكر" أصبحتْ اليوم مُهرّبة أيضاً، في الحالتين كان المُهَرّبُ طعاماً. هرّبتْ أسماء الزّادَ لطريدَين مُهاجرين من وطنهما إلى المدينة فيما هرّبتْ ليلى الزَّاد لعائِدَين من مدينة دبي إلى وطنهما، لم نكن طَريدَين كما رسولنا العظيم وصاحبه الصِّدِّيق بل كُنّا نرفل بالحشمة والعزّ والأمن والنعيم، بَيدَ أنّه موعدٌ قد ضربناه بكل شجاعة لإنهاء مواسم اغترابنا الطويلة. طعام الحبيبَين كان شحيحاً مربوطاً بنطاقٍ، وطعامي وابني كان وفيراً ملفوفاً بأوراق عنبٍ غضّة وضعتْ ليلى جِواره باقة ورد أبيض مثل قلبها ومثل قلب أمّها، أختي الراحلة.
كيف عليك أنْ تُقنع الأرحام بأنّه لا ينقصنا شيء في هذا الفندق الفاخر، وبأنّ الزيارات ممنوعة، وبأنّ تهريب الأطعمة لا يمكن أبداً مع هذا التدقيق الشديد من الجيش، وبأنّ باقات الورد آسرة؟
***
- (5)… لوحات
والله ما اعتدتُ مثل هذا الدلال أبداً حتى بِتُّ أخشاهُ يُفسِدني! مع مطلع كل صباح أُصابُ بنفس لوثة الاندهاش، يستيقظ سمعي أولاً ثمّ يليه بصري الذي ينهض متكاسلاً، أمّا البليد دماغي فآخر المستيقظين على الإطلاق، أعذرهُ وهو المُتخم بتنوّع مثيرات غريبة تعبر إليه بصورة شرعية عبر الحواس وأخرى تهريباً عبر اللا حواس. ولكيلا تقتلني الصدمة فإنّي أمنح عقلي وجسدي فسحة من الوقت قبل أن يعتدلا من سريري الوثير لأعبر بهما بسلاسة نحو هذه البيئة الجديدة. ورغم اجتهادي في ذلك إلّا أنّ عقلي يستمرّ مُشوّشاً!
وكأيّ أَعرَابِيّ يريد الاستيقاظ من نومِهِ، ابتدرتُ جَسَدي فأنشَبتُ فيه أظافري ثمّ أشبَعته هرشاً وَحَكّاً، حتى إذا ما أعياه الاحمرار أَخليْتُ سبيله وانتقلتُ لعيوني أفركها طويلاً كي يراني الكون. تُغافِلُني الدَّهشة صائحة: أين أنا؟ كالتائه لا أجدُ جواباً. أُحاول رفع ستائر جفنيّ قليلاً دون تحريك رأسي عن وسادته الهشّة، فتظهر لي خطوط متماوجة وحلزونات راقصة وألوان قوس قزح لامعة، لقد اعتدتُها منذ صغري ولا أجدُ فيها أيّة إثارة. أمنح جفوني المزيد من الانفتاح فتتسرّب فوراً نحو دماغي الكسول رسائل ضوئية واضحة وغريبة فنصرخ معاً: أين نحن وماذا نرى؟ نهدأ قليلاً ثمّ نتأمّل بِوَجلٍ مشاهدَ غير مفهومة تسكن لوحة كبيرة ذات إطار مُذهّبٍ معلّقة في جدار حجرتي ولا أعرف لها وطناً، هَاؤُمُ اقْرَءُوا تفاصيلها:
في وسط دماغ اللوحة تجلس امرأة إفريقيّة حسناء بِلَونِها الخلاسي الجميل وثوبها الأخضر الطويل المزركش مثل ريش طاؤوس، ثمّة طاؤوسَان يُناجيانها. عصفورتان وجاريتان وحانة مفروشة بالرمل تسقفها يد سمراء ممتدّة جدّاً وفي نهايتها كَفٌّ بِستّة أصابع، هناك كلبٌ أسود استطال ظهره بشكل مُريب، أرى ساعةً بندوليّة ساكنة ونساءً في هيئة ركوعٍ كالسجودِ، وأجيالاً من العبوديّة.
وفي المقابل هاكُم اللوحة الحقيقية:
أتشارك وابني الإقامة المؤقتة في حجرتنا الفسيحة رقم 426 من الطابق الرابع، وفجأة، يتألّم الشاب من عصب "طاحونة العقل" فنتّصلُ على الفور بالطبيب (خ. ع) الذي أَسكَنَتهُ وزارة الصحة في هذا الأوتيل خدمةً للمحجورين. لا أُنكر أنّ اتصالي به كان محض رفاهية فاضحة إذ كيف تُسوّل لي نفسي إشغال وقت الطبيب الثمين بترّهات ضرسٍ مائل؟ لا عليك، فقد قام الرجلُ بالكشف عن بُعد وتمرير ملحوظة جعلناها حرجة لضابط الارتباط الرائد (ج)… يُنسِّقان معاً ثمّ يتصلان بسيارة إسعاف من الدفاع المدني، ليحضر اثنان من النشامى حتى باب حجرتنا، يأخذان الحبيب على دَهشَةٍ منّي وينقلانه إلى مستشفى البشير. يتكرّرُ المشهد طيلة ثلاثة أيام متتاليات، يحضر الإسعاف وتبدأ الرحلة من الفندق في الشميساني إلى مستشفى البشير في جبل الأشرفيّة ثمّ الانتظار طيلة الوقت والعودة ثانية إلى الفندق، ليحظى الشاب بفضل ألم العصب على تجوالٍ مجاني وجولة سياحية خاطفة داخل العاصمة الجميلة عمّان كانت كافية لكسر ملله من الحجر. وهكذا انتهوا من أعمالهم العلاجية المؤقتة داخل فَمِهِ الباسم بكل مهارة وإتقان. وحينما عاد إلى الفندق في نهاية اليوم الثالث قال لي بأنّ طبيب الأسنان قد هَمَسَ في أذنه ناصحاً إيّاه بضرورة إزالة طاحونة العقل زاعماً بأنّها موجودة في المكان والزمان غير الصحيحين. ابتسمتُ له بخُبثٍ قائلاً: لا عليك يا ولدي، ليست الطاحونة وحدها من تتواجد في المكان والزمان غير الصحيحين!
تحية للجيش العربي الذي يُدير الموقف بفاعلية وإتقان، تحية لخلية الأزمة، تحية لسفيرٍ ما زال يطمئن على أحوالنا حتى بعد استقرارنا في هذا الملاذ الآمن، تحية لحكومة متواضعة آثرتْ أنْ تفترش الأرض وتسكن على "الدوّار الرابع" في الوقت الذي نَهَضَتْ فيه بمواطنٍ بسيط فأسكنتهُ "الدَّور الرابع".
هل ما يزال أحدٌ يرى في هذه اللوحة الحقيقية ثمّة سادة وعبيد؟ لا أعرف، غير أنّي أشعر أنّ الليل طويــــــــــــل
***
- (6)… خَمْسَات
شروق الشمس يتبعهُ غروب، آيتان تماماً كالقمّة والقاع في هذه الدنيا التي تتقلّب أحداثها مثل موجة سائرة! حينما تُشرق شمس صباح الغد سيتبقى أمامنا خمسة أيام لهذا الحجر الفريد. غياب شمس الأمس حمل الخوف إلى عُقر مهجعنا الآمن! في تمام الثامنة بدأتْ أصوات سيارات الإسعاف تشق سكون ليل عمّان الهادئ، لمْ أحتجْ لفيزياء "ظاهرة دوبلر" كي أستوعب اتجاهها وهي تتسابق بِنَزَقٍ مع أصواتها المزعجة نحو فندق ما. يا ساتر! في أقلّ من دقيقتين كانت خمس سيارات ساخنة تقف على الباب بحماية سيارات الشرطة. رفع صديقي سمّاعة هاتف غرفته متّصلاً بموظف الاستقبال لسؤاله عمّا يحدث في الأسفل، أجابه الأخير بصوت آلي تدرّب صاحبهُ طويلاً على العبارة نفسها: "هناك خمس حالات ظهر فحصها إيجابي بين نزلاء الطابق الأول للقادمين أمس من الدوحة، ويتمّ التعامل معهم حسب البروتوكول الصحي لترحيلهم فوراً إلى مستشفى الأمير حمزة". ثمّ أغلق الهاتف سريعاً متأهّباً على ما يبدو لأربعمائة اتصال آخر من جميع النزلاء. كان صديقي يرغبُ بمداعبته بسؤال سياسي مُستفزّ لعلّه يكسر شيئاً من حاجز خوف بدأ ينمو في ذاته: كيف تحجرون القادمين من قطر مع القادمين من الإمارات؟
ألقى الهاتف وَجِلاً ثمّ قفز من فوق سريره باحثاً عن مُعقّمٍ يمسح السمّاعة التي جاءه منها الخبر. نبضهُ يتسارع، دماغه تُصدر سلسلة أوامر دفاعيّة رشيدة وأخرى تفتقر إلى الرشد: اطفئْ وحدة التكييف حالاً، طالِبْ بفحص جميع الموظفين في الفندق، لا تسمح بدخول الطعام أو الشراب إلى حجرتك، صُم فأنت في العشرة المُباركة. وتساءل بعدها: هل سيزحف هذا الوباء عبر الممرّات؟ هل سيصعد الدرج أو يركب المصعد نحو الطوابق العليا؟ بعد صراع مع الذات قرّر صديقي إعادة تشغيل المكيّف، وقطع وعداً على نفسه بألّا ينتقد الشيف المسؤول عن جودة الطعام، سيُثني عليه مثلما يفعل مع شيف الحلويات المُبهرة. ثمّ صاح: يا إلهي! أُريد أن أخرج من هنا سالماً، فهذا الشيء يبدو حقيقياً!
هذا الصباح حمل خبراً مؤلماً؛ خمس وفيّات من عائلتين فقدناهم في حادث سير مأساوي على الطريق الصحراوي، العائلتان من محافظة الطفيلة. يُقال بأنّ إحدى العائلتين كانت قادمة إلى عمّان لزيارة قريب لها يُقيم في أحد فنادق الحجر الصحي. يبدو أنّ آخرين مثل عائلتي ما زالوا غير مقتنعين بأنّ زيارة الأرحام في فنادق الحجر الصحي ممنوعة!
هذا الغروب أوصل لي طُرفة تُكمل بهاء موجة الحياة: دَخَل "ختيار" لأحد مراكز الاقتراع وسأل الموظّف: ابني بالله عليك تشوف لي اسم مرتي انتخبت ولّا بَعدا؟ استعراض الموظف السجلات أمامه ثمّ رفع رأسه وقال للختيار مبتسماً: إي والله يا حجّي انتخبتْ. شو حجّي كأنو متزاعلين انته والحجّة وما ساكنين سوا؟ ردّ الختيار: لا والله يا ابني، الحجّة متوفية من 16 سنة، وكل 4 سنين بتجي بتنتخب وبتروح وما بِلْحَقْ شُوفها…
تختبئ النكتة بعض الأحيان بأردية الواقع، ففي محافظة درعا، جارتنا الشمالية، ينهض القتلى من رفاتهم أحياء يُرزقون لِيُمارسوا حقّهم في انتخابات مجلس الشعب، جاء ذلك في رسالة شكوى مرفوعة للرئيس بشار الأسد من مرشحين مستقلّين يوم أمس بعد أنْ خاضوا التجربة وفشلوا في النجاح بانتخابات قاطعتها المعارضة.
تبّاً للرَّاسبين في كل مكان وَهُمْ يستمرّون باختلاق حجج غريبة لتبرير فشلهم! وتبّاً مثلها للنّاجحين…
***
- (7)… الكَلْبَنَة
في عمّان الجميلة تنمو للمحجور عيونٌ كثيرة فَيَصعُبُ أنْ يَغُضّ البصر! ما أنْ يأتي المساء حتى أبدأ بالتجهّز لمشاركة العمّانيين طقوس أمسياتهم. أرتدي ملابسَ جديدة، أُسَرِّحُ شعري، أتعطّر ثمّ أجلس على كرسي مُريح في الموقع ذاته المتعامد معها. لغرفتي نافذة واسعة بسحّابين زجاجيين ناعمين يُزيّن خُمسها الأسفل زِنّارين متوازيين من ألمنيوم عسلي يُفسحان فوقهما حيزاً واسعاً ليرفرف من خلاله بصري المُكتحل بلا حرج نحو كل الفضاءات. البصرُ سريع كالضوء، غير أنّه في بعض الأحيان يغدو بطيئاً ليباري تسكّع فتاة عمّانيّة تُريِّض كلبها المُبتسم على أرصفة مبلّطة بمربّعات شطرنجيّة صفراء وحمراء محاذية لشوارع لا تشكو من الحُفَر.
كم كنت في السابق أستهجن ثقافة الكلاب، وصُحبة الكلاب، ورفاهيتها المستفزّة، وأنبذُ عالم الكلاب على فصائِلِها الحقيقية والمجازيّة! فهل كان هذا الرأس مخطئاً وجاهلاً؟!… في موروثنا الشعبي يقولون أنّ "كلب الشيخ شيخٌ"، ولفظة الشيخ هنا لا يعني اقتصار "الكَلْبَنَة" على المذكّر فقط، بل ولمزيد من العدالة وتحسّباً لانزعاج فريق "سيداو" سأُذكّرُ القارئَ بعنوان قصيدة " كلب السِّت" التي قيلتْ مدحاً تهكّميّاً في "فوكس" كلب السيدة أم كلثوم، ونَظَمَها الراحل أحمد فؤاد نجم. أحمد الذي سطع نجمه في سماء عمّان العروبة ذات ليلة وَدَاعِيّة من عام 2013 بعدما أحيا فيها آخر أمسياته الشعرية برفقة فرقة الحنونة في ذكرى التضامن مع الشعب الفلسطيني، سافر بعدها إلى أُمِّهِ مصر ثمّ رحل منها عن الدنيا. ياااه! كم نحن بحاجة لاستيعاب ثقافات الآخرين، واحترام رفاهيتهم، وإنصاف كلاب عمّان!
من قصص الكلاب ما يرويه لي ولدي الذي سافر إلى أميركا في العام الماضي وكان قد رتّب مكاناً لإقامته التي ستستمرّ أربعة أسابيع عند أسرة تتكوّن من رجل عجوز وختيارته. يقول: وصلتُ إلى الموقع مع تباشير فجر الأحد، دخلتُ المنزل ورتّبتُ أغراضي واسترخيتُ على سريري الوثير. لقد كان كل شيء حَسَناً، غير أنّي لمْ أكن أدرك اختلاف مفهوم الأسبوع عند سيدة المنزل عمّا اعتدتُ عليه طيلة حياتي، وأنّه يبدأ في أميركا من صباح الاثنين، وبما أنّي قد أشغلتُ السكن من صباح الأحد ليومٍ واحد من أيام الأسبوع المنصرم فقد ترتّب عليّ أجرة أسبوع إضافي خامس، هذا ما قالته سيدة المنزل، والأسبوع بمئة وخمسين دولار مما يعني اختلال ميزانية طالب عصامي بمقدار هذا المبلغ منذ الليلة الأولى من ليالي الاغتراب، يا ذا الفأْل الطيّب! تحمّلتُ الخبر المُزعج على مضضٍ وأدركتُ بأنّ الحياة تجارب. الحاصل أنّي حينما عدتُ للمنزل مساء يوم الاثنين، بدأتُ بالتعرّف على أصحابِهِ؛ الزوج رجل عجوز من قدامى المحاربين في فيتنام لا يمكن أن يستغني عن سلاحه الشخصي خاصّة مع وجود شخص بملامح شرق أوسطيّة في عُقر داره. والزوجة "ختيارة" دافئة. أمّا الأكثر دفئاً منها فقد كان كلب السيدة العجوز الذي أخذ يلتفّ حول ساقَيّ المتشنّجتين بسرورٍ ما زلت أجهل سببه. ابتسمت السيدة العجوز بعد أنْ رأتْ السعادة تطفح على ذنب الكلب ووجه، وعرضتْ عليّ أن آخذه بجولة "قسدرة" خارجية لربع ساعة ثمّ ناولتني "الرسن" في الوقت الذي انطلق به الكلب الضخم نحو الباب يسحبني خلفه إلى الخارج وأنا أتمتم: أخيراً وجدتُ من يُعرّفني على الحيّ حتى ولو كان الكلبُ دليلي.
عدتُ والكلب من جولتنا الرياضية ودخلنا البيت. كانت عيوني مُعلّقة على ملامح الختيارة التي سرعان ما رأيت ابتسامتها العريضة فتنهّدتُ بزفير مريح، وفي نفحة كرم مفاجئة منها وفيما كنت أستعدّ للدخول إلى غرفتي أصدرت العجوز قرارها الفوري التالي: تهانينا، لقد أسقطتُ عنك أجرة الأسبوع الإضافي.
دخلتُ غرفتي مسروراً وأنا أحاول مطابقة الواقع مع مقولةٍ لو عرفها زعيم الفلسفة البراغماتيّة المستر "جون ديوي" لاتَّخَذَها شعاراً لفلسفته الرائجة: "بُوس الكلب على ثُمُّهْ لَحَد ما تاخِذ حاجتك مِنّه"
• الكَلْبَنَة: مصطلحُ حالةٍ، يصف الاستقواء بأشكاله المختلفة على سلطة القانون.
• المَكْلَبَة: مصطلح مكانِيٌّ مسؤول عن تصدير الحالة الأولى.
***
- (8)… تَلْبِيسَة"
في هذا اليوم الممطوط ثمّة صُور مقلوبة. اللافت أنّ كل صورة مقلوبة في مرايا هذه الحياة، هي صورة حقيقية!
لا بأس، لقد أنهى فضائيٌ شَرِس قبل قليل التقاط المسحة الأنفية الثانية، كانت يده ثقيلة. جاءت بَعدَهُ ممرّضة مؤدّبة فَطَرَقتْ باب حجرتي، وبصوتها الهادئ شرحتْ لي إجراءات المرحلة المُقبلة المسمّاة " الحجر المنزلي" وأعطتني ورقة ذات بنود كثيرة. وكالعادة، قمتُ بالتوقيع عليها دون أن أقرأ كلمة. لقد ألبستني إِسوِرَة بيضاء. ألمْ أقل من البداية أنّ الصورة مقلوبة؟!
على كل حال، يا بخت من يحظى على وجه العيد بتلبيسةٍ!
هذا العيد كبير، كبير بتكبيراته، كبير بتلبيساته، وكبير بكسواته أيضاً. وعلى طاري الأخيرة فقد طاف بخاطري ثلاثة أشكال متزامنة للكسوات:
كِسوة العيد التي تُشغل بال أرباب بعض الأسر هذه الأيام، كيف يلملمونها لفرحة أطفالهم.
كِسوة الكعبة التي تستعدّ لارتدائها في موسم حجٍّ، لمْ يأت الناس إليه هذا العام من كل فجٍّ.
وكسوةٌ يُحيكها خيّاطو الحكومة من الكُتّاب المتخصصين بالأعمدة والسقفيات والأرضيات، وهم يحاولون منذ مساء الأمس رَتق ثوب القرارات، وتزيينها للناس والعيد بعناوين قويّة من مثل: لا سلطة فوق الدولة، الوطن فوق الكل ….…..
الثابتُ عندي أنّ هذا الوطن للجميع، ولن يعجز عن استيعاب كل أبنائه والتَّفاهم معهم على كيفية حبّه مهما اختلفتْ وجهات نظرهم.
***
- (9)… أشياءٌ حِشْمَة
في مِحجَرِكَ، تجلسُ مُعتقداً بأن لا حول لك ولا قوة داخل هذا القفص الفضّي. ثمّ يحدث أنْ تحتاج إلى وثيقة عدم محكومية لاستكمال أوراق معاملة حكوميّة. تدخل عبر حزمة الانترنت التي قدّمها الجيش العربي هدية لجميع القادمين إلى أرض الوطن سابحاً بسرعة الضوء عبر أليافها البصرية ووجهتك وزارة العدل، وهناك تُقدّم معاملتك وأنت تُناظر الساعة باستحياء، إنّها الحادية عشر ليلاً. تدفع الرسوم البسيطة (ستة دنانير إلكترونية عبر تطبيق (إي-فواتيركم)) ثمّ تستلم وثيقتك الساخنة بعد خمس دقائق في الوقت الذي لمْ تغادر فيه سريرك الوثير في الأوتيل. يااااه! لا أصدّق كل هذا الهراء الذي ألمسهُ على أرض الواقع. اتصلتُ بأبي طارق طالباً هاتف رئيس كُتّاب محكمة الصلح الوارد اسمه أسفل الوثيقة. بعد دقيقتين كان رقمه ينبض على الشاشة في الوقت الذي كان فيه دماغي يستعيد رسم ملامح ابتسامة الشاب الخلوق "محمد حسن هلال" فهل سيجيب على هاتفٍ لا يعرف صاحبه في هذه الساعة المتأخّرة من الليل؟. الرهان على الأصيل دائماً يكون ناجحاً. بكل احترام وتهذيب يُبشرني الرئيس بأنّ الشهادة جاهزة ولا تحتاج لأختام أخرى. ما أجمل أن يتذكّرك طلابك بالخير! هكذا ينظر المهذّبون لمعلّميهم!
قصصتُ هذه الواقعة على صديقي الألماني الأشقر القابع في ليفركوزن أثناء وجبة تواصلنا اليومي فأكبر هذا الشيء، إنّه رجل وطنيّ خالص، أحبّ أن يتأكّد بنفسه، وبالفعل أرسل لي صورة من شهادته الساخنة بعد نجاحه في الحصول عليها.
كم وجهاً سمحاً وآخر عابساً لموظّف يُدخّن ببلادة في مكتبه تحت لافتة "ممنوع التدخين" قد تجاوزناه خلال رحلة هذا الربط الإلكتروني المتطوّر؟ وكم سائقاً متهوّراً ارتحتَ من شتائمه ومغامراته المُفزعة على الطرقات؟ وكم حفرة ومطبّاً أعفاكَ هذا التطبيق الالكتروني العجيب من الوقوع فيه؟ والأثمن من هذا وذاك، كم متراً مكعّباً من الكرامة احتفظت بها في داخل كيانك الحسّاس ولمْ تسكبها على أبواب الدوائر الصعبة؟
يحاول المرء منّا محو بعض ذكرياته الصعبة، غير أنّها تتأبّى. كان لزاماً عليّ قبل عشرين عاماً استكمال ملفّ أوراق تعاقدي مع دولة الإمارات العربية المتحدة، ثمّة ورقة وحيدة عنيدة استعصتْ الهبوط بين دفّتي ذاك الملف. كان اسمها في ذلك الحين غريباً، وكانت دروبها أغرب وأصعب بكثير. تحيّة لمن بدّلوا أسماء الوثائق وسهّلوا طرائق الحصول عليها.
وفي باب فقه تبديل الأسماء، وَرَدَ في كتاب الجامع لابن وهب هذا النَّصُ. أخبرني ابنُ لَهِيعةَ، قال: لمّا وفد "بنو الشيطان" بن الحارث بن معاوية على رسول الله عليه السلام سألهم: من أنتم؟ فقالوا: "بنو الشيطان". قال: بل أنتم بنو عبد الله.
الحمد لله على التحوّل من الشيطنة.
***
- (10) .. حكومة فيشي"
هذا هو اليوم الأخير لي في الحجرة رقم 426 بفندق مينا تايكي في منطقة الشميساني بالعاصمة الأردنية عمّان. اعتباراً من صباح الغد سيتم البدء بإجلائنا من الأوتيل نحو منازلنا بأسطول سيارات "أوبر" تحت إدارة وتنسيق خلية الأزمة وعلى معصم كل واحدٍ منّا ساعة إلكترونيّة مربوطة مع خليّة نَشِطة وفعّالة نَذَرَتْ نفسها لاستقصاء حركاتنا داخل دائرة قطرها 50 متراً. وأنا لا أُحبّ الدائرة!
طافت أيّام الحجر سريعة بفضل إطلالة شُرفَتَين خَلَّابَتَين؛ شُرفة حجرتي التي يعبر إليها النسيم والجمال والضوء والضوضاء في أجمل عواصم العالم، وشرفتي المُطلّة عبر هذه اليوميات على أصدقاء الحرف والقلم.
في سرد اليوم لا أعرف كيف وقف التاريخ في ذهني بهيئة المُعترِض دافعاً للأعلى بكفّيه "الرويمتين" زاوِيَتَي نافذتي الوحيدة وخانقاً بقدميه الثقيلتين في الأسفل زاويتيها المتبقّيتين راسماً علامة "إكس" مُتَمَنّعاً ويرفض أن يزول. لقد ألقى ظلاله البشعة على هذا النّص التاريخي "المُؤَكَّس".
سأكتب عن تاريخ "التشكيلات" التي يزرعها الطرف المنتصر. والعبرة أنّها لا تدوم. حينما اقتحم الألمان فرنسا أثناء الحرب العالمية الثانية قاموا باقتلاع حكومتها الوطنية المُنتخبة بزعامة "بول رينو" واستزرعوا بدلاً منها حكومة فرنسية عميلة موالية لألمانيا النازيّة برئاسة "بيير لافال" . سارع الأخير بكلّ هِمّة لنزع سلاح القوات الفرنسية وَحَرَّمَ المقاومة. أُطلِقَ على تلك الحكومة العميلة تاريخياً اسم "حكومة فيشي" نسبة لمنتجع في جنوب البلاد، وأصبح اسم "فيشي" منذ ذاك الحين رمزاً للعمالة وعنواناً للخيانة. استمرّتْ حكومة فيشي 4 سنين. في مثل هذه الأيام نفّذتْ القوات المتحالفة هجوماً على الألمان عبر شواطئ النورماندي ولم تتوقّف إلّا بعد أنْ أوصلت "ديغول" إلى قلب باريس، وقُبِضَ تالياً على الخائن الهارب "لافال" ثمّ حُوكِمَ بتهمة الخيانة العظمى ونُفِّذَ فيه الحكم رمياً بالرصاص.
***
مضى يوميَ الأوّل في الحجر الصحي بفندق مينا تايكي بالعاصمة عمّان… الملل هو ذاته. لمْ أعتد بعد الخروج من حالة الاغتراب التي تتملّكني ولا أستغربُ أنّي ما زلتُ ميّالاً للانجذاب نحو الحدود، حتى أنّي قررتُ الجلوس هذه الليلة على الحدّ الفاصل لشرفة حجرتي الأنيقة في الطابق الرابع، نصف رأسي للداخل يصفع خدّه الأيسر الهواء الصناعي للمكيف فيما تداعب خدي الأيمن نسمات عمّان الطبيعية. قبل أيام أرسلتْ لي صغيرتي فيديو لعصفورين جميلين محبوسين في قفص أنيق اشترتهما من مدينة السلط، كلما أصابني الملل أشاهد نفسي فيهما.
لا نرى من البشر أحداً إلّا في أوقات الطعام حينما يُطرَقُ باب الحجرة فأفتحه على الفور لعلّي أُشاهد إنسيّاً، بيد أنّي لا أجد إلا طعاماً ساخناً مغلّفاً بإحكامٍ وموضوعاً على الحدّ. أُخْرِجُ نصف رأسي من إطار الباب فألمحُ خيال فضائيٍ يبتعد عنّي بخطوات نشيطة، يوزّع الموائد على الغرف الأخرى، يَطرُقُ أبوابها ثمّ يجري بخفّة وراء عربته الفضّيّة ليذكّرني بالطائرات اللامعة التي كانت تسابق الصوت وهي تشقّ سماء طفولتنا في الأغوار… الصوت فوق رأسي والصورة بعيدة جداً تتجه إلى الغرب، لا أدري! لعلّها كانت تجتاز الحدود…
***
- (2)… خطّة العُبور نحو جناح الرئيس الرَّاحل أبو عمّار
في العاشرة صباحاً قابلتُ فضائِيين على هيئة بشر، كانت خمس دقائق مُشبعات، يا له من زمن باذخ للحديث مع آدميين بعد صمتٍ طويل! طلبوا منّي سحب كرسي من داخل الحجرة والجلوس عليه ثمّ بدأوا مهمّتهم الأولى باختراق أنفي واستجواب أغشيته الداخلية، لقد استباحوا جيوبي (الأنفيّة) لمسافات عميقة أبعد مما كنت أتصوّر، وفي نهاية النفق المستقيم أخذ الفضائي يبرم أداته الطويلة إلى أنْ تأكّد من اعتقال بعض أنسجة أنفي. غادروا بعد أن تركوها نازفة…. محترفون هُم بلا شكّ إذ لمْ يُشعروني بألمٍ بالغ، غير أنّهم أوقدوا في نفسي حماساً شديداً لوجوب مخالطة البشر. أنّى لي ذلك والتعليمات مشدّدة: لا تغادر غرفتك مطلقاً، فما الحل؟!
الالتفاف على العائق مطلوب حينما تواجهك جدران صلبة. سوف تنجحُ كثيراً يا ولدي وستفشلُ كثيراً، بيد أنّ الأمر غير مُكلف على الإطلاق؛ النطق والمنطق لهما سحرهما أيضاً، كل ما عليك فعله أنْ تُحسن الإنصات لشكوى الآخرين، لا تُقاطعهم حينما يفتحون لك أبواب قلوبهم، شاركهم الدفق وعِش لحظاتهم … فرح، غضب، حزن أو عتاب. وهكذا أنْصَتُّ لخواطر أحد موظّفي الأوتيل وهو يبثّ لواعجه فَطَيّبتُ خاطره بمراهم الحروف، كل ذلك على الهاتف. النتيجة كانت بأنْ استفاض الشاب بالحديث وسرّب لي معلومة مفادها أنّ في هذا الفندق جناح خاصّ للزعيم الراحل ياسر عرفات، كان يحبّذ الإقامة فيه حينما يستوجب النضال وجوده بعمّان. ما أجمل أن تشمّ عبير المقاومة حتى ولو كان الأنف راعفاً! بلا شك فالدماء ستبقى الرائحة المثلى للمقاومة.
اتصلت بالسَّيد المُهذّب وزوّدته بخُطّتي المُحكمة للخروج من حجرتي وزيارة جناح السَّيد المقاوم، أشرتُ عليه بتعطيل الكاميرات، ولإخلائه من التبعات اقترحتُ السَّير وحدي إلى مقرّ الختيار الذي أشغل العالم. سأعثر عليه وسيقودني أنفي لأفضل خارطة طريق تُغني عن عبثية الخرائط الخريطية. ما زلتُ أُعوّلُ عليه كثيراً، وما يزال يلقي القبض بسهولة على رائحتين حتى وإنْ بالغتا في التنكّرِ: رائحة البارود، ورائحة سجائر طلابي المراوغين وإنْ لمْ يُشعلوها.
وللحديث بقيّة….
***
- (3)… لقد فشل التكتيك"
نعم، فالتكتيك فَشلَ رغم أنّه كان (مُحكماً وغير مفهوم في آنٍ معاً)، لمْ أستغرب كثيراً فهذا ديدن (التكتيك العربي يا متكتك) كما جاء في أُنشودة الفنان الراحل عبدالله حدّاد أمام الزعيم الراحل أبو عمّار في عدن عام 1983.
في النهاية، أعترفُ لكم بأنّي فشلت في الوصول إلى جناح الرئيس أبو عمّار ولقد توقّفتُ عن الاستمرار في عمليات التكتكة والتسلل نحو جناح الختيار بعد أنْ قبض عليّ السيد (ز، خ) مدير الأوتيل نتيجة بلاغ كيدي من
معاذ البلاونه
الدنيا حظوظ، ففيما أنا اليوم محجوراً أحاول جاهداً الوصول لجناح الختيار المناضل لمعاينة أطلال المقاومة ثمّ أفشلُ، كان صديقي الجميل وزميل التلمذة المدرسيّة، العملاق الألماني الأشقر
عبدالكريم سميرات
قد حظي فعلاً بفرصة حقيقية لاحتضان الزعيم المناضل، بل وطواه بلحظةٍ تحت إبطهِ كطيّ الكتب، لحمايته… فكيف حدث ذلك ومتى؟
يقول صديقي الألماني الأردني المُشبع حبّاً وعشقاً بوطننا الجميل أنّه وفي ديسمبر من عام 1993 قرّر أبو عمّار زيارة ألمانيا، وضمن جدول الزيارة كان عليه أن يلتقي في القاعة الرئيسة لمدينة "بون" بالعديد من الشخصيات السياسية الألمانية المحلّيّة إضافة لشخصيات محدّدة من الجالية الفلسطينية والعربية في تلك المدينة. ولأنّ الحاسوب كان حينها مُضغة هجينة، والويندوز لمْ يُصبح نُطفة بَعدُ، فقد استعان بي أحد أصدقائي من الفريق الإعلامي للمنظمة في مدينة بون الذي كان يُقدّر مهاراتي الحاسوبيّة المعتبرة كي أُنَظّم له قائمة على كمبيوتري الشخصي بأسماء المدعوّين للحفل. سأحصل في المقابل على بطاقة دعوة لحضور اللقاء. يا لها من صفقة رابحة!
وقفتُ بطولي الفارع جوار منصّة الرئيس أرتدي بذلة رسمية يستفزّ مقاسها عضلات ذراعيَّ التي كادت تمزّق قماش الصوف الانجليزي وتُطلّ برؤوسها الثلاثة على جمهور عريض كان يملأ القاعة بالكامل فيما كان نسيج صدري النافر يملأ واجهتي تماماً، يتكوّر تارة ثمّ يقسو مع كل شهيق غريب ينتابني بين الفينة والأخرى وأنا أسمو بهيئتي الجديدة؛ حارس شخصي وسط غابة من الحرس. عوامل كثيرة تحالفتْ لخلق مكانتي الجديدة: الحظُّ، نظاراتي السوداء، ملامح وجهي الصارمة، وذاك المزيج الخلاسي البرونزي الأشقر الناتج من صفقة عاطفية شرعيّة ناجحة لوالدي الشرق أوسطي مع والدتي ذات العرق البافاري، وأخيراً لغتي الألمانية الصافية ولهجتي الأردنيّة الصرفة. كل ذلك قد منحني هيبة واحتراماً جعلت الأمر يختلط على الأمن الألماني والأمن الفلسطيني معاً فيتجنّباني، كل فريق منهما يحسبني من حرس الفريق الآخر.
وبعد انتهاء الحفل، وصلنا إلى الفقرة الاعتياديّة للختيار الذي كان يعتزّ كثيراً بالثوب الفلسطيني التقليدي، فانهالتْ زخّات من القُبل على وجنتيه قابلها بالمثل على وجنات كثيرات، كان عليّ أن أتصرّف كحارس شخصي دونما تكليف من أحدٍ حينما أخذ الجمع الغفير يسحب الرئيس من ثيابه وهو يتجه إلى المخرج الجانبي. وضعت يدي فوق كوفيّته الشهيرة وأنا أطول الحاضرين قامَة وحِلتُ بينه وبين الجموع الهائجة، وفي الأثناء تلقّيتُ أمراً صارماً من رئيس مجموعة حرس الحدود باللغة الألمانية بضرورة الإسراع به نحو الطائرة العمودية التي ستقلّه فوراً إلى حفل العشاء في قصر بيترزبيرغ.
لمْ أحلم يوماً أنْ أضمّ عرفات تحت إبطي وأحمي كوفيّته من الوقوع على الأرض…..
وللحديث بقيّة…
***
- (4).. فضاء وفضائيتان ورائدتان في التهريب"
على الصعيد العربي، تغيّرتْ اليوم اتجاهات أنظارنا فوق هذه الأرض، لمْ تعد أبصارنا تنزلق لمواقع أقدامنا، فقد أطلق العرب مسبارهم إلى المرّيخ بحثاً عن المعرفة وعن أصدقائنا الفضائيين، سترحل عيوننا معه إلى الأعلى... فخورٌ بهذا الإنجاز للإمارات كافتخاري في الأردن بالبتراء وفي غرناطة بقصر الحمراء.
أمّا على الصعيد المحلّي، فقد سَوَّلَتْ لي نفسي بإحداث تحويلاتٍ أساسيّة في حُجرة الحَجر الخاصّة بي تتماهى ومواسم التغيير الرائجة.
بدّلتُ الاتجاهات سعياً للنَّيْلِ من الملل، حملتُ كالعادة رأسي واحتضنتُ وسائدي النظيفة وألقيتُ الكلَّ في الجهة المقابلة عند مواضع القدمين في الوقت الذي ارتحلتْ به قدماي نحو مواضع الرأس، يا لها من خطّة عجيبة! ويا له من تبديل مُريب! الوحيدة التي لمْ تستوعب مبررات حركتي التصحيحية هي فرشتي الطبيّة الوثيرة المزدوجة التي ترقد تحتي، لقد ضحكتْ منّي كثيراً، ليس الأمرُ جديداً عليها فمنذ ليلتي الأولى وهي تستفزّني! المهم أنّ ظهري أصبح الآن مواجهاً لباب حجرتي وأنا الذي أفتحه في اليوم والليلة ثلاث مرّات فقط، فما حاجتي به؟ فيما أصبح وجهي يُطلّ على نافذة واسعة مفتوحة على فضاءات الجنوب الغربي ممّا يسمح لي بمراقبة أضواء عمّان والاستمتاع بانعكاس أشعة شمس الصباح عن بناياتها الحديثة. تلك العمائر فوق تلك الذرى مثلي؛ تستحمّ صباحاً بنور الشمس من رأسها إلى أقدامها الراسخة في تراب أخفتْ حُمرة خجلهِ قوالب الإسمنت والإسفلت حتى لمْ يعد شيئاً منه ظاهراً للعيان. ليست النافذة كالباب؛ أستطيع فتحها أنّى شئت ليرحل بصري يجوب الأزقة النظيفة من دون قيود ويمسح بكفّيه على حجارة قصورها اللامعة ثمّ يصعد نحو الأفق الأزرق ليغترف منه حفنة ألماس قبل أن يعود إليّ… العيون مغارف ترحل إلى حيث نريد وتأتينا بكل جديد…
نهار الأمس كان مُثيراً! فعلى غير العادة جاءتنا هذه المرّة فضائيتان اثنتان مليئتان بالطاقة تُعلِّمان المُقيمين على هواتفنا تطبيق "بادر" استعداداً لمرحلة "الأساور الإلكترونية" ضمن خطّة الحجر المنزلي التي تمّ تخفيضها لأسبوع واحد والحمد لله.
"أسماء بنت أبي بكر " كانت مُهرّبة، و"ليلى بنت أبي بكر" أصبحتْ اليوم مُهرّبة أيضاً، في الحالتين كان المُهَرّبُ طعاماً. هرّبتْ أسماء الزّادَ لطريدَين مُهاجرين من وطنهما إلى المدينة فيما هرّبتْ ليلى الزَّاد لعائِدَين من مدينة دبي إلى وطنهما، لم نكن طَريدَين كما رسولنا العظيم وصاحبه الصِّدِّيق بل كُنّا نرفل بالحشمة والعزّ والأمن والنعيم، بَيدَ أنّه موعدٌ قد ضربناه بكل شجاعة لإنهاء مواسم اغترابنا الطويلة. طعام الحبيبَين كان شحيحاً مربوطاً بنطاقٍ، وطعامي وابني كان وفيراً ملفوفاً بأوراق عنبٍ غضّة وضعتْ ليلى جِواره باقة ورد أبيض مثل قلبها ومثل قلب أمّها، أختي الراحلة.
كيف عليك أنْ تُقنع الأرحام بأنّه لا ينقصنا شيء في هذا الفندق الفاخر، وبأنّ الزيارات ممنوعة، وبأنّ تهريب الأطعمة لا يمكن أبداً مع هذا التدقيق الشديد من الجيش، وبأنّ باقات الورد آسرة؟
***
- (5)… لوحات
والله ما اعتدتُ مثل هذا الدلال أبداً حتى بِتُّ أخشاهُ يُفسِدني! مع مطلع كل صباح أُصابُ بنفس لوثة الاندهاش، يستيقظ سمعي أولاً ثمّ يليه بصري الذي ينهض متكاسلاً، أمّا البليد دماغي فآخر المستيقظين على الإطلاق، أعذرهُ وهو المُتخم بتنوّع مثيرات غريبة تعبر إليه بصورة شرعية عبر الحواس وأخرى تهريباً عبر اللا حواس. ولكيلا تقتلني الصدمة فإنّي أمنح عقلي وجسدي فسحة من الوقت قبل أن يعتدلا من سريري الوثير لأعبر بهما بسلاسة نحو هذه البيئة الجديدة. ورغم اجتهادي في ذلك إلّا أنّ عقلي يستمرّ مُشوّشاً!
وكأيّ أَعرَابِيّ يريد الاستيقاظ من نومِهِ، ابتدرتُ جَسَدي فأنشَبتُ فيه أظافري ثمّ أشبَعته هرشاً وَحَكّاً، حتى إذا ما أعياه الاحمرار أَخليْتُ سبيله وانتقلتُ لعيوني أفركها طويلاً كي يراني الكون. تُغافِلُني الدَّهشة صائحة: أين أنا؟ كالتائه لا أجدُ جواباً. أُحاول رفع ستائر جفنيّ قليلاً دون تحريك رأسي عن وسادته الهشّة، فتظهر لي خطوط متماوجة وحلزونات راقصة وألوان قوس قزح لامعة، لقد اعتدتُها منذ صغري ولا أجدُ فيها أيّة إثارة. أمنح جفوني المزيد من الانفتاح فتتسرّب فوراً نحو دماغي الكسول رسائل ضوئية واضحة وغريبة فنصرخ معاً: أين نحن وماذا نرى؟ نهدأ قليلاً ثمّ نتأمّل بِوَجلٍ مشاهدَ غير مفهومة تسكن لوحة كبيرة ذات إطار مُذهّبٍ معلّقة في جدار حجرتي ولا أعرف لها وطناً، هَاؤُمُ اقْرَءُوا تفاصيلها:
في وسط دماغ اللوحة تجلس امرأة إفريقيّة حسناء بِلَونِها الخلاسي الجميل وثوبها الأخضر الطويل المزركش مثل ريش طاؤوس، ثمّة طاؤوسَان يُناجيانها. عصفورتان وجاريتان وحانة مفروشة بالرمل تسقفها يد سمراء ممتدّة جدّاً وفي نهايتها كَفٌّ بِستّة أصابع، هناك كلبٌ أسود استطال ظهره بشكل مُريب، أرى ساعةً بندوليّة ساكنة ونساءً في هيئة ركوعٍ كالسجودِ، وأجيالاً من العبوديّة.
وفي المقابل هاكُم اللوحة الحقيقية:
أتشارك وابني الإقامة المؤقتة في حجرتنا الفسيحة رقم 426 من الطابق الرابع، وفجأة، يتألّم الشاب من عصب "طاحونة العقل" فنتّصلُ على الفور بالطبيب (خ. ع) الذي أَسكَنَتهُ وزارة الصحة في هذا الأوتيل خدمةً للمحجورين. لا أُنكر أنّ اتصالي به كان محض رفاهية فاضحة إذ كيف تُسوّل لي نفسي إشغال وقت الطبيب الثمين بترّهات ضرسٍ مائل؟ لا عليك، فقد قام الرجلُ بالكشف عن بُعد وتمرير ملحوظة جعلناها حرجة لضابط الارتباط الرائد (ج)… يُنسِّقان معاً ثمّ يتصلان بسيارة إسعاف من الدفاع المدني، ليحضر اثنان من النشامى حتى باب حجرتنا، يأخذان الحبيب على دَهشَةٍ منّي وينقلانه إلى مستشفى البشير. يتكرّرُ المشهد طيلة ثلاثة أيام متتاليات، يحضر الإسعاف وتبدأ الرحلة من الفندق في الشميساني إلى مستشفى البشير في جبل الأشرفيّة ثمّ الانتظار طيلة الوقت والعودة ثانية إلى الفندق، ليحظى الشاب بفضل ألم العصب على تجوالٍ مجاني وجولة سياحية خاطفة داخل العاصمة الجميلة عمّان كانت كافية لكسر ملله من الحجر. وهكذا انتهوا من أعمالهم العلاجية المؤقتة داخل فَمِهِ الباسم بكل مهارة وإتقان. وحينما عاد إلى الفندق في نهاية اليوم الثالث قال لي بأنّ طبيب الأسنان قد هَمَسَ في أذنه ناصحاً إيّاه بضرورة إزالة طاحونة العقل زاعماً بأنّها موجودة في المكان والزمان غير الصحيحين. ابتسمتُ له بخُبثٍ قائلاً: لا عليك يا ولدي، ليست الطاحونة وحدها من تتواجد في المكان والزمان غير الصحيحين!
تحية للجيش العربي الذي يُدير الموقف بفاعلية وإتقان، تحية لخلية الأزمة، تحية لسفيرٍ ما زال يطمئن على أحوالنا حتى بعد استقرارنا في هذا الملاذ الآمن، تحية لحكومة متواضعة آثرتْ أنْ تفترش الأرض وتسكن على "الدوّار الرابع" في الوقت الذي نَهَضَتْ فيه بمواطنٍ بسيط فأسكنتهُ "الدَّور الرابع".
هل ما يزال أحدٌ يرى في هذه اللوحة الحقيقية ثمّة سادة وعبيد؟ لا أعرف، غير أنّي أشعر أنّ الليل طويــــــــــــل
***
- (6)… خَمْسَات
شروق الشمس يتبعهُ غروب، آيتان تماماً كالقمّة والقاع في هذه الدنيا التي تتقلّب أحداثها مثل موجة سائرة! حينما تُشرق شمس صباح الغد سيتبقى أمامنا خمسة أيام لهذا الحجر الفريد. غياب شمس الأمس حمل الخوف إلى عُقر مهجعنا الآمن! في تمام الثامنة بدأتْ أصوات سيارات الإسعاف تشق سكون ليل عمّان الهادئ، لمْ أحتجْ لفيزياء "ظاهرة دوبلر" كي أستوعب اتجاهها وهي تتسابق بِنَزَقٍ مع أصواتها المزعجة نحو فندق ما. يا ساتر! في أقلّ من دقيقتين كانت خمس سيارات ساخنة تقف على الباب بحماية سيارات الشرطة. رفع صديقي سمّاعة هاتف غرفته متّصلاً بموظف الاستقبال لسؤاله عمّا يحدث في الأسفل، أجابه الأخير بصوت آلي تدرّب صاحبهُ طويلاً على العبارة نفسها: "هناك خمس حالات ظهر فحصها إيجابي بين نزلاء الطابق الأول للقادمين أمس من الدوحة، ويتمّ التعامل معهم حسب البروتوكول الصحي لترحيلهم فوراً إلى مستشفى الأمير حمزة". ثمّ أغلق الهاتف سريعاً متأهّباً على ما يبدو لأربعمائة اتصال آخر من جميع النزلاء. كان صديقي يرغبُ بمداعبته بسؤال سياسي مُستفزّ لعلّه يكسر شيئاً من حاجز خوف بدأ ينمو في ذاته: كيف تحجرون القادمين من قطر مع القادمين من الإمارات؟
ألقى الهاتف وَجِلاً ثمّ قفز من فوق سريره باحثاً عن مُعقّمٍ يمسح السمّاعة التي جاءه منها الخبر. نبضهُ يتسارع، دماغه تُصدر سلسلة أوامر دفاعيّة رشيدة وأخرى تفتقر إلى الرشد: اطفئْ وحدة التكييف حالاً، طالِبْ بفحص جميع الموظفين في الفندق، لا تسمح بدخول الطعام أو الشراب إلى حجرتك، صُم فأنت في العشرة المُباركة. وتساءل بعدها: هل سيزحف هذا الوباء عبر الممرّات؟ هل سيصعد الدرج أو يركب المصعد نحو الطوابق العليا؟ بعد صراع مع الذات قرّر صديقي إعادة تشغيل المكيّف، وقطع وعداً على نفسه بألّا ينتقد الشيف المسؤول عن جودة الطعام، سيُثني عليه مثلما يفعل مع شيف الحلويات المُبهرة. ثمّ صاح: يا إلهي! أُريد أن أخرج من هنا سالماً، فهذا الشيء يبدو حقيقياً!
هذا الصباح حمل خبراً مؤلماً؛ خمس وفيّات من عائلتين فقدناهم في حادث سير مأساوي على الطريق الصحراوي، العائلتان من محافظة الطفيلة. يُقال بأنّ إحدى العائلتين كانت قادمة إلى عمّان لزيارة قريب لها يُقيم في أحد فنادق الحجر الصحي. يبدو أنّ آخرين مثل عائلتي ما زالوا غير مقتنعين بأنّ زيارة الأرحام في فنادق الحجر الصحي ممنوعة!
هذا الغروب أوصل لي طُرفة تُكمل بهاء موجة الحياة: دَخَل "ختيار" لأحد مراكز الاقتراع وسأل الموظّف: ابني بالله عليك تشوف لي اسم مرتي انتخبت ولّا بَعدا؟ استعراض الموظف السجلات أمامه ثمّ رفع رأسه وقال للختيار مبتسماً: إي والله يا حجّي انتخبتْ. شو حجّي كأنو متزاعلين انته والحجّة وما ساكنين سوا؟ ردّ الختيار: لا والله يا ابني، الحجّة متوفية من 16 سنة، وكل 4 سنين بتجي بتنتخب وبتروح وما بِلْحَقْ شُوفها…
تختبئ النكتة بعض الأحيان بأردية الواقع، ففي محافظة درعا، جارتنا الشمالية، ينهض القتلى من رفاتهم أحياء يُرزقون لِيُمارسوا حقّهم في انتخابات مجلس الشعب، جاء ذلك في رسالة شكوى مرفوعة للرئيس بشار الأسد من مرشحين مستقلّين يوم أمس بعد أنْ خاضوا التجربة وفشلوا في النجاح بانتخابات قاطعتها المعارضة.
تبّاً للرَّاسبين في كل مكان وَهُمْ يستمرّون باختلاق حجج غريبة لتبرير فشلهم! وتبّاً مثلها للنّاجحين…
***
- (7)… الكَلْبَنَة
في عمّان الجميلة تنمو للمحجور عيونٌ كثيرة فَيَصعُبُ أنْ يَغُضّ البصر! ما أنْ يأتي المساء حتى أبدأ بالتجهّز لمشاركة العمّانيين طقوس أمسياتهم. أرتدي ملابسَ جديدة، أُسَرِّحُ شعري، أتعطّر ثمّ أجلس على كرسي مُريح في الموقع ذاته المتعامد معها. لغرفتي نافذة واسعة بسحّابين زجاجيين ناعمين يُزيّن خُمسها الأسفل زِنّارين متوازيين من ألمنيوم عسلي يُفسحان فوقهما حيزاً واسعاً ليرفرف من خلاله بصري المُكتحل بلا حرج نحو كل الفضاءات. البصرُ سريع كالضوء، غير أنّه في بعض الأحيان يغدو بطيئاً ليباري تسكّع فتاة عمّانيّة تُريِّض كلبها المُبتسم على أرصفة مبلّطة بمربّعات شطرنجيّة صفراء وحمراء محاذية لشوارع لا تشكو من الحُفَر.
كم كنت في السابق أستهجن ثقافة الكلاب، وصُحبة الكلاب، ورفاهيتها المستفزّة، وأنبذُ عالم الكلاب على فصائِلِها الحقيقية والمجازيّة! فهل كان هذا الرأس مخطئاً وجاهلاً؟!… في موروثنا الشعبي يقولون أنّ "كلب الشيخ شيخٌ"، ولفظة الشيخ هنا لا يعني اقتصار "الكَلْبَنَة" على المذكّر فقط، بل ولمزيد من العدالة وتحسّباً لانزعاج فريق "سيداو" سأُذكّرُ القارئَ بعنوان قصيدة " كلب السِّت" التي قيلتْ مدحاً تهكّميّاً في "فوكس" كلب السيدة أم كلثوم، ونَظَمَها الراحل أحمد فؤاد نجم. أحمد الذي سطع نجمه في سماء عمّان العروبة ذات ليلة وَدَاعِيّة من عام 2013 بعدما أحيا فيها آخر أمسياته الشعرية برفقة فرقة الحنونة في ذكرى التضامن مع الشعب الفلسطيني، سافر بعدها إلى أُمِّهِ مصر ثمّ رحل منها عن الدنيا. ياااه! كم نحن بحاجة لاستيعاب ثقافات الآخرين، واحترام رفاهيتهم، وإنصاف كلاب عمّان!
من قصص الكلاب ما يرويه لي ولدي الذي سافر إلى أميركا في العام الماضي وكان قد رتّب مكاناً لإقامته التي ستستمرّ أربعة أسابيع عند أسرة تتكوّن من رجل عجوز وختيارته. يقول: وصلتُ إلى الموقع مع تباشير فجر الأحد، دخلتُ المنزل ورتّبتُ أغراضي واسترخيتُ على سريري الوثير. لقد كان كل شيء حَسَناً، غير أنّي لمْ أكن أدرك اختلاف مفهوم الأسبوع عند سيدة المنزل عمّا اعتدتُ عليه طيلة حياتي، وأنّه يبدأ في أميركا من صباح الاثنين، وبما أنّي قد أشغلتُ السكن من صباح الأحد ليومٍ واحد من أيام الأسبوع المنصرم فقد ترتّب عليّ أجرة أسبوع إضافي خامس، هذا ما قالته سيدة المنزل، والأسبوع بمئة وخمسين دولار مما يعني اختلال ميزانية طالب عصامي بمقدار هذا المبلغ منذ الليلة الأولى من ليالي الاغتراب، يا ذا الفأْل الطيّب! تحمّلتُ الخبر المُزعج على مضضٍ وأدركتُ بأنّ الحياة تجارب. الحاصل أنّي حينما عدتُ للمنزل مساء يوم الاثنين، بدأتُ بالتعرّف على أصحابِهِ؛ الزوج رجل عجوز من قدامى المحاربين في فيتنام لا يمكن أن يستغني عن سلاحه الشخصي خاصّة مع وجود شخص بملامح شرق أوسطيّة في عُقر داره. والزوجة "ختيارة" دافئة. أمّا الأكثر دفئاً منها فقد كان كلب السيدة العجوز الذي أخذ يلتفّ حول ساقَيّ المتشنّجتين بسرورٍ ما زلت أجهل سببه. ابتسمت السيدة العجوز بعد أنْ رأتْ السعادة تطفح على ذنب الكلب ووجه، وعرضتْ عليّ أن آخذه بجولة "قسدرة" خارجية لربع ساعة ثمّ ناولتني "الرسن" في الوقت الذي انطلق به الكلب الضخم نحو الباب يسحبني خلفه إلى الخارج وأنا أتمتم: أخيراً وجدتُ من يُعرّفني على الحيّ حتى ولو كان الكلبُ دليلي.
عدتُ والكلب من جولتنا الرياضية ودخلنا البيت. كانت عيوني مُعلّقة على ملامح الختيارة التي سرعان ما رأيت ابتسامتها العريضة فتنهّدتُ بزفير مريح، وفي نفحة كرم مفاجئة منها وفيما كنت أستعدّ للدخول إلى غرفتي أصدرت العجوز قرارها الفوري التالي: تهانينا، لقد أسقطتُ عنك أجرة الأسبوع الإضافي.
دخلتُ غرفتي مسروراً وأنا أحاول مطابقة الواقع مع مقولةٍ لو عرفها زعيم الفلسفة البراغماتيّة المستر "جون ديوي" لاتَّخَذَها شعاراً لفلسفته الرائجة: "بُوس الكلب على ثُمُّهْ لَحَد ما تاخِذ حاجتك مِنّه"
• الكَلْبَنَة: مصطلحُ حالةٍ، يصف الاستقواء بأشكاله المختلفة على سلطة القانون.
• المَكْلَبَة: مصطلح مكانِيٌّ مسؤول عن تصدير الحالة الأولى.
***
- (8)… تَلْبِيسَة"
في هذا اليوم الممطوط ثمّة صُور مقلوبة. اللافت أنّ كل صورة مقلوبة في مرايا هذه الحياة، هي صورة حقيقية!
لا بأس، لقد أنهى فضائيٌ شَرِس قبل قليل التقاط المسحة الأنفية الثانية، كانت يده ثقيلة. جاءت بَعدَهُ ممرّضة مؤدّبة فَطَرَقتْ باب حجرتي، وبصوتها الهادئ شرحتْ لي إجراءات المرحلة المُقبلة المسمّاة " الحجر المنزلي" وأعطتني ورقة ذات بنود كثيرة. وكالعادة، قمتُ بالتوقيع عليها دون أن أقرأ كلمة. لقد ألبستني إِسوِرَة بيضاء. ألمْ أقل من البداية أنّ الصورة مقلوبة؟!
على كل حال، يا بخت من يحظى على وجه العيد بتلبيسةٍ!
هذا العيد كبير، كبير بتكبيراته، كبير بتلبيساته، وكبير بكسواته أيضاً. وعلى طاري الأخيرة فقد طاف بخاطري ثلاثة أشكال متزامنة للكسوات:
كِسوة العيد التي تُشغل بال أرباب بعض الأسر هذه الأيام، كيف يلملمونها لفرحة أطفالهم.
كِسوة الكعبة التي تستعدّ لارتدائها في موسم حجٍّ، لمْ يأت الناس إليه هذا العام من كل فجٍّ.
وكسوةٌ يُحيكها خيّاطو الحكومة من الكُتّاب المتخصصين بالأعمدة والسقفيات والأرضيات، وهم يحاولون منذ مساء الأمس رَتق ثوب القرارات، وتزيينها للناس والعيد بعناوين قويّة من مثل: لا سلطة فوق الدولة، الوطن فوق الكل ….…..
الثابتُ عندي أنّ هذا الوطن للجميع، ولن يعجز عن استيعاب كل أبنائه والتَّفاهم معهم على كيفية حبّه مهما اختلفتْ وجهات نظرهم.
***
- (9)… أشياءٌ حِشْمَة
في مِحجَرِكَ، تجلسُ مُعتقداً بأن لا حول لك ولا قوة داخل هذا القفص الفضّي. ثمّ يحدث أنْ تحتاج إلى وثيقة عدم محكومية لاستكمال أوراق معاملة حكوميّة. تدخل عبر حزمة الانترنت التي قدّمها الجيش العربي هدية لجميع القادمين إلى أرض الوطن سابحاً بسرعة الضوء عبر أليافها البصرية ووجهتك وزارة العدل، وهناك تُقدّم معاملتك وأنت تُناظر الساعة باستحياء، إنّها الحادية عشر ليلاً. تدفع الرسوم البسيطة (ستة دنانير إلكترونية عبر تطبيق (إي-فواتيركم)) ثمّ تستلم وثيقتك الساخنة بعد خمس دقائق في الوقت الذي لمْ تغادر فيه سريرك الوثير في الأوتيل. يااااه! لا أصدّق كل هذا الهراء الذي ألمسهُ على أرض الواقع. اتصلتُ بأبي طارق طالباً هاتف رئيس كُتّاب محكمة الصلح الوارد اسمه أسفل الوثيقة. بعد دقيقتين كان رقمه ينبض على الشاشة في الوقت الذي كان فيه دماغي يستعيد رسم ملامح ابتسامة الشاب الخلوق "محمد حسن هلال" فهل سيجيب على هاتفٍ لا يعرف صاحبه في هذه الساعة المتأخّرة من الليل؟. الرهان على الأصيل دائماً يكون ناجحاً. بكل احترام وتهذيب يُبشرني الرئيس بأنّ الشهادة جاهزة ولا تحتاج لأختام أخرى. ما أجمل أن يتذكّرك طلابك بالخير! هكذا ينظر المهذّبون لمعلّميهم!
قصصتُ هذه الواقعة على صديقي الألماني الأشقر القابع في ليفركوزن أثناء وجبة تواصلنا اليومي فأكبر هذا الشيء، إنّه رجل وطنيّ خالص، أحبّ أن يتأكّد بنفسه، وبالفعل أرسل لي صورة من شهادته الساخنة بعد نجاحه في الحصول عليها.
كم وجهاً سمحاً وآخر عابساً لموظّف يُدخّن ببلادة في مكتبه تحت لافتة "ممنوع التدخين" قد تجاوزناه خلال رحلة هذا الربط الإلكتروني المتطوّر؟ وكم سائقاً متهوّراً ارتحتَ من شتائمه ومغامراته المُفزعة على الطرقات؟ وكم حفرة ومطبّاً أعفاكَ هذا التطبيق الالكتروني العجيب من الوقوع فيه؟ والأثمن من هذا وذاك، كم متراً مكعّباً من الكرامة احتفظت بها في داخل كيانك الحسّاس ولمْ تسكبها على أبواب الدوائر الصعبة؟
يحاول المرء منّا محو بعض ذكرياته الصعبة، غير أنّها تتأبّى. كان لزاماً عليّ قبل عشرين عاماً استكمال ملفّ أوراق تعاقدي مع دولة الإمارات العربية المتحدة، ثمّة ورقة وحيدة عنيدة استعصتْ الهبوط بين دفّتي ذاك الملف. كان اسمها في ذلك الحين غريباً، وكانت دروبها أغرب وأصعب بكثير. تحيّة لمن بدّلوا أسماء الوثائق وسهّلوا طرائق الحصول عليها.
وفي باب فقه تبديل الأسماء، وَرَدَ في كتاب الجامع لابن وهب هذا النَّصُ. أخبرني ابنُ لَهِيعةَ، قال: لمّا وفد "بنو الشيطان" بن الحارث بن معاوية على رسول الله عليه السلام سألهم: من أنتم؟ فقالوا: "بنو الشيطان". قال: بل أنتم بنو عبد الله.
الحمد لله على التحوّل من الشيطنة.
***
- (10) .. حكومة فيشي"
هذا هو اليوم الأخير لي في الحجرة رقم 426 بفندق مينا تايكي في منطقة الشميساني بالعاصمة الأردنية عمّان. اعتباراً من صباح الغد سيتم البدء بإجلائنا من الأوتيل نحو منازلنا بأسطول سيارات "أوبر" تحت إدارة وتنسيق خلية الأزمة وعلى معصم كل واحدٍ منّا ساعة إلكترونيّة مربوطة مع خليّة نَشِطة وفعّالة نَذَرَتْ نفسها لاستقصاء حركاتنا داخل دائرة قطرها 50 متراً. وأنا لا أُحبّ الدائرة!
طافت أيّام الحجر سريعة بفضل إطلالة شُرفَتَين خَلَّابَتَين؛ شُرفة حجرتي التي يعبر إليها النسيم والجمال والضوء والضوضاء في أجمل عواصم العالم، وشرفتي المُطلّة عبر هذه اليوميات على أصدقاء الحرف والقلم.
في سرد اليوم لا أعرف كيف وقف التاريخ في ذهني بهيئة المُعترِض دافعاً للأعلى بكفّيه "الرويمتين" زاوِيَتَي نافذتي الوحيدة وخانقاً بقدميه الثقيلتين في الأسفل زاويتيها المتبقّيتين راسماً علامة "إكس" مُتَمَنّعاً ويرفض أن يزول. لقد ألقى ظلاله البشعة على هذا النّص التاريخي "المُؤَكَّس".
سأكتب عن تاريخ "التشكيلات" التي يزرعها الطرف المنتصر. والعبرة أنّها لا تدوم. حينما اقتحم الألمان فرنسا أثناء الحرب العالمية الثانية قاموا باقتلاع حكومتها الوطنية المُنتخبة بزعامة "بول رينو" واستزرعوا بدلاً منها حكومة فرنسية عميلة موالية لألمانيا النازيّة برئاسة "بيير لافال" . سارع الأخير بكلّ هِمّة لنزع سلاح القوات الفرنسية وَحَرَّمَ المقاومة. أُطلِقَ على تلك الحكومة العميلة تاريخياً اسم "حكومة فيشي" نسبة لمنتجع في جنوب البلاد، وأصبح اسم "فيشي" منذ ذاك الحين رمزاً للعمالة وعنواناً للخيانة. استمرّتْ حكومة فيشي 4 سنين. في مثل هذه الأيام نفّذتْ القوات المتحالفة هجوماً على الألمان عبر شواطئ النورماندي ولم تتوقّف إلّا بعد أنْ أوصلت "ديغول" إلى قلب باريس، وقُبِضَ تالياً على الخائن الهارب "لافال" ثمّ حُوكِمَ بتهمة الخيانة العظمى ونُفِّذَ فيه الحكم رمياً بالرصاص.
***