الحلقة الأولى
رولان بارت* : لأنه ينبغي عليَّ أن أكون المتكلم الأول، سأركز خاصة على ما أظنه الطابع الإحراجي لكل حوار من حول بروست : لا يمكن لبروست أن يكون موضوعاً إلا لمحاورة لا تنتهي infini : لا نهائية، ذلك لأنه، أكثر من أيّ مؤلف آخر، لديه ما يقوله لنا إلى ما لا نهاية. أنه ليس مؤلفاً أبدياً éternel، لكنه، كما أعتقد، مؤلف دائم auteur perpétuel، كما يقول المرء روزنامة دائمة. كذلك لا أظن بأن مرد ذلك عائد لثرائه، هذا الثراء الذي يمكن أن يكون مجرد فكرة نوعية، بل بالأحرى إلى نوع من تهدم البنية déstructuration في خطابه. فهو ليس خطاباً مُستطرداً digressé وحسب، كا يقول ذلك البعض، ولكنه خطاب مثقوب troué ومفكك : كوكب يمكن أرتياده إلى ما لا نهاية، فجزئياته لا تكف عن تغيّير مواقعها ومبادلتها البعض مع الآخر. وهذا ما يجعلني أقرأ بروست، وهو واحد من المؤلفين النادرين الذين أعيد قراءتهم، باعتباره معبراً وهمياً، تنيره أضواء مُتعاقبة تخضع لنوع من المعدلة الكهربائية rhéostat المنوعةِ ومن ثم تمرر تدريجياً، وباستمرار أيضاً، الديكور عبر أحجام مختلفة، مستويات متنوعة، وأشكال مختلفة من الوضوح. أنه مادة لا تنفذ، ليس لأنه جديد في كل مرة، فذلك ما لا معنى له، ولكن لأنه يصلنا في كل مرة مُتزحزاً عن مكانه. من هنا، يمكننا القول بأن عمله يخلق "متحرك" حقيقي، وربما يكون التجسيد الحقيقي للكتاب Livre كما حلمَ به ملارميه. من وجهة نظري، لا يمكن أن يُثير "البحث عن الزمن الضائع" (وما يُضاف إلى جواره من النصوص الأخرى) إلا أفكاراً للبحث وليس ابحاثاً. بهذا المعنى، يشكل النص البروستي مادة رائعة للرغبة النقدية le désir critique. أنه موضوع رغبة بالنسبة للنقاد، فكل ما فيه يتمً استنفاذه باستيهام البحث، في فكرة بحث أحدهم عن شيء ما عند بروست و، في ذات الوقت، كل ما فيه يجعل فكرة العثور على نتيجة في ذلك البحث وهميةً. أن تفرد بروست نابع من أنه لا يدعنا نقوم بأي شيء آخر سوى : كتابته ثانية le réécrire، وهذا ما يشكل نقيضاً لإستهلاكه.
جيل دولوز : من ناحيتي، سأكتفي بطرح مشكلة اعتبارها حديثة نوعما. أشعر بنوع من الحضور المهم للغاية، والمقلق تماماً للجنون في هذا العمل. وذلك لا يعني أبداً القول بأن بروست كان مجنوناً، ولكن التأكيد على أن ثمة من حضور حيّ وكبير للجنون في البحث نفسه la Recherche même. بدءً، بوجود ذلك الجنون عند شخصيتين أساسيتين من شخوص العمل. أن حضور الجنون هذا، كما هو الأمر دائماً عند بروست، موزع بحذاقة. إذ من المؤكد، منذ البداية، بأن جارليس Charlus مجنون. فما أن يلمحه المرء حتى يقول مع نفسه : حقاً، أنه مجنون. وهذا ما يقوله لنا الراوي. أمّا بالنسبة للأربتين Albertine، فالقضية معكوسة، فنحن نكتشف جنونها في النهاية؛ أي أن جنونها لا يشكل عندنا يقين مباشر، بل مجرد شك، أو إمكانية. قد تكون مجنونة، وربما كانت كذلك دائماً. وهذا ما توحي به أندريه Andrée في الأخير. منْ هو المجنون إذاً ؟ لا شك أنه جارليس. ألبرتين، ربما. لكن ألا يمكن أن يكون هناك طرف ثالث أكثر منهما جنوناً ؟ ثالث قد يكون مُتخفياً في كل مكان ويتلاعب بيقننا بأن جارليس مجنون واحتمالية أن تكون ألبرتين مجنونة هي كذلك ؟ ألا يمكن أن يكون هناك مشرف على اللعبة ؟ كل واحد يعرف ذلك المُشرفِ، أنه الراوي ذاته. بأي معنى يكون فيه ذلك الراوي مجنوناً ؟ أنه غريب تماماً ذلك الراوي. غريب الأطوار تماماً. كيف يُقدم نفسه ؟ أنه شخص بلا أعضاء، فهو لا يرى، لا يفهم أيّ شيء، ولا يراقب أي شيء، كما لا يعرف أي شيء؛ حينما يعرض عليه أحدهم شيئاً، ينظر إليه : لا يرى؛ يجعله أحدهم يشم شيئاً، ويقول له : لترى كم هو جميل، ينظر، وفي اللحظة التي يُقال له فيه : ولكن لترى، لتنظر قليلاً، -حينئذ يصدح شيء ما في رأسه، يفكر بشيء آخر، شيء ما يهمه، لكنه لا يخضع لنظام الإدراك، ولا للنظام الذهني. ليس لديه من أعضاء، لا أحاسيس ولا إدراك، لا شيء عنده. أنه كالجسد العاري، جسد ضخم غير مُميز.
ما هي فاعلية ذلك الذي لا يرى، لا يحس ولا يفهم أي شيء ؟ أعتقد بأن من يجد نفسه في تلك الحالة لا يمكنه سوى الرد على الإشارات والإيماءات. بتعبير آخر، الراوية عنكبوت. ليس ثمة من نفع للعنكبوت، فهو لا يفهم أي شيء، كما يمكن للمرء أن يضع تحت نظره ذبابة ومع ذلك لا تتولد لديه أية ردة فعل. لكن ما أن تهتز زاوية صغيرة من نسيجه، وإذا بجسده الضخم يتحرك. لا يتمتع بمدركات، وهو بلا أحاسيس. أنه يستجيب إلى الإيماءات، هذا كل ما في الأمر. وكذلك هي الحال عند الراوية. فهو أيضاً يحيك نسيجاً، أي عمله، ويستجيب لهزاته، في ذات اللحظة التي يحيك فيها. عنكبوت-جنون، راوي-جنون لا يفهم أي شيء، ولا يرغب كذلك في فهمه، ولا يهمه أي شيء اللهم إلا تلك الإشارة الصغيرة، الموضوعة هناك في العمق. فجنون جارليس المؤكدِ وكذلك جنون ألبرتين، المحتمل، ينبعان بلا شك منه بالذات. فهو يلقي على كل مكان حضوره المعتمِ، الأعمى؛ في كل مكان أي في الأركان الاربعة من النسيج، النسيج الذي ينسجه، يفككه ويعيد نسجه ثانية. تحول أكثر جذرية حتى مما عند كافكا، ما دام الراوية نفسه قد تحول قبل أن تشرع القصة حتى.
لكن ما الذي يراه المرء حين لا يرى أي شيء ؟ أن ما يجذب الإنتباه في البحث، من وجهة نظري، هو شيء واحد، ذات الشيء المُتكررٍ والمتنوعٍ، في ذات الوقت، بصورة خارقة. إذا ما حاولنا نسخ رؤية الراوي بالطريقة التي ينسخ بها البيولوجين رؤية الذبابة، سنحصل على سديم nébuleuse ترافقه، هنا وهناك، نقاط لماعة صغيرة. مثال، سديم جارليس : ما الذي يراه فيه الراوية، الذي هو ليس بروست بالتأكيد ؟ يرى عينين، تتلامضان، وهما غير متساويتان، ويسمع بغموض صوتاً. هناك تفردان ينطوي عليهما ذلك الجسم الضخم، جسم جارليس. أمّا في حالة ألبرتين، فالسديم ليس فردياً، بل جماعياً، تمييز لا أهمية له من ناحية أخرى. أنه سديم "الفتيات" المُتصاحب مع تفردات بعينها، وهي واحدة منهن. هكذا يجري الأمر دائماً عند بروست. أن الرؤية الأولى العامة هي بمثابة غيمة مع نقاط صغيرة. هناك لحظة أخرى لكنها غير مطمئنة أيضاً. وفقاً للتفردات التي يتضمن عليها السديم، تتشكل سلسلة، سلسلة خطاب جارليس، على سبيل المثال، ثلاثة خطابات مبنية على نفس النمط ولها ذات الإيقاع الواحد، ففي كل مرة يبدأ جارليس بما يمكننا تسميته اليوم بالنكران : "كلا، أنتَ لا تهمني"، ذلك ما يقوله للراوية. اللحظة الثانية، بالمعكوس، منك إلي، "هناك مسافة لا يمكن تخطيها، وأنتَ لا تمثل أي شيء بالنسبة لي". اللحظة الثالثة هي الجنون : في خطاب جارليس، المُسيطر عليه حتى تلك اللحظة، ثمة شيء ما ينحرف. ظاهرة غريبة تتولد في الخطابات الثلاثة جميعها. كذلك ينبغي علينا أن نبين بذات الطريقة بأن هناك سلسلة، وحتى مجموعة سلاسل تتعلق بالأبرتين، التي تفصل نفسها عن سديم الفتيات. أن تلك السلاسل ممهورة بانفجارات سادية-مازوخية؛ أنها سلاسل مُقززة، تجاورها حالات تدنيس، حجوزات؛ ولأنها قد تولدت عن رؤية مصابة بقصر النظر، لذا فهي سلاسل ضخمة وقاسية. ومع ذلك، لا يتوقف الأمر عند هذه النقطة. في لحظة ما، في نهاية تلك السلاسل وكأننا نمر في زمن ثالث نهائي، ينحل كل شيء، يتلاشى وينفجر –ويعاود الإنغلاق- ضمن مجموعة من العلب الصغيرة. كفت ألبرتين في أن تكون. ثمة مئات العلب الصغيرة من ألبرتين، مطروحةً أمامنا، معروضةً على أعيننا، لكنهن غير قادرات على التواصل بعضهن مع البعض الآخر، وفقاً لبعد غاية في الإثارة إلا وهو البعد العرضي dimension transversale. هنا، كما أعتقد، أي في هذه اللحظة الأخيرة، يظهر حقاً موضوع الجنون. بمعية نوع من البراءة النباتية، مطوقاً بسياج هو بالدقة سياج النباتات. أن النص النموذجي، على هذا الصعيد، أي النص الذي يُظهر أفضل من غيره التركيب الثلاثي لرؤية الرواي-العنكبوت، هو النص الذي يصف القبلة الأولى التي يطبعها البطل على خد البرتين (Pléiade, 2, P.363-365). ففي هذا النص نميز بوضوح اللحظات الثلاث الأساسية (لكن بإمكان المرء العثور على العديد غيرها). نعثر أولاً على سديم الوجه، ترافقه نقطة صغيرة لماعة، ومتنقلةً. بعدها، يقترب البطل : "عبر هذه المسافة القصيرة ما بين شفتي وخدها، رأيتُ عشرة من ألبرتين". وفي النهاية، تأتي اللحظة الثالثة والأخيرة، حين يلامس فمه خدها ويصبح هو فيها جسداً معمياً، يتصارع مع ذلك الإنفجار، وحالة ألبرتين الكيئبة : "(...) وفجأة، كفت عيناي عن الرؤية، وبدوره انسحق أنفي، لم يشتم أية رائحة، ولم يتعرف على مذاق الوردة التي كان يرغب فيها، ومن ثم عرفتُ، عبر هذه الإشارات الكريهة، بأني كنتُ على وشك تقبيل خد ألبرتين".
ما يُثير أهتمامي الآن في البحث هو التالي : حضور، مثول الجنون في العمل، والذي هو ليس مجرد ثوباً، ولا كتدرائية، لكن نسيج عنكبوت على وشك أن يتم نسجه أمام أعيننا.
جيرارد جنيت : ما سأقوله استوحيته من هذه المحاورة، ومن نظرة لاحقة على عملي الخاص، القديم والحديث منه المُتعلّقِ ببروست. يبدو لي أن عمل بروست، بحكم ضخامته وتعقيده، وكذلك بحكم طابعه التطوري، وذلك التعاقب المتواصل للحالات états المختلفة لذات النص، إنطلاقاً من "الأيام واللذات" Les Plaisirs et les jours وحتى "الزمن المُستعاد" Temps retrouvé، يعرض أمام الناقد صعوبة تشكل في ذات الوقت، من زاوية نظري، حضاً : بدلاً من التأويلية الكلاسيكية herméneutique classique، التي هي تأويلية نموذجية (أو مجازية) يطرح الناقد تأويلية جديدة، قد تكون تأويلية تركيبية syntagmatique، أو كنائية métonymique إذا ما شئنا. أريد القول بأنه لم يعد كافياً حين يرتبط الأمر ببروست الإنتباه وتسجيل معاودة الدوافع ومن ثم تقديم لائحة من خلال تلك التكرارات، عن طريق التكديس والموافقة على مواد مواضعية (متعلقة بالمواضيع) يجري بعدها أقامة شبكة مثالية، وفقاً لمنهج قدمَ عنه "جارلس موران" Charles Mauran نسخته الأكثر وضوحاً، لكنه يبقى، بالعمق، منهج أي نقد مواضعي critique thématique. كما ينبغي على المرء الأخذ بعين الأعتبار تأثيرات الأقتراب والإبتعاد، أي المكان في النص place dans le texte، القائم ما بين العناصر المختلفة للمحتوى.
لقد جذبت هذه الأمور دائماً، بطبيعة الحال، انتباه محللي التقنية الروائية أو الأسلوبية؛ فقد حدثنا جان روسيه Jean Rousset، مثلاً، عن الطابع التشتتي caractère sporadique لتقديم الشخوص في البحث، كما يحدثنا ليو برساني Leo Bersani عما يسيمه "القوة المنزاحة عن المركز"، "التعالي الأفقي" لأسلوب البحث، والذي يميزه عن أسلوب "جان سونتي"** Jean Santeuil. لكن ما يصلح للتحليل الشكلي (المتعلق بالشكل) يصلح أيضاً كما أعتقد، وبشكل خاص وأكثر وضوحاً عند بروست، للتحيل المواضعي والتفسير l’interprétation. ولكي لا أخذ سوى مثالين أو ثلاثة صادفتها اثناء عملي، يمكنني القول بأنه من المفيد للمرء أن يلاحظ، ومنذ الصفحات الأولى من "إلى جانب كومبري" Combray، ظهور موضوعي الكحول والجنس المتجاورين، وهذا ما سيجعل علاقتهما اللاحقة تقوم على التعادل المجازي (على الأقل). بالمقابل، أجد تأثير الزحزحة، أو التأجيل، إذا ما طبقناه على علاقة "مارسيل" الحبية وأبنت عمه الغريبة؛ الزحزحة والتأجيل اللذين لم يجر تذكرهما إلا فيما بعد، في لحظة بيع الإريكة للعمة "ليوني" إلى بيت المتعة العائد لراشيل. أو ظهور مادة مواضعية كبرج مدينة "روسنفيل"، الذي يظهر مرتين في "كومبري" كشاهد وحافظ سر للأثارات الأيروسية المعزولة للبطل، ومن ثم ظهوره ثانية في "الزمن المُستعاد" ولكن بدلالة أيروسية جديدة، ينعكس صداها على الأولى ويحورها فجأة، حين نعرف بأن ذلك البرج كان مكاناً لممارسات فاجرة تقوم بها "جلبرت" مع فتية القرية. ثمة هنا أثر للتنوع، للأختلاف في الهوية وهو لا يقل في أهميته عن أهمية الهوية؛ لكن لا يكفي تنضيد الحدثين أحدهما فوق الآخر لكي نحصل على تفسير لهما، إذ ينبغي القيام بتأويل ما يقاوم ذلك التنضيد أيضاً. لاسيما ونحن نعرف بأن "البحث" يتولد غالباً عبر تفجر وتفكك الخلايا التوليفية البدائية : أنه كون في طور التمدد، لا تني فيه العناصر التي كانت في البداية قريبة تماماً من بعضها من الإبتعاد عن بعضها الآخر. نحن نعرف، مثلاً، بأن "مارسيل" و"سوان"، "جارليس" ونوربواس" كانا قريبين من بعضهم حد خلط المرء بينهما، كذلك نلاحظ بأن كتاب "ضد سانت بيف" « Contre Sainte-Beuve » يضع تجربة كعكة المادلين بجانب تجربة بلاط "آل غيرمونت"، أمّا المخطوطة التي نشرها "فيليب كولب" Philippe Kolb، فتخبرنا بأن مصادر التجربة التي عاشها البطل في "الفيفون" كان قد حصل عليها منذ طفولته، وبأن كل المعمار المواضيعي "للبحث" يرتكز حالياً على ذلك التباعد العظيم ما بين مداميك الأقواس تلك، أي على انتظارنا الكبير لعملية الكشف النهائية.
كل ذلك يرغمنا، إذاً، على إعارة انتباه خاص للتركيب الزمكاني للدلالات المواضيعية، أي القوة السيميائية للقرينة. لقد شدد رولان بارت أكثر من مرة على الدور اللارمزي للقرينة، والتي يتم التعامل معها دائماً باعتبارها أداة إختزال للمعنى. يبدو لي أنه بإمكاننا تخيل ممارسة عملية لها معاكسة لتلك الممارسة، إنطلاقاً من ملاحظات على هذه الشاكلة. فالقريينة، أي مجال النص l’espace du texte، وتأثيرات ذلك المكان les effets de place المُحدّدِ، هو أيضاً مولد للمعنى. يقول فكتور هيغو، كما أظن ما يلي : « Dans concierge y a cierge »***؛ لذا يمكنني القول أنا أيضاً : « dans contexte il y a texte »****. كذلك لا يمكننا ذكر الواحد دون الإشارة سلفاً نحو الآخر، وذلك ما يخلق مشكلة في الأدب. قد يتوجب علينا بالأحرى ارجاع القوة الرمزية للقرينة، وذلك باستخدامنا لمنهج تأويلي herméneutique، أو سيميائي sémiotique، يرتكز على التحولات التركبية التعبيرية، أي النصوص، أكثر من استناده على الثبات النموذجي. ومعنى هذا –وذلك ما نعرفه على الأقل منذ سويسر Saussure- بأن الأهمية لا تكمن في التكرار répétition، ولكن في الفارق différence، في التغيير modulation، في التحوير altération، وفي ما أطلق عليه يوم أمس "سيرج دبروفسكي" Serge Doubrovskey الملاحظة المخطؤةِ la fausse note : أي التنوع، وإن كان في شكله الأكثر بدائية. إذ قد يكون من الأفضل لنا التفكير بأن دور الناقد، كما هو دور الموسيقار، هو تفسير التنوعات.
*أديرت هذه الطاولة من قبل "سيرج دبروفسكي". الحاضرون هم : رولان بارت، جيرار جنيت، جان ريكاردو، جان بيار ريشارد. دفاتر مارسيل بروست، السلسلة الجديدة، رقم 7، باريس، منشورات غاليمار، 1975، ص 116-87. تمت قراءة النص وتدقيقه من قبل جاك برساني، بموافقة المشاركين. أمّا ترجمتنا لهذه الطاولة المستديرة فهي مأخوذة عن الكتاب الذي صدر بعد وفاة الفيلسوف جيل دولوز والذي يحمل عنوان : "نظامي المجانين" .Deux Régimes de fous
**جان سونتي هي مخطوطة ضخمة عُثر عليها بعد وفاة بروست بزمن طويل، يعتقد بعض النقاد بأنه يمكن التعامل معها باعتبارها مخططاً أولياً لما سيتولد في "البحث عن الزمن الضائع".
*** يلعب هنا فكتور هيغو على كلمة حارس البناية، بالفرنسية Concierge، وكلمة شمع، بالفرنسية Cierge.
**** كذلك يقوم جيرارد جنيت، هنا باللعب على كلمة "قرينة"، بالفرنسية Contexte، وكلمة نص، بالفرنسية Texte، وكأنه يحاول الإيحاء بعلاقة بعينها ما بين النص وقرينته الزمانية-المكانية.
حسين عجة
كاتب وروائي وشاعر عراقي يعيش في باريس
جيل دولوز
رولان بارت* : لأنه ينبغي عليَّ أن أكون المتكلم الأول، سأركز خاصة على ما أظنه الطابع الإحراجي لكل حوار من حول بروست : لا يمكن لبروست أن يكون موضوعاً إلا لمحاورة لا تنتهي infini : لا نهائية، ذلك لأنه، أكثر من أيّ مؤلف آخر، لديه ما يقوله لنا إلى ما لا نهاية. أنه ليس مؤلفاً أبدياً éternel، لكنه، كما أعتقد، مؤلف دائم auteur perpétuel، كما يقول المرء روزنامة دائمة. كذلك لا أظن بأن مرد ذلك عائد لثرائه، هذا الثراء الذي يمكن أن يكون مجرد فكرة نوعية، بل بالأحرى إلى نوع من تهدم البنية déstructuration في خطابه. فهو ليس خطاباً مُستطرداً digressé وحسب، كا يقول ذلك البعض، ولكنه خطاب مثقوب troué ومفكك : كوكب يمكن أرتياده إلى ما لا نهاية، فجزئياته لا تكف عن تغيّير مواقعها ومبادلتها البعض مع الآخر. وهذا ما يجعلني أقرأ بروست، وهو واحد من المؤلفين النادرين الذين أعيد قراءتهم، باعتباره معبراً وهمياً، تنيره أضواء مُتعاقبة تخضع لنوع من المعدلة الكهربائية rhéostat المنوعةِ ومن ثم تمرر تدريجياً، وباستمرار أيضاً، الديكور عبر أحجام مختلفة، مستويات متنوعة، وأشكال مختلفة من الوضوح. أنه مادة لا تنفذ، ليس لأنه جديد في كل مرة، فذلك ما لا معنى له، ولكن لأنه يصلنا في كل مرة مُتزحزاً عن مكانه. من هنا، يمكننا القول بأن عمله يخلق "متحرك" حقيقي، وربما يكون التجسيد الحقيقي للكتاب Livre كما حلمَ به ملارميه. من وجهة نظري، لا يمكن أن يُثير "البحث عن الزمن الضائع" (وما يُضاف إلى جواره من النصوص الأخرى) إلا أفكاراً للبحث وليس ابحاثاً. بهذا المعنى، يشكل النص البروستي مادة رائعة للرغبة النقدية le désir critique. أنه موضوع رغبة بالنسبة للنقاد، فكل ما فيه يتمً استنفاذه باستيهام البحث، في فكرة بحث أحدهم عن شيء ما عند بروست و، في ذات الوقت، كل ما فيه يجعل فكرة العثور على نتيجة في ذلك البحث وهميةً. أن تفرد بروست نابع من أنه لا يدعنا نقوم بأي شيء آخر سوى : كتابته ثانية le réécrire، وهذا ما يشكل نقيضاً لإستهلاكه.
جيل دولوز : من ناحيتي، سأكتفي بطرح مشكلة اعتبارها حديثة نوعما. أشعر بنوع من الحضور المهم للغاية، والمقلق تماماً للجنون في هذا العمل. وذلك لا يعني أبداً القول بأن بروست كان مجنوناً، ولكن التأكيد على أن ثمة من حضور حيّ وكبير للجنون في البحث نفسه la Recherche même. بدءً، بوجود ذلك الجنون عند شخصيتين أساسيتين من شخوص العمل. أن حضور الجنون هذا، كما هو الأمر دائماً عند بروست، موزع بحذاقة. إذ من المؤكد، منذ البداية، بأن جارليس Charlus مجنون. فما أن يلمحه المرء حتى يقول مع نفسه : حقاً، أنه مجنون. وهذا ما يقوله لنا الراوي. أمّا بالنسبة للأربتين Albertine، فالقضية معكوسة، فنحن نكتشف جنونها في النهاية؛ أي أن جنونها لا يشكل عندنا يقين مباشر، بل مجرد شك، أو إمكانية. قد تكون مجنونة، وربما كانت كذلك دائماً. وهذا ما توحي به أندريه Andrée في الأخير. منْ هو المجنون إذاً ؟ لا شك أنه جارليس. ألبرتين، ربما. لكن ألا يمكن أن يكون هناك طرف ثالث أكثر منهما جنوناً ؟ ثالث قد يكون مُتخفياً في كل مكان ويتلاعب بيقننا بأن جارليس مجنون واحتمالية أن تكون ألبرتين مجنونة هي كذلك ؟ ألا يمكن أن يكون هناك مشرف على اللعبة ؟ كل واحد يعرف ذلك المُشرفِ، أنه الراوي ذاته. بأي معنى يكون فيه ذلك الراوي مجنوناً ؟ أنه غريب تماماً ذلك الراوي. غريب الأطوار تماماً. كيف يُقدم نفسه ؟ أنه شخص بلا أعضاء، فهو لا يرى، لا يفهم أيّ شيء، ولا يراقب أي شيء، كما لا يعرف أي شيء؛ حينما يعرض عليه أحدهم شيئاً، ينظر إليه : لا يرى؛ يجعله أحدهم يشم شيئاً، ويقول له : لترى كم هو جميل، ينظر، وفي اللحظة التي يُقال له فيه : ولكن لترى، لتنظر قليلاً، -حينئذ يصدح شيء ما في رأسه، يفكر بشيء آخر، شيء ما يهمه، لكنه لا يخضع لنظام الإدراك، ولا للنظام الذهني. ليس لديه من أعضاء، لا أحاسيس ولا إدراك، لا شيء عنده. أنه كالجسد العاري، جسد ضخم غير مُميز.
ما هي فاعلية ذلك الذي لا يرى، لا يحس ولا يفهم أي شيء ؟ أعتقد بأن من يجد نفسه في تلك الحالة لا يمكنه سوى الرد على الإشارات والإيماءات. بتعبير آخر، الراوية عنكبوت. ليس ثمة من نفع للعنكبوت، فهو لا يفهم أي شيء، كما يمكن للمرء أن يضع تحت نظره ذبابة ومع ذلك لا تتولد لديه أية ردة فعل. لكن ما أن تهتز زاوية صغيرة من نسيجه، وإذا بجسده الضخم يتحرك. لا يتمتع بمدركات، وهو بلا أحاسيس. أنه يستجيب إلى الإيماءات، هذا كل ما في الأمر. وكذلك هي الحال عند الراوية. فهو أيضاً يحيك نسيجاً، أي عمله، ويستجيب لهزاته، في ذات اللحظة التي يحيك فيها. عنكبوت-جنون، راوي-جنون لا يفهم أي شيء، ولا يرغب كذلك في فهمه، ولا يهمه أي شيء اللهم إلا تلك الإشارة الصغيرة، الموضوعة هناك في العمق. فجنون جارليس المؤكدِ وكذلك جنون ألبرتين، المحتمل، ينبعان بلا شك منه بالذات. فهو يلقي على كل مكان حضوره المعتمِ، الأعمى؛ في كل مكان أي في الأركان الاربعة من النسيج، النسيج الذي ينسجه، يفككه ويعيد نسجه ثانية. تحول أكثر جذرية حتى مما عند كافكا، ما دام الراوية نفسه قد تحول قبل أن تشرع القصة حتى.
لكن ما الذي يراه المرء حين لا يرى أي شيء ؟ أن ما يجذب الإنتباه في البحث، من وجهة نظري، هو شيء واحد، ذات الشيء المُتكررٍ والمتنوعٍ، في ذات الوقت، بصورة خارقة. إذا ما حاولنا نسخ رؤية الراوي بالطريقة التي ينسخ بها البيولوجين رؤية الذبابة، سنحصل على سديم nébuleuse ترافقه، هنا وهناك، نقاط لماعة صغيرة. مثال، سديم جارليس : ما الذي يراه فيه الراوية، الذي هو ليس بروست بالتأكيد ؟ يرى عينين، تتلامضان، وهما غير متساويتان، ويسمع بغموض صوتاً. هناك تفردان ينطوي عليهما ذلك الجسم الضخم، جسم جارليس. أمّا في حالة ألبرتين، فالسديم ليس فردياً، بل جماعياً، تمييز لا أهمية له من ناحية أخرى. أنه سديم "الفتيات" المُتصاحب مع تفردات بعينها، وهي واحدة منهن. هكذا يجري الأمر دائماً عند بروست. أن الرؤية الأولى العامة هي بمثابة غيمة مع نقاط صغيرة. هناك لحظة أخرى لكنها غير مطمئنة أيضاً. وفقاً للتفردات التي يتضمن عليها السديم، تتشكل سلسلة، سلسلة خطاب جارليس، على سبيل المثال، ثلاثة خطابات مبنية على نفس النمط ولها ذات الإيقاع الواحد، ففي كل مرة يبدأ جارليس بما يمكننا تسميته اليوم بالنكران : "كلا، أنتَ لا تهمني"، ذلك ما يقوله للراوية. اللحظة الثانية، بالمعكوس، منك إلي، "هناك مسافة لا يمكن تخطيها، وأنتَ لا تمثل أي شيء بالنسبة لي". اللحظة الثالثة هي الجنون : في خطاب جارليس، المُسيطر عليه حتى تلك اللحظة، ثمة شيء ما ينحرف. ظاهرة غريبة تتولد في الخطابات الثلاثة جميعها. كذلك ينبغي علينا أن نبين بذات الطريقة بأن هناك سلسلة، وحتى مجموعة سلاسل تتعلق بالأبرتين، التي تفصل نفسها عن سديم الفتيات. أن تلك السلاسل ممهورة بانفجارات سادية-مازوخية؛ أنها سلاسل مُقززة، تجاورها حالات تدنيس، حجوزات؛ ولأنها قد تولدت عن رؤية مصابة بقصر النظر، لذا فهي سلاسل ضخمة وقاسية. ومع ذلك، لا يتوقف الأمر عند هذه النقطة. في لحظة ما، في نهاية تلك السلاسل وكأننا نمر في زمن ثالث نهائي، ينحل كل شيء، يتلاشى وينفجر –ويعاود الإنغلاق- ضمن مجموعة من العلب الصغيرة. كفت ألبرتين في أن تكون. ثمة مئات العلب الصغيرة من ألبرتين، مطروحةً أمامنا، معروضةً على أعيننا، لكنهن غير قادرات على التواصل بعضهن مع البعض الآخر، وفقاً لبعد غاية في الإثارة إلا وهو البعد العرضي dimension transversale. هنا، كما أعتقد، أي في هذه اللحظة الأخيرة، يظهر حقاً موضوع الجنون. بمعية نوع من البراءة النباتية، مطوقاً بسياج هو بالدقة سياج النباتات. أن النص النموذجي، على هذا الصعيد، أي النص الذي يُظهر أفضل من غيره التركيب الثلاثي لرؤية الرواي-العنكبوت، هو النص الذي يصف القبلة الأولى التي يطبعها البطل على خد البرتين (Pléiade, 2, P.363-365). ففي هذا النص نميز بوضوح اللحظات الثلاث الأساسية (لكن بإمكان المرء العثور على العديد غيرها). نعثر أولاً على سديم الوجه، ترافقه نقطة صغيرة لماعة، ومتنقلةً. بعدها، يقترب البطل : "عبر هذه المسافة القصيرة ما بين شفتي وخدها، رأيتُ عشرة من ألبرتين". وفي النهاية، تأتي اللحظة الثالثة والأخيرة، حين يلامس فمه خدها ويصبح هو فيها جسداً معمياً، يتصارع مع ذلك الإنفجار، وحالة ألبرتين الكيئبة : "(...) وفجأة، كفت عيناي عن الرؤية، وبدوره انسحق أنفي، لم يشتم أية رائحة، ولم يتعرف على مذاق الوردة التي كان يرغب فيها، ومن ثم عرفتُ، عبر هذه الإشارات الكريهة، بأني كنتُ على وشك تقبيل خد ألبرتين".
ما يُثير أهتمامي الآن في البحث هو التالي : حضور، مثول الجنون في العمل، والذي هو ليس مجرد ثوباً، ولا كتدرائية، لكن نسيج عنكبوت على وشك أن يتم نسجه أمام أعيننا.
جيرارد جنيت : ما سأقوله استوحيته من هذه المحاورة، ومن نظرة لاحقة على عملي الخاص، القديم والحديث منه المُتعلّقِ ببروست. يبدو لي أن عمل بروست، بحكم ضخامته وتعقيده، وكذلك بحكم طابعه التطوري، وذلك التعاقب المتواصل للحالات états المختلفة لذات النص، إنطلاقاً من "الأيام واللذات" Les Plaisirs et les jours وحتى "الزمن المُستعاد" Temps retrouvé، يعرض أمام الناقد صعوبة تشكل في ذات الوقت، من زاوية نظري، حضاً : بدلاً من التأويلية الكلاسيكية herméneutique classique، التي هي تأويلية نموذجية (أو مجازية) يطرح الناقد تأويلية جديدة، قد تكون تأويلية تركيبية syntagmatique، أو كنائية métonymique إذا ما شئنا. أريد القول بأنه لم يعد كافياً حين يرتبط الأمر ببروست الإنتباه وتسجيل معاودة الدوافع ومن ثم تقديم لائحة من خلال تلك التكرارات، عن طريق التكديس والموافقة على مواد مواضعية (متعلقة بالمواضيع) يجري بعدها أقامة شبكة مثالية، وفقاً لمنهج قدمَ عنه "جارلس موران" Charles Mauran نسخته الأكثر وضوحاً، لكنه يبقى، بالعمق، منهج أي نقد مواضعي critique thématique. كما ينبغي على المرء الأخذ بعين الأعتبار تأثيرات الأقتراب والإبتعاد، أي المكان في النص place dans le texte، القائم ما بين العناصر المختلفة للمحتوى.
لقد جذبت هذه الأمور دائماً، بطبيعة الحال، انتباه محللي التقنية الروائية أو الأسلوبية؛ فقد حدثنا جان روسيه Jean Rousset، مثلاً، عن الطابع التشتتي caractère sporadique لتقديم الشخوص في البحث، كما يحدثنا ليو برساني Leo Bersani عما يسيمه "القوة المنزاحة عن المركز"، "التعالي الأفقي" لأسلوب البحث، والذي يميزه عن أسلوب "جان سونتي"** Jean Santeuil. لكن ما يصلح للتحليل الشكلي (المتعلق بالشكل) يصلح أيضاً كما أعتقد، وبشكل خاص وأكثر وضوحاً عند بروست، للتحيل المواضعي والتفسير l’interprétation. ولكي لا أخذ سوى مثالين أو ثلاثة صادفتها اثناء عملي، يمكنني القول بأنه من المفيد للمرء أن يلاحظ، ومنذ الصفحات الأولى من "إلى جانب كومبري" Combray، ظهور موضوعي الكحول والجنس المتجاورين، وهذا ما سيجعل علاقتهما اللاحقة تقوم على التعادل المجازي (على الأقل). بالمقابل، أجد تأثير الزحزحة، أو التأجيل، إذا ما طبقناه على علاقة "مارسيل" الحبية وأبنت عمه الغريبة؛ الزحزحة والتأجيل اللذين لم يجر تذكرهما إلا فيما بعد، في لحظة بيع الإريكة للعمة "ليوني" إلى بيت المتعة العائد لراشيل. أو ظهور مادة مواضعية كبرج مدينة "روسنفيل"، الذي يظهر مرتين في "كومبري" كشاهد وحافظ سر للأثارات الأيروسية المعزولة للبطل، ومن ثم ظهوره ثانية في "الزمن المُستعاد" ولكن بدلالة أيروسية جديدة، ينعكس صداها على الأولى ويحورها فجأة، حين نعرف بأن ذلك البرج كان مكاناً لممارسات فاجرة تقوم بها "جلبرت" مع فتية القرية. ثمة هنا أثر للتنوع، للأختلاف في الهوية وهو لا يقل في أهميته عن أهمية الهوية؛ لكن لا يكفي تنضيد الحدثين أحدهما فوق الآخر لكي نحصل على تفسير لهما، إذ ينبغي القيام بتأويل ما يقاوم ذلك التنضيد أيضاً. لاسيما ونحن نعرف بأن "البحث" يتولد غالباً عبر تفجر وتفكك الخلايا التوليفية البدائية : أنه كون في طور التمدد، لا تني فيه العناصر التي كانت في البداية قريبة تماماً من بعضها من الإبتعاد عن بعضها الآخر. نحن نعرف، مثلاً، بأن "مارسيل" و"سوان"، "جارليس" ونوربواس" كانا قريبين من بعضهم حد خلط المرء بينهما، كذلك نلاحظ بأن كتاب "ضد سانت بيف" « Contre Sainte-Beuve » يضع تجربة كعكة المادلين بجانب تجربة بلاط "آل غيرمونت"، أمّا المخطوطة التي نشرها "فيليب كولب" Philippe Kolb، فتخبرنا بأن مصادر التجربة التي عاشها البطل في "الفيفون" كان قد حصل عليها منذ طفولته، وبأن كل المعمار المواضيعي "للبحث" يرتكز حالياً على ذلك التباعد العظيم ما بين مداميك الأقواس تلك، أي على انتظارنا الكبير لعملية الكشف النهائية.
كل ذلك يرغمنا، إذاً، على إعارة انتباه خاص للتركيب الزمكاني للدلالات المواضيعية، أي القوة السيميائية للقرينة. لقد شدد رولان بارت أكثر من مرة على الدور اللارمزي للقرينة، والتي يتم التعامل معها دائماً باعتبارها أداة إختزال للمعنى. يبدو لي أنه بإمكاننا تخيل ممارسة عملية لها معاكسة لتلك الممارسة، إنطلاقاً من ملاحظات على هذه الشاكلة. فالقريينة، أي مجال النص l’espace du texte، وتأثيرات ذلك المكان les effets de place المُحدّدِ، هو أيضاً مولد للمعنى. يقول فكتور هيغو، كما أظن ما يلي : « Dans concierge y a cierge »***؛ لذا يمكنني القول أنا أيضاً : « dans contexte il y a texte »****. كذلك لا يمكننا ذكر الواحد دون الإشارة سلفاً نحو الآخر، وذلك ما يخلق مشكلة في الأدب. قد يتوجب علينا بالأحرى ارجاع القوة الرمزية للقرينة، وذلك باستخدامنا لمنهج تأويلي herméneutique، أو سيميائي sémiotique، يرتكز على التحولات التركبية التعبيرية، أي النصوص، أكثر من استناده على الثبات النموذجي. ومعنى هذا –وذلك ما نعرفه على الأقل منذ سويسر Saussure- بأن الأهمية لا تكمن في التكرار répétition، ولكن في الفارق différence، في التغيير modulation، في التحوير altération، وفي ما أطلق عليه يوم أمس "سيرج دبروفسكي" Serge Doubrovskey الملاحظة المخطؤةِ la fausse note : أي التنوع، وإن كان في شكله الأكثر بدائية. إذ قد يكون من الأفضل لنا التفكير بأن دور الناقد، كما هو دور الموسيقار، هو تفسير التنوعات.
*أديرت هذه الطاولة من قبل "سيرج دبروفسكي". الحاضرون هم : رولان بارت، جيرار جنيت، جان ريكاردو، جان بيار ريشارد. دفاتر مارسيل بروست، السلسلة الجديدة، رقم 7، باريس، منشورات غاليمار، 1975، ص 116-87. تمت قراءة النص وتدقيقه من قبل جاك برساني، بموافقة المشاركين. أمّا ترجمتنا لهذه الطاولة المستديرة فهي مأخوذة عن الكتاب الذي صدر بعد وفاة الفيلسوف جيل دولوز والذي يحمل عنوان : "نظامي المجانين" .Deux Régimes de fous
**جان سونتي هي مخطوطة ضخمة عُثر عليها بعد وفاة بروست بزمن طويل، يعتقد بعض النقاد بأنه يمكن التعامل معها باعتبارها مخططاً أولياً لما سيتولد في "البحث عن الزمن الضائع".
*** يلعب هنا فكتور هيغو على كلمة حارس البناية، بالفرنسية Concierge، وكلمة شمع، بالفرنسية Cierge.
**** كذلك يقوم جيرارد جنيت، هنا باللعب على كلمة "قرينة"، بالفرنسية Contexte، وكلمة نص، بالفرنسية Texte، وكأنه يحاول الإيحاء بعلاقة بعينها ما بين النص وقرينته الزمانية-المكانية.
حسين عجة
كاتب وروائي وشاعر عراقي يعيش في باريس
جيل دولوز