إذا كان لكل مبدع حقله المجاور لروحه فإن بعض المبدعين، وبحكم حساسيتهم الوجودية العالية المستوى والعميقة، تراه ينجذب نحو حقول وعرة وصعبة لا تقل خطورة عن أي حقل يجاور الروح، ذلك أن بعض هذه الحقول تقود صاحبها إلى ما يُشبه الجنون وعدم التماثل أو التشابه مع الآخر الإنساني.
إن المبدع، سواء كان شاعراً أو رساماً أو حتى روائياً، فإنه يستطيب فكرة الإقامة بجوار حقله الذي تتشكل ثماره وتنمو وتنضج بحسب ما يغدق هذا الفنان على جذور شجيرات حقله من ماء روحه، كي يمنحها في النهاية كل هذا البهاء، وكل تلك النضارة التي لا تشيخ. وهو إذ يفعل هذا فإنه يختار طواعية فكرة هجر التزاحم مع الآخرين في سبيل الرزق ولقمة العيش، وطأطأة الرأس لكل ماهو طارئ.
ولهذا تراه وهو يهدف إلى الانزواء والإعفاء من الواجبات الاجتماعية المُلزمة كي تقل عليه الضرائب الاجتماعية السائدة، والصحيح أننا كلما عمقنا التحديق في سير هذا اللامنتمي كلما اكتشفنا أن فعل اقترابه من حقله الروحي الوعر كان قد بدا مبكراً!
وحين استطاع الشاعر الفرنسي آرثر رامبو أن يربك مدرسته اضطر مدير المدرسة إلى أن يستدعي والدة رامبو ويقول لها باختصار «ابنك هذا يا سيدتي إما أن يكون تافهاً جداً أو عبقريا جداً» والصحيح أن لا والدة رامبو ولا مدير المدرسة استطاعا إدراك نار الشعر ونار الانعتاق في الأمكنة التي تشتعل أوارها في أعماق رامبو.
ويمكن للإنسان، الذي اختار فكرة النأي والابتعاد عن الجماعة، أن يهرب برؤاه الجارحة باتجاه الكتابة كي ينجو من المجهرة وتقليب المواجع، حيث تصبح الكتابة هي الملاذ الآمن، تماماً مثلما فعل «باربوس» في روايته «الجحيم»، حيث اكتفى ببطله الذي يراقب العالم من ثقب الباب، كي يشكل رؤاه بالشكل الذي يريد عن طريق هذا البطل الذي يتشرب الحياة من ثقب الباب!
لكن بعض هؤلاء الكتاب الذين يقيمون في حقولهم الروحية الجارحة يكتبون من داخل حقولهم الوعرة، وإلا من يصدق أن واحداً مثل كافكا الذي تقمّص في رواية «المسخ» شخصية الصرصار المقلوب على ظهره بشكل كابوسي، كي يعبر عن كابوسية الحياة!
أما البعض الآخر فيهاجر فيزيائياً من مكانه كي ينتقل إلى حقوله الوعرة، كي يتنفس أوكسجينه الخاص، وذلك بالعودة إلى الغابة الأولى التي شكلت الإنسان البدائي.
فالفنان «غوغان» اختار في لحظة نزق روحية أن يكشط عن روحه كل السماكات الحضارية المقترحة، وأن يبدأ حياة برية من جديد، إذ ليس من الطبيعي على الإطلاق أن يختار هذا الفنان، وهو في قمة تألقه الفني في باريس، الإقامة مع البدائيين في جزر هاواي، وأن يختار امرأة بدائية كي يعيش معها. إن رحيل «غوغان» عن باريس وضجتها الحضارية ومقاهيها هو استجابة لروحه الوثابة التي تحلم بالعودة إلى اكتشاف روحه البدائية وفي المكان البدائي!
ولعل الفنان «فان جوخ» هو من أهم الفنانين الذين اختاروا الإقامة في حقل روحه الوعرة، إذ ليس من الطبيعي أن يستجيب هذا الفنان للمرأة التي أبدت إعجابها بأذنه فيقوم بقطعها ووضعها في علبة كبريت فارغة! وهو الفنان الذي كان يسير في يوم مشمس في أحد الحقول وهو يتأمل جمال الطبيعة، وحين نظر إلى السماء ورأى غيوماً قطنية فوق رأسه وكان يعبرها بعض الطيور جعلته الدهشة يفقد وعيه ويقع مغشياً عليه!
إننا حين نراقب هذه الأيام طيش العديد من الكتاب العرب وأمّيتهم الروحية إزاء خيار الكتابة، نحزن بالفعل لقامات إبداعية كبيرة مثل ما نحزن على حقولهم الروحية التي مازلنا ننعم بثمارها.
______
*(الإمارات اليوم)
إن المبدع، سواء كان شاعراً أو رساماً أو حتى روائياً، فإنه يستطيب فكرة الإقامة بجوار حقله الذي تتشكل ثماره وتنمو وتنضج بحسب ما يغدق هذا الفنان على جذور شجيرات حقله من ماء روحه، كي يمنحها في النهاية كل هذا البهاء، وكل تلك النضارة التي لا تشيخ. وهو إذ يفعل هذا فإنه يختار طواعية فكرة هجر التزاحم مع الآخرين في سبيل الرزق ولقمة العيش، وطأطأة الرأس لكل ماهو طارئ.
ولهذا تراه وهو يهدف إلى الانزواء والإعفاء من الواجبات الاجتماعية المُلزمة كي تقل عليه الضرائب الاجتماعية السائدة، والصحيح أننا كلما عمقنا التحديق في سير هذا اللامنتمي كلما اكتشفنا أن فعل اقترابه من حقله الروحي الوعر كان قد بدا مبكراً!
وحين استطاع الشاعر الفرنسي آرثر رامبو أن يربك مدرسته اضطر مدير المدرسة إلى أن يستدعي والدة رامبو ويقول لها باختصار «ابنك هذا يا سيدتي إما أن يكون تافهاً جداً أو عبقريا جداً» والصحيح أن لا والدة رامبو ولا مدير المدرسة استطاعا إدراك نار الشعر ونار الانعتاق في الأمكنة التي تشتعل أوارها في أعماق رامبو.
ويمكن للإنسان، الذي اختار فكرة النأي والابتعاد عن الجماعة، أن يهرب برؤاه الجارحة باتجاه الكتابة كي ينجو من المجهرة وتقليب المواجع، حيث تصبح الكتابة هي الملاذ الآمن، تماماً مثلما فعل «باربوس» في روايته «الجحيم»، حيث اكتفى ببطله الذي يراقب العالم من ثقب الباب، كي يشكل رؤاه بالشكل الذي يريد عن طريق هذا البطل الذي يتشرب الحياة من ثقب الباب!
لكن بعض هؤلاء الكتاب الذين يقيمون في حقولهم الروحية الجارحة يكتبون من داخل حقولهم الوعرة، وإلا من يصدق أن واحداً مثل كافكا الذي تقمّص في رواية «المسخ» شخصية الصرصار المقلوب على ظهره بشكل كابوسي، كي يعبر عن كابوسية الحياة!
أما البعض الآخر فيهاجر فيزيائياً من مكانه كي ينتقل إلى حقوله الوعرة، كي يتنفس أوكسجينه الخاص، وذلك بالعودة إلى الغابة الأولى التي شكلت الإنسان البدائي.
فالفنان «غوغان» اختار في لحظة نزق روحية أن يكشط عن روحه كل السماكات الحضارية المقترحة، وأن يبدأ حياة برية من جديد، إذ ليس من الطبيعي على الإطلاق أن يختار هذا الفنان، وهو في قمة تألقه الفني في باريس، الإقامة مع البدائيين في جزر هاواي، وأن يختار امرأة بدائية كي يعيش معها. إن رحيل «غوغان» عن باريس وضجتها الحضارية ومقاهيها هو استجابة لروحه الوثابة التي تحلم بالعودة إلى اكتشاف روحه البدائية وفي المكان البدائي!
ولعل الفنان «فان جوخ» هو من أهم الفنانين الذين اختاروا الإقامة في حقل روحه الوعرة، إذ ليس من الطبيعي أن يستجيب هذا الفنان للمرأة التي أبدت إعجابها بأذنه فيقوم بقطعها ووضعها في علبة كبريت فارغة! وهو الفنان الذي كان يسير في يوم مشمس في أحد الحقول وهو يتأمل جمال الطبيعة، وحين نظر إلى السماء ورأى غيوماً قطنية فوق رأسه وكان يعبرها بعض الطيور جعلته الدهشة يفقد وعيه ويقع مغشياً عليه!
إننا حين نراقب هذه الأيام طيش العديد من الكتاب العرب وأمّيتهم الروحية إزاء خيار الكتابة، نحزن بالفعل لقامات إبداعية كبيرة مثل ما نحزن على حقولهم الروحية التي مازلنا ننعم بثمارها.
______
*(الإمارات اليوم)