(يهدي طرابيشي هذا الكتاب للباحث المغربي الراحل جمال الدين العلوي، وهو الكتاب الثاني الذي يهديه لشخصية مغربية بعد محمد الباهي))
يشتمل هذا الكتاب على خمسة فصول، خصص كل واحد منها لشخصية ممثلة للفكر العربي الإسلامي.
الفصل الأول: "ابن سينا: أسطورة الفلسفة المشرقية"
يقول طرابيشي في أول فقرة من هذا الفصل: «ما تشبث ناقد العقل العربي قط بإزاحة فاعل من فعلة العقل العربي الإسلامي عن موقعه في نسق معرفي للزج به، على سبيل التشهير، في نسق معرفي آخر، تشبثه بإزاحة ابن سينا من البرهان "العقلاني" إلى العرفان "اللاعقلاني" (ص11). والشاهدين التاليين يلخصان موقف الجابري من ابن سينا: "إن ابن سينا يتبنى الهرمسية بكاملها، بتصوفها وعلومها السرية السحرية... وفلسفته المشرقية تكرس اللامعقول بمختلف ألوانه وأشكاله... وهو بكل تناقضاته يسجل لحظة انفجار تناقض العقل العربي مع نفسه" (تكوين العقل العربي ص 266-268 ؛ ص 12). "فابن سينا قد "جند نفسه"، من خلال فلسفته المشرقية، لإضفاء "المشروعية العقلية على مختلف جوانب اللامعقول التي ورثها الإسلام كحضارة وثقافة عن الحضارات والثقافات القديمة" (نحن والتراث ص 209). ومن خلال "عملية التخريب الذاتي التي مارسها عقل ابن سينا"، كان هو الصانع الفكري لعصر الانحطاط وذلك بقدر ما "ترك فلسفته المشرقية تقدم نفسها ك "علم" وك "معرفة" لأيديولوجيا عصر الانحطاط" (نحن والتراث ص 222؛ ص 13).
وللرد على مزاعم الجابري يخصص طرابيشي جل الفصل للنبش في موضوع ما يدعى بالفلسفة المشرقية، قائلا: "فمن جهة أولى، سنعمل على إعادة بناء الملف العقلاني "للفلسفة المشرقية" بما يبطل تورط ابن سينا في جريمة "قتل العقل والمنطق في الوعي العربي". وسنعمل من الجهة الثانية على إثبات عدم وقوع الجريمة أصلا، اعتقادا منا... أن الفلسفة المشرقية أسطورة، خرافة، أو في أدنى الأحوال صرعة استشراقيه. وبدون أن ننفي أن للفلسفة المشرقية الموهومة جذورا تاريخية... فإننا نعتقد اعتقادا راسخا أن المستشرقين، أو غالبية منهم على الأقل، هم الذين استنبتوا من تلك الجذور شجرة، وهم الذين استزرعوا من الشجرة غابة" (ص 14).
ومن أسباب اللبس الذي يحيط بالفلسفة المشرقية كون ابن سينا ألف كتابا تحت عنوان "الحكمة المشرقية"، وهو كتاب ضائع. لكن المستشرق البلجيكي أ.ف. مهرن عمم العنوان ليطلقه على جملة المؤلفات الصغيرة والرسائل الصوفية المنسوبة لابن سينا، وتبعه في ذلك غولدزيهر (ص 16). ومن المستشرقين من قرأ مشرقية بضم الميم، ومنهم الفرنسي ليون غوتييه والألماني ماكس هورتن الذي عرف الفلسفة المشرقية بأنها "ترمي إذا إلى معرفة الله عن طريق الوجدان والذوق، في مقابل الفلسفة الدقيقة التي تستخدم البرهان وتسير على منهج استدلالي. فهي تقول أن الحقيقة شيء "يشرق" للعقل، فهي "مشرقة". وعلى هذا النحو لشرق الله للصوفي، فهو مشرق. ومن يستخدم هذا اللفظ للدلالة على مذهبه "مشرقي" (بضم الميم)، أي صوفي، أو فيلسوف الإشراق في مقابل الفيلسوف الذي يستخدم طريق البرهان" (التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية ص 265؛ ص 18)
ثم تدخل نيلينو ليسقط القراءة الشاذة التي ترفع الميم، وليؤكد أن فلسفة ابن سينا الصوفية لا تمت بصلة إلى حكمة الإشراق. فهذه الحكمة كما تمثلت في مذهب السهروردي تختلف اختلافا جوهريا عن فلسفة ابن سينا والفارابي، رغم أن الأفلاطونية المحدثة تعتبر قاسما مشتركا بينهما. إلا أن حكمة الإشراق لا تستمد الأفلاطونية المحدثة من مصادرها الأصلية كما فعل ابن سينا والفارابي بل تأخذها من ميتافيزيقا النور المتأخرة التي هي خليط من التقاليد الغنوصية القديمة والعلوم المستورة، والتي حافظ عليها ونماها صابئة حران حتى بعد غزو المسلمين لبلاد فارس. كما أنها خلطت من قبل السهروردي بعناصر ذات طابع إيراني خالص مأخوذة من الديانة الزرادشتية (ص 19).
غير أن هنري كوربان حاول غونصة ابن سينا (ص 21)، لكن آميلي غواشون الاختصاصية في السينوية بددت ضباب الغنوص الذي أحاطت به المدرسة الكوربانية ابن سينا، ودافعت عن قراءة عقلانية لفلسفته. بل أنها دافعت عن الطابع العلمي الصرف لفلسفة ابن سينا بفضل استثمارها لإنجازات مدرسة جنديشابور في حقل الطب والعلوم الطبيعية (ص 23-24).
ويقول طرابيشي "أنه متى ما تجرد مصطلح "المشرق" من دلالته الإشراقية أو الباطنية ليحيل، في مالة ابن سينا، إلى مجرد الإقليم الذي ولد وعاش وكتب ومات فيه" (ص 108). "فصفة "المشرقية" لا تسمي عند ابن سينا فلسفة مغايرة للفلسفة المشائية السائدة – ودائما بملابستها الأفلوطينية – بل تعين فقط مستوى بعينه من حرية التحرك والاجتهاد الشخصي في إطار المنظومة الفلسفية ذاتها" (ص 109). والسهروردي نفسه "أصر على أنه هو – وليس أحد سواه – من "أحيا الحكمة العتيقة التي ما زالت أئمة هند وفارس وبابل ومصر وقدماء يونان إلى أفلاطون يدورون عليها ويستخرجون منها حكمتهم" (ص 125).
الفصل الثاني: "ابن طفيل: مؤرخ بؤس الفلسفة في الأندلس"
في هذا الفصل يريد طرابيشي أن يبين أنه لا يوجد خندق عقلاني مغربي-اندلسي في مواجهة خندق عرفاني مشرقي، بادئا بابن سبعين.
يزعم الجابري أن "سمعة ابن سينا في الأوساط الفلسفية بالمغرب والأندلس لم تكن على ما يرام: لقد تجاهله ابن باجة بينما تحدث عن الفارابي وأخذ عنه. أما ابن رشد فلقد كان نقده لابن سينا أشد من نقده للغزالي. وأما في أوساط المتصوفة فلم يكن حظه أحسن حالا. فابن سبعين يصفه بأنه "مموه مسفسط، كثير الطنطنة، قليل الفائدة، وما له من التواليف لا يصلح لشيء، ويزعم أنه أدرك الفلسفة المشرقية، ولو أدركها لتضوع ريحها عليه وهو في العين الحمية، وأكثر كتبه مؤلفة ومستنبطة من كتب أفلاطون، والذي فيها من عنده فشيء لا يصلح، وكلامه لا يعول عليه، و"الشفاء" أجل كتبه، وهو كثير التخبط ومخالف للحكيم" (نحن والتراث ص 161-162؛ ص 127) . لكن العودة إلى الشاهد في مصدره الأصلي تبين أن ما يؤاخذ عليه ابن سبعين ابن سينا يتعلق بالسبق للحكمة المشرقية، فغرضه هو أن يثبت "أنه هو – وليس أحد سواه-أول من يفشى أسرار الحكمة المشرقية" (ص 128). فاحتكار ريادة الحكمة المشرقية هو ما حمل ابن سبعين على الطعن الشديد في جميع فلاسفة الإسلام بلا استثناء (ص 129).
ويتساءل طرابيشي: "إذا كان ابن سبعين هجا جميع فلاسفة الإسلام بلا استثناء، فكيف نفسر مديحه للفارابي في شاهد الجابري؟" ويجيب "ليس لذلك من تفسير سوى ابتسار الشاهد وإخراجه عن سياقه. فلو أن ناقد العقل العربي رجع إلى الشاهد في مصدره الأصلي ، ولم يقتبسه من يد ثانية (ماسينيون)، لكان أدرك أن حظ الفارابي من نقد ابن سبعين اللوذعي لا يقل عن حظ ابن سينا منه..." فالنص يقول: "وأما الفارابي فقد اضطرب وخلط وتناقض وتشكك في العقل الهيولاني. وزعم أن ذلك تمويه ومخرقة..." إلى أن يقول "وهذا الرجل أفهم فلاسفة الإسلام، وأدراهم بالعلوم القديمة، وهو الفيلسوف فيها لا غير، ومات وهو مدرك محق، وزال عن جميع ما ذكرته، وظهر عليه الحق بالقول والعمل" (ابن سبعين "بد العارف" ص 143-144). فالنص يهجو الفارابي الفيلسوف ويمدح الفارابي المتصوف (ص 129-130).
وموقف ابن سبعين من فلاسفة المغرب والأندلس لا يختلف عن موقفه من فلاسفة المشرق، فابن باجة: "مفتون بنفسه وله سفسطة كثيرة". أما ابن رشد ف"أكثر تآليفه من كلام أرسطو، إما يلخصها أو يمشي معها. وهو من نفسه قصير الباع، قليل المعرفة، بليد التصور، غير مدرك" (ص 131)
أما ابن رشد "فبدلا من أن يعيد بناء الأرثوذوكسية الأرسطية، لم يفلح إلا في أن يؤسس عبادة حقيقية لأرسطو" (ص 133). "ومن منظور هذا التعبد لأرسطو والتقيد بحرف مذهبه، كان التصادم مع ابن سينا أمرا طبيعيا، بل محتوما. فابن سينا فهم الإبداع الفلسفي على أنه الانعتاق، ولو بصورة جزئية، من ربقة أرسطو (ص 135). فابن رشد يقول: "فليس في الناس من هو أسخف رأيا ولا أبخس علما ممن يشك في أرسطو، وممن إذا صنف كتابا صنفه حسب رأيه الشخصي، ولا سيما إذا لم يشاطره رأيه هذا متقدم تقدمه. وذلك ما نرى ابن سينا يفعله في مصنفاته كلها. فأشنع ما فعله هذا المحدث (بضم الميم) نأيه عن نهج أرسطو وسيره في غير طريق الفيلسوف. وذلك ما حدث للفارابي في كتابه في المنطق، ولابن سينا في تصانيفه في الإلهيات والطبيعيات" (ص 136).
ويعلق طرابيشي قائلا: " والواقع أنه عندما يغدو "نهج أرسطو"، بما هو كذلك، هو "فيصل التفرقة" بين ما هو برهاني وما هو غير برهاني، فإن ابن رشد في التزامه المطلق بهذا المعيار في محاكمة فلاسفة الإسلام، لا يثبت بذلك لا برهانية الفارابي وابن سينا، بقدر ما يثبت أنه هو نفسه يقرأ البرهان الأرسطي بعين بيانية. وبالفعل إن الآلية الذهنية الأساسية في النظام المعرفي البياني ليست شيئا آخر في نهاية المطاف سوى التسليم المسبق بالصفة البرهانية لمذهب بعينه دونما حاجة إلى برهان" (ص 136)
فالعقل الرشدي عقل سكولائي "فهو عقل يرجع دائما إلى مقدماته، ولكنه لا يرجع أبدا عن مقدماته"..."فالعقل السكولائي عقل دائر على نفسه، يضع مستقبله في ماضيه، وينكر مبدئي التراكم الكمي والانقطاع الكيفي على حد سواء"... "فانتفاضة ابن رشد الأرسطية تقبل الوصف بأنها إحيائية، أو تطهيرية، أو تصحيحية. ولكنها لا تمثل بحال من الأحوال، خلافا لمدعى ناقد العقل العربي. قطيعة معرفية". "فابن رشد قد عاد بالفلسفة العربية الإسلامية إلى درجة الصفر المشائية، ولكنه لم يضع المشائية نفسها في درجة الصفر. ولئن قطع مع ابن سينا، فلكي يعود إلى أرسطو، لا ليعود عنه. فالرشدية نشيد ختام –رائع بكل تأكيد- لفلسفة العصر الوسيط، الإسلامي والمسيحي على حد سواء، ولكنها ليست نشيد افتتاح لفلسفة الحداثة" (ص 138).
وفي "ندوة ابن رشد ومدرسته في الغرب الاسلامي" (1978) أشار علي أومليل إلى أن ابن رشد وجه انتقادات إلى فلاسفة مشارقة ومغاربة لما ارتآه من انحرافهم عن الدستور الأرسطي. لكن الجابري انبرى للرد عليه قائلا: "وهذه دعوى خطيرة. أرجو من الأستاذ أومليل أن يأتي بكلمة واحدة ينتقد فيها ابن رشد ابن باجة أو ابن طفيل، لأني لم أعثر على شيء من هذا في جميع كتبه" (ص 140-141). ويرد طرابيشي أنه "لو قرأها جميعها لوقع على ما لا يقل عن عشرين شاهدا يوجه فيها ابن رشد نقدا مباشرا إلى ابن باجة ويغلطه" (ص 141). كما أن ابن طفيل نفسه وجه نقدا قاسيا له. فالمدرسة الفلسفية في المغرب، مثلها مثل مثيلتها في المشرق ليست مدرسة وحدة في التفكير بل مدرسة اختلاف. وروابطها "الخارجية" بالمدرسة الشرقية قد تكون أقوى وأوثق من الروابط "الداخلية" في ما بين أعضائها. وقوة حضور السينوية في المغرب هي وحدها التي يمكن أن تفسر "قطيعة" ابن رشد لا مع سيناوية "الخارج" بل مع سينوية "الداخل" أيضا. فسينوية ابن باجة المتنكرة تحت قناع فارابي، وسينوية ابن طفيل المجهور بها هما وحدهما اللتان يمكن أن تفسرا ضراوة نقد ابن سينا (ومعه الفارابي) في بيان انحرافه عن دستور أرسطو. فحسن سمعة ابن سينا في المغرب والأندلس هو الذي يقدم المفتاح للغز الثورة الرشدية المضادة (ص 144-145).
ثم ينبري طرابيشي لعرض وضعية الفلسفة في المغرب والأندلس ليفند الفكرة السائدة عن الأندلس بصفتها الفردوس المفقود للانفتاح الفكري. فباستثناء فترة حكم عبد الرحمان الثاني (206-238هج) والحكم الثاني المستنصر (350-366هج) و"التسيب" الطائفي الذي دام سبعين عاما، و فترة حكم أبي يعقوب الموحدي، عانت الفلسفة من تضييق الحكام والفقهاء وحتى العامة، بحيث يمكن الحديث عن "بؤس الفلسفة" بالإحالة إلى وضعها الاجتماعي (ص 148)
وعلى عكس ما يدعيه الجابري الذي يستنتج من المدخل الذي كتبه ابن طفيل ل"حي بن يقظان" بأن المدرسة المغربية-الأندلسية "مدرسة مستقلة تماما عن المدرسة –أو المدارس- الفلسفية في المشرق" لأن لها " منهجها الخاص ومفاهيمها الخاصة وإشكالياتها الخاصة أيضا" ("نحن والتراث" ص304). "فهي فلسفة قامت على أساس علمي، لا على أساس كلامي أو غنوصي كما حال فلسفة المشرق. ومن هذا المنظور تحديدا فإن المدخل الذي كتبه ابن طفيل لرسالة "حي بن يقظان"، يمثل شهادة بالغة الأهمية ، لأنه يحدد تطور الفكر العلمي الفلسفي في الأندلس في ثلاث مراحل: مرحلة الرياضيات، ثم مرحلة المنطق (والطبيعيات)، وأخيرا مرحلة الفلسفة ("نحن والتراث" ص 242) (ص 155). يرد طرابيشي "بأننا لو أعدنا بناء نص ابن طفيل بتمامه وحررناه من علامات الحذف (...) لوجدناه ينطق بعكس ما ينطقه به اختزال الجابري له" (ص 155).
فابن طفيل في مدخله الموجز لتاريخ الفلسفة في الأندلس لا يتحدث عن "المدرسة الفلسفية في المغرب والأندلس" وكأنها مدرسة واعية بذاتها كما يوهمه الجابري. وابن طفيل لا يؤرخ لتطور الفكر العلمي الفلسفي بل يؤرخ لغياب هذا التطور، فهو يؤرخ ل "بؤس الفلسفة في الأندلس". وهو لا يؤرخ للخطاب الباجي بوصفه بداية لخطاب فلسفي جديد" كما يدعي الجابري، بل يصفه بأنه خطاب فلسفي "قلق العبارة، متلعثم، لا يعطي مقصوده من القول "عطاء بينا إلا بعد عسر واستمراه شديدين". كما أنه لا يؤرخ للفلسفة في الأندلس بالقطيعة مع فلسفة الشرق بل بالعكس بالاتصالية التامة معها (ص 156).
"فتاريخ الفلسفة في الأندلس كان، إذا، تاريخ انقطاع أكثر منه تاريخ اتصال، تاريخ نشوء متكرر أكثر منه تاريخ تطور، يعاود –أو يكاد-دوما نقطة الصفر بدون نمو عضوي. فلم يكن في الأندلس مدارس للفلسفة ولا مجالس تعليم. وباستعادة عبارة ابن طفيل، فإن إرث الفلسفة ما كان يتناقله "إلا الفرد بعد الفرد" بدون أن يفلح في تأسيس نفسه في موروث فلسفي حقيقي" (في الهامش: باستثناء مدرسة ابن مسرة، لكنها كانت مدرسة "كهفية"، بالمعنى الحقيقي لأنه اضطر إلى أن يقيم مدرسته في كهف). (ص 164)
ويمكن تلخيص عوامل بؤس الفلسفة في الأندلس إلى: هيمنة الأحادية المالكية الفروعية؛ هيمنة الوضعية الجهادية؛ التحالف العضوي بين السلطتين السياسية والفقهية؛ النصاب اللاشرعي للفلسفة الذي تسبب في تهميشها وجعل منها فلسفة أفراد لا فلسفة نخبة كما في المشرق. وينعكس هذا في كونها تجذرت في "إشكاليات لااجتماعية: كهف ابن مسرة، متوحد ابن باجة، جزيرة ابن طفيل العزلاء، الطبقة المغلقة لأهل البرهان عند ابن رشد" (ص 184-185).
زيادة على كون الفلسفة عانت من اضطهاد العامة، ومن أشرسهم عوام قرطبة. ومن قلة الترجمة لأن لا أحد في الأندلس كان متمكنا من لغات الشعوب الأوائل. ومن الصراع الشعوبي بين العرب والبربر والمستعربين الذين كانوا يفخرون بأنهم "ذوي الآراء الفلسفية الأرضية والعلوم المنطقية الرياضية"، في جو متوتر بحروب الاسترجاع، فترسخت "اللامشروعية الدينية والعجمة البيانية للفلسفة" (ص 188).
الفصل الثالث: "ابن طفيل: مبدع "مغربي" للفلسفة المشرقية".
(هذا الفصل الطويل -100 صفحة - يمكن أن يقرأ كعرض لفلسفة ابن سينا بالأساس على النقيض من قراءة الجابري له)
يدعي الجابري وجود سوء سمعة لابن سينا لدى الأوساط الفلسفية بالمغرب والأندلس، مخترعا تضامنا مزعوما بين فلاسفة "المغرب" ضد فلاسفة "المشرق"؛ مؤسسا لازدواجية بين وضعية فلسفية مغربية "يؤمثلها" ومشرقية "يؤبلسها"؛ موظفا صمت ابن باجة ونقد ابن رشد ويحرف شهادة ابن سبعين وابن الامام، لينطقهم جميعا بالازدراء المغربي المزعوم لابن سينا (ص 195). لكنه أمام الحضور الطاغي لابن سينا لدى ابن طفيل "فإنه يستنفر كل ما أوتي من طاقة تأويلية إنكارية لينفي مديونية ابن طفيل لابن سينا وتبعيته المصرح بها "للحكمة المشرقية" (ص 196).
يقول الجابري: إن "الذين يحكمون على ابن طفيل من خلال "حي بن يقظان" مخطئون"، فقراءته لا تصح إلا بالإحالة إلى "النظرة المغربية الرشدية". "فإنه ما دامت المدرسة الفلسفية في المغرب والأندلس قد وصلت مع ابن رشد إلى قمتها، فإن "القراءة المطابقة" لأي خطاب فلسفي ينتمي إلى هذه المدرسة لا بد من أن تكون بعدية، لا قبلية ... لأن الإطار المرجعي لهذا الخطاب لا يمكن أن يكون سوى القمة التي وصل إليها الكل الذي ينتمي إليه هذا الخطاب، نقصد بذلك ابن رشد بالذات" ("نحن والتراث" ص 262) (ص 198-199).
إلا أن ابن طفيل "يضع نفسه بنفسه على مقاعد المدرسة السينوية، أو ما يفترض أنه المدرسة السينوية، مرفودة ، وهنا المفارقة برافد غزالي". وهو الذي يحدد لنفسه، في مدخل "حي بن يقظان"، إطارا مرجعيا مزدوجا: إطار مرجعي سالب يتمثل في الفارابي (لأنه عرفاني أقل مما ينبغي) وابن باجة (لأنه برهاني أكثر مما ينبغي) ، وإطار مرجعي موجب يتمثل في ابن سينا والغزالي. وبما أنهما ألد أعداء ابن رشد فهذا يدل على أن ابن طفيل لا ينتمي إلى مدرسة مغربية برهانية مزعومة (ص 199).
ويرى طرابيشي أن علاقة ابن طفيل بالفارابي يلخصها النص التالي: "وأما ما وصلنا من كتب أبي نصر فأكثره في المنطق، وما ورد منها في الفلسفة فهو كثير الشكوك. فقد أثبت في كتابه "الملة الفاضلة" بقاء النفوس الشريرة بعد الموت في آلام لا نهاية لها وبقاء لا نهاية له، ثم صرح في "السياسة المدنية" بأنها منحلة وسائرة للعدم، وأنه لا بقاء إلا للنفوس الفاضلة الكاملة. ثم وصف في شرح "كتاب الأخلاق" شيئا من أمر السعادة الإنسانية، وأنها إما تكون في هذه الحياة التي في هذه الدار، ثم قال عقب ذلك كلاما هذا معناه: "وكل ما يذكر غير هذا فهو هذيان وخرافات عجائز". فهذا أيأس الخلق جميعا من رحمة الله، وصير الفاضل والشرير في رتبة واحدة، إذ جعل مصير الكل إلى العدم، وهذه زلة لا تقال وعثرة ليس بعدها جبر، وهذا مع ما صرح به من سوء معتقده في النبوة، وأنها بزعمه للقوة الخيالية خاصة، وتفضيله للفلسفة عليها، إلى أشياء ليس لنا حاجة إلى إيرادها" ("حي بن يقظان" ص 57) (ص 200). فابن طفيل في هذا النص يصرح بأن المنطق لا يعنيه كثيرا، وأنه يعارض نظرية الفارابي حول مسألة البقاء بعد الموت (البقاء والفناء عند الفارابي يحيلان إلى الذاكرة الجمعية لأهل المدينة الفاضلة وليس إلى المعنى الديني) ونظريته في النبوة أيضا (التي هي أقل مرتبة من الفلسفة لأنها مرتبطة بالقوة المتخيلة في حين أن الفلسفة مرتبطة بالقوة الناطقة)، وهي قضايا عرفانية يلتزم فيها ابن طفيل موقف العقيدة الدينية القويمة (ص 200-205).
لكن طرابيشي يلاحظ "أن الرفض الاستنكاري، الذي يقابل به ابن طفيل نظرية النبوة الفارابية في مدخل القصة، لن يمنعه في ختامها من أن يعود إلى التبني الحرفي لها من خلال تطبيق مقولاتها على الارتقاء العرفاني شبه النبوي لبطله حي بن يقظان في تواصله مع "العقل الفعال"" (ص 205).
وحول العلاقة بين ابن طفيل وابن باجة، يقول طرابيشي "أن القطب الثاني في الإطار المرجعي السالب لابن طفيل، بعد الفارابي، هو ابن باجة، تلميذ الفارابي بالروح". "فذنب ابن باجة في نظر...ابن طفيل أنه اكتفى بأن يتخذ موقعا حصينا له في خندق "البرهان" بدون أن يتشوف إلى اقتحام آفاق "العرفان". فكان ... من أهل الدراية ولم يرق إلى مقام أهل الولاية" (ص 205) (وفي الهامش يورد طرابيشي نقد ابن باجة للمتصوفة في "تدبير المتوحد": "زعم الصوفية أن إدراك السعادة القصوى قد يكون بدون تعلم، بل بالتفرغ وألا يخلو طرفة عين من ذكر المطلق، ولأنه متى فعل ذلك أجمعت القوى الثلاث (قوة الحس المشترك وقوة التخيل وقوة الذكر) وأمكن ذلك. وذلك كله ظن. وهذه الغاية التي ظنوها...لو أدركت لما كان منها مدينة ولبقي أشرف أجزاء الإنسان (العقل) فضلا لا عمل له، وكان موجودا باطلا") (ص207).
"ولا يكتفي ابن طفيلبأن يحاسب ابن باجة... على نزعته الدنيوية الكلبية، بل ينتقده أيضا على نزعته "العلمانية" التي جعلته، مثله مثل الفارابي من قبل في تفسيره لظاهرة النبوة، يرد "التذاذ القوم" (أهل الولاية) إلى قوة دونية هي "القوة الخياالية" (ص 208).
وعن العلاقة بين ابن طفيل والغزالي، يرى طرابيشي "أن ابن طفيل يميز بين غزاليين: الغزالي المتكلم والغزالي المتصوف، الغزالي النظري والغزالي الذوقي، وعلى الأخص الغزالي "الجمهوري" والغزالي "الصميمي". وبقدر ما ينتقد ابن طفيل الغزالي الأول إلى حد الإنكار، فإنه يتعاطف مع الثاني إلى حد الانتماء، إن لم يكن من الدرجة الأولى، فمن الدرجة الثانية. ذلك أن الانتماء الأول لابن طفيل يبقى، كما سنرى، هو الانتماء السينوي، أو على الأقل – لنكررالقول – ما يعتقد أنه كذلك. فالمفارقة الكبرى في سيناوية ابن طفيل في أن " قراءاته" للشيخ أبي علي تتم بواسطة الشيخ أبي حامد. فلولا الغزالي لما استطاع ابن طفيل أن يكون سينويا بالكيفية التي كانها عندما أخذ على عاتقه أن يبث إلى سائله ما أمكنه بثه من "أسرار الحكمة المشرقية" (ص 210-211).
و"انتماء ابن طفيل إلى الغزالي المتصوف انتماء مجهور به منذ مطلع رسالة "حي بن يقظان"، وما ذلك لأن المسار التحولي للغزالي يطابق مسار ابن طفيل فحسب، بل كذلك لأن تصوف الغزالي الذي بقي ضمن إطار العقيدة القويمة لأهل السنة يقدم لابن طفيل، الحريص على البقاء ضمن الإطار عينه كما رأينا وسنرى، الضمانة ضد شطح المتصوفة الآخرين، من أمثال الحلاج والبسطامي، الذين أوصلتهم عقيدة وحدة الوجود إلى حدود الهرطقة، فزلت أقدامهم – على حد تعبير ابن طفيل نفسه – "من الصراط المستقيم" (ص 218).
وحول العلاقة بين ابن طفيل وابن سينا يقول طرابيشي: "إن الحضور الاسمي لابن سينا في رسالة "حي بن يقظان" كبير، ولكن حضوره الفعلي صغير" (ص 219). ويفسر ذلك بكون "ابن طفيل كتب قصته، أو صمم فكرتها بالأولى، في سياق مزدوج من الغياب والحضور تحكم – ولا يزال إلى يومنا هذا – بكل المصائر التاريخية لأسطورة الفلسفة المشرقية السينوية."
سياق من الغياب أولا نظرا، ليس فقط إلى الضياع التاريخي لكتاب "الحكمة المشرقية"، بل كذلك إلى ضياع المدلول الجغرافي لصفة "المشرقية".
وسياق من الحضور ثانيا. فذلك الضياع المزدوج قد أوجد الشروط الموضوعية لتحول "الحكمة المشرقية" إلى أسطورة، ولا سيما في إطار الضجة التي أثارها من حولها السهروردي المقتول في مصعاه إلى توظيفها باتجاه "حكم الإشراق"، أي على حد تعبيره "الحكمة العتيقة التي ما زال أئمة الهند وفارس وبابل ومصر وقدماء اليونان يدورون عليها ويستخرجون منها حكمتهم، وهي الخميرة الأزلية".
وبمعنى من المعاني، نستطيع أن نصف ابن طفيل، من هذا المنظور، بأنه سهروردي المغرب. فبدون أن يكون مهموما هم السهروردي بإحياء الحكمة العتيقة المزعومة، فقد استطاع، مثله مقل شيخ الإشراق، أن ينجز تحويلها إلى حكمة عرفانية، ولكن ليس بالاستناد إلى التراث الجمعي ل"أئمة الهند وفارس وبابل ومصر"، بل بالاستناد إلى التجربة الشخصية لبطله المتوحد المنقطع في جزيرته عن كل تراث، بل حتى عن كل لغة."
وتماما كما أن هذا الإخراج العرفاني لقصة حي بن يقظان قد اضطره إلى استبعاد الفقيه والجدلي الأشعري والداعية الأيديولوجي ليستبقي من الغزالي العارف الذي وصل، بدون أن تزل به قدمه، إلى "تلك المواصل الشريفة المقدسة"، كذلك فإن التصميم على ذلك الإخراج العرفاني عينه سيضطره إلى استبعاد النظري والمشائي الكبير الذي كانه ابن سينا لكيلا يستبقي منه ، ولو بالتوهم، سوى العارف الذي عرف وإن لم يكن قد وصل".
نقول: "ولو بالتوهم" لأن ابن سينا أشد استعصاء على "العرفنة" و"الصوفنة" بما لا يقاس من الغزالي." (ص 220).
والاختلاف بين الغزالي وابن سينا ليس معرفيا فحسب، بل يشمل الحياة الشخصية. فبقدر ما كان الغزالي تقيا كان ابن سينا منغمسا في ملذات الحياة (ص 220-221).
وعندما يصف ابن سينا حال المتصوفة فإنه يصفها من الخارج بشكل تفريري (ص 223-224). ويؤكد طرابيشي ذلك قائلا: "ونحن نملك دليلا شبه قاطع على بقاء ابن سينا، في كلامه على "مقامات العارفين"، خارج موضوعه. فلئن يكن خصص النمط الثامن للتوصيف، فقد خص النمط التاسع للتفسير (الأنماط تحيل إلى "الإشارات والتنبيهات") . والحال أن البرودة المفهومية في التوصيف ترادفها برودة عقلانية في التفسير. فلم يحدث قط ، في الفضاء العقلي للعصر الوسيط بجناحيه العربي الإسلامي واللاتيني المسيحي، أن رد ما فوق الطبيعي – أو ما كان يبدو وكأنه كذلك – إلى الطبيعي نظير ما فعل ابن سينا في مسعاه إلى تفسير كرامات الأولياء. ولئن جعل ابن سينا عنوان النمط التاسع "في أسرار الآيات"، فما ذلك ليتوقف عند عتبة هذه الأسرار متحرزا، بل ليتخطاها ويحاول اختراقها مكتنها. وليس تكتيكه ههنا أن ينفي إمكانية هذه "الآيات" ليقول – كما لو أنه "علموي" من القرن التاسع عشر الميلادي –باستحالة قبولها عقلا، بل أن يثبت وجودها ليقول –وهو ابن القرن الخامس الهجري-بإمكانية تفسيرها عقلا. ومن هذا المنظور فقد مثل السقف الأعلى للعقلانية في عصره. فالمهمة التي أخذ على عاتقه التصدي لها في النمط العاشر والختامي من "الإشارات والتنبيهات" ليست إنكار اللامعقول، بل إعطاء تفسير معقول لهذا اللامعقول. وهذا بالإحالة لما يسميه ويكرر تسميته "مذاهب الطبيعة". وهكذا يفتتح النمط العاشر بالقول: "إذا بلغك أن عارفا أمسك عن القوت المرزوء له مدة غير معتادة، فاسجح بالتصديق، واعتبر ذلك من مذاهب الطبيعة". (ص 225)
"ولهذا عندما نجد ناقد العقل العربي، في سياق مسعاه إلى هرمسة "الإشارات والتنبيهات"، يجزم بأن مؤلفه كان "أكبر مكرس للفكر الظلامي الخرافي في الإسلام" ("نحن والتراث" ص 21)، فإننا لا نستطيع أن ندفع عن أنفسنا شعورا بأننا أمام ضرب من هذاء تأويلي لا يسنده سند في واقع النص" (ص 228)
إن ابن سينا "ينسف من الأساس في "الإشارات والتنبيهات" الأساس الفلسفي للتجربة الاشراقية التصوفية العرفانية بنفيه –بقاطع العبارة – إمكانية الاتحاد بين العقل والمعقول، وهو الاتحاد الذي غدا المقوم النظري الأساسي لهذه التجربة منذ أضفى عليه الشرعية الفلسفية أفلوطين ومتابعوه من الأفلاطونيين المحدثين. وقد غدت فرضية اتحاد العقل والعاقل والمعقول جزءا مكونا من التقليد المشائي في التراث الفلسفي العربي الإسلامي (ص 229). "والجدير بالذكر أن ابن سينا يتنبه في النص نفسه ("الإشارات والتنبيهات " م2 ص 698-703) إلى أن إشكالية اتحاد العاقل والمعقول إشكالية دخيلة على المشائية الأرسطية، وأن من أدخلها عليها هو أفلوطين وتلامذته، وحصرا منهم فورفوريوس ويامبليخوس اللذان كانت بينهما حول ذلك مساجلة. يقول ابن سينا:" وكان لهم رجل يعرف ب"فرفوريوس" عمل في العقل والمعقولات كتابا يثني عليه المشاؤون، وهو حشف (أردأ التمر) كله. وهم يعلمون من أنفسهم أنهم لا يفهمونه، ولا فرفوريوس نفسه. وقد ناقضه من أهل زمانه رجل. وناقض هو ذلك المناقض بما هو أسقط من الأول". وهذا النص يكتسي في الواقع خطورة تاريخية خاصة. فهو يشف عن أن ابن سينا كاد في ختام حياته أن ينفك من أسر الملابسة الأفلوطينية للجسم النظري للمشائية، وأن يفك في الوقت نفسه مغالطة كتاب "أوثولوجيا" المنحول على أرسطو (لنستحضر هنا قوله الذي كنا توقفنا عنده من قبل:"على ما في أثولوجيا من مطعن")" (هامش ص 230).
الفصل الرابع: "ابن مضاء القرطبي: انتفاضة لاهوتية على المنطق النحوي"
(أكتب الجابري بين قوسين حتى لا أكرر "ناقد العقل العربي" كما يحلو لطرابيشي أن يسميه)
"يحضر ابن مضاء القرطبي (513-592) في أربعة نصوص (للجابري) حضورا خاطفا، ولكن –كالشهاب – لامعا. ففي أول هذه النصوص السريعة الأربعة يحضر ابن مضاء بوصفه رائدا من رواد الثورة الثقافية، التي يعزو (الجابري) استحداثها إلى "حركة ابن تومرت التجديدية". وبدون أن ندخل هنا في نقاش لمدى المشروعية النظرية لإطلاق صفة الثورة الثقافية على حركة ابن تومرت، فإننا سنلاحظ أن (الجابري) لا يقر لها عن طواعية بهذا النصاب إلا بقدر ما يحرص على أن يتأولها على أنها ثورة على المشرق فقها وكلاما وفلسفة وعلما ونحوا، ثورة أيديولوجية وإبستيمولوجية معا تحركت "في اتجاه واحد، اتجاه رد بضاعة المشرق إلى المشرق في الفقه مع ابن حزم الظاهري، وفي النحو مع ابن مضاء القرطبي، وفي التوحيد (الكلام) مع ابن تومرت، وفي الفلسفة مع ابن رشد" ( "نحن والتراث" ص 61-62) (ص 295).
ويعود الفضل في اكتشاف مخطوطة "الرد على النحاة" للقرطبي وتحقيقها لشوقي ضيف (ص 296). وقد ارتكب شوقي ضيف خطأ في مقدمته للكتاب عند استشهاده بعبد الواحد المراكشي ليؤكد أن عصر تأليف "الرد على النحاة" كان عصر ثورة على المشرق في الفقه وفروعه وأن يعقوب المنصور أمر بإحراق كتب المذاهب الأربعة. وتبعه في ذلك قاضي القضاة في دولته فألف كتاب "الرد على النحاة". إلا أن شوقي ضيف أخطأ في التأويل لأن المراكشي لم يتحدث عن الأمر بإحراق كتب المذاهب الأربعة بل "بإحراق كتب المذهب" الذي هو حصرا المذهب المالكي. وقد تبعه الجابري في هذا الخطأ (ص 296-298).
"والواقع أننا نستطيع أن نمضي في تفنيد دعوى (الجابري) عن قطيعة مغربية في عصر "الثورة الثقافية" الموحدية مع "فقه المشرق" و"كلام المشرق" و"فلسفة المشرق" إلى حد قلبها إلى عكسها. فالثورة الموحدية إن تكن تطلعت إلى أن تقطع معرفيا مع أحد، فإنما مع المالكية المغربية التي كانت قد غدت الأيديولوجيا الدينية المعلنة للمرابطين، الخصوم السياسيين المباشرين للموحدين. ولئن تكن المالكية المغربية المرابطية قابلة للحد (؟) فعلا بأنها قطيعة من طبيعة نفيية وأحادية مع التعدد المذهبي المشرقي، فإن القطيعة الموحدية مع الأيديولوجية المرابطية ما كان لها إلا أن تأخذ شكل مقاطعة لمقاطعة هذه الأخيرة للتعدد المذهبي المشرقي، وبالتالي شكل إحياء فكري لما أماته المرابطون." وقد سعى الموحدون إلى إحياء الظاهرية التي لم تكن مذهبا مغربيا خالصا لأن مؤسسها في بغداد هو أبو سليمان داود بن على الأصبهاني (ت 270هج). كما سعوا إلى إحياء الشافعي. (ص 301-302)
"والأبلغ دلالة من هذا وذاك أن الموحدين، وفي مقدمتهم منشئ الحركة ابن تومرت، عملوا – ودوما في إطار تقليص نفوذ المالكية المرابطية – على رد الاعتبار إلى الأشعرية وإلى الناطق الأول بلسانها أبي حامد الغزالي، وعلى إحياء كتابه "الإحياء" (...) وفي هذ السياق "الإحيائي" لفكر الغزالي "المشرقي" – لا في سياق القطيعة معه (...)- نستطيع أن نفسر أن يكون أول عمل أقدم عليه ابن رشد، في مطلع حياته الفكرية – هو تلخيص "مستصفى" الغزالي وشرح "عقيدة ابن تومرت" في آن معا". (ص 302)
"وفي الوقت الذي استمرت فيه مطاردة كتب الغزالي طوال العهد المرابطي، تلاحقت الطعون في نقض كتابه "إحياء علوم الدين". ومن فقهاء المالكية الذين كتبوا ردودا بكاملها محمد بن خلف البيري (ت 536هج)، والقاضي عياض وأبو عبد الله بن حمدين قاضي قرطبة، وابنه القاسم بن حمدين الذي قال بتكفير كل من قرأ كتاب "الإحياء". وليس من قبيل الصدفة أن يكون هذا الكتاب، بين سائر كتب الغزالي، هو الذي استأثر بسخط فقهاء الأندلس، وبخاصة فقهاء قرطبة. ففي "الإحياء" تحديدا وجه الغزالي نقدا هو الأكبر جذرية في تاريخ الفكر العربي الإسلامي إلى تضخم الظاهرة الفقهية في إسلام العصر. فقد رفض الغزالي اختزال الشريعة إلى وجهها الفقهي، واعتبر الفقه من "علوم الدنيا" لا من "علوم الآخرة"، و"علم معاملة" لا "علم مكاشفة"، واعتبر الفقهاء من "علماء الظاهر" لا من "علماء الباطن"، ومن "أرباب الأوقاف" لا من "أرباب القلوب"، وشاغلهم "زينة الأرض والملك" لا "زينة السماء والملكوت"، وحزبهم "حزب السلطان" لا "حزب الله". وقد أنكر الغزالي بوجه خاص النصاب الأوليغارشي لطبقة الفقهاء، واتخاذهم من علم الفقه وسيلة للتكسب وللترقي الاجتماعي، وانصرافهم من روح الدين إلى حرفه، وعن قيمه إلى أحكامه، وعن أصوله إلى فروعه، منتهيا إلى وصمهم ب"علماء السوء" وتحميلهم تبعة اندراس الدين ووأد روحانية الإسلام، قائلا بالحرف الواحد: "لو سئل فقيه عن معنى هذه (المعاني)... لتوقف فيه مع أنه فرض عينه الذي في إهماله هلاكه في الآخرة، ولو سألته عن اللعان والظهار والسبق والرمي لسرد عليك مجلدات من التفريعات الدقيقة التي تنقضي الدهور ولا يحتاج إلى شيء منها... فلا يزال يتعب فيها ليلا ونهارا، وفي حفظه ودرسه يغفل عما هو مهم في نفسه في الدين. وإذا روجع فيه قال: اشتغلت به لأنه علم الدين وفرض الكفاية. ويلبس (بكسر الباء وشدها) على نفسه وعلى غيره في تعلمه، والفطن يعلم أنه لو كان غرضه أداء حق الأمر في فرض الكفاية لقدم عليه فرض العين، بل قدم عليه كثيرا من فروض الكفايات. فكم من بلدة ليس فيها طبيب إلا من أهل الذمة... ثم لا نرى أحدا يشتغل به... هل لهذا سبب إلا أن الطب ليس يتيسر الوصول به إلى تولي الأوقاف والوصايا وحيازة مال الأيتام وتقلد القضاء والحكومة... هيهات هيهات، قد اندرس علم الدين بتلبيس العلماء السوء، فالله تعالى المستعان وإليه الملاذ في أن يعيذنا من الغرور الذي يسخط الرحمن ويضحك الشيطان". ("إحياء علوم الدين" م 1، ص 21) (ص 303-304).
وفي ما يتعلق بموضوع "الرد على النحاة"، فهو "كما هو واضح من عنوانه، كتاب في النحو، (لكن) مما يسترعي الانتباه أن ابن مضاء يتعامل مع علم النحو بتحرج أو بالأحرى بتشدد ديني، فيرفض له نصاب العلم القائم بذاته ولا يعترف له بأي سؤدد: فهو عنده محض علم خادم "للعلوم الدينية، السمعية منها والنظرية" (...) "هذه الغائية الدينية، التي تقارنها عند ابن مضاء منهجية نصية مطلقة لا تلتزم بغير ظاهر الألفاظ (...) وتجريد النحو من "زوائده"، بل تهبيط عمارة المنطق النحوي بالذات بقدر ما قامت، في تاريخ النحو العربي، على أساس المسعى إلى تجاوز المعطى اللفظي الخام للوصول إلى البنية التحتية للغة وشبكة علاقاتها الوظيفية". (ص 306)
فابن مضاء يدعو إلى إبطال نظرية العوامل لأنه يروم إخضاع المنطق النحوي للمنطق اللاهوتي، حسب منطق المذهب الظاهري (ص 307).
وعكس ما يزعم الجابري، بأن ابن مضاء أراد –مثله مثل ابن حزم وابن رشد والشاطبي وابن خلدون- "إعادة تأسيس البيان على البرهان"، فالواقع هو أن غايته هي "إعلان السؤدد المطلق للبيان واكتفائه بذاته باعتباره برهان ذاته دونما حاجة إلى تدخل مخارج له ولو في شكل المنطق النحوي" (ص 311) "فنعم للنحو، ولكن لا لمنطق النحو. نعم للرفع والنصب والجر والجزم، ولكن لا لعلل الرفع والنصب والجر والجزم. فالنحو علم وصفي، لا سببي...". (ص 311)
"فابن مضاء ينتمي انتماء رأسيا، وبالكلية، إلى النظام المعرفي للعقل العربي الإسلامي بمنحاه البياني الأكثر إطلاقية. ولئن تمحور كل مدار كتيبه على إلغاء نظرية العوامل وإبطال تقدير المحذوفات والمضمرات والمستترات ومنع التأويل بالإضافات المقدرة والتعليل بالعلل الثواني والثوالث، فبسائق الخوف – كما يؤكد ويكرر التوكيد - من "ادعاء زائد في كتاب الله بظن"، والزيادة بالظن هي مما "يستغنى عنه" وليست مما "يحتاج إليه"، و"هذا في كلام الناس، فأما في كلام الله فحرام" ("الرد على النحاة" ص 79 و 122) (ص314)
ويبين طرابيشي أن "انتفاضة" ابن مضاء وظفت أدوات "مشرقية" متمثلة في ابن جني والزجاجي وابن السراج وغيرهم من النحاة. (ص 312-313)
الفصل الخامس: "الشاطبي: شافعي عصر الاندثار"
يقول طرابيشي أن الجابري يقوم بتضخيم ابستيمولوجي للشاطبي، "ومع أن (الجابري) يحرص على أن يكيل الثناء بالتساوي لجميع ممثلي "المشروع الثقافي الأندلسي المغربي" – مع توسيعه ليشمل عند الحاجة ابن طفيل وحتى ابن تومرت – فإنه يخص الشاطبي بموقع متميز من خلال مساواته، في المرتبة البرهانية، بابن رشد وابن خلدون ".( ص 316) بل "يؤكد أن الشاطبي لم يكن أرسطو عصره في علم أصول الفقه فحسب، بل كان رائدا "لفلاسفة العلم المعاصرين" في فتوحاتهم في مجال الابستيمولوجيا، أي "علم أصول المعرفة العلمية". ("بنية العقل العربي" 539) (ص 317)
وللرد على الجابري يطرح طرابيشي السؤال التالي: "هل يمكن فهم حرف واحد مما خطه مؤلف "الموافقات" و"الاعتصام" بالاستمرارية مع المشروع الحزمي-الرشدي وبالقطيعة، في الآن نفسه، مع "الشافعي وكل الأصوليين الذين جاؤوا بعده"؟". ويرد أنه "ببساطة واختصار معا، نقول إن العكس هو الصحيح. فلم يقطع الشاطبي مع أحد كما قطع مع ابن حزم وابن رشد. ولم يصل مع أحد كما وصل مع الشافعي وكبار الأصوليين الذين جاؤوا بعده كالجويني والغزالي، وهذا بتصريحه". (ص321))
فالشاطبي نقد ابن حزم والمذهب الظاهري. وقد ذكر ابن حزم في كتبه في نحو من عشرة مواضع، "وعلى الدوام في معرض النقد، بله الذم". ولا يأتي ذكر الظاهرية عنده إلا مقرونا بالوصف بأنها بدعة. (ص 321) والشاطبي يعارض الظاهرية على أساس ابستمولوجي محض، "فمأخذه الأول على الظاهرية أنها إذ تأخذ بحكم ظاهر النصوص مطلقا تبطل العلم الذي يتصدى الشاطبي لتجديده، أو لإحيائه بالأحرى، من أساسه. فالشاطبي هو شيخ نظرية المقاصد..." (ص 335). "ومن هنا هجاؤه الذي لا بخلو من عنف لفظي للبدعة الظاهرية، ومن هنا نقده الذي لا يقل اتساما بالصرامة المنهجية للمذهب الظاهري. آية ذلك أن خلافه مع الظاهرية ليس في الفروع، بل في الأصول، بله في "أصل الأصول" الذي هو لنظريته حجر الزاوية: مقصد الشارع. فالظاهرية تنفي هذا الأصل بتاتا. وهي تقول "إن مقصد الشارع غائب عنا حتى يأتينا ما يعرفنا به". وليس من سبيل إلى ذلك إلا "بالتصريح الكلامي"، أي بدلالة ألفاظ النص محمولة على ظاهرها "مطلقا". وبمعنى آخر، إن الظاهرية ترفض "استقراء المعاني"، ولا تمارس من الاستقراء – عندما تمارسه - سوى "الاستقراء اللفظي. والحال، أن لفظ الشريعة لا يشير إلى أنها أنزلت من أجل "مصالح العباد". ومن ثم لا يمكن تأويل مقصد الشارع على أنه "جلب المصلحة ودرء المفسدة". والأصل "عدم معقولية المعنى"، في المعاملات كما في العبادات. أفما وجدنا ابن حزم يكذب من يقول "إنه تعالى يفعل الأشياء لمصالح عباده" ويؤكد "أنه يفعل ما يشاء لطالح ما شاء، ولفساد ما شاء، ولنفع من شاء، ولضر من شاء"؟ (ابن حزم "الإحكام في الأحكام" ج 8، ص 584) وهذا الرفض من قبل الظاهرية لمد جسر غائي بين مقصود الشارع ومصالح العباد يعبر عن نفسه إجرائيا برفض إجراء القياس". وهذا الرفض للقياس هو ما دفع الشاطبي إلى عقد مقارنة تبخيسية بين الظاهرية والباطنية، التي تدعي أن مقصد الشارع ليس في الظواهر بل في ما ورائها، والنتيجة في كلا الحالتين إبطال للشريعة. (ص 325)
نقد الشاطبي لابن رشد. وهنا يطرح طرابيشي سؤالا حول رشدية الشاطبي. فالجابري يزعم أن ابن رشد هو واسطة العقد بين ابن حزم والشاطبي. "فانطلاقا من نص لأبن رشد في "الكشف عن مناهج الأدلة" يرد فيه "ألفاظ الشرع" وتعبير "مقصد الشرع"، يبادر (الجابري) حالا إلى رفع التعبيرين إلى نصاب مفهومي، وإلى الجزم بأن "ظاهر ألفاظ الشرع ومقصد الشرع مفهومان مركزيان في المشروع الثقافي الأندلسي ككل. المفهوم الأول يحيلنا إلى ما قبل ابن رشد وبالضبط إلى ابن حزم "الظاهري". أما المفهوم الثاني فيحيلنا بصورة خاصة إلى ما بعد ابن رشد، إلى الشاطبي صاحب "مقاصد الشريعة". "وتوكيدا على "وحدة التفكير" بين الأقطاب الثلاثة لهذا المشروع الثقافي الأندلسي لا يتردد (الجابري) في أن يصوغ مفهوما معرفيا هجينا هو "الحزمية-الرشدية" ليجعل من الشاطبي، في تجديده الأصولي، مجرد منفذ وصية ومطبق "للمشروع الحزمي الرشدي"، محصور دوره في أن يحقق "في ميدان علم الشريعة" "النقلة الابستيمولوجية" التي بشر بها ابن حزم "في ميدان العقيدة" والتي طبقها ابن رشد "في ميدان الحكمة" ( "بنية العقل العربي" ص 530) (ص 329)
"ولئن يكن ابن حزم يحتل في المنظومة الفكرية الشاطبية موقع المنقود، فإن ابن رشد لا يحتل إلا موقع المرفوض؛ المرفوض تثليثا: شخصا ومذهبا ومنهجا. "فشخصيا، لا يحضر ابن رشد في النصوص التي وصلتنا من الشاطبي إلا لمرة واحدة يتيمة، وذلك في سياق انتقاده لمن يقحمون على القرآن علوما مضافة يزعمون أنها ضرورية لفهم كتاب الله".(...) "ومذهبيا، لا يحضر ابن رشد إلا بالرفض القاطع المطلق. فمذهب الحكيم الفلسفة، والفلسفة عند الشاطبي مرفوض سنة".(...) "وأخيرا منهجيا أو أداتيا، فالشاطبي، خلافا لمرفوضه ابن رشد ولمنقوده ابن حزم، وخلافا حتى للغزالي الذي كان شيخه الأول كما سنرى، يتأبى عن تبني المنطق الأرسطي ولو كمجرد أداة. والحق أنه لا بد هنا من وقفة. بل نظرا إلى خطورة الموضوع، فحري بنا أن نفرد له فقرة خاصة". (ص 331)
وهذه الفقرة عنوانها: "الشاطبي ومنطق المقدمتين". وفيها يرد طرابيشي على قول الجابري: " إذا نحن أردنا أن نجمل في كلمات جانب التجديد والإبداع في منهج الشاطبي، لوجب القول إنه يتمثل في تطوير ثلاث خطوات منهجية تعرفنا إليها سابقا: الخطوتان الأوليان سبق أن مارسهما قبله كل من ابن حزم وابن رشد زهما الاستنتاج (أو القياس الجامع) والاستقراء. أما الخطوة الثالثة فقد برزت عند ابن رشد خاصة في التركيز على ضرورة اعتبار مقاصد الشرع. لقد رأينا كيف أن ابن حزم أبطل القياس وأحل محله ما عبر عنه ب "الدليل"، وقد شرحنا كيف أن هذا الأخير يعني عنده تركيب قياس "برهاني" من مقدمتين لا بد أن تكون إحداهما نصا والثانية إما بديهة عقل وإما إجماع. وقد رأينا كيف أن هذه الخطوة المنهجية، التي دعا ابن حزم إلى اعتمادها في ميدان الشريعة بديل عن قياس الفقهاء، قد طبقها ابن رشد، بمهارة، في ميدان العقيدة، بديلا عن منهج المتكلمين: الاستدلال بالشاهد على الغائب. ويأتي الشاطبي ليستلهم التطبيق الرشدي للخطوة المنهجية الحزمية، ويدشن مقالا جديدا تماما في المنهج الأصولي قوامه "أن كل دليل شرعي مبني على مقدمتين"، إحداهما نظرية تثبت بضرورة الحس أو بضرورة العقل أو بالنظر والاستدلال، أما الثانية فنقلية تثبت بالنقل عن الشارع نقلا صحيحا". ("بنية العقل العربي" ص 538) (ص 332).
يرد طرابيشي أن الشاطبي إذ يقرر "أن كل دليل شرعي مبني على مقدمتين"، لا يدشن "مقالا جديدا تماما في المنهج الأصولي"، بل يفصح عن مديونية تاريخية لا لابن حزم "المغربي" بل للغزالي "المشرقي" الذي يحمله الجابري مسؤولية "أزمة العقل" في الفكر العربي الإسلامي. (ص 332). أما "الشاطبي فغير معني من قريب أو بعيد، في أطروحته عن انبناء الأدلة الشرعية على مقدمتين، بنظرية المعرفة. فعلى عكس الغزالي، الذي يرث عنه هذه الأطروحة إرثا مباشرا، فإنه لا يستهدف من البناء على المقدمتين الوصول إلى إنتاج معرفة جديدة. فما يضعه نصب عينيه ليس توليد "نتيجة مجهولة" هي "مطلوب الناظر بالنظر"، بل الخلوص إلى موقف عملي بالمعنى التكليفي للكلمة، أي بلغته التقنية كأصولي "تحقيق مناط الحكم" بغية الإقدام على فعل أو الامتناع عنه من منظور التحليل والتحريم. فالبناء على مقدمتين محصور الهدف عند الشاطبي بالأفعال، ولا يتعدى أبدا العمليات إلى العقليات كما عند الغزالي".(ص 334)
وإن كان الشاطبي يرث من الغزالي لغته المنطقية واستعار منه بعض اصطلاحات أهل المنطق، إلا أنه أبدى نفورا شديدا ورفضا صريحا ل "منطق المناطقة". (ص 336) "فالشاطبي يبدو، في محصلة الحساب، أميل إلى الأخذ بمبدأ الاستنتاج من مقدمة واحدة، لا من مقدمتين، تنائيا منه عن "أهل المنطق" وتدانيا من "أهل الشرع"". (ص 338)
وينعت طرابيشي المشروع الشاطبي ب"المشروع الاعتصامي"، وليس من المصادفة أن سمى أحد كتبه ب "الاعتصام". فالظروف التاريخية التي عاش فيها الشاطبي تفسر "هذا الشعور بتدهور الزمان، المستند إلى رؤية دينية مقننة وإلى تجربة شخصية معا، استحدثت لدى الشاطبي ما لن نتردد في أن نسميه عقلية المركب الغريق، واستتبع بالتالي في مجال إعادة تأصيل أصول الشريعة استراتيجية إنقاذ ما يمكن إنقاذه. والمقارنة هنا مع الشافعي تفرض نفسها. ففي الربع الرابع من المئة الثانية، وفي سباق من الانفتاح الكبير في الأفق التاريخين بدا الشافعي، وهو يشرع للعقل العربي الإسلامي، كمن يجهز سفينة ضخمة لتمخر في عباب البحر. أما في الربع الرابع من المئة الثامنة، وفي سياق من الانسداد الشديد في الأفق التاريخي، فقد بدا الشاطبي وكأنه واحد من القلة من "الغرباء" الذين قيض لهم أن يفروا من السفينة الكبيرة الغارقة إلى قارب نجاة صغير. وكان عليه بالتالي أن يتخفف قدر الإمكان من كل حمولة زائدة، وأن يتمسك بما هو أساسي في الشريعة تمسكه بطوق نجاة. وصورة الغريق الناجي "المتمسك بالعروة الوثقى" ليست بعيدة على كل حال عن ذهن الشاطبي، وهو الذي يورد حديث غربة الإسلام برواية مختلفة لابن وهب: "قال عليه الصلاة والسلام: طوبى للغرباء الذين يمسكون بكتاب الله حين يُترك ويعملون بالسنة حين تُطفى" ("الاعتصام" ص 19) (ص 356-359)
"شريعة أمية لأمة أمية؟" هذا عنوان الفقرة التي يتناول فيها طرابيشي الوجه "الاعتصامي" للشاطبي. ف "ضرورة التخفف من الحمولة المعرفية، التي أملاها "نقص الدين والدنيا"، قد اقتضت من الشاطبي التحول عن استراتيجية العقل المكون (بكسر الواو) في توسيع الدوائر إلى استراتيجية العقل المكون (بفتح الواو) في تضييق الدوائر. ومن هنا رفضنا توصيف (الجابري) للمشروع الشاطبي بأنه "إبداعي" و"تجديدي"، وإصرارنا على توصيفه – على العكس – بأنه "اعتصامي" مسكون ومسقوف معا بهاجس اندثار الزمان والمكان. وإذا جاز لنا الكلام هنا على "احيائية" الشاطبي، فعلى شرط الإضافة أن هذه الإحيائية اتخذت منذ البداية منحى اختزاليا – إفقاريا، وحصرت نفسها عن وعي وعمد ببرنامج الحد الأدنى، لا الأقصى". وهذا المنحى االاختزالي – الإفقاري لم يبق محصور الفاعلية بالدوائر المحيطة وحدها، بل طال نقطة المركز – أو "أصل الأصول" على حد تعبير الشاطبي – في الصميم". (ص 359 - 360)
فانطلاقا من تأويل "الأمية" بأنها الجهل بالقراءة والكتابة (وهو تأويل مخالف للواقع الثقافي للمحيط الذي نزل فيه القرآن)، يرى الشاطبي أنه "ما دامت "هذه الشريعة أمية لأمة أمية"، "فلا يليق بها من البيان ألا الأمي". والتيان هنا ليس مقصورا على ألفاظ العرب، ولا حتى على معانيهم، بل شامل أيضا لمعارفهم. ف "ما لا تعرفه العرب" و "ما لا عهد للعرب" به من العلوم والمعارف هو زائد عن الشريعة، بله مخرج عن الصراط المستقيم ومدخل في الفتنة". (ص364-365). ويطرح طرابيشي سؤالا: "هل ينبغي أن نتحدث هنا عن "ضيق في الأفق الفكري" للشاطبي نظير ما يفعل دارسه؟ (عبد المجيد الصغير "الفكر الأصولي" ص 563). أم ينبغي على العكس أن نتحدث عن استراتيجية ثقافية عامة تعكس، لا الهوى الشخصي للشاطبي وحده، بل هوى عصر العقل المكون (بالفتح) وجنوحه القهري في زمان اندثار الزمان إلى التشرنق على ذاته في أشيق دائرة ممكنة حول نقطة مركزه؟" (ص 364-365).
وحول فرضية الجابري حول الوراثة الشاطبية المباشرة لمفهوم مقاصد الشرع عن ابن رشد، يورد طرابيشي رد أحمد الريسوني على الجابري: "إن الذي لا ينتهي عجبي منه هو: كيف يستسهل بعض الباحثين أن يقيموا أحكاما ونظريات، ويفسروا ظواهر وتطورات، فقط بواسطة ألفاظ يلتقطونها، ثم يكرونها، ويغلظون كتابتها، ويسطرون تحتها، ثم يفرضون على الجمهور أن يؤمن بما بنوه عليها، مما لا تحمله ولا تفيده حتى عشرات أمثالها ! ولو ساغ في ميزان العلم أن نؤسس ريادة ابن رشد وتأثيره على الشاطبي في مجال المقاصد، على مجرد استعماله لفظ "مصلحة"، لكان أولى أن نؤسس ذلك على استعماله لفظ: مقصد الشرع، ومقصود الشارع، مما لم يبق فقيه ولا أصولي إلا استعمله...وعلى مثل هذه النصوص أو - بالضبط - على مثل هذه الألفاظ، اعتمد الدكتور الجابري ليقول: "وقد أخذ الشاطبي هذه الفكرة عن ابن رشد الذي وظفها في مجال العقيدة ونقلها إلى مجال الأصول..." ! هكذا بكل راحة يستسهل باحث كبير ومفكر شهير الجزم بأن فكرة المقاصد أخذها الشاطبي عن ابن رشد !ولا استدراك ولا احتمال ! ولا إثبات ولا استدلال ! ولو أن الدكتور الجابري ألزم نفسه بما شرطه على قارئ الشاطبي، من أنه "لن يستطيع فهم أغراضه وإدراك جوانب التجديد في فكره وتفكيره، إلا إذا توفر فيه شرطان اثنان: أولهما سعة الاطلاع، ليس على ميدان الفقه وأصوله فحسب، بل على مختلف فروع الثقافة العربية، من تفسير وحديث وفقه وأصول وكلام ومنطق وفلسفة وتصوف..."، لو أنه التزم بهذا، وبخاصة سعة الاطلاع على الفقه وأصوله، وهما المرتع الطبيعي، والمنبت الطبيعي، للشاطبي ونظريته، لما بقي أسيرا لبعض ألفاظ استعملها ابن رشد في مجال العقيدة، حتى جعل منها الأستاذ الكريم مفتاحا لتفسير ما جاء به الشاطبي عن مقاصد الشريعة، وحتى وصلت به الحماسة إلى حد اعتبار أن خطاب الشاطبي حول مقاصد الشريعة كان جديدا كل الجدة" ("نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" ص 266-268) (ص 377).