عبدالرزاق دحنون - "الرجل المعلَّب" وزجاجة أنطون تشيخوف

يؤكد الكاتب الروسي أنطون تشيخوف أنه يستطيع كتابة قصة عن أي شيء على الإطلاق: خذ مثلاً الزجاجة التي على مائدة الطعام هذه، أستطيع أن أكتب عنها قصة قصيرة، واسميها "الزجاجة". لا يريد تشيخوف القول بأنه سيصف الزجاجة، حجمها، لونها، طولها، عرضها، وإلا لن تكون تلك قصة. إنه يعني أن الكاتب الحقيقي لديه القدرة على استخدام أي شيء من أشياء الواقع مهما كان بسيطاً وهامشياً ليسكب فيه روحه.

قد يحكي عمَّا تحتويه الزجاجة وما يتركه هذا المحتوى من تأثير في نفوس البشر، أو يحكي كيف طلَّق صانع الزجاج زوجته لسبب بسيط وتافه وهو أنها كسرت الزجاجة عن غير قصد. أو قد يجد من المناسب أن يحكي كيف وصلت هذه الزجاجة التي نُشاهدها واقفة بشموخ على مائدتنا بعد أن عبرت البحار والمحيطات تحمل رسالة للإنسانية من بحَّار مُغامر يُخبرنا فيها بأنه اكتشف طريق الرجاء الصالح. يكفيك أن تبدأ قراءة الكلمات الأولى من القصة حتى تفيض الحياة من بين السطور مثل فيوض الربيع. إن تشيخوف لا يقول ذلك جزافاً بل إن ما كتبه من قصص خالدة تثبت ذلك بشكل باهر.

سأختار واحدة من تلك القصص المذهلة في بساطتها العميقة، وفي مضمونها العابر للأزمنة والقارات، لتقديمها وتحليلها سيميائياً مع أني -يشهد الله- لا أفهم كثيراً في هذه "السيميائية" ولكن قلتُ في نفسي: جرِّب ذلك، والحياة تجارب. ولا أكتمكم سراً إن قلت: ذهبت إلى المعجمات لاستكشاف "سيميائية" هذه السيميائية. فوجدت بأن السيمياء بالمختصر المفيد هي السِّحر، وحاصِلُه إحداث مثالات خياليّة لا وجود لها في الحسِّ. فهان عليَّ الأمر. والسيمياء قديماً: الكيمياء. وكانت غايتها تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب، واكتشاف علاج كلّي للمرض ووسيلة لإطالة الحياة. هل "السيميائية" في الأدب هي هذا السحر الذي يجعل للكلمات تأثيراً مذهلاً في النفس الإنسانية. وعن الرسول الكريم:" إن من البيان لسحرا". وهل التحليل السيميائي للنص الأدبي يعتني بتضافر الكلمة والمعنى والحدث فيفككها ويستخرج منها اللب الكامن فيها فيتضح السحر؟ هذا ينطبق انطباقاً مذهلاً على هذه القصة التشيخوفية التي اخترتها. وسيمياءُ الشيء: عَلامَتُهُ. سيمياءُ الوجه: حُسْنُهُ. والسيميائية: علم يبحثُ دَلالَة الإشارات في الحياة الاجتماعية وأنظمتها اللغوية.

ها هي قصة أنطون تشيخوف قد عاشت أكثر من مئة سنة وستعيش معنا لمئات السنين الأخرى. هي واحدة من تلك القصص الحيَّة التي نعيشها يومياً، قريبة إلى حد مدهش من حياتنا، تكاد تلامس أرواحنا في كل ساعة من ساعات نهارنا، نراها أمامنا اليوم وغداً وبعد غد في الشارع العام، نراها ماثلة في غرف مكاتبنا في دوائر الحكومة التي نعمل بها، في وزارات الدولة المتنوعة، ادخل أية وزارة من تلك الوزارات وستجدها تتكرر بين هذا المكتب الوزاري وذاك. ناهيك عن قصور الرئاسة. وانتقل إلى قاعات الجامعات ومدرجاتها ستجد الكثير منها في هذه القاعة أو تلك، أو في هذا المدرج أو ذاك. إنها لازمة لا تفارق حياتنا، مع أننا نعيها جيداً، ولكنها دائما ما تتغلب علينا ولا نستطيع الخلاص منها بسهولة. إنها هذا الصراع الأزلي بين القديم والجديد. بين الرأس المطربش-لابس الطربوش- والرأس الحاسر، بين صاحب القنباز وصاحب البدلة. بين جريدة الاتحاد الورقية التي تلمسها بيدك وتكون خير جليس وبين مواد الجريدة الإلكترونية التي يُظهرها لك هذا الساحر المسمى حاسوب، تملكها ولا تملكها، ألم أقل لك أن السيميائية هي السحر. انظر كيف أتوه بين ضيق الأفق ورحابة هذا الكون. ما موقفك عندما يصبح الجديد قديماً؟ ماذا تفعل؟ الحياة تسير وأنت تُراوح مكانك.

قال الفيلسوف الإغريقي سقراط: لا تكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم. وهناك من ينسب هذه المقولة إلى أفلاطون، وتنسب مثل هذه المقولة إلى الإمام علي بن أبي طالب وهي: لا تؤدبوا أولادكم بأخلاقكم، لأنهم خلقوا لزمان غير زمانكم.

غير أن كثيرين من أولي الأمر في التاريخ الإنساني، في الماضي والحاضر، ومن عامة الناس أيضا، يتصرّفون على الضد من هذا الوعي بالمتغيرات في الأجيال والمراحل، ويحاولون فرض ما عرفوه وما نشأوا عليه، على الآخرين وعلى الحياة، ويجدون في الاعتراض على قناعاتهم، قولاً أو فعلاً، تجاوزاً على ما يعدّونه من الثوابت والمقدسات، فيمارسون على المعترض القمع والاضطهاد والتخوين، بل التكفير أيضا، بغطاء الأعراف والأخلاق والقانون والدين، ويوظفون وعّاظ السلاطين من كل صنف ومن كل نوع، لمنح مقولاتهم وتصرفاتهم صفات القداسة والحق والحقيقة.

القصة التشيخوفية التي أتحدث عنها جاءت تحت عنوان "الرجل المعلَّب" تجدها منشورة في المجلد الثاني من المختارات القصصية في أربعة كتب والتي ترجمها إلى العربية في موسكو أبو بكر يوسف في ثمانينات القرن العشرين. هل يمكن للإنسان أن يعيش في علبة؟ القصة بالمختصر المفيد أن جماعة كانت في ليلية سمر صيفية في الريف الروسي والحديث يدور بينها حول فئة من البشر المحافظين الذين يكرهون كل جديد ويعشقون التقليد. حكى أحدهم حكاية عن شخص يدعى بيليكوف يعمل مدرساً للغة الاغريقية في المدينة. كان دائماً، وحتى في الجو الجيد، لا يخرج من البيت إلا بالخف فوق الحذاء وبشمسية، وحتماً يرتدي معطفاً ثقيلاً ببطانة من القطن، وكانت شمسيته مطوية في كيس من الشامواه، وعندما كان يخرج المطواة الصغيرة ليبري قلماً يستخرجها من كيس، حتى وجهه بدا وكأنه أيضاً في كيس، فقد كان يخفيه دائماً بقبة المعطف المرفوعة، وعندما يركب سيارة يأمر السائس برفع الغطاء واغلاق النوافذ، بل ويسدّ أذنيه بالقطن.

هذه الشخصية التشيخوفية الروسية الأصيلة تميل في مجمل تصاريف الحياة إلى وضع نفسها فيما يشبه "العلبة" التي يمكن أن تعزلها وتحميها من المؤثرات الخارجية. كان الواقع المُعاش يثير أعصاب السيد بيليكوف ويخيفه، ويجعله في قلق مستمر، وربما لكي يبرر وجله هذا، وتقززه من الحاضر، كان يمدح الماضي دائماً. وكانت اللغة القديمة التي يُعلمها، والتي بطل استعمالها في الحياة اليومية، هي الأثيرة عنده، معشوقة مدللة، وكان يقول بتعبير عذب: أوه، ما أروع اللغة الاغريقية، كم هي موسيقية. ويزرّ عينيه ويرفع أصبعه ويقول كأنما يدلل على صدق كلماته: "أنثروبوس" الإنسان.

وكان السيد بيليكوف يسعى إلى إخفاء أفكاره في علبة. فلم تكون واضحة له سوى الأوامر الحكومية التي تأتي في نشرات دورية أو في الصحف الرسمية التي تمنع شيئاً ما. كان ذلك بالنسبة له واضحاً ومحدداً، ممنوع وانتهينا. أما السماح والإباحة فكانا ينطويان بالنسبة له على عنصر مشكوك في أمره دائماً، وشيء غامض لا يُفصح عن نفسه أبداً. وكان الخروج عن القواعد في سلوك الناس العام يجعله مهموماً، بالرغم من أن لا دخل له بذلك. فإن شُوهدتْ المشرفة المدرسية في وقت متأخر من الليل مع أحد الضباط، كان ينفعل بشدة ويردد أنه يخشى أن يحدث شيء.

كان في اجتماعات مجلس التربية يرهق المجتمعين بحذره وارتيابه وأفكاره المعلَّبة للغاية بخصوص السلوك المعيب للشباب في مدرستي البنين والبنات والضجة التي يثيرونها في الصفوف، ويخشى أن يصل الأمر إلى الرؤساء. وكانت له عادة غريبة وهي أن يطوف بمنازل رفاقه من المعلمين بين الحين والحين، يجلس صامتاً، ويظل على جلسته تلك ساعة أو ساعتين ثم ينهض مودعاً. وكان يسمى ذلك الحفاظ على الروابط الطيبة مع الرفاق. فرض السيد بيليكوف سطوته على المدرسين والمدير، نعم، هذا الشخص الذي كان يسير بخف وشمسية سيطر على المدرسة خمسة عشر عاماً، بل وانتقلت هذه السيطرة على المدينة بأكملها فقد كانت السيدات قد امتنعن عن اقامة حفلات غناء في المنازل خشية ان يلاحظ ذلك، وكان على رجال الدين أن يكونوا أكثر كياسة واحتشاماً في الحديث أمامه. وبتأثير أمثال السيد بيليكوف أصبح سكان المدينة في العشر او الخمس عشرة سنة الأخيرة يخشون كل شيء. يخشون التحدث بصوت عال، وإرسال الرسائل، والتعارف، يتجنبون الحفلات الموسيقية، وقراءة الكتب، ويخشون مساعدة الفقراء وتعليم القراءة والكتابة. كيف استطاع صاحب الخف والشمسية أن يبسط سلطانه على مدرسين مثقفين ثقافة رفيعة وفيهم من يجيد عدة لغات أجنبية، ومع ذلك خضعوا له، وتحملوه، هذه هي المسألة فعلاً.

كان منزل بيليكوف كأنه علبة مغلقة، فهو يشبه صاحبه كل الشبه، نوافذ الغرف مغلقة دائماً، والأبواب موصدة بالمزاليج، خشية أن يحدث شيء. كانت غرفة نوم بيليكوف صغيرة، كالصندوق، وكان سريره تحت ناموسية. وعندما يأوي إلى الفراش يغطي جسمه حتى رأسه. كان جو الغرفة خانقاً، كان يرتعد رعباً تحت البطانية. كان يخشى أن يحدث شيء، أن يتسلل اللصوص، ثمَّ يرى طوال الليل أحلاماً مزعجة، وفي الصباح، عندما يتوجه إلى المدرسة، كان يلوح كئيباً، ممتقعاً، ويبدو واضحاً أن المدرسة الكبيرة المزدحمة التي كان ذاهباً إليها، مرعبة وكريهة إلى قلبه.

ألم يخفق قلب السيد بيليكوف بالحب يوماً؟ نعم، هذا الرجل المعلَّب كاد يتزوج. أكيد مزحة. لا والله ليست مزحة، كاد أن يتزوج مهما بدا ذلك غريباً. فقد جاء ذات يوم إلى المدرسة مدرساً جديداً للتاريخ والجغرافيا يُدعى كوفالنكو ميخائيل سافيتش، من الأوكرانيين، وقد وصل مع أخته فارنكا. كان شاباً، طويل القامة، أسمر، بيدين طويلتين. أما هي فقد تخطت سن الشباب، في حوالي الثلاثين، ولكنها أيضاً طويلة القامة، رشيقة، سوداء الحاجبين، حمراء الخدين، وباختصار لم تكن فتاة بل "قطعة حلوى" وكانت مرحة صاخبة، تغني دائماً الأغاني الأوكرانية وتقهقه. ولأتفه الأسباب تغرق في ضحك رنان. في حفلة عيد ميلاد مدير المدرسة تمَّ التعارف بين "قطعة الحلوى" والرجل المعلَّب. عندئذ فكر الجميع بما يلي: لماذا لا نزوجهما؟ وقالت زوجة المدير: حسناً لو زوجناهما. وتابعت: لقد تخطى الأربعين منذ زمن بعيد، وهي في الثلاثين، يخيل إليَّ أنها ستقبله زوجاً.

وبدأت الماكينة النسائية في العمل، لم يعد هناك إلا سيرة زواج السيد بيليكوف من فارنكا. لقد انتعشت زوجة المدير، والمفتشة، وكل سيدات المدرسة، بل وازددن جمالاً، وكأنما عثرن فجأة على غاية الحياة. وإذا بزوجة المدير تحجز مقصورة في المسرح، وإذا فارنكا في المقصورة ممسكة مروحة، وهي سعيدة، مشرقة، وبجوارها بيليكوف، صغيراً، منطوياً، كأنما أخرجوه من المنزل بكماشة. واتضح أن فارنكا لا تمانع في الزواج لأنها لم تكن مرتاحة في حياتها مع أخيها، إذ لم يكن لهما عمل سوى الجدال والشجار طول النهار. الجديد في حياة بيليكوف أنه وضع صورة فارنكا على مكتبه، وأخذ يتحدث عنها، وعن الحياة الزوجية، ويقول إن الزواج خطوة جادة، ولكنه لم يغير من طريقة حياته قيد شعرة. بل بالعكس، لقد أثَّر عليه قراره بالزواج تأثيراً مَرَضياً، فهزل وشحب وجهه وبدا أنه قد غاص أكثر في علبته.

وفي نهار الأول من شهر أيار المشمسة قررت إدارة المدرسة الانطلاق في رحلة مشياً على الأقدام إلى الغابة المجاورة للمدينة. كنت ترى التلاميذ والمدرسين جماعات إثر جماعات على الطريق. كان بيليكوف في خفه وشمسيته يرافق بعض الزملاء في المسير، وفجأة، وكثيراً ما تقابلنا "وفجأة" هذه في القصص وتغيِّر مصائر البشر في الكثير من الأحيان، ويحبها الكتاب حباً جمَّاً. على كل حال، فجأة، نقولها مرة ثانية، ظهرت فارنكا تسير خلف أخيها على دراجة، على دراجة! نعم، على دراجة. خداها أحمران بلون الورد الجوري، وهي مرهقة، ولكنها مرحة مسرورة. وتصيح: إننا نسير إلى الأمام، يا للجو الرائع، شيء خرافي! واختفيا عن الأنظار بدراجتيهما المنطلقتان بحرية على الدرب. تحول اربداد وجه بيليكوف إلى شحوب، وبدا كأنه تلقى صدمة، فتسمر في مكانه. وراح يحملق، ثمَّ سأل: عفواً، ما هذا؟ أم أن نظري يخدعني؟ هل من اللائق لمدرسي المدرسة وللنساء أن يركبوا الدراجات؟ كان مصعوقاً لدرجة أنه لم يشأ أن يواصل السير وقفل عائداً إلى المنزل.

انتظر بيليكوف صباح اليوم التالي بفارغ الصبر، كان يفرك راحتيه بعصبية وينتفض، وكان واضحاً أنه في حالة سيئة. وترك الدروس، الأمر الذي حدث لأول مرة في حياته، ولم يتناول الغداء، وقبيل المساء ارتدى ملابس ثقيلة رغم ان في الخارج كان الجو صيفياً تماماً ومضى إلى بيت فارنكا، لم تكن في المنزل فلم يجد سوى شقيقها كوفالنكو. وكان وجهه ناعساً ما يزال، فقد أفاق لتوه من نوم بعد الغداء، وكان مزاجه معتلاً للغاية. جلس بيليكوف صامتاً عشر دقائق ثمَّ بدأ يقول: لقد جئت إليكم لأخفف عن قلبي. إنني مرهق نفسياً جداً. ولديَّ ما أقوله لكم. إنني أخدم منذ زمن طويل، أما أنتم فمازلتم في بداية الخدمة وأرى من واجبي كرفيق أن أحذركم. إنكم تركبون الدراجات، وهذه تسلية لا تليق أبداً بمعلم في المدرسة.

سأل كوفالنكو بصوت غليظ: ولماذا؟ فقال بيليكوف: وهل هناك داع لشرح ذلك، أليس ذلك مفهوماً؟ إذا كان المدرس يركب دراجة، فماذا يتبقى للتلاميذ؟ لا يبقى لهم إلا أن يسيروا على رؤوسهم. وإذا كان ذلك غير مسموح به في المنشورات الدورية فهذا يعني أنه ممنوع. لقد ارتعت أمس. عندما رأيت شقيقتكم غامت عيناي. المرأة أو الآنسة فوق الدراجة، هذا فظيع.

كان ذلك فوق احتمال طاقة كوفالنكو فقال وهو يتضرج: لا شأن لأحد بركوبي الدراجة أنا وشقيقتي. أما من سيتدخل في أموري المنزلية العائلية فسأبعث به إلى الشياطين. فامتقع بيليكوف ونهض. وقال: إذا كنت تتحدث معي بهذه اللهجة فأنا لا أستطيع أن أواصل. وأرجوك ألا تتحدث عن الرؤساء أبداً بهذا الشكل في حضرتي. ينبغي أن تنظر إلى السلطات باحترام. فسأله كوفالنكو وهو يحدق فيه بغيظ: وهل قلت شيئاً عن السلطات؟ أرجوك دعني في حالي. أنا رجل شريف، ولا أريد التحدث مع سيد مثلك. أنا لا أحب الوشاة.

وارتبك بيليكوف في عصبية، وأخذ يرتدي معطفه بسرعة وقد ارتسم الرعب على وجهه. فقد كانت أول مرة في حياته يسمع فيها هذه العبارات الفظة. فقال وهو يخرج من الباب إلى عتبة السلم: بوسعك أن تقول ما تشاء. غير أني ينبغي أن أحذرك، فربما سمع كلامنا أحد. وكي لا يحرف حديثنا ويحدث شيء، ينبغي أن أبلغ السيد المدير فحوى حديثنا في الخطوط العامة. يجب عليَّ أن أفعل ذلك. قال كوفالنكو: تبلغ؟ اذهب وبلغ. وأمسك بقبة معطف بيليكوف من الخلف ودفعة إلى الأمام فتدحرج على السلم وهو يقرقع بخفة. وكان السلم عالياً وشديد الانحدار، ولكنه تدحرج حتى وصل إلى الأسفل سالماً، ثمَّ نهض وتحسس أنفه ليتأكد هل النظارة سليمة أم لا؟

ولكن في اللحظة التي كان يتدحرج فيها على السلم دخلت فارنكا بصحبة سيدتين. وقفن في الأسفل ينظرن. وكان هذا أفظع شيء توقعه بيليكوف. وعندما عاد إلى داره بادر قبل كل شيء برفع صورة فارنكا عن الطاولة، ورقد في السرير ولم يقم بعدها. وبعد شهر توفى بيليكوف وسار الجميع في جنازته، وبعد ان تمدد في التابوت اكتسى وجهه تعبيراً لطيفاً، بل حتى مرحاً، كأنما كان سعيداً بأنهم وضعوه أخيراً في علبة لن يخرج منها حتى يحين موعد يوم القيامة.

من أعمال أنطون تشيخوف "في الطريق" :
  • Like
التفاعلات: نقوس المهدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى