الغالي صالح - كاروشة..

حمل حذاءه بيديه المتآكلتين، مشي في الطرقات المتربة بلا غاية، مشي في الشمس، في الغبار، وكآبة ثقيلة تخيم علي وجهه المتيبس، المنقر بحفر عميقة . هنا وهناك، أمضى نصف يومه، وربع يومٍ في المدينةِ الصغيرة، وهو يجد السير الذي لا هوادة فيه، أخيراً اتكأ علي جذع شجرة “عرد“ عتيقة جافة ومنخورة، أسند رأسه الممتدة علي الجذع شد سرواله المنكمش إلى ما فوق ركبته بقليلٍٍ.
بدا وكأنه إستراح، الان، أسبل جفنيه كمن قرر أن يغفو ليحلم، لكن ذلك لم يدم فجأة، أرى عينيه لنهيق الحمر، ودخان عوادم السيارات الكهلة.
أرسل عينيه بعيداً، وقريباً من منخريه الأفطسين، إلى وجوه السابلة الذين يمرون من أمامه، تعلّقت إحداها بردفِ امرأةٍ بدينة، بدت عينه تهتز مع إهتزاز الردف الممتليء، تأرجح في مكانه فغارت مؤخرته في الثري تحته، أيقظه هتاف صبية تحلقوه، ما يُقال عنه، أنه كان يعيش في مدينة مجاورة ثم مات مرة!.
يشهد بذلك أناس قبروه بأيديهم، علي ذلك يقسمون، ودهشوا عندما رأوه يُبعث من جديد ههنا!.
شرع الصبية في حصبه بالحجارة، وعلت أصواتهم بالصراخ:
- كاروشة البعاتي .. كاروشة البعاتي.
هبَّ، في ثورةٍ، يلعنهم ويلعن آباءهم، ينفض عن مؤخرته التراب، وعلي رأسه أرتال من النمل الأسود المتدفق من جوف الجذع.
نظر في كُلِّ الجهاتِ بعينِ غائمة، أن أنيناً لا إنسانيّاً، دوي في رأسه ذكريات قديمة، أخذ في تسلق الشجرة التي لم تعد مؤرقة ولا تبدو أنها قد عرفت الخصب يوماً.
إعتلي قمتها، وألقى نظرة أخيرة علي الجمعِ الغفير من الناس الذين أحبهم وجهلوا طريقته في الحُبِّ.
قرر أن يبقى في أعلي غصنٍ جاف، متماهياً فيه إلى الأبد، ولم يعد يُشاهد مرةً أخري في طرقاتِ المدينة، وهو يَجدُّ في السيرِ، و حذاؤه بين يديه.
أعلى