نقوس المهدي - "بــــاي".. الرجل الذي نعى العروبة

لا ندري لم انبجست شخصية "باي العروبة" من الذاكرة في هذه اللحظة العصيبة من تاريخ الامة العربيةـ برغم شخصيته البسيطة الغامضة، ربما يرجح ذلك الى سر العلاقة بينه وبين ما يجري الآن من احداث في فلسطين، وما يعتور الجسم العربي من نكسات واوصاب.

بالنسبة لنا نحن أبناء قرية ّلمزيندة" الفوسفاطية، لم نكن نعرف غير اسم شهرته. وفد كسائر المستخدمين، والمستخدم الشيء المنتهية صلاحيته، وهي عبارة هجينة لا أحبها، تطلقها شركة الفوسفاط على العمال، الذين يشكلون فسيفساء ديمغرافيا من كل جهات المغرب، من أعماق الاطلس إلى مرتفعات الريف، وتضاريس جبالة، وسوس، وحدود الصحراء، وسهول عبدة ودكالة، واحمر والرحامنة والشياظمة وسهوب الشاوية وتادلة، جلبوا معهم تقاليدهم وعاداتهم وطربهم الشعبي يحتفون به، ويتناشدونه كل مساء سبت وسط كرنفال من البهجة والانشراح،، ولأننا عادة ننسب الشخص عندما تعز الأسماء الى جذوره العرقية، وهي كثيرة ومختلفة باختلاف وتعدد القبائل المغربية ذات الأصول الأمازيغية، أو الإفريقية التي لها جذور وامتدادات في القارة الافريقية، ولأننا لم نكن نعرف انتماءه القبلي، ولا يجتمع بأحد، كان الجميع ينادونه (باي) أو (باي العروبة)، انسان منعزل وصموت، وفي منتهى الظرف والطيبة والغموض، لم يكن يضجر من منادته بهذا الاسم، راض به على ما يبدو، لا يكلم ولا يزجر احدا، ولأنه هكذا أوكلوا إليه مهمة حارس نهاري على الساحة الممتدة امام منزله والمكونة من سقاية وحظيرة البغال وبضعة اشجار اوكاليبتوس يرتادها الصبية لاصطياد الفراخ، وعنوة لتكدير صفوه وإثارة غضبه ومناوشته، وانتشاله من قيلولته.

أحبه الجميع لتميز شخصيته التي كانت تجلب عليه فضول الصبية، وتغير نظرة الراشدين اليه.ربما لأنهم لم يفهموا مغزى كلامه العميق وتنبؤاته الحصيفة.

وأحببته أكثر حينما نما إدراكي ووعيي الطبقي، ووقفت على معنى ومغزى العبارة (باي العروبة) التي لازمته طيلة حياته المليئة بالأسرار، واستوعبت بعد حين عمق تلك الشعارات العروبية التي كان يطلقها الرجل الصامت دوما المنعزل أبدا في عز شطحاته، وفي أعلى حالات صفائه الروحي، وهو ينعي العروبة، في وسط جل أفراده عمال بروليتاريون أميون يعملون ويشقون من اجل الخبز وحده.

كانت تلك الشعارات التي يطلقها الرجل كبيرة علينا، وتنم عن وعي عروبي جنيني، عميق وصادق، لم يجرؤ أحد على التقرب منه ومعرفة كنهها، والتي تؤكد أنه كان على وعي تام بما يقول، ومهووسا بمتابعة أخبار انهيار الأمة العربية، ونهاية العروبة، كانت رسائل مشفرة ترمز للمرحلة بعد نكسة 48، وعشية هزيمة 67 القاسية على القلب، وعن انتماء قومي بالفطرة لم نستوعبه الا بعد حين توالي التصدعات والضربات على الجسد العربي، وعاشقا لشخصية الزعيم جمال عبدالناصر الذي كان يردد اسمه بأعلى صوته وهو يدور على طريقة الدراويش الدوارين (باي العروبة)، وهو يحمل بين ذراعيه في أحيان كثيرة ابنته الوحيدة الأنيقة المدللة، والأجمل أيضا وأيضا أن لا أحد من رؤسائه الذين كانوا يحضرون احتفالات العمال أقدم مرة على زجره وهو على تلك الحالة من النشوة.

لا أدري كيف انبجس شخص باي العروبة من بين كل هذا الركام، والعروبة تجتاز أزمة لم تشهدها من قبل، وتعيش نزعها الأخير في ظل التطبيع مع العدو الغاشم

باي... باي العروبة...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى