طغيان التكنولوجيا على أشكال الحياة التقليدية كان أمراً لا بد من وقوعه، كنتيجة حتمية لتطلعات البشر منذ ظهورهم الأول على سطح الأرض، ولكن ثمة حقيقة لا ينكرها عاقل، أن هذه التكنولوجيا بأجيالها الجديدة قد منحت الجميع ذات الفرصة للظهور إلى العلن، دون الحوجة إلى موهبة أو جهد، وهذا ما يمكن لمسه في مواقع التواصل الاجتماعي الآن.
الرسام الأمريكي آندي وورهول تنبأ في ستينات القرن الماضي بظهور وسيط إعلامي يحقق للإنسان العادي الشهرة في وقت وجيز، وهو ما حدث الآن بحذافيره، وتضخمت سطوة الشخص لتطغى على المادة الفنية المتعوب عليها، يكفيه فقط الوقوف أمام الكاميرا والتمايل ليصبح مشهوراً.
الأدب ليس بعيداً عن ذلك بل إنه كان الضحية الأكبر، وعلى سبيل المثال في السابق دار جدال مطول حول أطروحة رولان بارت في عام 1967م المعروفة باسم موت المؤلف، حيث دارت النقاشات حول فلسفته الرامية إلى إقصاء المؤلف من مشهد العمل تماماً، والقفز مباشرة إلى حيثيات النص المكتوب، وتأويله وتحميله بمعاني ربما لم تكن تخطر ببال المؤلف ساعة كتابته للنص، استمر الجدل طويلاً كذلك حول إمكانية تخمين أهداف المؤلف، والفصل بينها وبين أهداف الكاتب أو الشخص الذي تضغط أصابعه على أزرار الآلة الطابعة، كل ذلك الجدل كان بمعزل عن التكنولوجيا الحديثة، وفي الغالب فإن رولان بارت في ذلك الوقت، لم يكن لتخطر على باله أن نظريته ربما تنعكس مساراتها يوماً ما، فالتكنولوجيا الحديثة أعادت ترتيب العالم بما يناسب استمراريتها، وهي بذلك تعتمد على الشخص في نفسه، بعيداً عن إمكانياته الإبداعية ومكانته الاجتماعية أو الثقافية، ومدى ارتباطه بالبيئة المحيطة وتأثيره الحسي عليها كفرد صاحب إمكانيات ومهارات اجتماعية.
الأمر الآخر فالعالم اليوم يمضي بوتيرة متسارعة، احترافية التسويق فيه أهم من السلعة نفسها، بغض النظر عن كينونة هذه السلعة وما يمكن أن تطرحه من فائدة للمستهلك، ويمكن القول حقيقة إن العمل الأدبي والفني أحالته التكنولوجيا الحديثة المتسارعة في التطوير، إلى سلعة تباع وتشترى في السوق تخضع لحسابات الربح والخسارة، أكثر من كونها أداة لنشر المعرفة وتطوير المفاهيم والأفكار، وبطريقة لا إرادية يصبح استصحاب شخص الكاتب جزءاً مهماً في عملية التسويق، فاليوم تسعى الكثير من دور النشر لاستقطاب الأشخاص لا النص المكتوب، وذلك عبر استهداف فئات معينة من نجوم مواقع التواصل الاجتماعي، واستكتابهم بحيث تضمن هذه الدور المنافسة الجيدة في سوق البيع، بغض النظر عن النص المنشود، أصبحت هذه الدور الآن تنظر إلى وسامة الشخص، إلى عدد متابعيه، إلى المحتوى الذي بموجبه يمكن أن يضيف المزيد من المال إلى خزينتها، لتنقلب الآية الآن، ويتم النظر إلى المؤلف كقيمة أولى، والنص المكتوب كسلعة.
وهنا يمكن القول بوضوح إذا أراد الكاتب أن يصل بنصه المكتوب إلى جميع أصقاع العالم، عليه أن يتعلم أولاً أصول التواصل الاجتماعي والانتشار الرقمي، ومبادئ التسويق الإلكتروني كحد أدنى، فالسطوة التي فرضتها وسائل التواصل الاجتماعي، حتمت على جموع الكتاب الحريصين أن يعجلوا بالظهور كنجوم على مواقع التواصل الاجتماعي، ذلك في المقام الأول، ثم تأتي العملية الإبداعية الشاقة في المقام الثاني، خلف الكواليس والغرف المغلقة، مع كوب صغير من القهوة والكثير من الضجر والتعب، إذ إن الفرصة الآن باتت لا تأتي لصاحب الجودة المكتوبة، إنما لصاحب المتابعات الكثيرة بغض النظر عن كيف حصل عليها، ونستثني بذلك القليل جداً من الدور العاملة في مجال النشر، التي تنظر إلى النص كقيمة فنية يجب إخضاعها للفحص الدقيق قبل الدفع بها إلى المطبعة.
لكن أعتقد أن هذه العملية المعقدة لا تضمن أي خلود للكاتب، فالسرعة الرهيبة التي انتابت العالم جراء انغماسه في التكنولوجيا تجعل النسيان أسرع، فطالما الكاتب موجود ويوثق حياته اليومية على مواقع التواصل ويجمع حوله المعجبين فهو حي، وفي اللحظة التي يبتعد فيها سيخفت الضجيج حوله ويتحول إلى ميت، حتى وإن كانت الروح تنبض داخل صدره.
رغم ذلك لا يمكن القول إن الوسائل التقليدية قد ماتت، فالكتاب الورقي مثلاً لا يزال صامداً أمام وسائل القراءة الإلكترونية، بل بالعكس تماماً، فالسهولة التي يصل بها الكتاب الإلكتروني إلى القراء، جعلت الكتاب الورقي مستهدفاً بالشراء لفئات كثيرة، البعض منها تدفعها النوستالجيا الورقية لحفظ الود للكتاب الورقي، والبعض الآخر يدفعه فضوله وهيبة الورقة لاقتناء نسخة، ومعارض الكتب الآن تبيع آلاف النسخ، وهو ما لم يكن يحدث سابقاً عندما كان الحصول على نسخة من كتاب لا يتم إلا عن طريق اشتراك مدفوع، والكتاب الواحد يتم تداوله حتى يتمزق إلى قطع صغيرة، ولا تحصل عليه إلا بعد انتظار طويل جداً.
على سبيل المثال يمكن أن نأخذ المملكة العربية السعودية أنموذجاً استطاع هزيمة عنفوان التكنولوجيا لصالح الكتاب الورقي، فالمملكة تحتل المرتبة الأولى في تسويق الكتب في الشرق الأوسط، ويتجاوز حجم الاستثمار في القطاع محلياً أكثر من خمسة مليارات ريال سنوياً، مع أكثر من 400 دار نشر محلية، 4000 شخص يمتهنون المجال كما جاء في تقرير نشرته جريدة الاقتصادية في فبراير 2018. بالطبع لا يمكن إنكار أن هذه السوق تأثرت سلباً بعض الشيء بالتكنولوجيا مؤخراً، حيث إن نجوم التواصل الاجتماعي يبيعون أكثر من أي كاتب متمرس ومجيد، فقط لأنهم نجوم.
لكن تجدر الإشارة إلى أن الحديث حول الأثر التكنولوجي على الأدب لا يأخذ منحىً سيئاً على الدوام، فلكل فن أدوات تحتاج إلى تطوير وشحذ، وفنون اللغة دائمة التشكل مع معطيات العصر، رغم احتفاظها بجوهرها المعروف، وخصوصيتها الحضارية المستقلة، لذلك وجب نقلها من وعائها التقليدي لوعاء أكثر رحابة، فالكتاب الإلكتروني رغم ما يدور حوله من جدل، فهو في النهاية وجه من أوجه التأقلم الحضاري ومجاراة التطور، والوصول إلى المتلقي في بيته على سريره وبين يديه، وهذا بعيداً عن أثر الكتاب الإلكتروني على الورقي، فهو في نهاية الأمر يظل تطوراً يمد لسانه نحو التقليد القديم، في النهاية يمكن القول إنهما يصبان في ذات النهر، نهر المعرفة.
يظل الجدال حول غياب النص الإبداعي وبروز الأشخاص في ظل هذا الزخم التكنولوجي باباً مطروقاً، والحديث حوله يفتح أبواباً أخرى للنقاش، وبخاصة المتعلقة بمدى جدوى التكنولوجيا الأدبية والفنية ومدى ارتباطها بتطوير اللغة والتعبير، لكن مما لا شك فيه أن هذه التقنيات الحديثة قد غيرت خارطة الوعي والتلقي تماماً، وبرز النص وكاتبه بوجه جديد نحتاج بعده إلى إعادة توظيف الأفكار ووجهات النظر حولهما.
الرسام الأمريكي آندي وورهول تنبأ في ستينات القرن الماضي بظهور وسيط إعلامي يحقق للإنسان العادي الشهرة في وقت وجيز، وهو ما حدث الآن بحذافيره، وتضخمت سطوة الشخص لتطغى على المادة الفنية المتعوب عليها، يكفيه فقط الوقوف أمام الكاميرا والتمايل ليصبح مشهوراً.
الأدب ليس بعيداً عن ذلك بل إنه كان الضحية الأكبر، وعلى سبيل المثال في السابق دار جدال مطول حول أطروحة رولان بارت في عام 1967م المعروفة باسم موت المؤلف، حيث دارت النقاشات حول فلسفته الرامية إلى إقصاء المؤلف من مشهد العمل تماماً، والقفز مباشرة إلى حيثيات النص المكتوب، وتأويله وتحميله بمعاني ربما لم تكن تخطر ببال المؤلف ساعة كتابته للنص، استمر الجدل طويلاً كذلك حول إمكانية تخمين أهداف المؤلف، والفصل بينها وبين أهداف الكاتب أو الشخص الذي تضغط أصابعه على أزرار الآلة الطابعة، كل ذلك الجدل كان بمعزل عن التكنولوجيا الحديثة، وفي الغالب فإن رولان بارت في ذلك الوقت، لم يكن لتخطر على باله أن نظريته ربما تنعكس مساراتها يوماً ما، فالتكنولوجيا الحديثة أعادت ترتيب العالم بما يناسب استمراريتها، وهي بذلك تعتمد على الشخص في نفسه، بعيداً عن إمكانياته الإبداعية ومكانته الاجتماعية أو الثقافية، ومدى ارتباطه بالبيئة المحيطة وتأثيره الحسي عليها كفرد صاحب إمكانيات ومهارات اجتماعية.
الأمر الآخر فالعالم اليوم يمضي بوتيرة متسارعة، احترافية التسويق فيه أهم من السلعة نفسها، بغض النظر عن كينونة هذه السلعة وما يمكن أن تطرحه من فائدة للمستهلك، ويمكن القول حقيقة إن العمل الأدبي والفني أحالته التكنولوجيا الحديثة المتسارعة في التطوير، إلى سلعة تباع وتشترى في السوق تخضع لحسابات الربح والخسارة، أكثر من كونها أداة لنشر المعرفة وتطوير المفاهيم والأفكار، وبطريقة لا إرادية يصبح استصحاب شخص الكاتب جزءاً مهماً في عملية التسويق، فاليوم تسعى الكثير من دور النشر لاستقطاب الأشخاص لا النص المكتوب، وذلك عبر استهداف فئات معينة من نجوم مواقع التواصل الاجتماعي، واستكتابهم بحيث تضمن هذه الدور المنافسة الجيدة في سوق البيع، بغض النظر عن النص المنشود، أصبحت هذه الدور الآن تنظر إلى وسامة الشخص، إلى عدد متابعيه، إلى المحتوى الذي بموجبه يمكن أن يضيف المزيد من المال إلى خزينتها، لتنقلب الآية الآن، ويتم النظر إلى المؤلف كقيمة أولى، والنص المكتوب كسلعة.
وهنا يمكن القول بوضوح إذا أراد الكاتب أن يصل بنصه المكتوب إلى جميع أصقاع العالم، عليه أن يتعلم أولاً أصول التواصل الاجتماعي والانتشار الرقمي، ومبادئ التسويق الإلكتروني كحد أدنى، فالسطوة التي فرضتها وسائل التواصل الاجتماعي، حتمت على جموع الكتاب الحريصين أن يعجلوا بالظهور كنجوم على مواقع التواصل الاجتماعي، ذلك في المقام الأول، ثم تأتي العملية الإبداعية الشاقة في المقام الثاني، خلف الكواليس والغرف المغلقة، مع كوب صغير من القهوة والكثير من الضجر والتعب، إذ إن الفرصة الآن باتت لا تأتي لصاحب الجودة المكتوبة، إنما لصاحب المتابعات الكثيرة بغض النظر عن كيف حصل عليها، ونستثني بذلك القليل جداً من الدور العاملة في مجال النشر، التي تنظر إلى النص كقيمة فنية يجب إخضاعها للفحص الدقيق قبل الدفع بها إلى المطبعة.
لكن أعتقد أن هذه العملية المعقدة لا تضمن أي خلود للكاتب، فالسرعة الرهيبة التي انتابت العالم جراء انغماسه في التكنولوجيا تجعل النسيان أسرع، فطالما الكاتب موجود ويوثق حياته اليومية على مواقع التواصل ويجمع حوله المعجبين فهو حي، وفي اللحظة التي يبتعد فيها سيخفت الضجيج حوله ويتحول إلى ميت، حتى وإن كانت الروح تنبض داخل صدره.
رغم ذلك لا يمكن القول إن الوسائل التقليدية قد ماتت، فالكتاب الورقي مثلاً لا يزال صامداً أمام وسائل القراءة الإلكترونية، بل بالعكس تماماً، فالسهولة التي يصل بها الكتاب الإلكتروني إلى القراء، جعلت الكتاب الورقي مستهدفاً بالشراء لفئات كثيرة، البعض منها تدفعها النوستالجيا الورقية لحفظ الود للكتاب الورقي، والبعض الآخر يدفعه فضوله وهيبة الورقة لاقتناء نسخة، ومعارض الكتب الآن تبيع آلاف النسخ، وهو ما لم يكن يحدث سابقاً عندما كان الحصول على نسخة من كتاب لا يتم إلا عن طريق اشتراك مدفوع، والكتاب الواحد يتم تداوله حتى يتمزق إلى قطع صغيرة، ولا تحصل عليه إلا بعد انتظار طويل جداً.
على سبيل المثال يمكن أن نأخذ المملكة العربية السعودية أنموذجاً استطاع هزيمة عنفوان التكنولوجيا لصالح الكتاب الورقي، فالمملكة تحتل المرتبة الأولى في تسويق الكتب في الشرق الأوسط، ويتجاوز حجم الاستثمار في القطاع محلياً أكثر من خمسة مليارات ريال سنوياً، مع أكثر من 400 دار نشر محلية، 4000 شخص يمتهنون المجال كما جاء في تقرير نشرته جريدة الاقتصادية في فبراير 2018. بالطبع لا يمكن إنكار أن هذه السوق تأثرت سلباً بعض الشيء بالتكنولوجيا مؤخراً، حيث إن نجوم التواصل الاجتماعي يبيعون أكثر من أي كاتب متمرس ومجيد، فقط لأنهم نجوم.
لكن تجدر الإشارة إلى أن الحديث حول الأثر التكنولوجي على الأدب لا يأخذ منحىً سيئاً على الدوام، فلكل فن أدوات تحتاج إلى تطوير وشحذ، وفنون اللغة دائمة التشكل مع معطيات العصر، رغم احتفاظها بجوهرها المعروف، وخصوصيتها الحضارية المستقلة، لذلك وجب نقلها من وعائها التقليدي لوعاء أكثر رحابة، فالكتاب الإلكتروني رغم ما يدور حوله من جدل، فهو في النهاية وجه من أوجه التأقلم الحضاري ومجاراة التطور، والوصول إلى المتلقي في بيته على سريره وبين يديه، وهذا بعيداً عن أثر الكتاب الإلكتروني على الورقي، فهو في نهاية الأمر يظل تطوراً يمد لسانه نحو التقليد القديم، في النهاية يمكن القول إنهما يصبان في ذات النهر، نهر المعرفة.
يظل الجدال حول غياب النص الإبداعي وبروز الأشخاص في ظل هذا الزخم التكنولوجي باباً مطروقاً، والحديث حوله يفتح أبواباً أخرى للنقاش، وبخاصة المتعلقة بمدى جدوى التكنولوجيا الأدبية والفنية ومدى ارتباطها بتطوير اللغة والتعبير، لكن مما لا شك فيه أن هذه التقنيات الحديثة قد غيرت خارطة الوعي والتلقي تماماً، وبرز النص وكاتبه بوجه جديد نحتاج بعده إلى إعادة توظيف الأفكار ووجهات النظر حولهما.