خالد النبوي - الكرسي والمنبر

إذا ارتبطت كلمة الكرسي بالله تعالى كان معناها العرش «الرحمن على العرش استوى»، « وَسِعَ كُرْسِيُّهُ الْسَّمَوَاتِ وَالأَرْض» صدق الله العظيم. وإذا ارتبطت بالرؤساء ورؤساء الوزراء في
العالم كان معناها الحكم. وإذا ارتبطت بالرؤساء في العالم العربي كان معناها التحكم. وإذا
ارتبطت بأستاذ الجامعة كان معناها كرسي العلم، إذ يطلق «أستاذ كرسي» على مدرس الجامعة الذي يصل إلى مكانة علمية متفردة.
هل يمكن للمنبر في الجامع يوم الجمعة أن يتحول إلى كرسي بأي معنى من المعاني سالفة
الذكر؟ الإجابة لا.
ففي الحالة الأولى الجامع هو بيت الله ولا يمكن أن يحكم فيه أحد إلا الله. والأذان الذي يؤذن للصلاة يقرر أنه لا إله إلا الله. وفي القرآن الكريم «إن الحكم إلا لله » صدق الله العظيم. وفي الحالة الثانية لا يمكن أن يتحول المنبر إلى كرسي حكم لأن الواقف عليه لم ينتخب من عموم الناس كرئيس للبلاد. وفي الحالة الثالثة لا يمكن أن يكون الواقف على المنبر أستاذ كرسي، لأن هذا يحتاج إلى درجات علمية متخصصة وكافية لهذه المكانة وهذا اللقب حتى تصير أستاذاً جامعياً. هنا تبقى حالة واحدة وهي الخاصة بالعالم العربي وهي أن يرتبط الكرسي بالتحكم. ولنتعمق معاً في فكرة الجامع التي أتى بها محمد عليه الصلاة والسلام .
فقبل الإسلام عرفنا أسماء دور العبادة بألوانها وأشكالها التي هي عليها الآن إلا الجامع، فقد عرفنا قبل الإسلام ( الهيكل والمعبد والكنيسة والدير والصومعة ) وكلها أماكن للصلاة والتقرب إلى الله ولنشر التعاليم الدينية. ولكن فكرة الجامع لم تأت إلا مع الإسلام، وجاء الجامع ليكون التطبيق العملي لنظرية الإسلام في الحكم وهو أن الحكم لله وحده والإدارة فيه للأغلبية ( وأمرهم شورى بينهم ). والاجتماع الأسبوعي يوم الجمعة لم يكن فقط للصلاة ولكنه بالأساس اجتماع لمناقشة أمور المسلمين. كل مسلم حاضر بنفسه عن نفسه. لكل إنسان الحق في طرح الأسئلة ولمناقشة أي أمر يتعلق بحياة الناس ومصير الأبناء من الجيل الجديد.
وهكذا تقف الأمة وقفة أسبوعية تحدد فيها خريطة العمل القادمة ومحاسبة ما فات حتى لا تتكرر الأخطاء. وهنا تظل الأمة متيقظة عاملة مسؤولة متحدة أمالة في التقدم. وهذا التقدم حدث دائماً عندما كانت الفكرة الأساسية للجامع حاضرة. وغاب هذا التقدم عندما غابت وظيفة الجامع الأساسية في عقولنا ومن ثم في سلوكنا. وهي أن الإدارة للأغلبية.
إذن ما هو دور الشخص الواقف على المنبر؟ هو شخص اخترناه واتفقنا عليه جميعاً داخل الجامع كي يدير وينظم هذا الحوار بيننا، حتى لا تصير المناقشات غوغائية، كأنه يسجل ما يحدث في الجلسة مثل ما تم اتخاذه من قرارات وما تم إلغاؤه والتذكير في الجمعة المقبلة بما حدث في الجمعة السابقة وكأنه منسق أعمال الأمة في هذا الجامع الواقع في كل حي من أحيائنا. وبهذا يكون الجامع حياً دائماً، محققاً لنداء (حي على الفلاح). هل هذا ما يقوم به خطباء الجوامع الآن؟ هل يتيحون الفرصة للناس كي يتحدثوا؟ هل يسمحون لهم بمناقشة أمور حياتهم وحياة أبنائهم؟ ام أننا داخل الجامع يوم الجمعة عشنا لسنوات طويلة جداً حالة كلام فردية يقابلها حالة استماع جماعية. نسمع دائماً نفس القصص عن عظمة أبي بكر دون أن يكون بيننا في الجامع المواطن الذي قال لأبي بكر «والله لو وجدنا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا »، ونسمع في الجامع عن عدل عمر دون أن نجد المواطن الذي حاسب عمر على متر قماش من أموال الصدقة. نحن لا نريد فقط أن نسمع قصصاً متكررة عن عدل هؤلاء العظماء، بل نريد أيضاً أن نقيم هذا العدل في هذه اللحظة الحاضرة في المكان الحاضر الذي نعيش فيه. منبر الجامع في صورته الحالية عبارة عن متحدث واحد وجماعة من الصامتين. يرسل هو وهم يستقبلون. ثم يأتي يوم الجمعة من كل أسبوع الخطيب نفسه الناس أنفسهم والقصص نفسها، وكل واحد متمسك بموقعه السابق والذي كان لاحقاً دائماً. الفرد يتحدث والجماعة صامتة، دون أن تتاح للأغلبية الفرصة لمناقشة أية مشكلة من مشاكل الحي الذي يسكن فيه الأحياء.
فهل تحول المنبر في الجامع إلى كرسي من كراسي التحكم في عالمنا العربي؟! لا أريد الإجابة، ولكن أعرف أنه لا يصح. (بمعنى غير صحي) أن يتحول الحوار في الجامع إلى مجرد
مرسل ومستقبلين. ولنر ما يحدث للأمة العربية أخيراً.
أن هذه الثورات العظيمة نجحت كنتيجة حتمية عندما انتبهت الأمة العربية أخيراً: للمعنى الحقيقي للجامع والهدف الحقيقي لاجتماع يوم الجمعة من كل أسبوع. وتجلت قدرة الأمة
العربية وانتصرت على الحكم الجائر الظالم بعد أن كانت أمة مهانة ذليلة لا صوت لها.
لنتمسك بالفكرة الأساسية التي من أجلها أتى الإلام بالجامع وجعل الإدارة فيه بالأغلبية، وهذه هي عبقرية اللقاء يوم الجمعة، وتأكيد أن يد الله مع الجماعة. لنتمسك كل أسبوع
بمناقشة أمور الحي الذي يسكنه الأحياء ولنرفض أن يتحول المنبر إلى كرسي حكم يتحدث منه فرد واحد يستمع اليه أموات كما قال نجيب سرور:
الصمت ليس هنيهة قبل الكلام
الصمت ليس هنيهة بين الكلام
الصمت ليس هنيهة بعد الكلام
الصمت حرف لا يخط ولا يقال
الصمت موت أو ليس الموت صمت.
دامت وعاشت الأمة العربية هادرة
ثائرة متحررة قاهرة لصمتها إلى الأبد.
* مصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى