2-1-2 صمود التفعيلة.
لا زالت بعض القِلاع في مملكة الشعر حَصينة بسلطان قصيدة التفعيلة ، صامدة أمام اجتياح قصيدة النثر بعنف وجبرت.لا زالت هذه القلاع مُصِرّة على مقاومة المَدِّ النثري، كافرة بما يُبَشِّر به لنفسه، وإن كانت متقطعة متباعدة، غير أنها بارزة وفعالة، وذلك باعتمادها آليات تَضْمَنُ لها حق الرسوخ والحياة لتؤجل، بذلك تحقق أماني المُفْرِطين في التفاؤل من مناصري قصيدة النثر وممارسيها.
قليلة، إذن، هي التجارب الشعرية التي تؤمن بفعالية المقاومة، وتسعى إلى التمسك بحق الاستمرارية، حتى وإن كانت مهمة الريادة قد سُحِبَتْ منها باعتبار الكم.وقليلون هم الشعراء الذين لا زالوا يؤمنون بأن الإبقاء على هذين العنصرين يذكرهم على الأقل، بالزمن الشعري الجميل، حتى وإن تعذر عليهما الإسهام في صنع جمالية الشعر في الوقت الراهن نظرا لشروط الكتابة ولجزئيتهما في القصائد، أي أنهما ملمحان نوعيان فقط في الشعر ، وليسا كافيين كما يقول الأستاذ العمري. فالجودة في الشعر تقتضي اشتغال كل العناصر اشتغالا عَيْنِيا، لا ينوب فيه أحد عن أحد ولا يقوم مقامه .
إن تحول قصيدة التفعيلة إلى هامش ضَيِّق عاجز على مُنازَعَة قصيدة النثر، التي صارت مركزا، سلطتها لا يعني تحلل الناس من عشقهم لها، بل إن مناهضة الناس لها، في وقت من الأوقات، حين دافعت الشعر العمودي ونازعته هيمنته، تحول الآن إلى شبه تعاطف، لأن البديل ( قصيدة النثر) إجهاز صريح على الشعر. فحتى تلك الهوامش الضيقة جدا التي أبقت عليها قصيدة التفعيلة كصلة وصل مع الشعر القديم صارت الآن عُرْضَةً للإعدام مع النثيرة. ولذلك فتلك خير من هذه، وهما معا مفارِقتان للقصيد 43.
صارت قصيدة التفعيلة الآن استثنائية في واقع شعري قاعدته النثيرة، ومن هنا جاء تميزها وتميز روادها. إنها البلسم الذي يدافع الموت القادم من تعامل هؤلاء مع قصيدة النثر
ومن الملاحظات الواجب تسجيلها، أن الشعراء الذين يكتبون التفعيلة ينتمون إلى جيل واحد أو جيلين متقاربين. أقصد أن التجارب التي تُخْلِصُ لقصيدة التفعيلة من جملة التجارب التي أعددناها لهذه الدراسة لا تتعدى أربع، وهي تجربة محمد بنيس وصلاح بوسريف، وادريس الملياني، ومصطفى الشليح. وهؤلاء يمكن اعتبارهم جيلا مخضرما يصل الرواد بالخَلَفِ وإن بدرجات. وسنقف عند ملامح اعتناء بعضهم بعنصري الوزن والقافية كعنصرين مميزين في قصائدهم ومميزين لقصائد التفعيلة عن قصيدة النثر .
أ- الاعتناء بالوزن
يبدو اعتماد ديوان: "هبة الفراغ" لبنيس على الوزن ملحوظا، غير أن تردده على القافية يبقى متذبذبا إلى درجة تغييبها نهائيا، أو توظيفها بشكل خاص مرتبط بتوازن المقاطع الشعرية ككل. بمعنى أنه من الصعب الحديث في الديوان عن القوافي المتتالية أو المتراوحة أو المتناوبة 44 . نقرأ في قصيدته طيش :45
لا تَسْألوه
عنِ
المَهالِك
رُبّما
عَبَرَتْ إِلَيْهِ نِهايَةٌ
مِنْ شَوْقِه
لا تَسأَلوه
عَنِ
المَناسِك
إِنَّهُ
طَيْشٌ رَمى
بِدِمائِه
وانْقادَ لِلنِّسْيان
تقوم هذه القصيدة على نظام المقاطع التوازنية، مع الإصرار على تكرار القافية نفسها في أول كل مقطع ، بل تقفيه كل السطر ( لا تسألوه عن )، فهذه لازمة على رأس كل مقطع.ثم تأتي الكلمات( المسالك/المهالك/المناسك) لتكمل مشهد التوازي. هذا، دون إغفال بناء القصيدة على بحر الكامل التي تتردد فيه "متفاعلن" بشكل متواز.
والظاهرة نفسها نعثر عليها في قصيدة ظلال46، مع قلب موضع التقفية، فإذا كانت في القصيدة الأولى تحتل مقدمة المقاطع، فإنها في هذه القصيدة تأتي في آخر كل مقطع، علما أن القصيدة مبنية على خمسة مقاطع يقول:
ظِلالٌ يُوَشْوِشُ
فِيها الْتِماعٌ
خَفِيضٌ
لِنَجْمٍ
تَلَطَّفَ بِي لَيْلُه
فَاكْتَسَيْتْ
ظِلالٌ أُوَسِّعُ
عَوْدَتَهَا
مِنْ عَواصِفَ
كُنْتُ مَزَجْتُ بِها
جَسَدي
فَانْتَشَيْتْ
ظِلالٌ يُوَسِّدُ
شُعْلَتَها
قَلَقٌ
وَمغيبٌ
فَتَحْت رِواقَهُما
فانْحَنَيْت
ظلالٌ تُؤَيِّدُها
طُرُقٌ
تَسْتَعيدُ الطُّفولَةُ فيها
سُلالَةَ تيهٍ
تَعَلَّقْتُ وَرْدَتَهُ
فاحْتَمَيْت
ظِلالٌ تَقودُ
طُيورَ الخُزامى
إِلى جَمْرَةٍ
وَسِعَتْني
مَناكِبُها
فَارْتَوَيْت
بالرغم من تباعد مواقع القافية، فإن دورها بارز في تحديد المعنى ورسم حدوده، وبذلك تكون القافية قد أدت دورها المعنوي إلى جانب دورها الإيقاعي من حيث درى الشاعر أم لم يَدْرِ مع الإشارة إلى أن هذه القوافي تتردد ضمن وزن نسجته تفعيلات بحر المتقارب "فعو لن" ويبقى أوضح مثال لتردد القافية على مساحات تُبْرِزُ حضورها في القصيدة، قصيدته: "كتابة"، المبنية على بحر المتدارك (فعلن)، يقول فيها: 47.
سَمِّهَا قَطْرَةً أُولى
تَتَخَثَّرُ في لَحَظاتِ ارْتِيابْ
سَمّْها هِبَةً
نَبَذَتْ بَرْد معْبَرِها
واكْتَفَتْ بانْحِفارِ الغِيابْ
قُلْ لَها
أنْ تَكونَ لَهُمْ خَيْمَةً
قُل لهم
إِنّها
نَفَسٌ لاتِّقادِ السَّحابْ
بين كلمات ( ارتياب/الغياب/السحاب) التي تشكل القوافي، مساحة معلومة بحيث تتقارب بين الكلمتين الأوليين، وتتباعد بعض الشيء بين الثانية والثالثة.
هذه من القصائد القليلة جدا التي يعتني فيها الشاعر بالقافية بدرجات متفاوتة إلى جانب اعتنائه بالوزن. لتبقى قصيدة" هي " نموذجا مصغرا لحجم وطبيعة حضور القافية في الديوان حيث تكاد تغيب في جل القصائد. يقول48.
هي خَيْمَةٌ
تَعْلو
إِلى لَيْلٍ يُحَصِّنُهُ
الغُبارْ
أُفُقٌ تُواصِلُ جَمْرَةُ اللَّحَظاتِ
نَشْأَتَه يُؤَكِّدُه دَبيبٌ يَخْتَفِي
اللَّمَعانُ في أَحْشائِهِ
لِيَتَّحِدَ الذَّرَارِي
بِالدُّوار
مِنْ أَيْن تَنْشَأُ هَذِهِ السَّعَفاتُ
أَيُّ سُلالَةٍ تَتَكَلَّفُ الأَعْضَاءُ
باسْتِقْدامِ سَهْرَتِها
دَمٌ
يَنْشَقُّ
يَدْفَعُ مُنْتَهى نِسْيانِه
بَيْنَ العَواصِفِ
وَالْـ
بِحارْ
تخضع القصيدة لمقتضيات بحر الكامل، أما القافية فلا تتردد إلا ثلاث مرات متباعدة جدا حتى أن القارئ لا يحس بوجودها في القصيدة. ولعل هذا الملمح في توظيف القافية إلى جانب الوزن هو الغالب في دواوين التفعيلة، حيث الاعتناء بالقافية لا يرقى إلى مستوى الاعتناء بالوزن. فقط، نسجل هنا استثناءً في تجربة ادريس الملياني في ديوانه: "حدادا علي .." الذي يبدو اهتمامه بالقافية أشد منه في ديوان بنيس، طبعا مع الحرص على دور التفعيلة, وهو ما صرح به صراحة في قصيدته: "الليلة يرجع عبد الله"،التي يرثي فيها الشاعر عبد الله راجع. يقول: 49
مَالي أَنا والجَماهِير؟
ما أَنا قَيْس
وَلا هِي لَيْلى!
وَمَهْما يَكُن لَنْ ..
ولَنْ أَتَدَخَّلَ
فِي النَّصّ إِلاَّ
بِمْقدارِ ما يَقْتَضِي الوَزْنُ50
وأجدني أمام هذا الالتزام الصريح، مدفوعا لمقابلته بكلمات وردت في تمهيد ديوان " الحب والحياة" لعبد الحق الحاكمي، يقول مستبقا تعاليق الناس " رغم أن اللغة العربية واسعة ، من المؤكد أن القافية الموحدة تخنق أحاسيس كثيرة ، فمن الضروري أن نتحرر من سلاسل الأوزان القديمة سعيا وراء حرية أكبر في التعبير (...) أُقَدِّم للقارئ شعرا حرا نابعا من الغريزة والعفوية ومفهوم . لأنه ناتج عن شعور يخالج صدر معظم الناس ، خَرَجَتْ كلمات فَرَضَتْ نفسها من دون أن تترك لي حرية الاختيار أو التعديل. أنا لا أحب القمع وتغيير التعبير الصادق ، سَيُْشِعُرني بذنب لن أتحمله معنويا "51.
وبالموازاة مع هذه التوطئة جاء الديوان منسجما مع العفوية والتعبير الصادق، مناقضا تماما للتحلل من القافية، بل واقع في إسارها إلى درجة الرتابة والملل، مناقضا لطبيعة الشعر الذي لا يحتمل هذا التسيب، فكل نص من نصوص الديوان يعد نموذجا صريحا لهذه الأفكار، سواء المنسجمة أو المناقضة لما جاء في التمهيد . نفتح الديوان على قصيدة:" هي" ، التي يقول فيها :52.
هِي الَّتي تُمِيتُني وَتُحْيِيني
وَهِي التِي بِدونِ إِذْنٍ تَغْزُوني
وَتَلْعَب بِأعْصابي وَتَدْخُل شَرايِيني
وتَزْرَع الأَمَلَ في رُوحي وَوِجْداني
أَهيمُ لَوْعَةً بِها وأَتْرُكُها تُفْنِيني
فَكُلَّما امْتَلَكْتِني أَحْبَبْتُ أنْ تَزِيدِني
وكُلَّما زادَتْنِي اسْتَحْلَيْت أَنْ تَمْتَلِكَني
ولِجَبَرُوتِها اسْتَسْلِم وَأَتْرُكُها تَقودُني.
هذه عاقبة الحرية والصدق الذين يتوارى خلفهما الشعراء لإخفاء ضحالتهم، إننا نريد كَذِبًا مُنْتِجا . أوَ لَمْ يقولوا قديما أن الشعر لما دخل باب الخير نَكَد! لا أدري عن أي قافية تحدث الحاكمي وبأي معنى فهمها ؟ ولا معنى التحرر منها ؟ فنحن نرى أن التحرر في النص النثري معادل للأسر التام في النص الشعري . إنه الطريق المشروع، للتفريط " في الطبيعة الخاصة للشعر وفي قيمته الإنسانية "53.
ب: ائتلاف الوزن والقافية:
تنفرد تجربة مصطفى الشليح بطابع خاص جدا ، لا تنازعها فيه أي تجربة من التجارب التي وقفنا عندها في هذا البحث . ويمكن ، بداية ، رصد مظاهر هذه الخصوصية قبل الخوض في قراءتها، وذلك من خلال ديوانيه:" عابر المرايا وماء العراق.. يشربه القصف" . وهي كالتالي:
1- المزاوجة في أشكال الكتابة وأبنية القصائد بين قصيدة التفعيلة وشكل آخر يقترب كثيرا من الشعر العمودي ، إذ أنه قابل لأن يصير كذلك مع بعض التصرف في القصائد التي تستجيب بسهولة لهذا التعديل ، وهي كثيرة جدا لا سيما في ديوانه: "وماء العراق.. يشربه القصف".
2- خضوع الديوانين لمقتضيات الوزن العروضي ، مع التنويع في البحور وحرص الشاعر الشديد على تشغيل القافية.
3- الاتكاء على لغة رصينة صافية تمتح من معين الماضي المشرق مع محاورة إيجابية للموروث الثقافي .
نتيجة لكل ذلك ، فإن هذه التجربة تفتح الذاكرة على الزمن الشعري القديم من مواقع متعددة ، سواء تعلق الأمر بالشكل أوالمضمون، لغة و تصويرا . فالشاعر ينهل من ينابيع المجد الشعري لصنع طابق شعري مميز جدا ، والواقف على الديوانين لا يُشْكِل عليه ملاحظة ما فيه من أشكال التعالق مع النصوص العربية القديمة ( الشعر الجاهلي ،الأندلسي، العباسي ، الأموي ، القرآن الكريم)، مع الدقة في استثمار هذا الثَّراء .
إنها تجربة منفردة تحتاج إلى دراسة مستقلة بتصور وآليات دقيقة .
لقد كان العثور على الكتابة بهذا الشكل الذي يبدو نشازا وسط نغمة تعزف سمفونية التهليل بقصيدة النثر، وبدرجة أقل قصيدة التفعيلة ، مفاجأة كبيرة ، أعتبرها نقطة ضياء مشرقة في زمن اليأس.
وهو ما يجعل إعادة تشغيل الشطر الأول من الترسيمة التي ميز فيها ذ. العمري بين أشكال الكتابة ممكنا، أي تَذَكُّرُ القصيدِ والتوشيح ؟ لكن ليس بالوضوح الكافي الذي يُعفي من حَرَجِ الأسئلة ، لأن القصائد غير مكتوبة بهاتين الطريقتين بشكل صريح يجعل تصنيفها ضمن خانة ( القصيد والتوشيح) سليما وغير مريب . إذ يتطلب الأمر ، في نهاية المطاف , إعادةَ ترتيب أجزاء القصائد وبعض التعديلات في بنيتها بدرجات متفاوتة ترتفع في ديوان "عابر المرايا" ، وتنخفض إلى أدنى الحدود في ديوان" وماء العراق.. يشربه القصف"، الذي تستجيب جل قصائده لإعادة كتابتها بالشكل العمودي. وهو ما يجعلنا نميز في هذه التجربة بين عنصرين :
ب-1- الإخلاص للتفعيلة:
يعتبر ديوان : "عابر المرايا "، نموذجا واضحا لهذا التوجه في الكتابة. فهو يتشكل من ثمانية وعشرين قصيدة تختلف من حيث الطول والقِصَر، تستجيب كلها لما تقتضيه قصيدة التفعيلة ، مع ملاحظة بارزة تتمثل في اعتناء الشاعر بعنصر القافية اعتناء قد يبدو للبعض مبالَغا فيه. وهو ما لا يعتبر من لوازم وضروريات قصيدة التفعيلة . فكل أنواع التوظيفات للقافية مُمارَس في هذا الديوان.كما أن بعض المقاطع من بعض القصائد قابلة لأن تُكْتَبَ على شكل أبيات عمودية بالمعنى الدقيق للكلمة . نُمَثِّلُ لذلك بمقطعين من قصيدتين مختلفتين، الأول من قصيدة : "سديم العراء" ، يقول فيه: 54
أَجُوسُ دِيَارَ رَابِعَةٍٍ //0 ///0 //0 ///0
مـُفَـا عَلَتُنْ مـفا علتن
وَلاَ خَيْمَهْ // 0/0/0
مَـَفا عِـيـلُنْ
أُنَقِّبُ عَنْ كَواكِبِهَا //0///0 //0 ///0
مفاعلتن مفـا عـلتن
وَعَنْ نَجْمَهْ // 0/0 /0
مفـا عـيـلن
أُجِيلُ الطَّرْفَ فِي مُدُنٍ //0/0/0 // 0 ///0
مفـا عـيـلن مـفا عـلـتن
يُجَلِّلُهَا اتِّسَاعًُ الخَرْقِ، لاَ رُقَعٌ // 0///0 //0/0/0 //0 ///0
مـفا علتن مفـا عيـلن مفا عـلتن
وَلاَ غَيْمَـْه //0/0/0
مفا عـيـلن
كَأَنَّ بِهَا مِنَ الْعَتَمَاتِ عُجْمَهْ // 0 ///0 //0 // /0 //0/0
مفـا عـلـتن مفـا علتن فَـُعولُنْ
فهذا المقطع مبني على بحر الوافر، تجعل بعض التعديلات التي دخلت على تفعيلاته ، امتزاجه بالهَزَج واردا ، وهو أمر طبيعي في الشعر ، إذِ الجمع بين هذين البحرين والتداخل بينهما ممكن ، لأن التغييرات التي تصيب " مفاعلتن" قد تحولها إلى " مفاعيلن" التي أصلها " مفاعلتن" وهو ما يسمى في علم العروض بالعَصْبِ(وهو من الزحافات المُفْرَدَةِ، وهو تسكين الخامس من تفعيلة" متفاعلتن")
ونظرا لبنية هذا المقطع ، يمكن إعادة كتابته على هذا الشكل دون أن يؤثر ذلك على المسار العام للمعنى والإيقاع :
أَجُوسُ دِيَارَ رَابِـعَـةٍٍ وَلاَ خَــيْـمَـهْ
أُنَقِّبُ عَنْ كَواكِبِهَا وَعَنْ نَجْمَهْ
أُجِيلُ الطَّرْفَ فِي مُدُنٍ يُجَلِّلُهَا
اتِّسَاعًُ الخَرْقِ، لاَ رُقَعٌ وَلاَ غَيْمَهْ
كَأَنَّ بِهَا مِنَ الْعَتَمَاتِ عُجْمَهْ
والأمر نفسه يسمح به المقطع التالي من قصيدة: "وأصعد فاتحة لطفل الورد..."
يقول فيه :55
أَمِنْ رُعْبِ الْمَسافَةِ //0/0/0 // 0//
مفـا عـيلن مفـا عل
بَيْنِ قَلْبِي وَامْتِدَادِ النَّبْضِ مَا وَلَدَا /0 //0/0/0 //0/0/0 // 0/ //0
تن مفا عـيلن مفــاعـيلن مفا عـلتن
أَمِ الْمَابَيْنُ وَخَّادٌ عَلَى حَرْفٍ / /0 /0 /0 //0/0/0 // 0/0/0
مفـا عـيــلن مفـاعـيـلن مفـا عيـلن
يَرُجُّ النَّقْعَ مَا هَمَدَا //0/0/0 //0///0
مـفـا عيـلن مفـا عـلتن
أَمِ النُّورُ الْمُقَدَّسُ / /0 /0/0 //0//
مفــا عـيلن مفــاعل
غَازَلَ الْعَيْنَيْنِ إِغْواءً وَأَلْغَى /0 //0/0/0 //0/0/0 //0/0
تن مفا عـيـلن مفـا عـيلن مفـاعي
الْغُنْجَ وَالزَّبَدَا ؟ /0 //0///0
لن مفا عـلتن
إن هذا المقطع لا يختلف في بنيته عن المقطع السابق ، كما أنه يقوم على تداخل بحر الوافر والهزج ، لكن هذا الأخير هو الموجه للإيقاع عكس الأول الذي كان فيه الهزج تابعا للوافر . ويمكن إعادة كتابته بطريقة عمودية، لكن يجب التنبيه إلى أن التعديل يقتضي تجاوز عدد التفعيلات المسموح به واستعمال تقنية التدوير في كل الأبيات، إذ البيتان الأولان يتوزعان على خمس تفعيلات لكل واحد منهما، وهو ما لا أصل له في الأوزان التي تُوظَّف في العمودي . وحده البيت الأخير يستجيب لمطلب البحر التام :
أَمِنْ رُعْـبِ الْمَـسافَةِ بَـيْنِ قَلْـ ــبِي وَامْتِـدَادِ النَّــبْـضِ مَا وَلَدَا
أَمِ الْمَــابَـيْـنُ وَخَّادٌ عَـــلَى حَرْ فٍ يَـــرُجُّ الـنّــَقْــعَ مَــا هَـمَـــدَا
أَمِ النّـُورُ الْمُـقَدَّسُ غَـازَلَ الـْعَـيْنَيْـ ـنِ إِغْواءً وَأَلْـغَى الْغُـنْجَ وَالزَّبَدَا ؟
إن الطابع العام لديوان:" عابر المرايا" يتجه بشكل صريح نحو التفعيلة ، غير أن نَفَسَهُ نَفَسٌ تقليدي على جميع المستويات ، وهو ما سيصل قمته في الديوان الآخر: "وماء العراق.. يشربه القصف". حيث الاقتراب من الشعر العمودي لا يحتاج إلا لتعديلات بسيطة جدا.
ب-2- الاقتراب من العمودي:
يذكر ديوان: "وماء العراق.. يشربه القصف" بالشعر كما توارثه القدماء ، كما هو في التاريخ ، أقصد أن القارئ يحس نفسه أمام نَفَسِ قصائد عمودية على جميع المستويات ، فقط يجعله أسلوب كتابة القصائد على شكل أشطر متساوية كميا متتابعة عموديا ، يتردد في الجزم في تصنيف هذا الديوان عموديا.
فهو يتشكل من تسعة قصائد ، يمكن تصنيفها إلى ثلاث مجموعات بمميزات مختلفة:
1- المجموعة الأولى : تتكون من ست قصائد، وهي : بغداد مارد عملاق ، يا أمة ضحكت .. بغداد تحترق، ولكنه نثر القبائل ، حييا توارى ،.. وقد ألقي السلاما، أقصف كما تشاء .
2- فهذه القصائد مكتوبة كلها بطريقة واحدة ، تعتمد على تقفية شطر وترك آخر، نقرأ النموذج التالي من قصيدة : "وبغداد مارد عملاق .."56
جَلْجَلَ الْحَقُّ وَاشْرَأَبَّ الْعِراقُ /0//0/0 //0//0 /0//0/0
فــا علا تن مـتـفــعلن فــا علاتن
عُنْفُوَانٌ، فِي عِزِّهِ، وَبُرَاقُ /0//0/0 /0/0//0 ///0/0
فــا عـلاتـن مسـتفــعلن فــعـلا تن
شََامِخُ الهَامَةِ الوَضِيئَةِ سِرٌّ /0//0/0 //0//0 ///0/0
فـا علا تن متـفــعلن فـعـلا تن
بَادِخُ الْمَجْدِ، وَالعَالِي نِطاقُ /0//0/0 //0//0 ///0/0
فــا علا تن متـفــعلن فـعلا تن
ثَابِتُ الْقَلْبِ والْمَدَى طائِراتٌ /0//0/0 / / 0//0 /0//0/0
فــا علا تن مـتـفـعـلن فــا عـلا تن
قَاصِفاتٌ أهْوالُها لاَ تُطاقُ /0//0/0 /0/0//0 /0//0/0
فــاعـلا تن مسـتـفـعـلن فــاعلا تن
على هذه الطريقة تُكْتَبُ كل قصائد هذه المجموعة ، وهي قابلة بدون تعديل لإعادة كتابتها عموديا، مع ملاحظة الاهتمام بتصريع مطالع هذه القصائد كما في القصائد الكلاسيكية القديمة خصوصا في الشعر الجاهلي والأموي.
3- تتكون المجموعة الثانية من قصيدتين تعتمدان نظام التفعيلة ، وهما : "تكبيرة الولد الحجري" المبنية على بحر المُتَدارَك ، وقصيدة: "حَلَبُ حُزْنُه والمدامِعُ بغدادُ والمِحَنُ"، وهي قصيدة طويلة جدا تحفل بتواتر إيقاعات مختلفة يوجهها بحر المتدارك أيضا، لا يبدو الإخلاص فيها كاملا لقصيدة التفعيلة ، فقد جر الحنين الشاعر إلى نظام المجموعة السابقة قُبَيْلَ المقطع الأخير من هذه القصيدة ليكتب بهذه الطريقة ، وعلى بحر الطويل . يقول :57.
لِغَيْلاَنَ أَنْ يَشْكُو ابْنَ زَيْدُونَ هَمَّهُ //0/0 / /0 /0/0 //0/0 // 0//0
فعو لن مـفـاعـيــلن فعولن مفــاعلن
وَمَا اغْتَبَقَتْ ، مِنْ رَوْعِهِ،دِمَنُ الْقَوْمِ //0/ // 0/0/0 //0/ / /0 /0/0
فـعول مفــا عيـلن فعول مفـاعـيـلن
وَمَا اصْطَحَبَتْهُ كَالِحًا إِثْرَ كَالِحٍ //0/ / / 0//0 / /0 /0 / /0 //0
فعول مفـا علن فـعو لن مفـاعـلن
مِنَ الْمُدُنِ الْمَكْلُومَةِ الْقَلْبَ بِالإِثْمِ //0/ //0/0/0 // 0 /0 / /0/0 /0
فعول مفـاعــيلن فعو لن مفـاعــيلن
ويتكون هذا المقطع من إثني عشر شطرا متساويا مُقَفًّى على شاكلة البيت القديم . وقد ختم هذه القصيدة ، كما بدأها ، بمقطع على طريقة قصيدة التفعيلة بقول فيه :
وَأَدِرْهَا / / /0 /0
فـعـلن فـا
لَعَلَّ قَلِيلاً مِنَ الصَّمْتِ //0 // / 0 /0//0 /0/
علن فـعـلن فـاعلن فاعـ
مَعْبَرُنَا /0 ///0
لـن فـعـلن
لِلْكَلاَمِ /0//00
فــا علانْ
ومن المقاطع التي تخرج عن نظام المُتدارَك في هذه القصيدة ، قوله:58.
قِفَا نَبْكِ يا صاحِبَيَّ قَليلاً . عُيُونُ //0/0 //0/0 //0/ //0/0 //0/
فـعولن فعولن فعول فعو لن فعولـ
الْحَبِيبَةِ عَبْرَى ، وَأَلْمَحُهَا خَفْقَةً 0 //0/ //0/0 //0/ //0/0 //0
ن فعول فـعولن فعول فــعولن فـعو
وَهَدِيلاً.وأَلْمَحُها عِنْدَ دَارَتِنَا / //0/0 //0/ //0/0 //0/ //0
ل فـعولن فعول فـعولن فـعول فــعو
وَيَداهَا مَشَاتِلُ وَرْدٍ، وَمَبْسَمُهَا / //0/0 //0/ //0/0 //0/ //0
ل فـعولن فـعول فـعولن فعول فعو
سَلْسَبِيلٌ مِنَ النُّـــورِ. /0 //0/0 //0/0 /
لن فعولن فعولن
وأستطيع القول: إن هذه القصيدة تمثل أم الديوان ، بحيث تختزل كل مقوماته الدلالية والإيقاعية ، فهي تناقش قضايا عديدة تماما كتواتر الإيقاعات المختلفة داخلها.
إنها تمرد على الوحدة الموضوعية والإيقاعية ، ولم يَفُتِ الشّليح تدوين ذلك شعريا، وهو ما نفهمه من هذا المقطع داخل القصيدة نفسها:59
أَلاَ شاعِرٌ يُكَسِّرُ الوَزْنَ مِنْ زَمَنٍ //0/0 //0/0 //0/0 //0/ //0
فعولن فـعولن فـعولن فـعول فـعو
مِثْلَ طفْلٍ يَلُمُّ التَّفاعِيــلَ /0 //0/0 //0/0 //0/0 /
لن فـعولن فـعولن فـعولن ف
بَيْنَ يَدَيْهِ التَّفاعيلُ خُدْروفُ لَوْنٍ /0/ //0/0 //0/0 //0/0 //0/0
عول فعولن فـعولن فـعولن فـعولن
وَلاَ لَوْنَ لَهْ //0/0 //0
فعولن فـعو
مِنْ طَويلِ البُحورِ إِلَى آخِرِ الأَسْئِلَةِ /0 //0/0 //0/ //0/0 //0/0 //0
لن فـعولن فـعول فـعولن فـعولن فعو
والزِّحافُ مُعَلَّقَةٌ مِنْ سَرابِ الوَلَهْ /0 //0/ //0/ //0/0 //0/0 //0
لن فعول فعول فعو لن فـعولن فـعو
فهذا المقطع خاضع بصرامة لمقتضيات وزن المتقارب الذي تتردد فيه تفعيلة " فعولن" بشكل مطرد.ينظر الوزن
3- المجموعة الثالثة : أحادية القصيدة، وهي الأخيرة في الديوان بعنوان : "طُرَر"60. ومن مميزات هذه القصيدة أنها جاءت على شكل أشطر متوالية عموديا ، كلها مُقَفّاة بقافية موحَّدَة . نقرأ منها هذا المقطع :
لَمْ يَبْدُ طَيْفٌ وَلَمْ يَهْتِفْ بِهِ سَحَرُ /0/0//0 /0//0 /0/0//0 ///0
مستفــعـلن فـا علن مـسـتفــعلن فـعلن
كَأَنَّمَا قَدْ سَلاَ عَنْ دارِهِ السَّفَرُ //0//0 /0//0 /0/0//0 ///0
متــفـعلن فـاعلن مستــفـعلن فعلن
مَا كُلُّ بُراقٍ أَتَى يَثْغُو وَيَنْشَذِِرُ /0/0//0 /0//0 /0/0//0 ///0
مستفـــعلن فــاعلن مستــفـعلن فـعلن
عَلَى الْجَبِينِ مَرايا حِينَ يَعْتَذِرُ //0//0 ///0 /0/0//0 ///0
متـفـعلن فـعـلن مسـتفـعـلن فعـلن
فالقصيدة كلها تسير على هذه الطريقة مما يجعل القارئ أمام نفس يصله بالماضي ، لا سيما وأنها مبنية على بحر البسيط ، وهو بحر اشتهر أنه يوظَّف في الأغراض الجليلة . وحين ننظر إلى الديوان ندرك أن غرضه العام جليل أيضا ، حقيق بالاعتبار وخليق بالاهتمام. ولذلك كان من الضروري الاتكاء على كل مقومات الشعر الجيد لإنتاج قصائد متميزة . وهو ما لا يجد القارئ صعوبة في تَبَيُّنِه في هذا الديوان ، وفي التجربة بصورة عامة ، حيث شجرة النَّسَبِ موصولة بالتراث ( الشعري والنثري) غير مقطوعة ، وحيث المعرفة الدقيقة بالشعر وأدواته متوافرة لدى الشاعر. وبذلك تكاملت فيه عناصر الإبداع .
ويمكن اختزال كل هذه المعطيات في جدول توضيحي تصنيفي لهذه القصائد حسب المجموعات والأوزان :
المجموعة القصائد البحور الطبيعة
الأولى - بغداد مارد عملاق - الخفيف ذات نفس شعري تقليدي، أغلب بحورها من البحور التي اعتمدها الفحول من الشعراء .
- يا أمة ضحكت - البسيط
- ولكنه نثر القبائل - الطويل.
- حيييا توارى. - الطويل.
- وقد ألقي السلاما. - الوافر.
- اقصف كما تشاء - البسيط
الثانية - تكبيرة الولد الحجري - المتدارك.
- حلب حزنه والمدامع - متنوعة الأوزان تستجيبان لمقتضيات قصيدة التفعيلة
بغداد والمحن .
الثالثة - طـــــرر - البسيط تعتمد على تقفية كل الأسطر دون استثناء
تعليق:
إن هذه التجربة مفارقة تماما لما يهيمن على الساحة الشعرية ، أقصد أنها مفارقة حتى لقصيدة التفعيلة رغم أنها تُوهِمُ بالانتساب إليها من حيث شَكْلُ القصائد ، خصوصا في ديوان: "عابر المرايا". لكن تدقيق النظر يبرهن أن هذه التجربة لا علاقة لها بالجو العام ، ولا ذائقة العصر التي بالغ الكثيرون أنها لا تحمل مثل هذه الكتابة ، وتوَهَّموا أنها تُجُوِّزَتْ. والحقيقة أنها في حاجة إلى انبعاثٍ شِعْرِيٍّ رفيع .
ومع هذا التميز يبدو طرح السؤال التالي ضروريا: لماذا آثر الشاعر كتابة قصائده بهذه الطريقة؟ لماذا لم يكتبها عمودية صريحة ، وهو يعلم أنها تنتسب من جميع الجهات إلى هذا الشكل الشعري الرفيع ؟
ربما كان ضغط اللحظة الشعرية وذائقة العصر مبررا لذلك، وربما كان إحساس الشاعر بأن زمن القصيد ولَّى على مستوى الشكل على الأقل ، وإن ظل مسكونا بالتعريف القديم للشعر . وهو ما يظهر من خلال كل مقومات قصائده. فشعره موزون مقفى جالب لكل التركيبات الكيماوية ليكتمل المعنى ، ولذلك فهذه المقومات قابلة لأن تُفْرَكَ لا أن تُشَمَّ فحسب .
2-3- جدل القراءة والسماع
2-3-1- فشل تجربة الشكل البصري:
ليس تجريب الأشكال الشعرية من صنيع الحداثة ، فهو سابق عليها ، لَصِيقٌ بقول الشعر ، ودليل ذلك أن الشعر العربي مَرْكَزٌ ثابتٌ ( القصيد) ، وهوامشٌ دائمةُ النُّزوعِ إلى التحول والتغير ( الأراجيز والموشحات ) ، ولذلك كان الحديث قديما عن أشكال عديدة بَدَتْ للنقاد أنها غريبة كالقَوادِسِيِّ ، والمُسَمَّطِ ، والمُخَمَّسِ ، إلخ61. تماما كما يتم الحديث الآن عن الأشكال العَجائِبِيَّة للقصائد ، حيث القصائد مكتوبة على شكل دوائر ومُرَبَّعات ومُثَلّثات ، وعلى شكل شجرة أو رِجْلٍ أو يد بشريتين ، ناهيك عن تَسَرُّبِ الصور والرسوم ومختلف العلامات إلى جسد القصيدة62. ويبدو أن جواب السؤال المطروح حول أسباب هذه الظاهرة كامن في ظهور الكتابة والطباعة ، وبشكل خاص في دور الشاعر في كتابة قصائده بخط يده ، أو عبر وسيط . لكن الأمر ، في تقديري ، يتجاوز هذه الأسباب إلى طبيعة اللحظة الشعرية ، ومفهوم الشعر ، وذائقة العصر . حيث بدا أن هذه العناصر كفيلة بتعويض ما ضاع من مقومات الشعر .
غير أن هذه التجارب أعلنت إفلاسها لحظة ولادتها ، لأنها ضد طبيعة الشعر الذي تعد اللغة فَيْصَلَه الرئيس. يقول مشتاق عباس معن مبرزا هذا التحول وفشل التجربة : "قلبت الكفة في التطلع التجديدي عند المبدعين الحداثيين من المستوى الشكلي إلى المستوى الدلالي ، لأن الانكسارات الشكلية التي نزع من خلالها المُحْدَثُون إلى تحديث النص الشعري ، انتهت باستقرار مرحلة ( قصيدة النثر) ، فضلا عن فشل جميع المحاولات التي اهتمت بتحطيم الشكل "63.
لقد فتح انفجار الشكل الشعري الباب على العَبَثِ بالشعر إلى درجة اللهو ، ولما استنفد الشعراء طاقاتهم في هذا الانفتاح ، ونسفوا هامش الحرية والمرونة الذي تتسم به الظاهرة الأدبية عموما بدأ التَّهَيُّؤُ لطرح جديد يقضي بتنصيب بديل آخر لِلَجْمِ هذا الفشل .غير أن قصيدة النثر، التي أراد لها كثير من الشعراء أن تكون نهاية طبيعية للتَّسَيُّبِ ، قَوَّضَتْ هذا الإدعاء وأَقْبَرَتْ هذا الأمل . فظلت الأزمة مُشِعَّةً، كما ثَبَـتَ، بما لا يدع مجالا للشك أن فشل الاتكاء على الشكل البصري ، فَشَلٌ مَكِين.
2-3-2 حاجة الشعر إلى الإلقاء.
معلوم أن ديوان الشعر العربي قاوم الاندثار بالتواتر الجماعي ، في وقت كان فيه الحديث عن التدوين، هَذَيانٌ، بل من رابع المستحيلات. لأنه خارج الجو الثقافي العربي آنذاك. كما أن فعل القراءة لم يكن من أَعْراف العرب ، لأن الأذن تقوم بجميع وظائف المعرفة ، ومبرر ذلك أن اللغة لم تكن موضوعَ تَأَمُّلٍ وإعادةِ نظرٍ من قبل هؤلاء ، فالشاعر يحياها بإحساسه ، كما يفقهها السامع ويَعْقِلُها بالطَّبْعِ والجِبِلَّةِ المُرَكَّبَةِ ، قبل أن تصير ملتبِسة بالوجود، مُحْوِجَةً مُتَكَلِّمِيها إلى ضرورة تأملها وإنشاء العلوم حولها .64
لقد ظهرت عدة إشكالات بالموازاة مع ظهور الكتابة ، تتصل اتصالا مباشرا بطريقة كتابة القصائد ، إذ بنى الشعراء رهانهم الشعري على الأشكال البصرية العجائبية لتعويض الفقر الدلالي المُعْوِزِ . غير أنهم سرعان ما عَدَلوا عن هذا التوجه بعدما ظهر عيبه ، وعلَّقوا الآمال من جديد على التعويض الدلالي بديلا عن تهاوي النموذج البصري ، فكان أن وصل الشعر بهذا التردد ، إلى أقصى درجات الأزمة .
ومن داخل الإحساس بحجم الاختناق الذي يداهم فن الشعر، بدأ الحديث عن ضرورة إسناد الشعر بالإلقاء وحاجة الشعراء إلى ذلك ، مُتَوَسِّمين من العلاقة المباشرة بينهم وبين الجمهور أن تكون مُنْتِجَة للمعنى الآفل إلى جانب مقومات أخرى . فالإلقاء المباشر يولد الرغبة في حصول التجاوب، وحصول التجاوب يعني التجويد في إلقاء الشعر وتحميله رسالةً ما . وإلا فإن الصِّدام سيكون قاتلا بين الشاعر والجمهور . ومهما كان حجم الاستخفاف بالشعر، فإن الشاعر، في هذه الوضعية ، لن يرضى لنفسه الإذلال. ولأجل كل ذلك لا بد من الاهتمام بالعناصر الجمالية داخل القصيدة ، والحرص على تحصيل الأدوات الإقناعية ، لأن الجمع بين الإمتاع والإقناع يجلب الاستحسان ، والفصل بينهما أو تغييبهما يُعَرِّضُ للسخرية .إذ كل جميل مُقْنِعٌ بالضرورة .
لكن ماذا لو لم يجد الشاعر شعرا لإلقائه ؟ وماذا لو لم يكن هذا الشعر غير قابل للإلقاء ولا للقراءة؟
ما كان لمثل هذين السؤالين أن يُطْرحا ، لولا الإحراج الكبير الذي أوقعت فيه قصيدة النثر الناس، حتى إن العارفين بالشعر ، العالمين بأدق أسراره وجدوا أنفسهم أمام أسوء الافتراضات ضد طبيعة تكوينهم ومداركهم المعرفية ، رأفة بحال الشعر وحرصا عليه من الضياع ، وإن مقابل تنازلات.
يقول ذ. محمد العمري: " أما ثورة النثيرة على التفعيلة نفسها ورفضها المستوى المسطح نفسه فهو تمرد على اللغة على إمكانيتها الموسيقية الخصوصية التي تميزها عن اللغات الأخرى أو عن الدَّوارِجِ ، وفي هذه الحالة سيكون من المُجدي تكسير الإعراب وتشغيل السكون على أوسع نطاق ، أو اللجوء إلى النبر والتكميل الشفوي كما هو الحال في الزجل ، وفي غير ذلك ينبغي الامتناع نهائيا عن إنشاء الشعر "65.
إنه أسوء موقف يباغت علماء الشعر وأسوء الحلول التي لا تسعف القصيدة في نجاعتها . وبذلك فأزمتها مضاعفة، فلا انكفاؤها إلى العَبَثِ الشكلي أفاد، ولا ادِّعاء التعويض الدلالي لغياب أي أثر ، ولو بسيط، للإيقاع بَرْهَنَ على قدرته كبديل مُجْدٍ. وحده الإلقاء، ترى فيه هذه القصيدة حَبْلَ النجاة. ولذلك ترى الشعراء حريصين كل الحرص على حضور المهرجانات لإسماع الناس بعدما عجزوا عن إغواء أبصارهم. وهو ما جعل بعض الدارسين يعتبرون أن السمع يظل دائما هو أبو الملكات اللغوية . يقول ذ. حسن مسكين: "من هنا يمكن أن نسجل انحصار هذه التجربة بعد تلاشي تلك الحماسة الجارفة وتراجع ذلك الانبهار الواضح لثلة من الشعراء المغاربة، فكان أن تخلى جلهم عن ركوب هذا المجرى ، وعادوا من حيث يدركون أو يجهلون ليتثبتوا أطروحة القدماء السابقة: السمع أبو الملكات اللغوية "66.
وبالموازاة مع هذا الاستنتاج الذي ينتصر للسمع وقدرته على الحياة الدائمة وسط مختلف التجارب تنتعش تصورات أخرى تؤكد أن عملية الإلقاء ممكنة للقصائد، بل إنها هي الطريق المتميز الذي ينبغي سلكه لتخطي هذه المحنة. يقول ذ. علي جعفر العَلاَّق: " لا تبدو القصيدة العربية الحديثة في الأغلب، بعيدة تماما عن القصيدة التقليدية في اعتمادها الطريق الشفاهي أساسا في مخاطبة الجمهور "67. بل إن الأداء أحد أهم المطالب الأساسية للقصيدة الحداثية. يقول ذ. محمد العمري: "وقد كان هذا المستوى ( الأداء) مهما قديما في القراءات القرآنية لأنه يتحكم في توليد الدلالات ، وصار اليوم أشدَّ أهمية في الشعر الحديث لأنه يدخل في تأويل التداخل بين التَّمَفْصُلِ الدلالي والتقطيع النَّظْمي والتوزيع الفضائي لتوليد مستويات متعددة من الدلالة "68.
وهو ما يجعلنا نطرح السؤال الثاني: هل الشعر ذو طبيعة شفوية صِرْفٍ ؟ ألا يصلح إلا إذا تم إلقاؤه في المستمعين ؟
لقد بدأ الشعر شفويا، وانتهى إليه، وسيظل معتمدا على هذه الشفاهية إلى ما شاء الله، رغم أن بعض الشعراء النقاد يُسْقِطون أهمية الرواية في تاريخ الشعر العربي ، ويخصون مفهوم الكتابة بفهم خاص69.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش الدراسة
1- غالبا ما تم التمييز في الدراسات الشعرية بين العديد من المستويات ، فنجد الدارسين يفصلون بين المستوى الإيقاعي والمعجمي والتركيبي والدلالي. وهو ما رسخ في الأذهان جزئية هذه المستويات واختلاف حقول انتمائها ، قبل أن يتم النظر في علاقاتها وتكاملها ضمن مبحث كبير هو البلاغة ، ليصبح الحديث عن الإيقاع جزءا من الدرس البلاغي بل جوهره . وهو ما قارب بين الاستعارة والترصيع والتجنيس والتفاعيل ....
2- انظر نقد الشعر. 17.
3- العمدة لابن رشيق . 1/134.
4- مسالة الإيقاع في الشعر العربي الحديث. فكر ونقد . ع 18 . ص 56
5-هذه بعض أنواع القوافي في الشعر العربي القديم والحديث .
6- مسألة الإيقاع في الشعر الحديث .56
7-محمد العمري . بنية الإيقاع في الشعر الكويتي في النصف الثاني من القرن 20. مقال غير منشور
8-مسألة الإيقاع في الشعر العربي الحديث .55
9-نفسه.ص 56.
- مسألة الإيقاع...ص 60-61. 10
11- يقول في أحد نصوصه الكثيرة جدا في هذا الصدد : " إن تحليل القصائد يوضح تضايفا مدهشا بين توزيع المقولات النحوية والتضايفات المقطوعية والعروضية ( ...) ، لكن إذا كان هذا التنظيم للتوازيات والتباينات النحوية باعتباره خاصية مميزة للشعر لم يستخدم كوسيلة شعرية ، فانه يمكننا أن نتساءل عن الهدف الذي أدمج الشعراء على هذا التنظيم وحافظو عليه ونوعوه بشكل ملحوظ " قضايا الشعرية . 83.
12- ديوان حدادا علي ... ص 42
13- أنظر فكر ونقد . ع18 ص 57.
14- مسألة الإيقاع ...ص 57.
15 -حدادا علي ...ص 125.
16- يقول الأستاذ العمري : إن أصحاب التفعيلة حين يتصرفون في المستوى المجرد التعبيري يتصرفون في مستوى أنساق يحكمها التاريخ داخل اللغة العربية نفسها ، في حين يحتفظون للغة الفصحى بنسقها الصوتي . " فكر ونقد . هامش 8.ص 57.
17- أنظر الصفحات 13.11.10
18-انظر الصفحتين .. 27.24
19- العلم الثقافي 12 يناير3 200
20- ديوان قصائد للمعشوقة والوطن.32
21- ديوان هبة الفراغ 11/12 .
22- قضايا الشعرية 108.
23- نفسه 85 .
24- نفسه 106.105 .
25- يعتبر القصيد هو المركز في الشعر المنتظم ، وغيره من الأشكال الموازية له كالموشحات والأراجيز تعد هوامش.
26- استثني هنا ما اصطلح عليه بقصيدة النثر لأن النزوع النثري نحو الشعر نزوع دائم لا يرقى إلى مستوى النظر إليه كعنصر منازع للقصيد إلا إذا اعتبر من طينته . وهو ما لا يزال إلى حدا الساعة موضع مقاومة ورفض من قبل عشاق الشعر الخلص بالرغم من أن البعض يبني الرهان الشعري عليها ، بعدما هرول الشعراء إلى حماها فارين من القوانين ، جازمين بأفول قصيدة التفعيلة واستنفادها لطاقتها الإبداعية.
27- هوامش نظرية حول قصيدة النثر . العلم الثقافي .12 يناير 2002.
28- شيزفرينيا الشعر الحداثي علامات في النقد . مج 11.ج41.ص 461.
29- وضعت هذه الخطاطة لدارسة الشعر الكويتي إيقاعيا في مقال مذكور سابقا .
30- هوامش نظرية حول قصيدة النثر . العلم الثقافي . 12-01-2002.
31- مسألة الإيقاع في الشعر الحديث . ص69.
32- القصيدة بين الجديد والتجديد. فصول .172.
33- هوامش نظرية حول قصيدة النثر.
34 - نفسه.
35- قصيدة الشعراء ص 78
36- ديوان لا أحد في النافذة 53.
37- ديوان حجرة وراء الأرض. 17
38- لا أحد في النافذة 33 .
39- الديوان 23-24.
40- الديوان 26.
41- هوامش نظرية حول قصيدة النثر لنجيب العوفي .العالم الثقافي 12-1-2002.
42- الملحق الثقافي في الاتحاد الأسبوعي . ع 64 . 27/06/2003
43- لا يعني ما نقول أن قصيدة النثر مرفوضة، ولا شعرية فيها. لكن ما نقصداه هو فهم هؤلاء الشعراء لها، وهو فهم أساء لها. بقدر إحسانها لهم. غير أنهم جحدون فضلها باحتقارهم لهاا وإفقارها من الشعرية.
44- القافية المتتالية هي التي تتتابع في آخر كل سطر والمتناوبة أو المتراوحة هي أشكال لتقنيات متعددة . إما بتقفية سطر وترك آخر أو تقفية سطرين بنفس القافية وما بعدهما بقافية أخرى . وهكذا...
45- هبة الفراغ 12.11.
46- الديوان 52/53/54.
47- الديوان 57.
48- هبة الفراغ 20-21.
49- الديوان . 94-95.
50 - لا أدري أكان من الضروري أن يسمي الشاعر هذا قصيدة؟
51 - الديوان 5.
52- نفسه.9.
53- محمد مشبال مقولات بلاغية في تحليل الشعر.135.
54- ديوان عابر المرايا.75
55- ديوان عابر المرايا.99
56- وماء العراق.. يشربه القصف 7.
57- وماء العراق.. يشربه القصف 52.
وماء العراق.. يشربه القصف 29. 58-
59- نفسه 49.
60- وماء العراق.. يشربه القصف99.
61- انظر العمدة لابن رشيق في بابي : " التقفية والتصريع" و" الرجز والقصيد " . يقول عن القوادس " ومن الشعر نوع غريب يسمونه القوادسي ، تشبيها بقواديسي السانية ، لارتفاع بعض قوافيه في جهة وانخفاضها في الجهة الاخرى " ج 1 ص 178.
62- للوقوف على هذه الاشكال يمكن تصفح ديواني محمد بنيس: مواسم الشرق، وفي اتجاه صوتك العمودي . وديواني أحمد بلبدوي : سبحانك يا بلدي، و حدثنا مسلوخ الفقر وردي .
63- شيزفرينيا الشعر الحداثي .164.163
64- للتوسع في هذا الرأي ينظر إلى مسالة الإيقاع في الشعر الحديث لمحمد العمري.فكر ونقد ع 8 ص 61
65- مسألة الإيقاع في الشعر الحديث . ص61.
66- الشكل البصري في الشعر المغربي الحديث بين التدجريب والتجريد بين فكر ونقد . ع 37 ص 66.
67- الشعر وضغوط التلقي ضمن مجلة فصول مج 15 ج 2 /1996 . ص 155.
68- مسألة الإيقاع في الشعر الحديث ص 66.
69- أتناء دردشة مع الشاعر والناقد التونسي منصف الوهابي، وبعد الاستماع إلى أمسيات شعرية وندوات نقدية بمناسبة المهرجان العربي للشعر المنظم في المغرب في ماي2003 طرحت عليه السؤال التالي: ألا ترى أن الشعر العربي بدأ شفويا ثم مر بمرحلة التدوين وهاهو يعود إلى الشفوية من جديد أو هو محتاج إلى ذلك لإدراك النقص على مستوى الشعرية؟ فكان رده هو نفي أن يكون الشعر العربي قد مر من مرحلة الشفوية لأن الكتابة لا تعني عنده- بالضرورة -الرسم أو الخط، بل تتجاوز ذلك إلى البرمجة الذهنية . بمعنى أن الشاعر كان يكتب القصيدة في ذهنه ويبرمجها ترتيبا وتنظيما قبل إذاعتها في الناس .
لا زالت بعض القِلاع في مملكة الشعر حَصينة بسلطان قصيدة التفعيلة ، صامدة أمام اجتياح قصيدة النثر بعنف وجبرت.لا زالت هذه القلاع مُصِرّة على مقاومة المَدِّ النثري، كافرة بما يُبَشِّر به لنفسه، وإن كانت متقطعة متباعدة، غير أنها بارزة وفعالة، وذلك باعتمادها آليات تَضْمَنُ لها حق الرسوخ والحياة لتؤجل، بذلك تحقق أماني المُفْرِطين في التفاؤل من مناصري قصيدة النثر وممارسيها.
قليلة، إذن، هي التجارب الشعرية التي تؤمن بفعالية المقاومة، وتسعى إلى التمسك بحق الاستمرارية، حتى وإن كانت مهمة الريادة قد سُحِبَتْ منها باعتبار الكم.وقليلون هم الشعراء الذين لا زالوا يؤمنون بأن الإبقاء على هذين العنصرين يذكرهم على الأقل، بالزمن الشعري الجميل، حتى وإن تعذر عليهما الإسهام في صنع جمالية الشعر في الوقت الراهن نظرا لشروط الكتابة ولجزئيتهما في القصائد، أي أنهما ملمحان نوعيان فقط في الشعر ، وليسا كافيين كما يقول الأستاذ العمري. فالجودة في الشعر تقتضي اشتغال كل العناصر اشتغالا عَيْنِيا، لا ينوب فيه أحد عن أحد ولا يقوم مقامه .
إن تحول قصيدة التفعيلة إلى هامش ضَيِّق عاجز على مُنازَعَة قصيدة النثر، التي صارت مركزا، سلطتها لا يعني تحلل الناس من عشقهم لها، بل إن مناهضة الناس لها، في وقت من الأوقات، حين دافعت الشعر العمودي ونازعته هيمنته، تحول الآن إلى شبه تعاطف، لأن البديل ( قصيدة النثر) إجهاز صريح على الشعر. فحتى تلك الهوامش الضيقة جدا التي أبقت عليها قصيدة التفعيلة كصلة وصل مع الشعر القديم صارت الآن عُرْضَةً للإعدام مع النثيرة. ولذلك فتلك خير من هذه، وهما معا مفارِقتان للقصيد 43.
صارت قصيدة التفعيلة الآن استثنائية في واقع شعري قاعدته النثيرة، ومن هنا جاء تميزها وتميز روادها. إنها البلسم الذي يدافع الموت القادم من تعامل هؤلاء مع قصيدة النثر
ومن الملاحظات الواجب تسجيلها، أن الشعراء الذين يكتبون التفعيلة ينتمون إلى جيل واحد أو جيلين متقاربين. أقصد أن التجارب التي تُخْلِصُ لقصيدة التفعيلة من جملة التجارب التي أعددناها لهذه الدراسة لا تتعدى أربع، وهي تجربة محمد بنيس وصلاح بوسريف، وادريس الملياني، ومصطفى الشليح. وهؤلاء يمكن اعتبارهم جيلا مخضرما يصل الرواد بالخَلَفِ وإن بدرجات. وسنقف عند ملامح اعتناء بعضهم بعنصري الوزن والقافية كعنصرين مميزين في قصائدهم ومميزين لقصائد التفعيلة عن قصيدة النثر .
أ- الاعتناء بالوزن
يبدو اعتماد ديوان: "هبة الفراغ" لبنيس على الوزن ملحوظا، غير أن تردده على القافية يبقى متذبذبا إلى درجة تغييبها نهائيا، أو توظيفها بشكل خاص مرتبط بتوازن المقاطع الشعرية ككل. بمعنى أنه من الصعب الحديث في الديوان عن القوافي المتتالية أو المتراوحة أو المتناوبة 44 . نقرأ في قصيدته طيش :45
لا تَسْألوه
عنِ
المَهالِك
رُبّما
عَبَرَتْ إِلَيْهِ نِهايَةٌ
مِنْ شَوْقِه
لا تَسأَلوه
عَنِ
المَناسِك
إِنَّهُ
طَيْشٌ رَمى
بِدِمائِه
وانْقادَ لِلنِّسْيان
تقوم هذه القصيدة على نظام المقاطع التوازنية، مع الإصرار على تكرار القافية نفسها في أول كل مقطع ، بل تقفيه كل السطر ( لا تسألوه عن )، فهذه لازمة على رأس كل مقطع.ثم تأتي الكلمات( المسالك/المهالك/المناسك) لتكمل مشهد التوازي. هذا، دون إغفال بناء القصيدة على بحر الكامل التي تتردد فيه "متفاعلن" بشكل متواز.
والظاهرة نفسها نعثر عليها في قصيدة ظلال46، مع قلب موضع التقفية، فإذا كانت في القصيدة الأولى تحتل مقدمة المقاطع، فإنها في هذه القصيدة تأتي في آخر كل مقطع، علما أن القصيدة مبنية على خمسة مقاطع يقول:
ظِلالٌ يُوَشْوِشُ
فِيها الْتِماعٌ
خَفِيضٌ
لِنَجْمٍ
تَلَطَّفَ بِي لَيْلُه
فَاكْتَسَيْتْ
ظِلالٌ أُوَسِّعُ
عَوْدَتَهَا
مِنْ عَواصِفَ
كُنْتُ مَزَجْتُ بِها
جَسَدي
فَانْتَشَيْتْ
ظِلالٌ يُوَسِّدُ
شُعْلَتَها
قَلَقٌ
وَمغيبٌ
فَتَحْت رِواقَهُما
فانْحَنَيْت
ظلالٌ تُؤَيِّدُها
طُرُقٌ
تَسْتَعيدُ الطُّفولَةُ فيها
سُلالَةَ تيهٍ
تَعَلَّقْتُ وَرْدَتَهُ
فاحْتَمَيْت
ظِلالٌ تَقودُ
طُيورَ الخُزامى
إِلى جَمْرَةٍ
وَسِعَتْني
مَناكِبُها
فَارْتَوَيْت
بالرغم من تباعد مواقع القافية، فإن دورها بارز في تحديد المعنى ورسم حدوده، وبذلك تكون القافية قد أدت دورها المعنوي إلى جانب دورها الإيقاعي من حيث درى الشاعر أم لم يَدْرِ مع الإشارة إلى أن هذه القوافي تتردد ضمن وزن نسجته تفعيلات بحر المتقارب "فعو لن" ويبقى أوضح مثال لتردد القافية على مساحات تُبْرِزُ حضورها في القصيدة، قصيدته: "كتابة"، المبنية على بحر المتدارك (فعلن)، يقول فيها: 47.
سَمِّهَا قَطْرَةً أُولى
تَتَخَثَّرُ في لَحَظاتِ ارْتِيابْ
سَمّْها هِبَةً
نَبَذَتْ بَرْد معْبَرِها
واكْتَفَتْ بانْحِفارِ الغِيابْ
قُلْ لَها
أنْ تَكونَ لَهُمْ خَيْمَةً
قُل لهم
إِنّها
نَفَسٌ لاتِّقادِ السَّحابْ
بين كلمات ( ارتياب/الغياب/السحاب) التي تشكل القوافي، مساحة معلومة بحيث تتقارب بين الكلمتين الأوليين، وتتباعد بعض الشيء بين الثانية والثالثة.
هذه من القصائد القليلة جدا التي يعتني فيها الشاعر بالقافية بدرجات متفاوتة إلى جانب اعتنائه بالوزن. لتبقى قصيدة" هي " نموذجا مصغرا لحجم وطبيعة حضور القافية في الديوان حيث تكاد تغيب في جل القصائد. يقول48.
هي خَيْمَةٌ
تَعْلو
إِلى لَيْلٍ يُحَصِّنُهُ
الغُبارْ
أُفُقٌ تُواصِلُ جَمْرَةُ اللَّحَظاتِ
نَشْأَتَه يُؤَكِّدُه دَبيبٌ يَخْتَفِي
اللَّمَعانُ في أَحْشائِهِ
لِيَتَّحِدَ الذَّرَارِي
بِالدُّوار
مِنْ أَيْن تَنْشَأُ هَذِهِ السَّعَفاتُ
أَيُّ سُلالَةٍ تَتَكَلَّفُ الأَعْضَاءُ
باسْتِقْدامِ سَهْرَتِها
دَمٌ
يَنْشَقُّ
يَدْفَعُ مُنْتَهى نِسْيانِه
بَيْنَ العَواصِفِ
وَالْـ
بِحارْ
تخضع القصيدة لمقتضيات بحر الكامل، أما القافية فلا تتردد إلا ثلاث مرات متباعدة جدا حتى أن القارئ لا يحس بوجودها في القصيدة. ولعل هذا الملمح في توظيف القافية إلى جانب الوزن هو الغالب في دواوين التفعيلة، حيث الاعتناء بالقافية لا يرقى إلى مستوى الاعتناء بالوزن. فقط، نسجل هنا استثناءً في تجربة ادريس الملياني في ديوانه: "حدادا علي .." الذي يبدو اهتمامه بالقافية أشد منه في ديوان بنيس، طبعا مع الحرص على دور التفعيلة, وهو ما صرح به صراحة في قصيدته: "الليلة يرجع عبد الله"،التي يرثي فيها الشاعر عبد الله راجع. يقول: 49
مَالي أَنا والجَماهِير؟
ما أَنا قَيْس
وَلا هِي لَيْلى!
وَمَهْما يَكُن لَنْ ..
ولَنْ أَتَدَخَّلَ
فِي النَّصّ إِلاَّ
بِمْقدارِ ما يَقْتَضِي الوَزْنُ50
وأجدني أمام هذا الالتزام الصريح، مدفوعا لمقابلته بكلمات وردت في تمهيد ديوان " الحب والحياة" لعبد الحق الحاكمي، يقول مستبقا تعاليق الناس " رغم أن اللغة العربية واسعة ، من المؤكد أن القافية الموحدة تخنق أحاسيس كثيرة ، فمن الضروري أن نتحرر من سلاسل الأوزان القديمة سعيا وراء حرية أكبر في التعبير (...) أُقَدِّم للقارئ شعرا حرا نابعا من الغريزة والعفوية ومفهوم . لأنه ناتج عن شعور يخالج صدر معظم الناس ، خَرَجَتْ كلمات فَرَضَتْ نفسها من دون أن تترك لي حرية الاختيار أو التعديل. أنا لا أحب القمع وتغيير التعبير الصادق ، سَيُْشِعُرني بذنب لن أتحمله معنويا "51.
وبالموازاة مع هذه التوطئة جاء الديوان منسجما مع العفوية والتعبير الصادق، مناقضا تماما للتحلل من القافية، بل واقع في إسارها إلى درجة الرتابة والملل، مناقضا لطبيعة الشعر الذي لا يحتمل هذا التسيب، فكل نص من نصوص الديوان يعد نموذجا صريحا لهذه الأفكار، سواء المنسجمة أو المناقضة لما جاء في التمهيد . نفتح الديوان على قصيدة:" هي" ، التي يقول فيها :52.
هِي الَّتي تُمِيتُني وَتُحْيِيني
وَهِي التِي بِدونِ إِذْنٍ تَغْزُوني
وَتَلْعَب بِأعْصابي وَتَدْخُل شَرايِيني
وتَزْرَع الأَمَلَ في رُوحي وَوِجْداني
أَهيمُ لَوْعَةً بِها وأَتْرُكُها تُفْنِيني
فَكُلَّما امْتَلَكْتِني أَحْبَبْتُ أنْ تَزِيدِني
وكُلَّما زادَتْنِي اسْتَحْلَيْت أَنْ تَمْتَلِكَني
ولِجَبَرُوتِها اسْتَسْلِم وَأَتْرُكُها تَقودُني.
هذه عاقبة الحرية والصدق الذين يتوارى خلفهما الشعراء لإخفاء ضحالتهم، إننا نريد كَذِبًا مُنْتِجا . أوَ لَمْ يقولوا قديما أن الشعر لما دخل باب الخير نَكَد! لا أدري عن أي قافية تحدث الحاكمي وبأي معنى فهمها ؟ ولا معنى التحرر منها ؟ فنحن نرى أن التحرر في النص النثري معادل للأسر التام في النص الشعري . إنه الطريق المشروع، للتفريط " في الطبيعة الخاصة للشعر وفي قيمته الإنسانية "53.
ب: ائتلاف الوزن والقافية:
تنفرد تجربة مصطفى الشليح بطابع خاص جدا ، لا تنازعها فيه أي تجربة من التجارب التي وقفنا عندها في هذا البحث . ويمكن ، بداية ، رصد مظاهر هذه الخصوصية قبل الخوض في قراءتها، وذلك من خلال ديوانيه:" عابر المرايا وماء العراق.. يشربه القصف" . وهي كالتالي:
1- المزاوجة في أشكال الكتابة وأبنية القصائد بين قصيدة التفعيلة وشكل آخر يقترب كثيرا من الشعر العمودي ، إذ أنه قابل لأن يصير كذلك مع بعض التصرف في القصائد التي تستجيب بسهولة لهذا التعديل ، وهي كثيرة جدا لا سيما في ديوانه: "وماء العراق.. يشربه القصف".
2- خضوع الديوانين لمقتضيات الوزن العروضي ، مع التنويع في البحور وحرص الشاعر الشديد على تشغيل القافية.
3- الاتكاء على لغة رصينة صافية تمتح من معين الماضي المشرق مع محاورة إيجابية للموروث الثقافي .
نتيجة لكل ذلك ، فإن هذه التجربة تفتح الذاكرة على الزمن الشعري القديم من مواقع متعددة ، سواء تعلق الأمر بالشكل أوالمضمون، لغة و تصويرا . فالشاعر ينهل من ينابيع المجد الشعري لصنع طابق شعري مميز جدا ، والواقف على الديوانين لا يُشْكِل عليه ملاحظة ما فيه من أشكال التعالق مع النصوص العربية القديمة ( الشعر الجاهلي ،الأندلسي، العباسي ، الأموي ، القرآن الكريم)، مع الدقة في استثمار هذا الثَّراء .
إنها تجربة منفردة تحتاج إلى دراسة مستقلة بتصور وآليات دقيقة .
لقد كان العثور على الكتابة بهذا الشكل الذي يبدو نشازا وسط نغمة تعزف سمفونية التهليل بقصيدة النثر، وبدرجة أقل قصيدة التفعيلة ، مفاجأة كبيرة ، أعتبرها نقطة ضياء مشرقة في زمن اليأس.
وهو ما يجعل إعادة تشغيل الشطر الأول من الترسيمة التي ميز فيها ذ. العمري بين أشكال الكتابة ممكنا، أي تَذَكُّرُ القصيدِ والتوشيح ؟ لكن ليس بالوضوح الكافي الذي يُعفي من حَرَجِ الأسئلة ، لأن القصائد غير مكتوبة بهاتين الطريقتين بشكل صريح يجعل تصنيفها ضمن خانة ( القصيد والتوشيح) سليما وغير مريب . إذ يتطلب الأمر ، في نهاية المطاف , إعادةَ ترتيب أجزاء القصائد وبعض التعديلات في بنيتها بدرجات متفاوتة ترتفع في ديوان "عابر المرايا" ، وتنخفض إلى أدنى الحدود في ديوان" وماء العراق.. يشربه القصف"، الذي تستجيب جل قصائده لإعادة كتابتها بالشكل العمودي. وهو ما يجعلنا نميز في هذه التجربة بين عنصرين :
ب-1- الإخلاص للتفعيلة:
يعتبر ديوان : "عابر المرايا "، نموذجا واضحا لهذا التوجه في الكتابة. فهو يتشكل من ثمانية وعشرين قصيدة تختلف من حيث الطول والقِصَر، تستجيب كلها لما تقتضيه قصيدة التفعيلة ، مع ملاحظة بارزة تتمثل في اعتناء الشاعر بعنصر القافية اعتناء قد يبدو للبعض مبالَغا فيه. وهو ما لا يعتبر من لوازم وضروريات قصيدة التفعيلة . فكل أنواع التوظيفات للقافية مُمارَس في هذا الديوان.كما أن بعض المقاطع من بعض القصائد قابلة لأن تُكْتَبَ على شكل أبيات عمودية بالمعنى الدقيق للكلمة . نُمَثِّلُ لذلك بمقطعين من قصيدتين مختلفتين، الأول من قصيدة : "سديم العراء" ، يقول فيه: 54
أَجُوسُ دِيَارَ رَابِعَةٍٍ //0 ///0 //0 ///0
مـُفَـا عَلَتُنْ مـفا علتن
وَلاَ خَيْمَهْ // 0/0/0
مَـَفا عِـيـلُنْ
أُنَقِّبُ عَنْ كَواكِبِهَا //0///0 //0 ///0
مفاعلتن مفـا عـلتن
وَعَنْ نَجْمَهْ // 0/0 /0
مفـا عـيـلن
أُجِيلُ الطَّرْفَ فِي مُدُنٍ //0/0/0 // 0 ///0
مفـا عـيـلن مـفا عـلـتن
يُجَلِّلُهَا اتِّسَاعًُ الخَرْقِ، لاَ رُقَعٌ // 0///0 //0/0/0 //0 ///0
مـفا علتن مفـا عيـلن مفا عـلتن
وَلاَ غَيْمَـْه //0/0/0
مفا عـيـلن
كَأَنَّ بِهَا مِنَ الْعَتَمَاتِ عُجْمَهْ // 0 ///0 //0 // /0 //0/0
مفـا عـلـتن مفـا علتن فَـُعولُنْ
فهذا المقطع مبني على بحر الوافر، تجعل بعض التعديلات التي دخلت على تفعيلاته ، امتزاجه بالهَزَج واردا ، وهو أمر طبيعي في الشعر ، إذِ الجمع بين هذين البحرين والتداخل بينهما ممكن ، لأن التغييرات التي تصيب " مفاعلتن" قد تحولها إلى " مفاعيلن" التي أصلها " مفاعلتن" وهو ما يسمى في علم العروض بالعَصْبِ(وهو من الزحافات المُفْرَدَةِ، وهو تسكين الخامس من تفعيلة" متفاعلتن")
ونظرا لبنية هذا المقطع ، يمكن إعادة كتابته على هذا الشكل دون أن يؤثر ذلك على المسار العام للمعنى والإيقاع :
أَجُوسُ دِيَارَ رَابِـعَـةٍٍ وَلاَ خَــيْـمَـهْ
أُنَقِّبُ عَنْ كَواكِبِهَا وَعَنْ نَجْمَهْ
أُجِيلُ الطَّرْفَ فِي مُدُنٍ يُجَلِّلُهَا
اتِّسَاعًُ الخَرْقِ، لاَ رُقَعٌ وَلاَ غَيْمَهْ
كَأَنَّ بِهَا مِنَ الْعَتَمَاتِ عُجْمَهْ
والأمر نفسه يسمح به المقطع التالي من قصيدة: "وأصعد فاتحة لطفل الورد..."
يقول فيه :55
أَمِنْ رُعْبِ الْمَسافَةِ //0/0/0 // 0//
مفـا عـيلن مفـا عل
بَيْنِ قَلْبِي وَامْتِدَادِ النَّبْضِ مَا وَلَدَا /0 //0/0/0 //0/0/0 // 0/ //0
تن مفا عـيلن مفــاعـيلن مفا عـلتن
أَمِ الْمَابَيْنُ وَخَّادٌ عَلَى حَرْفٍ / /0 /0 /0 //0/0/0 // 0/0/0
مفـا عـيــلن مفـاعـيـلن مفـا عيـلن
يَرُجُّ النَّقْعَ مَا هَمَدَا //0/0/0 //0///0
مـفـا عيـلن مفـا عـلتن
أَمِ النُّورُ الْمُقَدَّسُ / /0 /0/0 //0//
مفــا عـيلن مفــاعل
غَازَلَ الْعَيْنَيْنِ إِغْواءً وَأَلْغَى /0 //0/0/0 //0/0/0 //0/0
تن مفا عـيـلن مفـا عـيلن مفـاعي
الْغُنْجَ وَالزَّبَدَا ؟ /0 //0///0
لن مفا عـلتن
إن هذا المقطع لا يختلف في بنيته عن المقطع السابق ، كما أنه يقوم على تداخل بحر الوافر والهزج ، لكن هذا الأخير هو الموجه للإيقاع عكس الأول الذي كان فيه الهزج تابعا للوافر . ويمكن إعادة كتابته بطريقة عمودية، لكن يجب التنبيه إلى أن التعديل يقتضي تجاوز عدد التفعيلات المسموح به واستعمال تقنية التدوير في كل الأبيات، إذ البيتان الأولان يتوزعان على خمس تفعيلات لكل واحد منهما، وهو ما لا أصل له في الأوزان التي تُوظَّف في العمودي . وحده البيت الأخير يستجيب لمطلب البحر التام :
أَمِنْ رُعْـبِ الْمَـسافَةِ بَـيْنِ قَلْـ ــبِي وَامْتِـدَادِ النَّــبْـضِ مَا وَلَدَا
أَمِ الْمَــابَـيْـنُ وَخَّادٌ عَـــلَى حَرْ فٍ يَـــرُجُّ الـنّــَقْــعَ مَــا هَـمَـــدَا
أَمِ النّـُورُ الْمُـقَدَّسُ غَـازَلَ الـْعَـيْنَيْـ ـنِ إِغْواءً وَأَلْـغَى الْغُـنْجَ وَالزَّبَدَا ؟
إن الطابع العام لديوان:" عابر المرايا" يتجه بشكل صريح نحو التفعيلة ، غير أن نَفَسَهُ نَفَسٌ تقليدي على جميع المستويات ، وهو ما سيصل قمته في الديوان الآخر: "وماء العراق.. يشربه القصف". حيث الاقتراب من الشعر العمودي لا يحتاج إلا لتعديلات بسيطة جدا.
ب-2- الاقتراب من العمودي:
يذكر ديوان: "وماء العراق.. يشربه القصف" بالشعر كما توارثه القدماء ، كما هو في التاريخ ، أقصد أن القارئ يحس نفسه أمام نَفَسِ قصائد عمودية على جميع المستويات ، فقط يجعله أسلوب كتابة القصائد على شكل أشطر متساوية كميا متتابعة عموديا ، يتردد في الجزم في تصنيف هذا الديوان عموديا.
فهو يتشكل من تسعة قصائد ، يمكن تصنيفها إلى ثلاث مجموعات بمميزات مختلفة:
1- المجموعة الأولى : تتكون من ست قصائد، وهي : بغداد مارد عملاق ، يا أمة ضحكت .. بغداد تحترق، ولكنه نثر القبائل ، حييا توارى ،.. وقد ألقي السلاما، أقصف كما تشاء .
2- فهذه القصائد مكتوبة كلها بطريقة واحدة ، تعتمد على تقفية شطر وترك آخر، نقرأ النموذج التالي من قصيدة : "وبغداد مارد عملاق .."56
جَلْجَلَ الْحَقُّ وَاشْرَأَبَّ الْعِراقُ /0//0/0 //0//0 /0//0/0
فــا علا تن مـتـفــعلن فــا علاتن
عُنْفُوَانٌ، فِي عِزِّهِ، وَبُرَاقُ /0//0/0 /0/0//0 ///0/0
فــا عـلاتـن مسـتفــعلن فــعـلا تن
شََامِخُ الهَامَةِ الوَضِيئَةِ سِرٌّ /0//0/0 //0//0 ///0/0
فـا علا تن متـفــعلن فـعـلا تن
بَادِخُ الْمَجْدِ، وَالعَالِي نِطاقُ /0//0/0 //0//0 ///0/0
فــا علا تن متـفــعلن فـعلا تن
ثَابِتُ الْقَلْبِ والْمَدَى طائِراتٌ /0//0/0 / / 0//0 /0//0/0
فــا علا تن مـتـفـعـلن فــا عـلا تن
قَاصِفاتٌ أهْوالُها لاَ تُطاقُ /0//0/0 /0/0//0 /0//0/0
فــاعـلا تن مسـتـفـعـلن فــاعلا تن
على هذه الطريقة تُكْتَبُ كل قصائد هذه المجموعة ، وهي قابلة بدون تعديل لإعادة كتابتها عموديا، مع ملاحظة الاهتمام بتصريع مطالع هذه القصائد كما في القصائد الكلاسيكية القديمة خصوصا في الشعر الجاهلي والأموي.
3- تتكون المجموعة الثانية من قصيدتين تعتمدان نظام التفعيلة ، وهما : "تكبيرة الولد الحجري" المبنية على بحر المُتَدارَك ، وقصيدة: "حَلَبُ حُزْنُه والمدامِعُ بغدادُ والمِحَنُ"، وهي قصيدة طويلة جدا تحفل بتواتر إيقاعات مختلفة يوجهها بحر المتدارك أيضا، لا يبدو الإخلاص فيها كاملا لقصيدة التفعيلة ، فقد جر الحنين الشاعر إلى نظام المجموعة السابقة قُبَيْلَ المقطع الأخير من هذه القصيدة ليكتب بهذه الطريقة ، وعلى بحر الطويل . يقول :57.
لِغَيْلاَنَ أَنْ يَشْكُو ابْنَ زَيْدُونَ هَمَّهُ //0/0 / /0 /0/0 //0/0 // 0//0
فعو لن مـفـاعـيــلن فعولن مفــاعلن
وَمَا اغْتَبَقَتْ ، مِنْ رَوْعِهِ،دِمَنُ الْقَوْمِ //0/ // 0/0/0 //0/ / /0 /0/0
فـعول مفــا عيـلن فعول مفـاعـيـلن
وَمَا اصْطَحَبَتْهُ كَالِحًا إِثْرَ كَالِحٍ //0/ / / 0//0 / /0 /0 / /0 //0
فعول مفـا علن فـعو لن مفـاعـلن
مِنَ الْمُدُنِ الْمَكْلُومَةِ الْقَلْبَ بِالإِثْمِ //0/ //0/0/0 // 0 /0 / /0/0 /0
فعول مفـاعــيلن فعو لن مفـاعــيلن
ويتكون هذا المقطع من إثني عشر شطرا متساويا مُقَفًّى على شاكلة البيت القديم . وقد ختم هذه القصيدة ، كما بدأها ، بمقطع على طريقة قصيدة التفعيلة بقول فيه :
وَأَدِرْهَا / / /0 /0
فـعـلن فـا
لَعَلَّ قَلِيلاً مِنَ الصَّمْتِ //0 // / 0 /0//0 /0/
علن فـعـلن فـاعلن فاعـ
مَعْبَرُنَا /0 ///0
لـن فـعـلن
لِلْكَلاَمِ /0//00
فــا علانْ
ومن المقاطع التي تخرج عن نظام المُتدارَك في هذه القصيدة ، قوله:58.
قِفَا نَبْكِ يا صاحِبَيَّ قَليلاً . عُيُونُ //0/0 //0/0 //0/ //0/0 //0/
فـعولن فعولن فعول فعو لن فعولـ
الْحَبِيبَةِ عَبْرَى ، وَأَلْمَحُهَا خَفْقَةً 0 //0/ //0/0 //0/ //0/0 //0
ن فعول فـعولن فعول فــعولن فـعو
وَهَدِيلاً.وأَلْمَحُها عِنْدَ دَارَتِنَا / //0/0 //0/ //0/0 //0/ //0
ل فـعولن فعول فـعولن فـعول فــعو
وَيَداهَا مَشَاتِلُ وَرْدٍ، وَمَبْسَمُهَا / //0/0 //0/ //0/0 //0/ //0
ل فـعولن فـعول فـعولن فعول فعو
سَلْسَبِيلٌ مِنَ النُّـــورِ. /0 //0/0 //0/0 /
لن فعولن فعولن
وأستطيع القول: إن هذه القصيدة تمثل أم الديوان ، بحيث تختزل كل مقوماته الدلالية والإيقاعية ، فهي تناقش قضايا عديدة تماما كتواتر الإيقاعات المختلفة داخلها.
إنها تمرد على الوحدة الموضوعية والإيقاعية ، ولم يَفُتِ الشّليح تدوين ذلك شعريا، وهو ما نفهمه من هذا المقطع داخل القصيدة نفسها:59
أَلاَ شاعِرٌ يُكَسِّرُ الوَزْنَ مِنْ زَمَنٍ //0/0 //0/0 //0/0 //0/ //0
فعولن فـعولن فـعولن فـعول فـعو
مِثْلَ طفْلٍ يَلُمُّ التَّفاعِيــلَ /0 //0/0 //0/0 //0/0 /
لن فـعولن فـعولن فـعولن ف
بَيْنَ يَدَيْهِ التَّفاعيلُ خُدْروفُ لَوْنٍ /0/ //0/0 //0/0 //0/0 //0/0
عول فعولن فـعولن فـعولن فـعولن
وَلاَ لَوْنَ لَهْ //0/0 //0
فعولن فـعو
مِنْ طَويلِ البُحورِ إِلَى آخِرِ الأَسْئِلَةِ /0 //0/0 //0/ //0/0 //0/0 //0
لن فـعولن فـعول فـعولن فـعولن فعو
والزِّحافُ مُعَلَّقَةٌ مِنْ سَرابِ الوَلَهْ /0 //0/ //0/ //0/0 //0/0 //0
لن فعول فعول فعو لن فـعولن فـعو
فهذا المقطع خاضع بصرامة لمقتضيات وزن المتقارب الذي تتردد فيه تفعيلة " فعولن" بشكل مطرد.ينظر الوزن
3- المجموعة الثالثة : أحادية القصيدة، وهي الأخيرة في الديوان بعنوان : "طُرَر"60. ومن مميزات هذه القصيدة أنها جاءت على شكل أشطر متوالية عموديا ، كلها مُقَفّاة بقافية موحَّدَة . نقرأ منها هذا المقطع :
لَمْ يَبْدُ طَيْفٌ وَلَمْ يَهْتِفْ بِهِ سَحَرُ /0/0//0 /0//0 /0/0//0 ///0
مستفــعـلن فـا علن مـسـتفــعلن فـعلن
كَأَنَّمَا قَدْ سَلاَ عَنْ دارِهِ السَّفَرُ //0//0 /0//0 /0/0//0 ///0
متــفـعلن فـاعلن مستــفـعلن فعلن
مَا كُلُّ بُراقٍ أَتَى يَثْغُو وَيَنْشَذِِرُ /0/0//0 /0//0 /0/0//0 ///0
مستفـــعلن فــاعلن مستــفـعلن فـعلن
عَلَى الْجَبِينِ مَرايا حِينَ يَعْتَذِرُ //0//0 ///0 /0/0//0 ///0
متـفـعلن فـعـلن مسـتفـعـلن فعـلن
فالقصيدة كلها تسير على هذه الطريقة مما يجعل القارئ أمام نفس يصله بالماضي ، لا سيما وأنها مبنية على بحر البسيط ، وهو بحر اشتهر أنه يوظَّف في الأغراض الجليلة . وحين ننظر إلى الديوان ندرك أن غرضه العام جليل أيضا ، حقيق بالاعتبار وخليق بالاهتمام. ولذلك كان من الضروري الاتكاء على كل مقومات الشعر الجيد لإنتاج قصائد متميزة . وهو ما لا يجد القارئ صعوبة في تَبَيُّنِه في هذا الديوان ، وفي التجربة بصورة عامة ، حيث شجرة النَّسَبِ موصولة بالتراث ( الشعري والنثري) غير مقطوعة ، وحيث المعرفة الدقيقة بالشعر وأدواته متوافرة لدى الشاعر. وبذلك تكاملت فيه عناصر الإبداع .
ويمكن اختزال كل هذه المعطيات في جدول توضيحي تصنيفي لهذه القصائد حسب المجموعات والأوزان :
المجموعة القصائد البحور الطبيعة
الأولى - بغداد مارد عملاق - الخفيف ذات نفس شعري تقليدي، أغلب بحورها من البحور التي اعتمدها الفحول من الشعراء .
- يا أمة ضحكت - البسيط
- ولكنه نثر القبائل - الطويل.
- حيييا توارى. - الطويل.
- وقد ألقي السلاما. - الوافر.
- اقصف كما تشاء - البسيط
الثانية - تكبيرة الولد الحجري - المتدارك.
- حلب حزنه والمدامع - متنوعة الأوزان تستجيبان لمقتضيات قصيدة التفعيلة
بغداد والمحن .
الثالثة - طـــــرر - البسيط تعتمد على تقفية كل الأسطر دون استثناء
تعليق:
إن هذه التجربة مفارقة تماما لما يهيمن على الساحة الشعرية ، أقصد أنها مفارقة حتى لقصيدة التفعيلة رغم أنها تُوهِمُ بالانتساب إليها من حيث شَكْلُ القصائد ، خصوصا في ديوان: "عابر المرايا". لكن تدقيق النظر يبرهن أن هذه التجربة لا علاقة لها بالجو العام ، ولا ذائقة العصر التي بالغ الكثيرون أنها لا تحمل مثل هذه الكتابة ، وتوَهَّموا أنها تُجُوِّزَتْ. والحقيقة أنها في حاجة إلى انبعاثٍ شِعْرِيٍّ رفيع .
ومع هذا التميز يبدو طرح السؤال التالي ضروريا: لماذا آثر الشاعر كتابة قصائده بهذه الطريقة؟ لماذا لم يكتبها عمودية صريحة ، وهو يعلم أنها تنتسب من جميع الجهات إلى هذا الشكل الشعري الرفيع ؟
ربما كان ضغط اللحظة الشعرية وذائقة العصر مبررا لذلك، وربما كان إحساس الشاعر بأن زمن القصيد ولَّى على مستوى الشكل على الأقل ، وإن ظل مسكونا بالتعريف القديم للشعر . وهو ما يظهر من خلال كل مقومات قصائده. فشعره موزون مقفى جالب لكل التركيبات الكيماوية ليكتمل المعنى ، ولذلك فهذه المقومات قابلة لأن تُفْرَكَ لا أن تُشَمَّ فحسب .
2-3- جدل القراءة والسماع
2-3-1- فشل تجربة الشكل البصري:
ليس تجريب الأشكال الشعرية من صنيع الحداثة ، فهو سابق عليها ، لَصِيقٌ بقول الشعر ، ودليل ذلك أن الشعر العربي مَرْكَزٌ ثابتٌ ( القصيد) ، وهوامشٌ دائمةُ النُّزوعِ إلى التحول والتغير ( الأراجيز والموشحات ) ، ولذلك كان الحديث قديما عن أشكال عديدة بَدَتْ للنقاد أنها غريبة كالقَوادِسِيِّ ، والمُسَمَّطِ ، والمُخَمَّسِ ، إلخ61. تماما كما يتم الحديث الآن عن الأشكال العَجائِبِيَّة للقصائد ، حيث القصائد مكتوبة على شكل دوائر ومُرَبَّعات ومُثَلّثات ، وعلى شكل شجرة أو رِجْلٍ أو يد بشريتين ، ناهيك عن تَسَرُّبِ الصور والرسوم ومختلف العلامات إلى جسد القصيدة62. ويبدو أن جواب السؤال المطروح حول أسباب هذه الظاهرة كامن في ظهور الكتابة والطباعة ، وبشكل خاص في دور الشاعر في كتابة قصائده بخط يده ، أو عبر وسيط . لكن الأمر ، في تقديري ، يتجاوز هذه الأسباب إلى طبيعة اللحظة الشعرية ، ومفهوم الشعر ، وذائقة العصر . حيث بدا أن هذه العناصر كفيلة بتعويض ما ضاع من مقومات الشعر .
غير أن هذه التجارب أعلنت إفلاسها لحظة ولادتها ، لأنها ضد طبيعة الشعر الذي تعد اللغة فَيْصَلَه الرئيس. يقول مشتاق عباس معن مبرزا هذا التحول وفشل التجربة : "قلبت الكفة في التطلع التجديدي عند المبدعين الحداثيين من المستوى الشكلي إلى المستوى الدلالي ، لأن الانكسارات الشكلية التي نزع من خلالها المُحْدَثُون إلى تحديث النص الشعري ، انتهت باستقرار مرحلة ( قصيدة النثر) ، فضلا عن فشل جميع المحاولات التي اهتمت بتحطيم الشكل "63.
لقد فتح انفجار الشكل الشعري الباب على العَبَثِ بالشعر إلى درجة اللهو ، ولما استنفد الشعراء طاقاتهم في هذا الانفتاح ، ونسفوا هامش الحرية والمرونة الذي تتسم به الظاهرة الأدبية عموما بدأ التَّهَيُّؤُ لطرح جديد يقضي بتنصيب بديل آخر لِلَجْمِ هذا الفشل .غير أن قصيدة النثر، التي أراد لها كثير من الشعراء أن تكون نهاية طبيعية للتَّسَيُّبِ ، قَوَّضَتْ هذا الإدعاء وأَقْبَرَتْ هذا الأمل . فظلت الأزمة مُشِعَّةً، كما ثَبَـتَ، بما لا يدع مجالا للشك أن فشل الاتكاء على الشكل البصري ، فَشَلٌ مَكِين.
2-3-2 حاجة الشعر إلى الإلقاء.
معلوم أن ديوان الشعر العربي قاوم الاندثار بالتواتر الجماعي ، في وقت كان فيه الحديث عن التدوين، هَذَيانٌ، بل من رابع المستحيلات. لأنه خارج الجو الثقافي العربي آنذاك. كما أن فعل القراءة لم يكن من أَعْراف العرب ، لأن الأذن تقوم بجميع وظائف المعرفة ، ومبرر ذلك أن اللغة لم تكن موضوعَ تَأَمُّلٍ وإعادةِ نظرٍ من قبل هؤلاء ، فالشاعر يحياها بإحساسه ، كما يفقهها السامع ويَعْقِلُها بالطَّبْعِ والجِبِلَّةِ المُرَكَّبَةِ ، قبل أن تصير ملتبِسة بالوجود، مُحْوِجَةً مُتَكَلِّمِيها إلى ضرورة تأملها وإنشاء العلوم حولها .64
لقد ظهرت عدة إشكالات بالموازاة مع ظهور الكتابة ، تتصل اتصالا مباشرا بطريقة كتابة القصائد ، إذ بنى الشعراء رهانهم الشعري على الأشكال البصرية العجائبية لتعويض الفقر الدلالي المُعْوِزِ . غير أنهم سرعان ما عَدَلوا عن هذا التوجه بعدما ظهر عيبه ، وعلَّقوا الآمال من جديد على التعويض الدلالي بديلا عن تهاوي النموذج البصري ، فكان أن وصل الشعر بهذا التردد ، إلى أقصى درجات الأزمة .
ومن داخل الإحساس بحجم الاختناق الذي يداهم فن الشعر، بدأ الحديث عن ضرورة إسناد الشعر بالإلقاء وحاجة الشعراء إلى ذلك ، مُتَوَسِّمين من العلاقة المباشرة بينهم وبين الجمهور أن تكون مُنْتِجَة للمعنى الآفل إلى جانب مقومات أخرى . فالإلقاء المباشر يولد الرغبة في حصول التجاوب، وحصول التجاوب يعني التجويد في إلقاء الشعر وتحميله رسالةً ما . وإلا فإن الصِّدام سيكون قاتلا بين الشاعر والجمهور . ومهما كان حجم الاستخفاف بالشعر، فإن الشاعر، في هذه الوضعية ، لن يرضى لنفسه الإذلال. ولأجل كل ذلك لا بد من الاهتمام بالعناصر الجمالية داخل القصيدة ، والحرص على تحصيل الأدوات الإقناعية ، لأن الجمع بين الإمتاع والإقناع يجلب الاستحسان ، والفصل بينهما أو تغييبهما يُعَرِّضُ للسخرية .إذ كل جميل مُقْنِعٌ بالضرورة .
لكن ماذا لو لم يجد الشاعر شعرا لإلقائه ؟ وماذا لو لم يكن هذا الشعر غير قابل للإلقاء ولا للقراءة؟
ما كان لمثل هذين السؤالين أن يُطْرحا ، لولا الإحراج الكبير الذي أوقعت فيه قصيدة النثر الناس، حتى إن العارفين بالشعر ، العالمين بأدق أسراره وجدوا أنفسهم أمام أسوء الافتراضات ضد طبيعة تكوينهم ومداركهم المعرفية ، رأفة بحال الشعر وحرصا عليه من الضياع ، وإن مقابل تنازلات.
يقول ذ. محمد العمري: " أما ثورة النثيرة على التفعيلة نفسها ورفضها المستوى المسطح نفسه فهو تمرد على اللغة على إمكانيتها الموسيقية الخصوصية التي تميزها عن اللغات الأخرى أو عن الدَّوارِجِ ، وفي هذه الحالة سيكون من المُجدي تكسير الإعراب وتشغيل السكون على أوسع نطاق ، أو اللجوء إلى النبر والتكميل الشفوي كما هو الحال في الزجل ، وفي غير ذلك ينبغي الامتناع نهائيا عن إنشاء الشعر "65.
إنه أسوء موقف يباغت علماء الشعر وأسوء الحلول التي لا تسعف القصيدة في نجاعتها . وبذلك فأزمتها مضاعفة، فلا انكفاؤها إلى العَبَثِ الشكلي أفاد، ولا ادِّعاء التعويض الدلالي لغياب أي أثر ، ولو بسيط، للإيقاع بَرْهَنَ على قدرته كبديل مُجْدٍ. وحده الإلقاء، ترى فيه هذه القصيدة حَبْلَ النجاة. ولذلك ترى الشعراء حريصين كل الحرص على حضور المهرجانات لإسماع الناس بعدما عجزوا عن إغواء أبصارهم. وهو ما جعل بعض الدارسين يعتبرون أن السمع يظل دائما هو أبو الملكات اللغوية . يقول ذ. حسن مسكين: "من هنا يمكن أن نسجل انحصار هذه التجربة بعد تلاشي تلك الحماسة الجارفة وتراجع ذلك الانبهار الواضح لثلة من الشعراء المغاربة، فكان أن تخلى جلهم عن ركوب هذا المجرى ، وعادوا من حيث يدركون أو يجهلون ليتثبتوا أطروحة القدماء السابقة: السمع أبو الملكات اللغوية "66.
وبالموازاة مع هذا الاستنتاج الذي ينتصر للسمع وقدرته على الحياة الدائمة وسط مختلف التجارب تنتعش تصورات أخرى تؤكد أن عملية الإلقاء ممكنة للقصائد، بل إنها هي الطريق المتميز الذي ينبغي سلكه لتخطي هذه المحنة. يقول ذ. علي جعفر العَلاَّق: " لا تبدو القصيدة العربية الحديثة في الأغلب، بعيدة تماما عن القصيدة التقليدية في اعتمادها الطريق الشفاهي أساسا في مخاطبة الجمهور "67. بل إن الأداء أحد أهم المطالب الأساسية للقصيدة الحداثية. يقول ذ. محمد العمري: "وقد كان هذا المستوى ( الأداء) مهما قديما في القراءات القرآنية لأنه يتحكم في توليد الدلالات ، وصار اليوم أشدَّ أهمية في الشعر الحديث لأنه يدخل في تأويل التداخل بين التَّمَفْصُلِ الدلالي والتقطيع النَّظْمي والتوزيع الفضائي لتوليد مستويات متعددة من الدلالة "68.
وهو ما يجعلنا نطرح السؤال الثاني: هل الشعر ذو طبيعة شفوية صِرْفٍ ؟ ألا يصلح إلا إذا تم إلقاؤه في المستمعين ؟
لقد بدأ الشعر شفويا، وانتهى إليه، وسيظل معتمدا على هذه الشفاهية إلى ما شاء الله، رغم أن بعض الشعراء النقاد يُسْقِطون أهمية الرواية في تاريخ الشعر العربي ، ويخصون مفهوم الكتابة بفهم خاص69.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش الدراسة
1- غالبا ما تم التمييز في الدراسات الشعرية بين العديد من المستويات ، فنجد الدارسين يفصلون بين المستوى الإيقاعي والمعجمي والتركيبي والدلالي. وهو ما رسخ في الأذهان جزئية هذه المستويات واختلاف حقول انتمائها ، قبل أن يتم النظر في علاقاتها وتكاملها ضمن مبحث كبير هو البلاغة ، ليصبح الحديث عن الإيقاع جزءا من الدرس البلاغي بل جوهره . وهو ما قارب بين الاستعارة والترصيع والتجنيس والتفاعيل ....
2- انظر نقد الشعر. 17.
3- العمدة لابن رشيق . 1/134.
4- مسالة الإيقاع في الشعر العربي الحديث. فكر ونقد . ع 18 . ص 56
5-هذه بعض أنواع القوافي في الشعر العربي القديم والحديث .
6- مسألة الإيقاع في الشعر الحديث .56
7-محمد العمري . بنية الإيقاع في الشعر الكويتي في النصف الثاني من القرن 20. مقال غير منشور
8-مسألة الإيقاع في الشعر العربي الحديث .55
9-نفسه.ص 56.
- مسألة الإيقاع...ص 60-61. 10
11- يقول في أحد نصوصه الكثيرة جدا في هذا الصدد : " إن تحليل القصائد يوضح تضايفا مدهشا بين توزيع المقولات النحوية والتضايفات المقطوعية والعروضية ( ...) ، لكن إذا كان هذا التنظيم للتوازيات والتباينات النحوية باعتباره خاصية مميزة للشعر لم يستخدم كوسيلة شعرية ، فانه يمكننا أن نتساءل عن الهدف الذي أدمج الشعراء على هذا التنظيم وحافظو عليه ونوعوه بشكل ملحوظ " قضايا الشعرية . 83.
12- ديوان حدادا علي ... ص 42
13- أنظر فكر ونقد . ع18 ص 57.
14- مسألة الإيقاع ...ص 57.
15 -حدادا علي ...ص 125.
16- يقول الأستاذ العمري : إن أصحاب التفعيلة حين يتصرفون في المستوى المجرد التعبيري يتصرفون في مستوى أنساق يحكمها التاريخ داخل اللغة العربية نفسها ، في حين يحتفظون للغة الفصحى بنسقها الصوتي . " فكر ونقد . هامش 8.ص 57.
17- أنظر الصفحات 13.11.10
18-انظر الصفحتين .. 27.24
19- العلم الثقافي 12 يناير3 200
20- ديوان قصائد للمعشوقة والوطن.32
21- ديوان هبة الفراغ 11/12 .
22- قضايا الشعرية 108.
23- نفسه 85 .
24- نفسه 106.105 .
25- يعتبر القصيد هو المركز في الشعر المنتظم ، وغيره من الأشكال الموازية له كالموشحات والأراجيز تعد هوامش.
26- استثني هنا ما اصطلح عليه بقصيدة النثر لأن النزوع النثري نحو الشعر نزوع دائم لا يرقى إلى مستوى النظر إليه كعنصر منازع للقصيد إلا إذا اعتبر من طينته . وهو ما لا يزال إلى حدا الساعة موضع مقاومة ورفض من قبل عشاق الشعر الخلص بالرغم من أن البعض يبني الرهان الشعري عليها ، بعدما هرول الشعراء إلى حماها فارين من القوانين ، جازمين بأفول قصيدة التفعيلة واستنفادها لطاقتها الإبداعية.
27- هوامش نظرية حول قصيدة النثر . العلم الثقافي .12 يناير 2002.
28- شيزفرينيا الشعر الحداثي علامات في النقد . مج 11.ج41.ص 461.
29- وضعت هذه الخطاطة لدارسة الشعر الكويتي إيقاعيا في مقال مذكور سابقا .
30- هوامش نظرية حول قصيدة النثر . العلم الثقافي . 12-01-2002.
31- مسألة الإيقاع في الشعر الحديث . ص69.
32- القصيدة بين الجديد والتجديد. فصول .172.
33- هوامش نظرية حول قصيدة النثر.
34 - نفسه.
35- قصيدة الشعراء ص 78
36- ديوان لا أحد في النافذة 53.
37- ديوان حجرة وراء الأرض. 17
38- لا أحد في النافذة 33 .
39- الديوان 23-24.
40- الديوان 26.
41- هوامش نظرية حول قصيدة النثر لنجيب العوفي .العالم الثقافي 12-1-2002.
42- الملحق الثقافي في الاتحاد الأسبوعي . ع 64 . 27/06/2003
43- لا يعني ما نقول أن قصيدة النثر مرفوضة، ولا شعرية فيها. لكن ما نقصداه هو فهم هؤلاء الشعراء لها، وهو فهم أساء لها. بقدر إحسانها لهم. غير أنهم جحدون فضلها باحتقارهم لهاا وإفقارها من الشعرية.
44- القافية المتتالية هي التي تتتابع في آخر كل سطر والمتناوبة أو المتراوحة هي أشكال لتقنيات متعددة . إما بتقفية سطر وترك آخر أو تقفية سطرين بنفس القافية وما بعدهما بقافية أخرى . وهكذا...
45- هبة الفراغ 12.11.
46- الديوان 52/53/54.
47- الديوان 57.
48- هبة الفراغ 20-21.
49- الديوان . 94-95.
50 - لا أدري أكان من الضروري أن يسمي الشاعر هذا قصيدة؟
51 - الديوان 5.
52- نفسه.9.
53- محمد مشبال مقولات بلاغية في تحليل الشعر.135.
54- ديوان عابر المرايا.75
55- ديوان عابر المرايا.99
56- وماء العراق.. يشربه القصف 7.
57- وماء العراق.. يشربه القصف 52.
وماء العراق.. يشربه القصف 29. 58-
59- نفسه 49.
60- وماء العراق.. يشربه القصف99.
61- انظر العمدة لابن رشيق في بابي : " التقفية والتصريع" و" الرجز والقصيد " . يقول عن القوادس " ومن الشعر نوع غريب يسمونه القوادسي ، تشبيها بقواديسي السانية ، لارتفاع بعض قوافيه في جهة وانخفاضها في الجهة الاخرى " ج 1 ص 178.
62- للوقوف على هذه الاشكال يمكن تصفح ديواني محمد بنيس: مواسم الشرق، وفي اتجاه صوتك العمودي . وديواني أحمد بلبدوي : سبحانك يا بلدي، و حدثنا مسلوخ الفقر وردي .
63- شيزفرينيا الشعر الحداثي .164.163
64- للتوسع في هذا الرأي ينظر إلى مسالة الإيقاع في الشعر الحديث لمحمد العمري.فكر ونقد ع 8 ص 61
65- مسألة الإيقاع في الشعر الحديث . ص61.
66- الشكل البصري في الشعر المغربي الحديث بين التدجريب والتجريد بين فكر ونقد . ع 37 ص 66.
67- الشعر وضغوط التلقي ضمن مجلة فصول مج 15 ج 2 /1996 . ص 155.
68- مسألة الإيقاع في الشعر الحديث ص 66.
69- أتناء دردشة مع الشاعر والناقد التونسي منصف الوهابي، وبعد الاستماع إلى أمسيات شعرية وندوات نقدية بمناسبة المهرجان العربي للشعر المنظم في المغرب في ماي2003 طرحت عليه السؤال التالي: ألا ترى أن الشعر العربي بدأ شفويا ثم مر بمرحلة التدوين وهاهو يعود إلى الشفوية من جديد أو هو محتاج إلى ذلك لإدراك النقص على مستوى الشعرية؟ فكان رده هو نفي أن يكون الشعر العربي قد مر من مرحلة الشفوية لأن الكتابة لا تعني عنده- بالضرورة -الرسم أو الخط، بل تتجاوز ذلك إلى البرمجة الذهنية . بمعنى أن الشاعر كان يكتب القصيدة في ذهنه ويبرمجها ترتيبا وتنظيما قبل إذاعتها في الناس .