أعتقد أن جيلي ـ وقد تجاوزت الستين ـ واحد من آخر أجيال الحواديت، التي شكلت وجداننا أطفالًا، ونحن نلح على سماعها من أمهاتنا وجداتنا قبيل النوم. ثم ونحن نستعيدها بطريقتنا في الحكي مع أقراننا من الأطفال، تحت ضوء القمر في ليل القرى، قبل وصول الكهرباء التي قلبت حياة الريف رأسا على عقب، وأخذت معها فيما أخذت الحواديت، وأخذت الحواديت معها فيما أخذت شخوصها الرائعة التي سحرتنا محلقة بنا فوق بساط الريح: ست الحسن والجمال والشاطر حسن وقصر الملك والوزير والجان والعفاريت والغيلان الطيبة والشريرة ونص نصيص وشراشيب العنب والبقرة الصفراء وأبو نيّة واحدة وأبو نيّتين والحمامة الخضراء والعنزة والذئب وأم المحمي ومنيقص وأخته فاطمة وحرامي العدس.. وغيرهم الكثير من أبطال الحواديت الذين تماهينا معهم وهم يجسّدون أحلامنا وأمانينا ضد الفقر والظلم والشر والضعف والهوان، فالشاطر حسن رغم فقره وقلة حيلته لا بد أن يتزوج ست الحسن والجمال في النهاية رغم كل معوقات الأشرار. وأبو نيّة واحدة ينتصر على أبو نيّتين. والملك يتزوج شراشيب العنب ليحميها من كيد الغولة. وترعى الماعز الحلوب ابن الصياد المختطف في الغابة حتى ينمو ويقتص من خاطفيه. أو عندما تتحقق نبوءة الطائر الغريب الذي يصدح على أشجار جنينة القصر "بنت الملك لابن الصياد" فتنتهي الحدوتة بزواج ابن الصياد الفقير من بنت ملك البلاد. تغذّي الحواديت أحلامنا الكبيرة لنكون أبطالا وفرسان جديرين بروح الجماعة الشعبية وتطلعاتها التي لا تنتصر للشر أبدًا، فينتصر من بين ظهرانينا الفلّاح والحطّاب والراعي والخباز والصياد، وكافة صنوف البشر من الفقراء في الجماعة الشعبية بالحيلة والذكاء وقوى الخير في الطبيعة.
ما زال صوت أمي رحمها الله رغم مرور عشرات السنوات يرن في مسمعي: (صلُّوا ع النبي) أو (وحِّدوا الله) أو (زيدوا النبي صلاة).. قبل أن تشرع في الحكي، تندمج مع الحدوتة، وتجسّد أحداثها، وتضخم صوتها بصوت الغول فتهتز أفئدتنا بالخوف من هذا الكائن الأسطوري: "لولا سلامك سبق كلامك.. لأكلت لحمك قبل عظامك". أو عندما تلوي عنق الكلمات بصوتها الحنون لتبدو مسجوعة كأنها تلقي قصيدة شعر: (يجعل حَمَارِي في خدّيكي.. وطولي في شعريكي". أو كما تقول في حدوتة حرامي العدس "يا عدس يا معدَّس.. ياللّي فيك المخلاب مقدَّس". أو عندما تنادي العنزة سخلاتها: "ماء.. ماء.. سخلاتي يا سخلاتي.. ماء.. ماء.. افتحوا بويباتي". فتظل هذه العبارات المسجوعة ملتصقة بأذهاننا بوقعها الصوتي المنتظم ولحنها الموسيقي المحبب. نندمج ونعيش الحدث ونتمنى ألّا تنتهي الحدوتة، لكنها حتما تنتهي كما أملنا من أبطالها وهي تقول: "توته توته.. خلصت الحدوته". يعقبها السؤال التقليدي: "حلوة ولاَّ ملتوته؟". فنرد عليها: (حلوة) إذا أعجبتنا، أو (ملتوتة) إذا كانت غير ذلك. أو أن تنتهي الحدوتة بعبارة: (عاشوا في تبات ونبات.. وخلفوا صبيان وبنات) أو عبارة: (كنت هناك وجيت.. حتى العشا ما تعشيت).. كأنها عادت توا من هناك .. من زمن ومكان الحدوته.
نخرج للعب مع أقراننا في المساء فنستعيد حواديت الأمهات، ننتهي من اللعب الجماعي، وتهمد أجسامنا الصغيرة تعباً، نتحلق في ساحة أو علي مصطبة بجوار جدار لنختتم الليل بحكي "الحواديت". ولأن قريتي جزيرة مطاوع تضم خليطاً من الفلاَّحين والبدو الذين استقرُّوا واحترفوا الزراعة مع الرعي، فإن حلقات الحواديت كانت تضم أطفال الجميع، يقول الفلاَّحون عنها "الحواديت" ويقول البدو عنها "الخراريف"، وباللهجة البدوية كان الطفل البدوي يقول: "قول لي خرِّيفه.. خَرِّفني"..
لم تكن "الحدوتة" تختلف عن "الخريفة" في البناء أو السمات العامة التي تميزها أو حتى الحدث الرئيسي، بل إنها كانت تتشابه وتتطابق إلي حـد بعـيد، إلاَّ من بعض التفاصيل الصغيرة، التي لا بـد أن البيئة الزراعية أو الصحراوية قد تركتْ بصمتها عليها:
"ست الحُسن والجمال" في "الحدوتة" هي "لولجة" في "الخريفة"، وقد تكون هي "سندريلا" أو "سنوهوايت" في الأدب العالمي.. إنها البنت رائعة الجمال التي يعشقها الشاطر حســــــن، ونعشقها معه نحن الأطفال.
الثور في "الحدوتة" يقابله الجمل في "الخريفة". الجان الذي يتحول إلي "قـط" ليخطف الزوجة في "الحدوتة" هو نفسه الذي تحول لـ "حرذون" ليؤدي نفس الغرض في "الخريفة".. وهكذا تتبادل كائنات كل بيئة حسب مكانها لتؤدي نفس الدور تقريباً.
وهذا ما يؤكده دارسو الحواديت من أنها ـ جميعها ـ خرجت من أصول إنسانية واحـدة، رغم تعددها وتنوعها بين كافة الجماعات والشعوب.. حيث يقال عنها في الخارج أنها "مربية بلا أجر". فالطفل مع "الحدوته" يتوحّد مع شخوصها، ويجنح بخياله مع أحداثها المثيرة، ويرتبط مع أبطالها ارتباطًا يصل لحد الشغف والتوحّد، فيحزن عندما تعوقهم العوائق، ويهلل فرحًا عند نجاحهم في تخطِّي الصعاب، وينتظر في النهاية مكافأة البطل بانتصاره، وانتصار الخير علي الشر. ومن الحواديت يتعلم الطفل مبادئ القيم والسلوكيات الحميدة التي يتفق عليها أفراد المجتمع، ومع نموه البدني والعقلي تصير هذه القيم جزءًا من وجدانه.
ومن خلال هذه الحكايات ـ أيضا ـ يستطيع الدارسون معرفة مدى نمو الطفل الانفعالي والإدراكي والعقـلي. ما حدث مع الحواديت هنا ـ مع التطور التكنولوجي ـ حدث في كافة أرجاء العالم، لكنهم في أمريكا ـ مثلا ـ قاموا بجمع الحواديت، وتسجيلها بطريقة جاذبة ومشوقة على وسائط حديثة، يستطيع الطفل اختيار الحدوتة التي يفضل سماعها قبيل النوم.
في بداية تعييني معلما في الثمانينيات بمدرسة زراعية مشتركة، طلبت من تلاميذي أن يدوّن كل منهم حدوته يتذكرها من طفولته، كانت المحصلة قليلة مما يدل على أفول زمنها وتراجع مكانتها وهي في طريقها للاندثار. أعتقد أن هناك بعض المؤسسات الحكومية التي كلفت بعض باحثيها بجمع الحواديت قبل اختفائها كمشروع مؤسسي. لا شك أن الحدوته إبداع إنساني عام بامتياز من خيال الشعوب، تعتمد على فكرة البطل الشعبي القادر على تحقيق الأحلام وهو يبذل الجهد ويصنع الخوارق ويقهر الصعاب، فيظل الضوء مسلطا على هذا البطل الشاطر.
وقد توقفت بدهشة أمام القريحة الشعبية وهي تلصق بهذا البطل أحيانا عيبا خلقيا كصفة لتلفت له الانتباه كما في حدوتة(منيقص وأخته فاطمة)، أو أن يكون اسم البطل: نص نصيص، عقلة الإصبع، أقرعون، السلطان الأعور، الجدي الأقرع.. ألخ، فالحس الشعبي يعتقد أن (كل ذي عاهة جبَّار)، وهذا النقص الذي يمثل صعوبةً في مواجهة الحياة، قد يكون هو المحرك الأساسي للبطولة، ويضفي مزيدًا من التشويق عليها. كما تمتاز الحواديت بالمرونة فهي قابلة للحذف والإضافة حسب ظروف البيئة، وقد حاول ذلك بعض كتاب الأطفال للاستفادة من هذا الكنز، فإنه عندما تُعاد رواية حواديت الأطفال، فإن من حق الكاتب أن يفعل ما فعل الراوي الشعبي من قبل، وذلك بأن يراعي الاعتبارات التربوية، واهتمامات الأطفال وبيئتهم وقدراتهم علي الفهم، ومن مقتضى هذا أيضًا أن الحدوتة الواحدة يمكن أن تُحكي في صياغات مختلفة بما يناسب استعـداد الأفراد من مختلف المراحل العـمريةلتقبلها، والاستفادة منها في تكوين شخصياتهم، وممارسة حياتهم اليومية..
هناك حدوته مصرية اسمها "منيقص وأخته فاطمة" يوجد لها مقابل في الغرب بعنوان "السيدة العجوز وخنزيرها"..وهي حكاية من الحكايات التي تعتمد علي السرد التكراري التراكمي. وخلاصة الحدوته الغربية: أن خنزير السيدة يرفض القفز من فوق سياج الحظيرة، فتذهب السيدة للكلب وتطلب منه أن يعض الخنزير لكي يقفز السور، لكن الكلب يرفض.. وترفض العصا أن تضرب الكلب.. وترفض النار أن تحرق العصا..ويرفض الماء أن يطفئ النار.. ألخ وبعد سلسلة من الرفض المتكرر، تعود الحدوتة للتراجع حتى يقفز الخنزير السور.
وفي الحدوتة المصرية يرفض "منيقص" ـ وهو طفل يرعى الغنم ـ العودة بالأغنام للدار، فتذهب أخته فاطمة للذئب تطلب منه أن يأكله، فيرفض الذئب.. وترفض كلاب البدو أن تهاجم الذئب.. وترفض النار أن تحرق خيام البدو.. ويرفض الماء أن يطفئ النار.. وبعد سلسلة الرفض تتراجع الحدوته نحو البداية، فيجبر "منيقص" على جمع الأغنام والعودة بها مع أخته فاطمة.
نفس المرونة نجدها في حدوتة (الحرذون) ، وهي حدوته قرأتها في كتاب (قصص شعبية) للباحث "صالح زديانة"، وخلاصتها أن امرأة شابة تزوجت حديثًا، وكان لها خيمة خاصة تتخذها كمطبخ، وأنها كانت كلما دخلتها وجدتْ حرذوناً في ركن الخيمة ينظر إليها باستمرار، وشَكتْ المرأة لزوجها من هذا الحرذُون، وأبدت مخاوفها تجاهه، فاستخف زوجها بكلامها، ثم طاوعها ودخل الخيمة، ونظر إلي الحرذون ساخرًا وقال: "إذن خذها يا حرذون".
فاختفت المرأة والحرذون في الحال..
وعرف الرجل أن الحرذون ليس إلاَّ جنيًا، وأخذ الرجل يندب حظه ويبكي، حتى أرشده أهله وأصدقاؤه إلي ساحر كبير، فذهب إليه وأخبره بالقصَّة، وجاء الساحر إلي الخيمة وأطلق بخوره وقال تعاويذه، وطلب من (الحرذون/ الجان) إرجاع المرأة لزوجها، فرفض الأخير مدعياً أن الزوج هو الذي قال له خذْها..، ومع عنــاد الجني استدعى الســاحر مــلك الجن وحكى له الحكاية، ومع إمعان الحرذون/الجان في عناده، أمر ملك الجن بإعدامه شنقاً، وعندئذ صفق الساحر فظهرت المرأة في الحال، وشُوهد الحرذون مشنوقاً بزاوية الخيمة.
نفس الحكاية يرددها أهل الشرقية.. الجني يتخفّى في صورة قـط، والزوجة الشابة الجميلة لا تقيم في خيمة بالصحراء، ولكن في دار ريفية مع زوجها الفلاَّح، ويقع الزوج في نفس الخطأ، عندما يلاحظ نظرات القـط المسلّطة علي زوجته، فيقــول لـه باستخفاف: "خُـذها إن كانت عاجباك"، فتختفي المرأة في الحال مع القط.. ، ولا تعود أيضاً إلاَّ بعـد تدخل الرجل الذي يقدرعلي تحضير الجان والتعامل معه..
يتضح هنا أيضاً الفارق البيئي، وتأثيره علي اختيار الشخوص بين البيئتين الزراعية والصحراوية، فالقـط عند أهل الشرقية كان معبودًا مقدسًا في العصر الفرعوني، بل وأقاموا له المعابد والتماثيل الخاصة به (الإله باستيت: القطة الفرعونية المقدسة للدولة الوسطى ـ معبود شرق الدلتا بوبسطة)، وما زالت أثار المعبد القديم باقية علي مشارف الزقازيق عاصمة الشرقية (تل بسطة)، والمدافن التي تضم مومياوات القطط كانت منتشرة بمصر، وربما كانت الحكاية نوعًا من التأكيد علي القدرات الخارقة لهذا الحيوان، الباقية في أذهان العامة من العصور القديمة، وما يؤكد ذلك أن هذه الحيوانات ما زالتْ تتمتع بكثير من مزايا الإله المقدس القديم: كالإيواء والحماية والإطعام وعدم الإيذاء (خاصة بالليل عندما تلمع عيونها في الظلام)، كذلك ما يردده العامة فيما يشبه اليقين أن (للقطط سبعة أرواح)، ولأن القطط لا تعيش في الصحراء، فإن الحرذون الصحراوي يحل مكانهافي أداء نفس المهام.
هذا يؤكد الاعتــقاد بأن القصة خرجتْ أولاً من الريف الفرعوني متجهة فيما بعـــــد للصحاري المحيطة. ومن الطريف أن نشير أن الصديق الروائي الراحل يوسف أبو ريّة استلهم هذه الحدوتة في صنع رواية من إبداعه.
وفي حدوتة (العــنزة والذئب) المصريَّة نجد أنها نفس الحدوتةفي منطقة الشام، بل هي نفسها الموجودة في مناطق أخرى من الوطن العربي، فأبناء العنزة: "حسكة" و"بسكة" و "ست الغزالات" و"الجدي الأقرع" في مصر، هم نفس الأبناء في الشام لكن بأسماء أخرى: "سعسع" و "حمحم" و "معمع" و "حماحم".. لاحظ غرابة الأسماء وأوزانها في المكانين، كذلك فإن "الذئب" في الأولى يقابله "الغول" في الثانية.
وحكاية (شراشيب العنب) هي نفسها حكاية (القرصة) في الشام مع اختلافات ضئيلة في التفاصيل.
أقول صادقًا إننا بحاجة ماسة للنظر لتراثنا الشعبي، نظرة واعية مستنيرة، تضعه في الموضـع اللائق به.. نحن في حاجة ماسة لأرشيف وطني لهذا التراث (قاعدة بيانات موثقة ومرقمة) يمكن الرجوع إليها، ومن ثم حمايته من الاندثار، أو السطو عليه من قبل الآخرين..
تحية للحدوته وآخر أجيال الحواديت.
وأختم بالعبارة التي كانت ترددها أمي في نهاية كل حدوتة:
(وكنت هناك وجيت .. حتى العشا ما تعشيت).
ــــــــــــ
ــــــــــــ
ما زال صوت أمي رحمها الله رغم مرور عشرات السنوات يرن في مسمعي: (صلُّوا ع النبي) أو (وحِّدوا الله) أو (زيدوا النبي صلاة).. قبل أن تشرع في الحكي، تندمج مع الحدوتة، وتجسّد أحداثها، وتضخم صوتها بصوت الغول فتهتز أفئدتنا بالخوف من هذا الكائن الأسطوري: "لولا سلامك سبق كلامك.. لأكلت لحمك قبل عظامك". أو عندما تلوي عنق الكلمات بصوتها الحنون لتبدو مسجوعة كأنها تلقي قصيدة شعر: (يجعل حَمَارِي في خدّيكي.. وطولي في شعريكي". أو كما تقول في حدوتة حرامي العدس "يا عدس يا معدَّس.. ياللّي فيك المخلاب مقدَّس". أو عندما تنادي العنزة سخلاتها: "ماء.. ماء.. سخلاتي يا سخلاتي.. ماء.. ماء.. افتحوا بويباتي". فتظل هذه العبارات المسجوعة ملتصقة بأذهاننا بوقعها الصوتي المنتظم ولحنها الموسيقي المحبب. نندمج ونعيش الحدث ونتمنى ألّا تنتهي الحدوتة، لكنها حتما تنتهي كما أملنا من أبطالها وهي تقول: "توته توته.. خلصت الحدوته". يعقبها السؤال التقليدي: "حلوة ولاَّ ملتوته؟". فنرد عليها: (حلوة) إذا أعجبتنا، أو (ملتوتة) إذا كانت غير ذلك. أو أن تنتهي الحدوتة بعبارة: (عاشوا في تبات ونبات.. وخلفوا صبيان وبنات) أو عبارة: (كنت هناك وجيت.. حتى العشا ما تعشيت).. كأنها عادت توا من هناك .. من زمن ومكان الحدوته.
نخرج للعب مع أقراننا في المساء فنستعيد حواديت الأمهات، ننتهي من اللعب الجماعي، وتهمد أجسامنا الصغيرة تعباً، نتحلق في ساحة أو علي مصطبة بجوار جدار لنختتم الليل بحكي "الحواديت". ولأن قريتي جزيرة مطاوع تضم خليطاً من الفلاَّحين والبدو الذين استقرُّوا واحترفوا الزراعة مع الرعي، فإن حلقات الحواديت كانت تضم أطفال الجميع، يقول الفلاَّحون عنها "الحواديت" ويقول البدو عنها "الخراريف"، وباللهجة البدوية كان الطفل البدوي يقول: "قول لي خرِّيفه.. خَرِّفني"..
لم تكن "الحدوتة" تختلف عن "الخريفة" في البناء أو السمات العامة التي تميزها أو حتى الحدث الرئيسي، بل إنها كانت تتشابه وتتطابق إلي حـد بعـيد، إلاَّ من بعض التفاصيل الصغيرة، التي لا بـد أن البيئة الزراعية أو الصحراوية قد تركتْ بصمتها عليها:
"ست الحُسن والجمال" في "الحدوتة" هي "لولجة" في "الخريفة"، وقد تكون هي "سندريلا" أو "سنوهوايت" في الأدب العالمي.. إنها البنت رائعة الجمال التي يعشقها الشاطر حســــــن، ونعشقها معه نحن الأطفال.
الثور في "الحدوتة" يقابله الجمل في "الخريفة". الجان الذي يتحول إلي "قـط" ليخطف الزوجة في "الحدوتة" هو نفسه الذي تحول لـ "حرذون" ليؤدي نفس الغرض في "الخريفة".. وهكذا تتبادل كائنات كل بيئة حسب مكانها لتؤدي نفس الدور تقريباً.
وهذا ما يؤكده دارسو الحواديت من أنها ـ جميعها ـ خرجت من أصول إنسانية واحـدة، رغم تعددها وتنوعها بين كافة الجماعات والشعوب.. حيث يقال عنها في الخارج أنها "مربية بلا أجر". فالطفل مع "الحدوته" يتوحّد مع شخوصها، ويجنح بخياله مع أحداثها المثيرة، ويرتبط مع أبطالها ارتباطًا يصل لحد الشغف والتوحّد، فيحزن عندما تعوقهم العوائق، ويهلل فرحًا عند نجاحهم في تخطِّي الصعاب، وينتظر في النهاية مكافأة البطل بانتصاره، وانتصار الخير علي الشر. ومن الحواديت يتعلم الطفل مبادئ القيم والسلوكيات الحميدة التي يتفق عليها أفراد المجتمع، ومع نموه البدني والعقلي تصير هذه القيم جزءًا من وجدانه.
ومن خلال هذه الحكايات ـ أيضا ـ يستطيع الدارسون معرفة مدى نمو الطفل الانفعالي والإدراكي والعقـلي. ما حدث مع الحواديت هنا ـ مع التطور التكنولوجي ـ حدث في كافة أرجاء العالم، لكنهم في أمريكا ـ مثلا ـ قاموا بجمع الحواديت، وتسجيلها بطريقة جاذبة ومشوقة على وسائط حديثة، يستطيع الطفل اختيار الحدوتة التي يفضل سماعها قبيل النوم.
في بداية تعييني معلما في الثمانينيات بمدرسة زراعية مشتركة، طلبت من تلاميذي أن يدوّن كل منهم حدوته يتذكرها من طفولته، كانت المحصلة قليلة مما يدل على أفول زمنها وتراجع مكانتها وهي في طريقها للاندثار. أعتقد أن هناك بعض المؤسسات الحكومية التي كلفت بعض باحثيها بجمع الحواديت قبل اختفائها كمشروع مؤسسي. لا شك أن الحدوته إبداع إنساني عام بامتياز من خيال الشعوب، تعتمد على فكرة البطل الشعبي القادر على تحقيق الأحلام وهو يبذل الجهد ويصنع الخوارق ويقهر الصعاب، فيظل الضوء مسلطا على هذا البطل الشاطر.
وقد توقفت بدهشة أمام القريحة الشعبية وهي تلصق بهذا البطل أحيانا عيبا خلقيا كصفة لتلفت له الانتباه كما في حدوتة(منيقص وأخته فاطمة)، أو أن يكون اسم البطل: نص نصيص، عقلة الإصبع، أقرعون، السلطان الأعور، الجدي الأقرع.. ألخ، فالحس الشعبي يعتقد أن (كل ذي عاهة جبَّار)، وهذا النقص الذي يمثل صعوبةً في مواجهة الحياة، قد يكون هو المحرك الأساسي للبطولة، ويضفي مزيدًا من التشويق عليها. كما تمتاز الحواديت بالمرونة فهي قابلة للحذف والإضافة حسب ظروف البيئة، وقد حاول ذلك بعض كتاب الأطفال للاستفادة من هذا الكنز، فإنه عندما تُعاد رواية حواديت الأطفال، فإن من حق الكاتب أن يفعل ما فعل الراوي الشعبي من قبل، وذلك بأن يراعي الاعتبارات التربوية، واهتمامات الأطفال وبيئتهم وقدراتهم علي الفهم، ومن مقتضى هذا أيضًا أن الحدوتة الواحدة يمكن أن تُحكي في صياغات مختلفة بما يناسب استعـداد الأفراد من مختلف المراحل العـمريةلتقبلها، والاستفادة منها في تكوين شخصياتهم، وممارسة حياتهم اليومية..
هناك حدوته مصرية اسمها "منيقص وأخته فاطمة" يوجد لها مقابل في الغرب بعنوان "السيدة العجوز وخنزيرها"..وهي حكاية من الحكايات التي تعتمد علي السرد التكراري التراكمي. وخلاصة الحدوته الغربية: أن خنزير السيدة يرفض القفز من فوق سياج الحظيرة، فتذهب السيدة للكلب وتطلب منه أن يعض الخنزير لكي يقفز السور، لكن الكلب يرفض.. وترفض العصا أن تضرب الكلب.. وترفض النار أن تحرق العصا..ويرفض الماء أن يطفئ النار.. ألخ وبعد سلسلة من الرفض المتكرر، تعود الحدوتة للتراجع حتى يقفز الخنزير السور.
وفي الحدوتة المصرية يرفض "منيقص" ـ وهو طفل يرعى الغنم ـ العودة بالأغنام للدار، فتذهب أخته فاطمة للذئب تطلب منه أن يأكله، فيرفض الذئب.. وترفض كلاب البدو أن تهاجم الذئب.. وترفض النار أن تحرق خيام البدو.. ويرفض الماء أن يطفئ النار.. وبعد سلسلة الرفض تتراجع الحدوته نحو البداية، فيجبر "منيقص" على جمع الأغنام والعودة بها مع أخته فاطمة.
نفس المرونة نجدها في حدوتة (الحرذون) ، وهي حدوته قرأتها في كتاب (قصص شعبية) للباحث "صالح زديانة"، وخلاصتها أن امرأة شابة تزوجت حديثًا، وكان لها خيمة خاصة تتخذها كمطبخ، وأنها كانت كلما دخلتها وجدتْ حرذوناً في ركن الخيمة ينظر إليها باستمرار، وشَكتْ المرأة لزوجها من هذا الحرذُون، وأبدت مخاوفها تجاهه، فاستخف زوجها بكلامها، ثم طاوعها ودخل الخيمة، ونظر إلي الحرذون ساخرًا وقال: "إذن خذها يا حرذون".
فاختفت المرأة والحرذون في الحال..
وعرف الرجل أن الحرذون ليس إلاَّ جنيًا، وأخذ الرجل يندب حظه ويبكي، حتى أرشده أهله وأصدقاؤه إلي ساحر كبير، فذهب إليه وأخبره بالقصَّة، وجاء الساحر إلي الخيمة وأطلق بخوره وقال تعاويذه، وطلب من (الحرذون/ الجان) إرجاع المرأة لزوجها، فرفض الأخير مدعياً أن الزوج هو الذي قال له خذْها..، ومع عنــاد الجني استدعى الســاحر مــلك الجن وحكى له الحكاية، ومع إمعان الحرذون/الجان في عناده، أمر ملك الجن بإعدامه شنقاً، وعندئذ صفق الساحر فظهرت المرأة في الحال، وشُوهد الحرذون مشنوقاً بزاوية الخيمة.
نفس الحكاية يرددها أهل الشرقية.. الجني يتخفّى في صورة قـط، والزوجة الشابة الجميلة لا تقيم في خيمة بالصحراء، ولكن في دار ريفية مع زوجها الفلاَّح، ويقع الزوج في نفس الخطأ، عندما يلاحظ نظرات القـط المسلّطة علي زوجته، فيقــول لـه باستخفاف: "خُـذها إن كانت عاجباك"، فتختفي المرأة في الحال مع القط.. ، ولا تعود أيضاً إلاَّ بعـد تدخل الرجل الذي يقدرعلي تحضير الجان والتعامل معه..
يتضح هنا أيضاً الفارق البيئي، وتأثيره علي اختيار الشخوص بين البيئتين الزراعية والصحراوية، فالقـط عند أهل الشرقية كان معبودًا مقدسًا في العصر الفرعوني، بل وأقاموا له المعابد والتماثيل الخاصة به (الإله باستيت: القطة الفرعونية المقدسة للدولة الوسطى ـ معبود شرق الدلتا بوبسطة)، وما زالت أثار المعبد القديم باقية علي مشارف الزقازيق عاصمة الشرقية (تل بسطة)، والمدافن التي تضم مومياوات القطط كانت منتشرة بمصر، وربما كانت الحكاية نوعًا من التأكيد علي القدرات الخارقة لهذا الحيوان، الباقية في أذهان العامة من العصور القديمة، وما يؤكد ذلك أن هذه الحيوانات ما زالتْ تتمتع بكثير من مزايا الإله المقدس القديم: كالإيواء والحماية والإطعام وعدم الإيذاء (خاصة بالليل عندما تلمع عيونها في الظلام)، كذلك ما يردده العامة فيما يشبه اليقين أن (للقطط سبعة أرواح)، ولأن القطط لا تعيش في الصحراء، فإن الحرذون الصحراوي يحل مكانهافي أداء نفس المهام.
هذا يؤكد الاعتــقاد بأن القصة خرجتْ أولاً من الريف الفرعوني متجهة فيما بعـــــد للصحاري المحيطة. ومن الطريف أن نشير أن الصديق الروائي الراحل يوسف أبو ريّة استلهم هذه الحدوتة في صنع رواية من إبداعه.
وفي حدوتة (العــنزة والذئب) المصريَّة نجد أنها نفس الحدوتةفي منطقة الشام، بل هي نفسها الموجودة في مناطق أخرى من الوطن العربي، فأبناء العنزة: "حسكة" و"بسكة" و "ست الغزالات" و"الجدي الأقرع" في مصر، هم نفس الأبناء في الشام لكن بأسماء أخرى: "سعسع" و "حمحم" و "معمع" و "حماحم".. لاحظ غرابة الأسماء وأوزانها في المكانين، كذلك فإن "الذئب" في الأولى يقابله "الغول" في الثانية.
وحكاية (شراشيب العنب) هي نفسها حكاية (القرصة) في الشام مع اختلافات ضئيلة في التفاصيل.
أقول صادقًا إننا بحاجة ماسة للنظر لتراثنا الشعبي، نظرة واعية مستنيرة، تضعه في الموضـع اللائق به.. نحن في حاجة ماسة لأرشيف وطني لهذا التراث (قاعدة بيانات موثقة ومرقمة) يمكن الرجوع إليها، ومن ثم حمايته من الاندثار، أو السطو عليه من قبل الآخرين..
تحية للحدوته وآخر أجيال الحواديت.
وأختم بالعبارة التي كانت ترددها أمي في نهاية كل حدوتة:
(وكنت هناك وجيت .. حتى العشا ما تعشيت).
ــــــــــــ
ــــــــــــ
محمد عبد الله الهادي
محمد عبد الله الهادي ist bei Facebook. Tritt Facebook bei, um dich mit محمد عبد الله الهادي und anderen Nutzern, die du kennst, zu vernetzen. Facebook gibt Menschen die Möglichkeit, Inhalte zu...
www.facebook.com