د. محمود المهدى - يوميات سجين في عزل "الكرونا"

من بين مرقد الألم، و سطوة الفقد والعدم، لمن اكتوى الفؤاد بفراقهم وانهزم، فانحاز بغيابهم للآحاد والقلة، وقد كان بهم في زمرة الكثرة والجُلَّة؛ على مضض أكتب، ولولا رَجْوَةُ النفع لمن سعى، وتَدَبَّرَ الواقعَ فوعى، ما لاحقْتُ ذهني، وما استفرغتُ جهدي، وما سننت قلما، وما رقمت كلما.
السقوط خلف القضبان !
"تباعدوا لا تضووا؛ فما راءٍ كمن سمعا"!
احذرْ أن تكون نزيل البرد، أويكونك هو؛ فأزعم أني رأس قوم تفردوا بالمبالغة في الاحتراز، والتلبس بالحيطة والحذر، والتعلق بأسباب الأمن والأمان، أنشدها أينما كانت، وأوافيها -فأستوفيها- متى حانت؛ حفاظا على مَن أعول أولا، وعلى نفسي آخرا؛ "فكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول!" ومع كلٍّ فقد تحقق بي ما أُدابر، ووقع لي ما منه أُحاذر؛ والحال أني قد نُسِّيتُ- "وما أنسانيهُ إلا الشيطان أن أذكره"- ما يقطع السبلَ بيني وبين هذا الشيء فجاءني قدر الله من جهة اختلاط على جبرٍ مني، في حذرٍ منكور من غيري، أو سقطةِ بردٍ معهودةٍ في وقت ما قبل" كوفيد" أما اليوم فقد يصبح فيه- إذا ما وني أحدنا- سم الخياط ثُلْمَةً وانفلاقا في غده، بله فوهة بركان تتصاعد حدتها ساعة إثر ساعة، ولا أقول يوما بعد يومٍ؛ فالفيروس" يجوس خلال السديم، يقطع العالَم من أقصاه إلى أقصاه، منذ أطلقه مُخَلِّقُوه من عقاله في الفضاء بسرعات ضوئية، كالمجرة تركض في الفراغ المطلق- وقد اسْتَضَدُّوا له لقاحا يختصون به؛ يظنونه -أبدا- عاصما لهم - ! وما فتئ متربصا بالبشرية جمعاء، حتى إذا ما كان البرد نزيل أحدنا، أو أطرقنا اختلاط في غير حذر- مع اعتبار الأسباب الأُخَرَ- استنطح "الكرونا" فكان منه انطلاق التيار الكهربائي عبر الأثير، وخروج الدجال مستوسما صدر من يكافحه؛ ولا مناص من وسمه، واهتجام الثور الجامح في حلبة الأسبان؛ فإذا به يهتك سترَ حياضنا فيُشَرَّعَ له الجسمُ قاعاتٍ سافرةً، وإضافته بأريحية الآدبِ المضياف في غير ما أَبْهَمَةٍ أو استغلاق، وساعتها إن أصابتك رحمة الله، وردَّت عليك عافيتك، فلن يفوتك ضنى الآلام، ومدية الأوجاع التي يلين منها العظم، ويذوب لها اللحم والشحم، وبيننا من لا يتجشم آلام الجسم كالمرضى وكبار السن، ومن تتحمله أجسامهم، ولا تطيقه جيوبهم، ولن يسلم منه بشر غفا حذره لحظةً، ولا أقولها مثبطا محبطا، بل ناصحا محذرا؛ " فما راءٍ كمن سمعا" فقد أصبح ما نحتاز من أدوية بدارنا، في طور الاستهلاك الحتمي المتنامي، أكثرَ مما ندخر من قوتٍ ؛حتى تطيشَ بها أقدامُ العواتقِ ذهوبا وإيابا، كما تتقاذف صُبْرَةُ الأقماح على سوقِ الأطيار وقت الحصاد؛ فبدا البيتُ على اتساعه" معرضا للأدوية" يحسبه الزائر- وقد ضل مقصده- صيدليةً تتعاطى مع المرضى ومن يكفلونهم، لولا أنه قلب بناية شاهقةٍ، أما الآلام فقد ضاق بها بيتنا قبل صدورنا؛ حتى صدَّرها التأوه للجار الجنب، وسرَّبها إلى آذان الغادي والرائح، فتلطخت بها حوائط الطرقة البينية وممشاها؛ ليصيبَ هواءها عُضالُ التلوث؛ فجعل معترجه السماء مستشفعا بمن يكشف الضر.
أما مَن مضى في غياهب السفه والجهل، ضاربا بأسباب الحيطة والحذر عُرض الحائط، وقد خلُص له النصحُ من مصادر شتى، ما غابت عن أكمه أو أصم في حاضرة أو بادية؛ فذلكم قد صار التكبير عليه أربعا، من أوجب الواجبات الشرعية، فليس من قوم لا يُعْمِلون عقولهم فيما صدحَ عن خبرة غيرهم، ولا يخرجون منها بوعظةِ السعيد بغيره، إلا أُحيط بهم، وكانوا إرداءً للحمقِ والنزقِ، ومن ثَم أمسوا طُعمةً سائغةً للجائحة فالهلكة ! وإني- محبةً- أدعو بقول القائل:
يا ابن الكرام ألا تدنو فتبصر ما
قد حدثوك فما راء كمن سمعا؟
وأتمثل بظاهر المأثور: "تباعدوا لا تضووا" !
فقد حصد "الفيروس".أعزاء علينا،
رحم الله من قضى، ووقانا السوء وأسبابه.



تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
حضور الجائحات والأوبئة والأمراض في الاداب والفنون
المشاهدات
678
آخر تحديث
أعلى