عوض إبراهيم بلال - التقاه… التقى به.. التقى معه… التقيا

أخي الدكتور محمد خليفة صديق
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
وبعد
لقد وصلني ما أرسلته لي في الواتساب من مقال لأستاذي الدكتور عثمان أبو زيد حول ماض كدت أنساه, وذلك أذكر أنني كنت أعمل مصححاً في صحيفة الدرب الإسلامي, وذلك في بداية الألفية الثانية (الألفينات), وفي حوار لك أجريته مع أستاذي الدكتور عثمان أبو زيد عثمان, وردت كلمة (التقينا الدكتور عثمان…) فأنكر عليك الدكتور هذه الكلمة واعتبرها من الأخطاء الشائعة, وقد أبنت أنا أنها ليست خطأً, واستدللت بما أورده الإمام الزمخشري نقلاً عن ابن سيده عن صحة العبارة, وكان أن توقف الدكتور عن تخطئته, ولكن روح البحث لديه لم تهدأ, فواصل وسأل أهل الاختصاص, وإن كان هو لا يقل شأناً عنهم, فهو أستاذي في جامعة القرآن الكريم؛ حيث كانت مادة الإعلام الإسلامي التي كان يدرسها لطلاب الفرقة الأولى بكلية الدعوة والإعلام (1992م) آنذاك, ونحن الدفعة الأولى بالكلية, كانت أحب المواد إليّ لمنهجه الذي غرسه فينا, وهو المنهج الذي يقوم على البحث وعدم الاكتفاء بما يقال في المحاضرة, حيث وفّى الدكتور بما وعد, فكانت مادته أعلى المواد تحصيلاً بالنسبة لي (امتياز), ومن هنا نشأت بيني وبينه علاقة محبة قد لا يكون يعلم بها, لا سيما وأنه لم يكن ما يجمع بيننا سوى قاعة الدرس, وأنت الآن ترسل لي ما توصل إليه الدكتور بأن عاد مرة أخرى إلى تخطئة العبارة, مدعماً رأيه هذه المرة برأي علماء متخصصين في اللغة العربية, هم الدكتور الحبر يوسف نور الدائم والبروفيسور جعفر ميرغني والدكتور عمر أحمد فضل الله الذي جرى بينه وبين الدكتور عثمان أخذ ورد في هذه المسألة خلصا في النهاية إلى رجوع الدكتور مرة أخرى لتخطئة هذه الكلمة, وهذه المرة مدعماً رأيه بعدد من الشواهد التي لي معها وقفات بإذن الله تعالى, فالدكتور حبيبنا, والحق أحب إلينا منه كما قال الإمام ابن حجر العسقلاني, بل أعلم جيداً أن الدكتور يحب ذلك, فأقول بحمد الله تعالى إن العبارة (التقيته صحيحة), بل أصح من عبارة (التقي به) التي ليس لها شاهد في اللغة كما سيأتي, وذلك للأدلة الآتية:
أولاً: جاء في القاموس المحيط: لَقِيَهُ كَرَضِيَهُ لِقاءً ولِقاءَةً ولِقايَةً ولِقِيًّا ولِقْياناً ولِقْيانَةً بكسرِهِنَّ ولُقْياناً ولُقِيًّا ولُقْيَةً ولُقًى بضمهنَّ ولَقاءَةً مَفْتوحَةً: رآهُ كَتَلَقَّاهُ والْتَقَاهُ والاسمُ: التِّلْقاءُ بالكسر ولا نَظِيرَ له غيرُ التِّبْيانِ" انظر كيف أن الفيرزوأبادي جعل (التقاه) متعدياً ناصباً للضمير, وقال الزمخشري في أساس البلاغة مادة (لقي): "ولقيته لقاء ولقياً ولقياً ولقياً ولقًى بوزن هدًى ولقياناً ولُقياناً ولاقيته والتقيته. قال:
لما التقيت عميراً في كتيبته ... عاينت كأس المنايا بيننا بددا", وقال ابن سيده في المحكم والمحيط الأعظم مادة (لقي): "وتلقاه، والتقاه، والتقينا، وتلاقينا", وجاء في المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية: مادة (لقي) "ويقال التقى الشيء لقيه (تلاقيا) التقيا".
أما قول الدكتور عن بيت الشعر: لما التقيت عميراً… إنه استخدم كلمة (التقى) ضرورة, فما هي الضرورة التي ألجأت الشاعر إلى الاستخدام؟ ثم هل قال بهذا أحد؟ أم هو احتمال افترضه الدكتور؟ ثم متى نحكم بالضرورة؟
أما قوله: "أمّا التقى زيدٌ عمراً فهو مبنى يجافي المنطق اللغوي، بل يجافي الأذن أيضاً، وتفسيره هو النصب بما يُسمّى إسقاط العامل", فآخره يناقض أوله, ذلك أنه تجويز للعبارة بقوله: "وتفسيره هو النصب بما يُسمّى إسقاط العامل", فبما أن الدكتور وجد تفسيراً للعبارة, فلماذا لا يأخذ بالتصحيح؟, أم التفسير نفسه غير صحيح, ألم يجوز العرب نزع الخافض كما في قول الشاعر: تمرون الديار ولم تعوجوا *** كلامكم عليّ إذن حرام, وهو من شواهد ألفية ابن مالك؟, أبعد هذا يقول إن هذه العبارة تجافي المنطق اللغوي وتجافي الأذن أيضاً؟ أليس المنطق اللغوي هو التفسير بنزع الخافض؟ أما مجافاة الأذن فذاك شيء معنوي لا قياس له, فما تسمعه الأذن خاضع لذوق السامع.
وأزيد الدكتور بيتاً من الشعر: يقول مصطفى جواد علي في كتابه (قل ولا تقل): "قل: سألتقي أنا وفلان, ونلتقي نحن والقادمون, والتقيناهما وأصحابهما, ولا تقل: سألتقي فلاناً, وسألتقي إياه, وما أشبه ذلك, وقل: نلتقي نحن وأنتم, ولا تقل: نتلقي وإياكم, وذلك لأن الفعل "التقى" يأتي تارة للفردية, وتارة للاشتراك, فالفردية تكون في نحو قولنا: "التقيت فلاناً في المجلس, والتقيت الشيء في الطريق؛ أي لقيتهما, قال الشاعر –وأورد بيت الشاعر السابق- ثم قال, وإذا جاء الفعل "التقى" للاشتراك فهو بمعنى تفاعل المشترك… وإذا كان الفعل مشتركاً, في مثل: "سألتقي أنا وفلان" و"نلتقي نحن والقادمون" فالعطف واجب, كما ذكرت آنفاً, ولا يجوز أبداً أن يكون المعطوف مفعولاً معه, وذلك لا يصح أن يقال: "سألتقي وفلاناً ونلتقي وإياكم" و"هذا يتفق والأصول" و"هذا يتناسب والتعاليم" و"هذا يتعارض والقانون" فالصواب: "سألتقي أنا وفلان, ونلتقي نحن وأنتم" و"هذا يتفق هو والأصول برفع المعطوف, أو جعله ضمير رفع إن لم يكن اسماً ظاهراً, أما قولهم: "نلتقي بكم" فهو تعبير مولد جائز, لم يعرفه الفصحاء, والياء نابت عن كلمة "مع" والأصل" نلتقي معكم, وكلمة "مع" نابت عن الواو العاطفة, وذلك مثل اجتمع فلان وفلان ثم قيل: "اجتمع فلان مع فلان" ثم قيل: "اجتمع فلان بفلان" اهـ (ص303-305 طبعة مكتبة جزيرة الورد: ط1, 2011هـ).
وإليك أيضاً قول محمد العدناني في كتابه معجم الأخطاء الشائعة: "لقيه ولاقاه والتقاه وتلقاه: ويقولون التقي به, والصواب: لقيه ولاقاه والتقاه وتلقاه وكلها تتعدى بنفسها, فلا تحتاج إلى الباء…" ص230 مادة (لقي).
وبهذا أخذ كثير من الذين كتبوا في الأخطاء الشائعة منهم أميل يعقوب في كتابه (المعجم المفصل في دقائق العربية), اعتمد فيه على قرارات مجمع اللغة العربية فقال: لا تقل: التقى به, بل قل: "التقاه" أو "لقيه" أو "لاقاه" لأن الفعل "التقى" يتعدى بنفسه لا بالباء" ص71, طبعة مكتبة عباس أحمد الباز, مكة المكرمة, ط1, 2004م- 1423هـ, وبالقول نفسه أخذ د. علي جاسم في كتابه "موسوعة الأخطاء اللغوية الشائعة" ص111.
ومن باب الأمانة العلمية فهناك من خطأ هذا الأسلوب, أخص منهم بالذكر صاحب كتاب "أحاديث في الأخطاء الشائعة" الدكتور عبد العزيز مطر قال: "ولما رجعت إلى المعجم وجدت أن الفعل التقاه المتعدي لا يُؤدي معنى المشاركة إنما معناه: رآه, قال صاحب القاموس: "ولَقاءَةً مَفْتوحَةً: رآهُ كَتَلَقَّاهُ والْتَقَاه" فلعلّ الدكتور مطر لم يدقّق في ما نقله, ذلك أن صاحب القاموس قال: "لَقِيَهُ كَرَضِيَهُ لِقاءً ولِقاءَةً ولِقايَةً ولِقِيًّا ولِقْياناً ولِقْيانَةً بكسرِهِنَّ ولُقْياناً ولُقِيًّا ولُقْيَةً ولُقًى بضمهنَّ ولَقاءَةً مَفْتوحَة: رآهُ كَتَلَقَّاهُ والْتَقَاه", حيث جعل معنى "لقيه" رآه, وكذلك "التقاه" فما صار لمعنى "لقي" نفسه ما صار لمعنى "التقى" فهل يعني أن الفعل "لقي" بمعنى رأى لا بمعنى قابله الذي يفيد المشاركة؟ ثم إذا كان المعنى: رآه, فما الذي يمنع استخدام "التقى", أليس هناك من يجيز أن يشرب الفعل معنى فعل آخر كما في قوله تعالى "عيناً يشرب بها عباد الله" أي يشرب منها, كما أليس من لوازم الرؤية اللقاء؟
وأختم قولي هذا بأن الخلاف اللغوي شبيه بالخلاف الفقهي, فمن العسير جداً أن يخطئ بعضنا بعضاً إلا فيما كان متيقناً وليس له وجه من الصحة, فطالما أن عبارة "التقى فلاناً" لها وجه من الصحة, وأن هناك من قال بهذا القول من العلماء القدماء أمثال الفيرزوآبادي, والزمخشري, وابن سيده, ومن المعاصرين من ذكرنا ومن لم نذكر, فأرى أن العبارتين صحيحتان فلا حرج أن تقول: التقيته والتقيت به والتقينا.
والله أعلم

أخوك عوض إبراهيم بلال
مصحح سابق بصحفة الدرب الإسلامي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى