ربما جاء العنوان صادما للبعض خصوصا ممن يعشقون أدب نجيب محفوظ مثلىً،والذى وصل بالأدب العربى الحديث إلى العالمية بحصوله على جائزة نوبل فى الاداب عام 1988م،التى هى أم الجوائز و حلم جميع المبدعين فى أربعة أركن الدنيا،هى الأضواء والشهرة والترجمة والثروة والإنتشار والجدل المتواصل الذى لا يهدأ حتى إعلان اسم فائز جديد فى نفس الموعد من كل عام. هى الجائزة المرغوبة والمنتظرة دائما..الملعونة والمشبوهة والخاضعة للأهواء والمنصفة ..أحيانا (جمال لمراغى،أخبارالأدب ونوبل،2017م).
وفى الحقيقة أن نجيب محفوظ قد نال تقدير القراء قبل أن ينال تقدير النقاد والدارسين!؛أى أن أول من اكتشف محفوظ هم قراؤه الذين أحبوه،وتعلقوا بما فيه من صدق وعمق وأصالة فنية عالية قبل حصوله على جائزة نوبل.فمنذ سنة 1932م بدأ الكتابة وعاش من أجل أدبه كما يعيش القديس من أجل رسالته،إنه مثل تشارلز ديكنز بالنسبة إلى الإنجليز،وتولستوى بالنسبة إلى الروس،وبلزاك بالنسبة إلى الفرنسيين.فنحن لا نعرف تاريخ إنجلترا فى القرن التاسع عشر دون مراجعة روايات ديكنز وتاريخ فرنسا جون استشارة روايات بلزاك،وتاريخ روسيا دون تفهم روايات تولستوى،ولا تستطيع أن تعرف مصر دون الرجوع إلى روايات نجيب محفوظ.
ويخطىء من يعتقد أن الهدف من المقال إلصاق تهمة التطبيع بأديب وروائى بحجم وقيمة نجيب محفوظ فى زمن تتهافت الدول العربية الكبرى و تتباهى فيه بالتطبيع مع العدو الإسرائيلى! ولست أشبه"بلعام" الذى تٌروى قصته فى سفر العدد من الإنجيل فى الإصحاح الثالث والعشرين.الذى دُفع للعنة العدو ولكن الرب لم يُنطقه إلا بطلب البركة لهم!!
ولكنها محاول لإستنباط ملمح من ملامح شخصية الرجل(السلمية) الذى عاش رافضا كتابة سيرته الذاتية- تلك السلمية التى جعلت البعض يستنبط ملامح شخصية كمال عبد الجواد الشاعرية الخيالية فى الثلاثية ويطابقها على شخصية نجيب محفوظ !- والتىحاولت دراسات متعددة الاقتراب من حياته الشخصية،فكان لها ما تريد على مستوى محاور الفكر والسياسة والمسيرة الوظيفية والعلاقات الاجتماعية نذكر منها:
كتاب جمال الغيطانى بعنوان"نجيب محفوظ..يتذكر" التى ربما أغنت نجيب محفوظ عن التفكير فى كتابة سيرته الذاتية!وينشر محمود فوزى كتابه تحت عنوان مثير خاطف للبصر"اعترافات نجيب محفوظ"ولكن تقليب صفحات الكتاب ينفى عنه طابع الاعترافات تماما،حين يقول عن نجيب محفوظ إنه اعتاد إلا يسمح لأحد بأن يخوض فى حياته الخاصة،فهى منطقة محرمة،فلا يجوز لأى أحد أن يتجاوز هذا الحرم المقدس لحياته الشخصية.ثم يأتى كتاب رجاء النقاش وفى صدارته يُعبر نجيب محفوظ عن حياته قبل الزواج –تأخر زواجه إلى الثالثة والأربعين من عمره- وأريد أن أغض الطرف عن ما جاء فيه لبعده عن موضوع المقال،وأرى أنه ربما كان نجيب محفوظ يريد أن ننشغل عن حياته بكتاباته (16 مجموعة قصصية،33 رواية فى 60 عاما) وقد تحقق له ما اراد فصار "ملأ الدنيا وشغل الناس" كالمتنبى وشكسبير(محمد حسن عبدالله،جماليات الحضور الفرعونى فى روايات نجيب محفوظ،2020م).
ولست هنا بصدد التوغل كثيرا فى التحليل النقدى الفنى لأدب نجيب محفوظ،التى تناولتها أيضا العديد من الدراسات،وأصبحت فيها مراحل حياته الأدبية معروفه للجميع بداية من إنتاجه الأول المرتبط بتاريخ مصر الفرعونية باعتبارها أصل القومية المصرية،كأنما ينوى أن يكتب التاريخ الفرعونى كله قصصا كما فعل فى رادوبيس وكفاح طيبة والعائش فى الحقيقة، ثم خطاه السرديه نحو الأفكار الإجتماعية والذى كان مبعثه الشعور بالاضطهاد الاقتصادى والسياسى كما نرى فى(القاهرة الجديدة- خان الخليلى-زقاق المدق-بداية ونهاية) ومرور بالثلاثية التى تسبق المرحلة السابقة تاريخيا(عبدالوهاب الأسوانى ،نجيب محفوظ،مجلة الدوحة،العدد6،1976).
وبالرغم من ان نجيب محفوظ يُمثل نوذجا للموظف المصرى المنسحق تحت وطأة البيروقراطية،وبالرغم من حرصه على تجنب الإصطدام بالسلطة،فإن كثيرا من قصصه ورواياته تشتمل على نقد للاحتلال والفساد والمحسوبية والإنتهازية ،مما جعله يتعرض لبعض المصاعب مثلما هو الشأن بالنسبة لرواية "أولاد حارتنا" و"ثرثرة فوق النيل"التى أثارت غضب المارشال عبدالحكيم عامر.
لكن نجيب محفوظ له موهبة التكيف مع مختلف الأنظمة؛فهو منذ العهد الملكى وحتى رحيله لم يُحاكم ولم يُسجن!! بل كثيرا ما كان موضع حفاوة وتقدير من جانب الدولة.وبفضل هذه المرونة استطعنا أن نفوز بروايات وقصص تضىء بعض الأعماق،فى حين أن سيئات الدولة ومظاهر جبروتها آلت إلى الزوال،أو بالأحرى تؤول دوما إلى زوال(محمد برادة،مجلة الناقد،العدد18،بيروت1989م)
ونعود إلى مبحث موضوع المقال بحديث نجيب محفوظ إلى ألفريد فرج وإقراره بأنه لا فكر خارج الحياة.."لا فكر خارج الزمان والمكان"..."أصول كل المسائل النفسية والفكرية ضاربة فى الحياة العادية واليومية"..."أنا أعيش أفكارى فى نفس الوقت الذى أعايش فيه الناس،ولا أكتبها ،وإنما أكتب عن الناس"(ألفريد فرج،نجيب محفوظ يتحدث،مجلة الناقد،العدد7،1989م).
ويظهر لنا هذا الجانب من شخصية نجيب محفوظ كمفكرا عمليا ،دارسا للفلسفة،باحثا عن الحقيقة دائما وبشكل عملى وإن كان يمتلك خيال الأديب ،فكل النقاد لاحظوا هذا الجانب العملى فى تنظيم مادة البناء السردى لكل أعماله.فالبناء الفنى المحكم لرواياته هو فكر بالأساس،وهو شكل من أشكال الرياضيات الذهنية أيضا،وليس أبدا مجرد انسياق مع عفوية الموهبة.
وفى خطابه التى ألقته أبنته نيابة عنه فى استوكهولوم،جعل انتفاضة الحجارة فى الضفة وغزة فى طليعة القضايا التى تؤرق الضمير العالمى المعاصر...وفى الحقيقة كان يرى أن ما حصل فى فلسطين هو بالنسبة للعرب أجمعين كارثة قومية وكان يشبهها بالكوارث الطبيعية التى توقظ ضمير العالم وتدفع به إلى التضامن والمساندة.فالفلسطينيون أصحاب حق،وهذا ما جعل العالم يقف إلى جانبهم ويطالب بإنصافهم.ولكننى أرى- والكلام على لسان نجيب محفوظ- أنه ليس فى استطاعة العرب وحدهم أن يحلوا مشكلة فلسطين حلا مناسبا،لأن فكرة التحرير المطلق غير واقعية،ولا تأخذ فى الاعتبار مصالح ومواقف كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتى.لذلك فأنا أميل إلى أن أعطى الأسبقية للتساؤل الذى نطرحه حينما نجد أنفسنا أمام كارثة طبيعية،أى: كيف نطوقها ونتجاوزها لتنطلق الحياة من جديد؟والأمثلة فى التاريخ كثيرة،أذكر من بينها ما فعلته ألمانيا الغربية لاستئناف الحياة بعد هتلر.
وأقر نجيب محفوظبأننا كعرب لا يمكننا أن نحارب ميثولوجيا إسرائيل،لأنه قد تكون لدينا أيضا كثير من جوانب الميثولوجيا التى تشير إليها.يقول:ما يهمنى أكثر هو الوصول إلى حل "عملى"،والحرب لمتفد فى الوصول إلى حل،ولذلك لابد منمفاوضات تفضى إلى إقرارالسلام فى المنطقة،هذا رأيى طالما عبرت عنه،بل قد أعلنته قبل أن يزور السادات القدس بخمس سنوات.
أما الانتفاضة،فقد أصبحا حقيقة ملموسة ومعبرة عن مطامح الشعب الفلسطينى العميقة.وقد أوضحت ذلك فى الكلمة التى نشرتها بجريدة الأهرام(26يناير 1989)؛حيث ألححت على ضرورة استثمار هذه الروح الجديدة المتجلية من خلال الانتفاضة وصمود العراق فى وجه ايران،من أجل بلورة فعل عربى جديد يستجيب لتطلعاتنا الحضارية.
وموقف نجيب هذا موقفا ثابتا راسخا أعلنه قبل حديثه للاهرام بسبعة عشر عاما وظل متمسكا به حتى رحيله،فخلال اجتماع عقده الرئيس الراحل القذافى مع مفكرين ومثقفين مصريين سنة 1972م وكان من بينهم هيكل،أن أعرب عن رأى"فاجأ" الجميع حينما قال:".......إذا لم تكن لدينا القدرة على الحرب فلنتفاوض ونصطلح وننهى هذه المسألة التى لا تحتمل بلادنا معها حالة اللاحرب واللاسلم لفترة طويلة."(تامر فايز،نجيب محفوظ ناقدا،القاهرة،2018م)
وقد قام نجيب محفوظ بالتوقيع على البيان الذى وقعه مع توفيق الحكيم وثروت أباظة وعدد من المفكرين والأدباء رفضا لحالة اللاحرب واللاسلم(1972) والذى أغضب السادات جدا،وعلق عليه بما يسىء إلى موقعيه فى أحد هذه الاجتماعات ذكر نجيب محفوظ بالاسم والوصف أيضا!!
ونستطيع بحق أن نعده كاتبا سياسيا أيضا له رأى واضح ومحددتاريخيا،وله موقف متماسك ومستمر اجتماعيا،وله نظرة شاملة فكرية،مهما بدا كل هذا مسربلا-أحيانا-فى حيل الرواية التى لاحصر لها،وفى ثنايا فنها الماكر.ففى الثلاثية عالج القضايا السياسية والوطنية منالحرب العالمية الأولى وثورة 1919م إلى الحرب العالمية الثانية.وفى( السمان والخريف -ثرثرة فوق النيل - ميرامار) عالج قضايا ثورة 23 تموز1952م.وعالج قضايا الحياة والناس فى ظل الحرب العالمية الثانية(خان الخليلى –زقاق المدق) ظهرت لمحات سياسية فى (عبث الأقدار-رادوبيس-كفاح طيبة) وكان محوره الفكرى السياسى فى أغلب رواياته هو محور الحرية.
وعندما هاجمه البعض بأن قضية الصراع العربى- الإسرائيلى لم تنعكس فى أعماله،مع أنها قضية خطيرة ماسة بوجود الإنسان العربى فى كل مكان..جاءت إجابته بأنه يلجأ إلى معالجة قضية الصراع العربى-الإسرائيلى فى مستوى تجريدى كما فعل فى (تحت المطر)،أما المعالجة الواقعية فهى صعبة؛لأننا لانعرف الواقع معرفة تامة.وأضاف نحن كعرب أصحاب قضية وأصحاب هدف،الهدف هو الحضارة لأننا نعيش التخلف،والقضية رمانا بها الاستعمار وسياسة المصالح الدولية بين القوى الكبرى فحدثت مأساة فلسطين،القضية استوعبتنا إلى درجة أنها انستنا الهدف،مع أنه مهما كانت أهمية القضية فالهدف يبقى الأول والأخير؛لأنه الحياة،ووجدت أن قوانا وأموالنا تضيع فى القضية،مثل:العائلة الصعيدية التى يرزقها الله بالأرض والأموال لاستغلالها من أجل الحياة،فإذا بهم من أجل ثأر يتساقطون قتلى،الواحد بعد الآخر،حتى لا يبقى سوى النساء،كل هذا من أجل كرامة العائلة وتقاليد الصعيد،وتبقى الأرض بعد ذلك لا تجد من يزرعها.وفى قصتى(فنجان شاى)نداء ثورى صريح للقتال والنضال المسلح ضد العدو،كما تفصح عن إدانة كاملة للقوة الاستعمارية،لا مكان إلا لنوعين من الإنسان،واحد يقاتل بقلب ملؤه الشر،وآخر يقاتل بقلب ملؤه الخير.ليس ثمة وجود إلا للمقاتل؛لقد فهم العربى ذلك جيدا بعد أن سرق قطاع الطريق وطنه بأكمله.(نزار نجار،مجلة المعرفة،العدد386،1995م).
وفى الحقيقة أن نجيب محفوظ قد نال تقدير القراء قبل أن ينال تقدير النقاد والدارسين!؛أى أن أول من اكتشف محفوظ هم قراؤه الذين أحبوه،وتعلقوا بما فيه من صدق وعمق وأصالة فنية عالية قبل حصوله على جائزة نوبل.فمنذ سنة 1932م بدأ الكتابة وعاش من أجل أدبه كما يعيش القديس من أجل رسالته،إنه مثل تشارلز ديكنز بالنسبة إلى الإنجليز،وتولستوى بالنسبة إلى الروس،وبلزاك بالنسبة إلى الفرنسيين.فنحن لا نعرف تاريخ إنجلترا فى القرن التاسع عشر دون مراجعة روايات ديكنز وتاريخ فرنسا جون استشارة روايات بلزاك،وتاريخ روسيا دون تفهم روايات تولستوى،ولا تستطيع أن تعرف مصر دون الرجوع إلى روايات نجيب محفوظ.
ويخطىء من يعتقد أن الهدف من المقال إلصاق تهمة التطبيع بأديب وروائى بحجم وقيمة نجيب محفوظ فى زمن تتهافت الدول العربية الكبرى و تتباهى فيه بالتطبيع مع العدو الإسرائيلى! ولست أشبه"بلعام" الذى تٌروى قصته فى سفر العدد من الإنجيل فى الإصحاح الثالث والعشرين.الذى دُفع للعنة العدو ولكن الرب لم يُنطقه إلا بطلب البركة لهم!!
ولكنها محاول لإستنباط ملمح من ملامح شخصية الرجل(السلمية) الذى عاش رافضا كتابة سيرته الذاتية- تلك السلمية التى جعلت البعض يستنبط ملامح شخصية كمال عبد الجواد الشاعرية الخيالية فى الثلاثية ويطابقها على شخصية نجيب محفوظ !- والتىحاولت دراسات متعددة الاقتراب من حياته الشخصية،فكان لها ما تريد على مستوى محاور الفكر والسياسة والمسيرة الوظيفية والعلاقات الاجتماعية نذكر منها:
كتاب جمال الغيطانى بعنوان"نجيب محفوظ..يتذكر" التى ربما أغنت نجيب محفوظ عن التفكير فى كتابة سيرته الذاتية!وينشر محمود فوزى كتابه تحت عنوان مثير خاطف للبصر"اعترافات نجيب محفوظ"ولكن تقليب صفحات الكتاب ينفى عنه طابع الاعترافات تماما،حين يقول عن نجيب محفوظ إنه اعتاد إلا يسمح لأحد بأن يخوض فى حياته الخاصة،فهى منطقة محرمة،فلا يجوز لأى أحد أن يتجاوز هذا الحرم المقدس لحياته الشخصية.ثم يأتى كتاب رجاء النقاش وفى صدارته يُعبر نجيب محفوظ عن حياته قبل الزواج –تأخر زواجه إلى الثالثة والأربعين من عمره- وأريد أن أغض الطرف عن ما جاء فيه لبعده عن موضوع المقال،وأرى أنه ربما كان نجيب محفوظ يريد أن ننشغل عن حياته بكتاباته (16 مجموعة قصصية،33 رواية فى 60 عاما) وقد تحقق له ما اراد فصار "ملأ الدنيا وشغل الناس" كالمتنبى وشكسبير(محمد حسن عبدالله،جماليات الحضور الفرعونى فى روايات نجيب محفوظ،2020م).
ولست هنا بصدد التوغل كثيرا فى التحليل النقدى الفنى لأدب نجيب محفوظ،التى تناولتها أيضا العديد من الدراسات،وأصبحت فيها مراحل حياته الأدبية معروفه للجميع بداية من إنتاجه الأول المرتبط بتاريخ مصر الفرعونية باعتبارها أصل القومية المصرية،كأنما ينوى أن يكتب التاريخ الفرعونى كله قصصا كما فعل فى رادوبيس وكفاح طيبة والعائش فى الحقيقة، ثم خطاه السرديه نحو الأفكار الإجتماعية والذى كان مبعثه الشعور بالاضطهاد الاقتصادى والسياسى كما نرى فى(القاهرة الجديدة- خان الخليلى-زقاق المدق-بداية ونهاية) ومرور بالثلاثية التى تسبق المرحلة السابقة تاريخيا(عبدالوهاب الأسوانى ،نجيب محفوظ،مجلة الدوحة،العدد6،1976).
وبالرغم من ان نجيب محفوظ يُمثل نوذجا للموظف المصرى المنسحق تحت وطأة البيروقراطية،وبالرغم من حرصه على تجنب الإصطدام بالسلطة،فإن كثيرا من قصصه ورواياته تشتمل على نقد للاحتلال والفساد والمحسوبية والإنتهازية ،مما جعله يتعرض لبعض المصاعب مثلما هو الشأن بالنسبة لرواية "أولاد حارتنا" و"ثرثرة فوق النيل"التى أثارت غضب المارشال عبدالحكيم عامر.
لكن نجيب محفوظ له موهبة التكيف مع مختلف الأنظمة؛فهو منذ العهد الملكى وحتى رحيله لم يُحاكم ولم يُسجن!! بل كثيرا ما كان موضع حفاوة وتقدير من جانب الدولة.وبفضل هذه المرونة استطعنا أن نفوز بروايات وقصص تضىء بعض الأعماق،فى حين أن سيئات الدولة ومظاهر جبروتها آلت إلى الزوال،أو بالأحرى تؤول دوما إلى زوال(محمد برادة،مجلة الناقد،العدد18،بيروت1989م)
ونعود إلى مبحث موضوع المقال بحديث نجيب محفوظ إلى ألفريد فرج وإقراره بأنه لا فكر خارج الحياة.."لا فكر خارج الزمان والمكان"..."أصول كل المسائل النفسية والفكرية ضاربة فى الحياة العادية واليومية"..."أنا أعيش أفكارى فى نفس الوقت الذى أعايش فيه الناس،ولا أكتبها ،وإنما أكتب عن الناس"(ألفريد فرج،نجيب محفوظ يتحدث،مجلة الناقد،العدد7،1989م).
ويظهر لنا هذا الجانب من شخصية نجيب محفوظ كمفكرا عمليا ،دارسا للفلسفة،باحثا عن الحقيقة دائما وبشكل عملى وإن كان يمتلك خيال الأديب ،فكل النقاد لاحظوا هذا الجانب العملى فى تنظيم مادة البناء السردى لكل أعماله.فالبناء الفنى المحكم لرواياته هو فكر بالأساس،وهو شكل من أشكال الرياضيات الذهنية أيضا،وليس أبدا مجرد انسياق مع عفوية الموهبة.
وفى خطابه التى ألقته أبنته نيابة عنه فى استوكهولوم،جعل انتفاضة الحجارة فى الضفة وغزة فى طليعة القضايا التى تؤرق الضمير العالمى المعاصر...وفى الحقيقة كان يرى أن ما حصل فى فلسطين هو بالنسبة للعرب أجمعين كارثة قومية وكان يشبهها بالكوارث الطبيعية التى توقظ ضمير العالم وتدفع به إلى التضامن والمساندة.فالفلسطينيون أصحاب حق،وهذا ما جعل العالم يقف إلى جانبهم ويطالب بإنصافهم.ولكننى أرى- والكلام على لسان نجيب محفوظ- أنه ليس فى استطاعة العرب وحدهم أن يحلوا مشكلة فلسطين حلا مناسبا،لأن فكرة التحرير المطلق غير واقعية،ولا تأخذ فى الاعتبار مصالح ومواقف كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتى.لذلك فأنا أميل إلى أن أعطى الأسبقية للتساؤل الذى نطرحه حينما نجد أنفسنا أمام كارثة طبيعية،أى: كيف نطوقها ونتجاوزها لتنطلق الحياة من جديد؟والأمثلة فى التاريخ كثيرة،أذكر من بينها ما فعلته ألمانيا الغربية لاستئناف الحياة بعد هتلر.
وأقر نجيب محفوظبأننا كعرب لا يمكننا أن نحارب ميثولوجيا إسرائيل،لأنه قد تكون لدينا أيضا كثير من جوانب الميثولوجيا التى تشير إليها.يقول:ما يهمنى أكثر هو الوصول إلى حل "عملى"،والحرب لمتفد فى الوصول إلى حل،ولذلك لابد منمفاوضات تفضى إلى إقرارالسلام فى المنطقة،هذا رأيى طالما عبرت عنه،بل قد أعلنته قبل أن يزور السادات القدس بخمس سنوات.
أما الانتفاضة،فقد أصبحا حقيقة ملموسة ومعبرة عن مطامح الشعب الفلسطينى العميقة.وقد أوضحت ذلك فى الكلمة التى نشرتها بجريدة الأهرام(26يناير 1989)؛حيث ألححت على ضرورة استثمار هذه الروح الجديدة المتجلية من خلال الانتفاضة وصمود العراق فى وجه ايران،من أجل بلورة فعل عربى جديد يستجيب لتطلعاتنا الحضارية.
وموقف نجيب هذا موقفا ثابتا راسخا أعلنه قبل حديثه للاهرام بسبعة عشر عاما وظل متمسكا به حتى رحيله،فخلال اجتماع عقده الرئيس الراحل القذافى مع مفكرين ومثقفين مصريين سنة 1972م وكان من بينهم هيكل،أن أعرب عن رأى"فاجأ" الجميع حينما قال:".......إذا لم تكن لدينا القدرة على الحرب فلنتفاوض ونصطلح وننهى هذه المسألة التى لا تحتمل بلادنا معها حالة اللاحرب واللاسلم لفترة طويلة."(تامر فايز،نجيب محفوظ ناقدا،القاهرة،2018م)
وقد قام نجيب محفوظ بالتوقيع على البيان الذى وقعه مع توفيق الحكيم وثروت أباظة وعدد من المفكرين والأدباء رفضا لحالة اللاحرب واللاسلم(1972) والذى أغضب السادات جدا،وعلق عليه بما يسىء إلى موقعيه فى أحد هذه الاجتماعات ذكر نجيب محفوظ بالاسم والوصف أيضا!!
ونستطيع بحق أن نعده كاتبا سياسيا أيضا له رأى واضح ومحددتاريخيا،وله موقف متماسك ومستمر اجتماعيا،وله نظرة شاملة فكرية،مهما بدا كل هذا مسربلا-أحيانا-فى حيل الرواية التى لاحصر لها،وفى ثنايا فنها الماكر.ففى الثلاثية عالج القضايا السياسية والوطنية منالحرب العالمية الأولى وثورة 1919م إلى الحرب العالمية الثانية.وفى( السمان والخريف -ثرثرة فوق النيل - ميرامار) عالج قضايا ثورة 23 تموز1952م.وعالج قضايا الحياة والناس فى ظل الحرب العالمية الثانية(خان الخليلى –زقاق المدق) ظهرت لمحات سياسية فى (عبث الأقدار-رادوبيس-كفاح طيبة) وكان محوره الفكرى السياسى فى أغلب رواياته هو محور الحرية.
وعندما هاجمه البعض بأن قضية الصراع العربى- الإسرائيلى لم تنعكس فى أعماله،مع أنها قضية خطيرة ماسة بوجود الإنسان العربى فى كل مكان..جاءت إجابته بأنه يلجأ إلى معالجة قضية الصراع العربى-الإسرائيلى فى مستوى تجريدى كما فعل فى (تحت المطر)،أما المعالجة الواقعية فهى صعبة؛لأننا لانعرف الواقع معرفة تامة.وأضاف نحن كعرب أصحاب قضية وأصحاب هدف،الهدف هو الحضارة لأننا نعيش التخلف،والقضية رمانا بها الاستعمار وسياسة المصالح الدولية بين القوى الكبرى فحدثت مأساة فلسطين،القضية استوعبتنا إلى درجة أنها انستنا الهدف،مع أنه مهما كانت أهمية القضية فالهدف يبقى الأول والأخير؛لأنه الحياة،ووجدت أن قوانا وأموالنا تضيع فى القضية،مثل:العائلة الصعيدية التى يرزقها الله بالأرض والأموال لاستغلالها من أجل الحياة،فإذا بهم من أجل ثأر يتساقطون قتلى،الواحد بعد الآخر،حتى لا يبقى سوى النساء،كل هذا من أجل كرامة العائلة وتقاليد الصعيد،وتبقى الأرض بعد ذلك لا تجد من يزرعها.وفى قصتى(فنجان شاى)نداء ثورى صريح للقتال والنضال المسلح ضد العدو،كما تفصح عن إدانة كاملة للقوة الاستعمارية،لا مكان إلا لنوعين من الإنسان،واحد يقاتل بقلب ملؤه الشر،وآخر يقاتل بقلب ملؤه الخير.ليس ثمة وجود إلا للمقاتل؛لقد فهم العربى ذلك جيدا بعد أن سرق قطاع الطريق وطنه بأكمله.(نزار نجار،مجلة المعرفة،العدد386،1995م).