فلسفة السَّمَك
أمل الكردفاني
إنني شخص يحب السمك، ليس أكله، بل البيئة السمكية برمتها، سوق السمك يعتبر بالنسبة لي سوقاً فواحاً بالحياة وسط الأسماك الميتة، والبحر، وشباك الصيادين عندما تخرج ممتلئة بالسمك..هذه اللحظة تسعدني أكثر من الصياد صاحب الشبكة نفسه..ولا أعرف لماذا؟ يبدو لي انني أشعر بأن الطبيعة معطاءة وتعدنا بالأمان في أي لحظة جدب..وأن هناك أمل ما مندس في جوهرها. سوق السمك، مزدحم، ومن يزورنه هم سمكيون بامتياز، يحبون السمك، يحترمونه جداً، ويأكلونه باحترام أيضاً، فلأكل السمك طقوس خاصة، إخراج الشوك من اللقمة له فنيات، وإخراجه بعد دخول اللقمة للفم له فنيات أكثر تعقيداً ومن لا يحترم السمك عند أكله فالسمك لن يحترمه، إذ يعمل الفم بكل مكوناته كحساسات بيولوجية، الحلق واللسان والأسنان واللهاة والأطراف اللحمية الجانبية، كل الفم يعمل كمنبه، العقل يوجه الفم والحذر يوجه العقل والخوف ينشئ الحذر وغريزة البقاء تنتج الخوف. السمك ليس حيواناً يؤكل فقط بل فلسفة كاملة، ارتبطت به كل حكم الزمان، مثل لا تعطني سمكة ولكن علمني كيف أصطاد، ومثل السمك الكبار يأكل السمك الصغار، ومثلُ التشبيه الذي يقول (كالسمك الذي لا يستطيع العيش خارج الماء) وغير ذلك من أمثال وتشبيهات ومجازات.. لأن عالم السمك عالم فنتازي، أفواج السمك المتحركة في البحار بحركات راقصة، الخوف من أسماك القرش والحيتان، الدلافين الصديقة للإنسان، السلمون المشبع بالفيتامينات والأوميغا ثري، الساردين المعلب والذي عندما أرى علَبَه الصغيرة أشعر بالتحضر أكثر من رؤيتي لسيارة مرسيدس. هناك سر روحاني في السمك، حتى في الأديان يجوز أكل ميتة البحر أي السمك. يبدو السمك كشاب رياضي، وكعجوز محافظ، وكفتاة تهتم ببشرتها. شيء ما في السمك...أدخل لسوق السمك، وارى البلطي الجميل المكتنز باللحم والقرموط ذا الشاربين كالتنين والدبس والسلمون وخلافه.. هذا العالم ليس ميتاً كما نظن..بل هو عالم مليء بالحياة..أفتحُ الخياشيم المقوسة الصغيرة وأرى لونها الأحمر من الداخل كثغر مراهقة لأعرف مدى طزاجة السمكة، ألمس جسد البلطية لأعرف إن كانت قد بدأت في التحلل أم لا.. أقوم بصناعة زيت السمك عن طريق التقطير والتجفيف الشمسي، كل شيء في السمك له معناه الخاص.
رائحة السمك وهو نيئ أجمل منها وهو مطبوخ، رائحة البحر والنهر السمكية، هي التي تجعل الماء حياً، وتثير النوارس والطيور البحرية، وتجبر الصقور المحلقة في السماء على التحفز للإنقضاض على المسطح المائي الهادئ. الدلافين الودودة تخيف أسماك القرش وتنقذ البشر الغرقى. الحيتان الضخمة، التي تنفث الماء ظلت هيبتها مستقرة في قلبي منذ طفولتي.. يُخرج الحوت الضخم جزءً يسيراً من جسده، وتقفز من ظهره نافورة الماء. هذه معجزة، استغلتها أفلام الكرتون وقصص الأطفال كرحلات السندباد الذي ينزل إلى جزيرة ثم ترتجف الجزيرة فجأة فإذا هي ظهر حوت ضخم. يتشاجر فلاسفة اللغة، هل الحيتان ليست أسماكاً لأنها تلد ولا تبيض أم أنها اسماك لأنها تعيش في البحر. هكذا يدخل السمك في ترهات الفلاسفة المجانين، وله كل الحق في أن يكون للسمك مبحث كامل في الفلسفة. الصيادون هم الاكثر إشارة إليهم في الكتب المقدسة، وفي التعاليم الدينية وفي الأساطير والحكايات الشعبية، وهم وحدهم الذين يجدون لآلئ في بطن السمكة وقد حصل هذا بالفعل ولن أحكي القصة. الصياد هو الشخص الحر دائماً والفقير دائماً والغني بأخلاقه دائماً في القصص الشعبية، وزوجة الصياد دائماً سيئة الخلق وغير صبورة على حياته البائسة المتقشفة. يبدو الصيادون كمن يعدنون في الأرض بغية استخراج كنوزها من الذهب والفضة، غير أن الصياد يعدِّن اللحم...قارب الصياد وهو يسري وسط الماء برفق، والصياد في قاربه يعد وجبة من السمك، يصطاد السمك، يطبخه وياكله ويبيعه ويحيا به لتؤلَّف القصص حوله..ليس ذلك بالشيء السهل. يبدو الصياد دائما رجلاً غير مكترث لفهم الحياة، ولا يريد أن يفكر، ولا يملك أي طموحات اكبر من امتلاء شبكته بالسمك في يوم يصادف فيه حظاً طيباً. في سوق السمك، يبيع الصياد ما انتجه بثمن بخس، ويبيعه السماسرة بثمن غالٍ وتبيعه المطاعم الفاخرة بثمن ضخم..يغتني الجميع ما عدا الصياد. تلتف الأسر البرجوازية في مطاعم السمك وتنفق الآلاف من أجل لحظة سعيدة وبهيجة، وهم لا يرون الصياد أبداً حينما يصخبون بمرح ويمضغون بسعادة..تلك السمكة التي أكلوها ليست ميتة لأنها انجبت حياة كاملة..عالماً مليئاً بالضجيج رغم أنها عاشت داخل صمت البحر. أليس ذلك مبهراً. يصيح السماسرة وتجار القطاعي والمشترون من الافراد وجرسونات المطاعم والأسر أثناء أكلهم السمك ومصانع انتاج الأوميجا ثري، ومصانع انتاج مراهم البشرة، رغم أن الصياد في مركبه صامت والسمك في البحر صامت. يبدوان كأب وام سعيدين بصخب أبنائهما فلا يفكران كثيراً في مضي الزمن ولا تعب الحياة..ولا يفكران في الموت والفناء.. لقد تغنى الشعراء بالعصافير، بالغزلان بالنسور وحتى بالأسود والوحوش والجياد ولكنهم تجاهلوا السمك تجاهلاً تاماً..أي تهميش هذا...أي عنصرية تلك!!.. غير أن هذا طبيعي، فالإنسان لا يتذكر من يضحي من أجله.. بل يتذكر أعداءه أكثر، من يؤلمونه دائماً، من يتجاهلونه باستمرار، من يؤذونه..ولكنه لن يتذكر تلك السمكة الحنون التي تعيش بلا هدف سوى امتاعه، ولا الصياد الذي قبل الاستغراق في الوجود بلا معنى منعزلاً عزلة شاعرية لا يتفاخر بها كما يفعل مدَّعو التفلسف والتثقف.. فالصياد لا يفكر في ذلك.. وعلاقته بالسمكة علاقة غريبة، علاقة يدرك فيها الطرفان انها ذات بعد ترانسدنتالي، أكبر من أن يوصف من قبل العقل البشري أو حتى السمكي المحدود..لذلك يبتسم الصياد حين يصطاد سمكة جميلة، يقلبها بين أصابعه الضخمة المتخشبة كما لو كانت عروساً، يبهجه ذلك، ولا أكذب إن قلت بأن السمكة أيضاً يعجبها ذلك الغزل..فترقد بسلام..يمكنني أن أتحدث طويلاً طويلاً عن السمك.. فالسمك فلسفة أنطولوجية واسعة، لا نهائية، تحكي تاريخ الكون والإنسان منذ فجر التاريخ وحتى اليوم..
أمل الكردفاني
إنني شخص يحب السمك، ليس أكله، بل البيئة السمكية برمتها، سوق السمك يعتبر بالنسبة لي سوقاً فواحاً بالحياة وسط الأسماك الميتة، والبحر، وشباك الصيادين عندما تخرج ممتلئة بالسمك..هذه اللحظة تسعدني أكثر من الصياد صاحب الشبكة نفسه..ولا أعرف لماذا؟ يبدو لي انني أشعر بأن الطبيعة معطاءة وتعدنا بالأمان في أي لحظة جدب..وأن هناك أمل ما مندس في جوهرها. سوق السمك، مزدحم، ومن يزورنه هم سمكيون بامتياز، يحبون السمك، يحترمونه جداً، ويأكلونه باحترام أيضاً، فلأكل السمك طقوس خاصة، إخراج الشوك من اللقمة له فنيات، وإخراجه بعد دخول اللقمة للفم له فنيات أكثر تعقيداً ومن لا يحترم السمك عند أكله فالسمك لن يحترمه، إذ يعمل الفم بكل مكوناته كحساسات بيولوجية، الحلق واللسان والأسنان واللهاة والأطراف اللحمية الجانبية، كل الفم يعمل كمنبه، العقل يوجه الفم والحذر يوجه العقل والخوف ينشئ الحذر وغريزة البقاء تنتج الخوف. السمك ليس حيواناً يؤكل فقط بل فلسفة كاملة، ارتبطت به كل حكم الزمان، مثل لا تعطني سمكة ولكن علمني كيف أصطاد، ومثل السمك الكبار يأكل السمك الصغار، ومثلُ التشبيه الذي يقول (كالسمك الذي لا يستطيع العيش خارج الماء) وغير ذلك من أمثال وتشبيهات ومجازات.. لأن عالم السمك عالم فنتازي، أفواج السمك المتحركة في البحار بحركات راقصة، الخوف من أسماك القرش والحيتان، الدلافين الصديقة للإنسان، السلمون المشبع بالفيتامينات والأوميغا ثري، الساردين المعلب والذي عندما أرى علَبَه الصغيرة أشعر بالتحضر أكثر من رؤيتي لسيارة مرسيدس. هناك سر روحاني في السمك، حتى في الأديان يجوز أكل ميتة البحر أي السمك. يبدو السمك كشاب رياضي، وكعجوز محافظ، وكفتاة تهتم ببشرتها. شيء ما في السمك...أدخل لسوق السمك، وارى البلطي الجميل المكتنز باللحم والقرموط ذا الشاربين كالتنين والدبس والسلمون وخلافه.. هذا العالم ليس ميتاً كما نظن..بل هو عالم مليء بالحياة..أفتحُ الخياشيم المقوسة الصغيرة وأرى لونها الأحمر من الداخل كثغر مراهقة لأعرف مدى طزاجة السمكة، ألمس جسد البلطية لأعرف إن كانت قد بدأت في التحلل أم لا.. أقوم بصناعة زيت السمك عن طريق التقطير والتجفيف الشمسي، كل شيء في السمك له معناه الخاص.
رائحة السمك وهو نيئ أجمل منها وهو مطبوخ، رائحة البحر والنهر السمكية، هي التي تجعل الماء حياً، وتثير النوارس والطيور البحرية، وتجبر الصقور المحلقة في السماء على التحفز للإنقضاض على المسطح المائي الهادئ. الدلافين الودودة تخيف أسماك القرش وتنقذ البشر الغرقى. الحيتان الضخمة، التي تنفث الماء ظلت هيبتها مستقرة في قلبي منذ طفولتي.. يُخرج الحوت الضخم جزءً يسيراً من جسده، وتقفز من ظهره نافورة الماء. هذه معجزة، استغلتها أفلام الكرتون وقصص الأطفال كرحلات السندباد الذي ينزل إلى جزيرة ثم ترتجف الجزيرة فجأة فإذا هي ظهر حوت ضخم. يتشاجر فلاسفة اللغة، هل الحيتان ليست أسماكاً لأنها تلد ولا تبيض أم أنها اسماك لأنها تعيش في البحر. هكذا يدخل السمك في ترهات الفلاسفة المجانين، وله كل الحق في أن يكون للسمك مبحث كامل في الفلسفة. الصيادون هم الاكثر إشارة إليهم في الكتب المقدسة، وفي التعاليم الدينية وفي الأساطير والحكايات الشعبية، وهم وحدهم الذين يجدون لآلئ في بطن السمكة وقد حصل هذا بالفعل ولن أحكي القصة. الصياد هو الشخص الحر دائماً والفقير دائماً والغني بأخلاقه دائماً في القصص الشعبية، وزوجة الصياد دائماً سيئة الخلق وغير صبورة على حياته البائسة المتقشفة. يبدو الصيادون كمن يعدنون في الأرض بغية استخراج كنوزها من الذهب والفضة، غير أن الصياد يعدِّن اللحم...قارب الصياد وهو يسري وسط الماء برفق، والصياد في قاربه يعد وجبة من السمك، يصطاد السمك، يطبخه وياكله ويبيعه ويحيا به لتؤلَّف القصص حوله..ليس ذلك بالشيء السهل. يبدو الصياد دائما رجلاً غير مكترث لفهم الحياة، ولا يريد أن يفكر، ولا يملك أي طموحات اكبر من امتلاء شبكته بالسمك في يوم يصادف فيه حظاً طيباً. في سوق السمك، يبيع الصياد ما انتجه بثمن بخس، ويبيعه السماسرة بثمن غالٍ وتبيعه المطاعم الفاخرة بثمن ضخم..يغتني الجميع ما عدا الصياد. تلتف الأسر البرجوازية في مطاعم السمك وتنفق الآلاف من أجل لحظة سعيدة وبهيجة، وهم لا يرون الصياد أبداً حينما يصخبون بمرح ويمضغون بسعادة..تلك السمكة التي أكلوها ليست ميتة لأنها انجبت حياة كاملة..عالماً مليئاً بالضجيج رغم أنها عاشت داخل صمت البحر. أليس ذلك مبهراً. يصيح السماسرة وتجار القطاعي والمشترون من الافراد وجرسونات المطاعم والأسر أثناء أكلهم السمك ومصانع انتاج الأوميجا ثري، ومصانع انتاج مراهم البشرة، رغم أن الصياد في مركبه صامت والسمك في البحر صامت. يبدوان كأب وام سعيدين بصخب أبنائهما فلا يفكران كثيراً في مضي الزمن ولا تعب الحياة..ولا يفكران في الموت والفناء.. لقد تغنى الشعراء بالعصافير، بالغزلان بالنسور وحتى بالأسود والوحوش والجياد ولكنهم تجاهلوا السمك تجاهلاً تاماً..أي تهميش هذا...أي عنصرية تلك!!.. غير أن هذا طبيعي، فالإنسان لا يتذكر من يضحي من أجله.. بل يتذكر أعداءه أكثر، من يؤلمونه دائماً، من يتجاهلونه باستمرار، من يؤذونه..ولكنه لن يتذكر تلك السمكة الحنون التي تعيش بلا هدف سوى امتاعه، ولا الصياد الذي قبل الاستغراق في الوجود بلا معنى منعزلاً عزلة شاعرية لا يتفاخر بها كما يفعل مدَّعو التفلسف والتثقف.. فالصياد لا يفكر في ذلك.. وعلاقته بالسمكة علاقة غريبة، علاقة يدرك فيها الطرفان انها ذات بعد ترانسدنتالي، أكبر من أن يوصف من قبل العقل البشري أو حتى السمكي المحدود..لذلك يبتسم الصياد حين يصطاد سمكة جميلة، يقلبها بين أصابعه الضخمة المتخشبة كما لو كانت عروساً، يبهجه ذلك، ولا أكذب إن قلت بأن السمكة أيضاً يعجبها ذلك الغزل..فترقد بسلام..يمكنني أن أتحدث طويلاً طويلاً عن السمك.. فالسمك فلسفة أنطولوجية واسعة، لا نهائية، تحكي تاريخ الكون والإنسان منذ فجر التاريخ وحتى اليوم..