كانت المعارك الأدبية المشتعلة بين لفيف من الأدباء مظهرا من مظاهر التوهج والتجديد والانطلاق في عالم الفكر والأدب، وهي تعكس الرغبة في فرض الرؤى الجديدة، أو ترسيخ الرؤى الكلاسيكية تحت دعوى المحافظة على الذات ضد خطر الاستلاب ـ كل حسب اتجاهه – كما تعكس الرغبة في تكريس الذات واستراتيجية السيطرة، باعتبار الكتابة سلطة، وباعتبار النص فضاء يحجب ويطمس بقدر ما يصرح ويعلن.
ولا شك في أن ازدهار الصحافة في النصف الأول من القرن العشرين، وتنوع الصحف بين سياسية ودينية وأدبية، يومية وأسبوعية، نصف شهرية أو شهرية، ووجود مساحة عريضة من القراء والمتابعين، أولئك الذين يشكلون موردا ماليا للجريدة، شجع ذلك كله حمى الصراع الفكري والأدبي، ومحاولة كل طرف فرض وصايته، أو تكريس ريادته وسلطته وهيمنة لقبه مثل: عميد الأدب العربي، عملاق الأدب والفكر، الدكاترة فلان، أمير البيان العربي.. وبقدر ما اتسمت تلك المعارك بالخصوبة والغنى، فقد أثرت مساحة النقد والفكر والإبداع، وكانت محفزا لظهور مؤلفات أدبية وفكرية عديدة، بل كانت موضوعا لأطاريح أكاديمية استلهاما من أجواء تلك المعارك، وتوسيعا لها من دائرة الصحافة إلى دائرة التأليف.
كان النقد عنيفا لا يحابي ولا يداجي، يتتبع حتى العثرات اللغوية والأسلوبية، إلى نقد الفكر ذاته، والمدرسة التي ينتمي إليها من يتناول بالنقد، بعكس كثير من النقد اليوم القائم على المجاملة والمديح والإطناب فيه حتى أن كاتب اليوم يرسل بكتابه إلى مجموعة من النقاد، أو الكتّاب منتظرا منهم مديحا وإطنابا فيه، ووضع ذلك على صفحته الخاصة، وقد ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي مثل، الفيسبوك والتويتر في تردي الكتابة والقراءة عموما ـ ولا ننكر محاسنها – وتراجع النقد إلى درجات دنيا يغلب عليه الذاتية والسطحية والمجاملة، فكأنه بطاقات تهنئة وتبريكات لا غير، وطبعا هناك نصوص نقدية مؤسسة ونقاد لا يجاملون ويحاولون أداء مهمة الناقد بموضوعية واحترافية في آن، ولكن الأمر يكاد يكون استثناء في عالم أدبي يتسم بكثير من الشوائب، متأثرا بثقافة العصر، حيث الأولوية للصورة وللعلامة التجارية، حيث الأسماء الأدبية مثل الماركات التجارية، ولعل انتقال ساحة الفكر والإبداع من محور القاهرة بغداد، دمشق وبيروت، إلى عواصم الخليج، وما تتسم به تلك العواصم من فقر فكري وهشاشة إبداعية، وانتفاء العراقة والمرجعية التاريخية للفكر، أو الأدب – إلا في القليل – ولعل الطابع التجاري والعولمي والدعائي المهيمن على ثقافة الخليج، يؤكد هذه النظرة بدءا بالجوائز الأدبية، والمهرجانات الثقافية، مرورا بالصحافة وانتهاء بالمعاهد والكليات الأكاديمية.
لا توجد معارك أدبية اليوم، ولا قراء يتابعونها اللهم إلا في القليل النادر سرعان ما تخبو نارها، وينفرط عقد متابعيها، لضحالة الإنتاج الفكري والأدبي اليوم قياسا بزمن الرواد وشيوع النمط التجاري، وانتشار الكتابة السهلة والقارئ الناعم، والعلاقات الأدبية القائمة على المجاملة والرياء، والحرص على المكاسب، والحفاظ على شبكة العلاقات الاجتماعية والمهنية، ولبروز أقطاب جذب أخرى مثل وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الرياضية، وقنوات اليوتيوب، بل إن الفكر ذاته في أزمة وفي مخاض عسير ونفق طويل.
لقد كانت المعركة بين القديم والجديد مثلا ساحة كبيرة للنزال استهلكت عمر جيل بكامله، واستهلكت آلاف الصفحات من الجرائد والمجلات وعشرات الكتب، ومساحة عريضة من القراء والمتابعين في عموم البلاد العربية، فقد كان القارئ في تونس أو الرباط مثلا يتابع وينتظر وصول الصحيفة، ليظفر بمطالعة وجهة نظر ناقده المفضل، أو نهاية هذه المعركة الحامية الوطيس. وقد شكل الثلاثي طه حسين وعباس العقاد ومصطفى صادق الرافعي واسطة ذلك العقد السجالي، وتوزع الكتاب والمفكرون والشعراء والقراء بين هذه الأقطاب الثلاثة فهم شيوخ الأدب وغيرهم مريدون. فالعقاد مثلا داعية التجديد في اعتدال مع مراعاة الأصول المؤسسة للثقافة العربية (الاتجاه السلفي في الأدب كما يسميه) وهو يقصد الكلاسيكيات العربية مع إعجاب واضح بالثقافة السكسونية، وبالناقد الإنكليزي هازلت، لم يجد هذا الناقد غضاضة في الدفاع عن غريمه طه حسين أثناء معركة «في الشعر الجاهلي» فقد دافع عن حق الكاتب في التعبير، وعن حرية الفكر والكتابة، وطه حسين عميد الأدب العربي المنتصر للجديد في الفكر والحياة، وهو كالعقاد لا يغض من قدر القديم، لأنه قديم بل ينتصر له كذلك لأن المعيار هو الجودة المضمونية والأسلوبية، وقد كان شديد الميل للثقافة اللاتينية ومتأثرا بالناقد الفرنسي هيبوليت تين، بينما الرافعي شيخ المحافظين، كما يسمى اضطر لدخول حرب ضروس ضد العقاد وطه حسين معا وقد كانت شبيهة بنقائض جرير والفرزدق والأخطل في الشعر، فقد استهلكت أعمار ثلاثتهم مع ود مصطنع بين العقاد وطه حسين، خاض الرافعي معركته في القديم والجديد مع طه حسين أولا، وقد بدأت بصدور كتاب «في الشعر الجاهلي» لطه حسين، وكانت معركة شرسة تتسم بالموضوعية والحكم البريء تارة، وبالهوى والتهكم والسخرية إلى حد الابتذال أحيانا أخرى.
لا توجد معارك أدبية اليوم، ولا قراء يتابعونها اللهم إلا في القليل النادر سرعان ما تخبو نارها، وينفرط عقد متابعيها، لضحالة الإنتاج الفكري والأدبي اليوم قياسا بزمن الرواد وشيوع النمط التجاري، وانتشار الكتابة السهلة والقارئ الناعم، والعلاقات الأدبية القائمة على المجاملة والرياء.
رد الرافعي على كتاب طه حسين بكتاب كامل هو «تحت راية القرآن» واستمرت الحرب على صفحات السياسة والبلاغ والثقافة والكاتب، وغيرها وقد اتهم الرافعي طه حسين بالمروق وبالجهل بالقرآن وباللغة العربية أحيانا أخرى، وقد علق ساخرا: «إسفنجة جاءت لشرب البحر، وشمعة تتصدى لشمس الظهر، وطه في نقد الشعر» وسخر طه حسين من الرافعي وأسلوبه متهما إياه بالتكلف، وأنه لا يصدر عن سليقة فنية وأصالة أسلوبية فقال عن الرافعي: «إنه حين يكتب يقاسي آلام الوضع».
وخاض الرافعي معركة ضد غريمه العقاد، وجمع بعضا من مقالاته في كتاب جعل عنوانه «على السفود» وقدم له تلميذه محمد سعيد العريان، وقد زعم الرافعي أن قلمه كالسفود يشوي جلد العقاد، وكان العقاد يسمي الرافعي خفاش الأدب، وأن السوط في يده وجلد الرافعي خلق لمثل سوط العقاد، ولربما كانت مي زيادة الملهمة للأديبين، فقد كان كلاهما يحبها ويعتقد أنها تحبه لوحده، وفي الإبداع لا يمكن إهمال تأثير المرأة في الأديب، وأنها مصدر للإلهام ولا يمكن التغاضي عن الجسد وشهواته ونوازعه الدفينة والمكبوتة، ورغبته في الإشباع بسبب جاذبية الجسد وسلطته، وأن الأديب في النهاية هو كائن بشري يحب ويشتهي ويرغب في السيطرة والإخضاع ويريد الشهرة والريادة. وقد زعم العقاد أن الرافعي كذب حين وضع إطراء سعد زغلول لكتابه «وحي القلم» الذي جاء فيه: «كلام كأنه تنزيل من التنزيل أو قبس من نور الذكر الحكيم» وقال إنه كتبه هو ونسبه لسعد زغلول، وأنه عقبة في طريق الكتابة، يجب إزالتها فتصوره للأدب قديم. وامتد النقد ووطيس المعارك إلى الصالونات الأدبية موضوعيا تارة، ذاتيا غير بريء، تارة أخرى كصالون طه حسين في فيلا رامتان في شارع الهرم، حيث يسخر عبد الرحمن بدوي من العقاد مشبعا رغبة أستاذه طه حسين في الانتقاص من العقاد، وفي صالون العقاد في مصر الجديدة، الذي ينعقد يوم الجمعة، حيث يوزع العقاد السخرية والازدراء لعموم الكتاب والمثقفين، بدءا بالرافعي وطه حسين ذاته، فهي فرصته للتنفيس عن المكبوت وقول ما لا يقال، كما وثق ذلك أنيس منصور في كتابه «في صالون العقاد كانت لنا أيام».
واشتعلت معركة أخرى هي معركة الشعر الجديد بين العقاد وجماعة الشعر الجديد، كنزار قباني وأحمد عبد المعطي حجازي ورجاء النقاش وصلاح عبد الصبور، وقد مثلهم صلاح عبد الصبور في مقالته المشهورة «والله موزون» في الرد على العقاد، لما تحداهم العقاد بتأليف مقطوعة شعرية في أبيات موزونة مقفاة، ومعركة العقاد مع محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس، بلغت حدا من القوة والشراسة، إلى حد اتهام العقاد لهما بالشيوعية وقد كانت الشيوعية تهمة تنتهي بصاحبها إلى الزنزانة. ولا ننسى معركة زكي مبارك مع طه حسين، وقد اعتقد مبارك أنه مهمش بسبب نفوذ طه حسين، وهيمنته على دواليب الصحافة والجامعة والسلطة في مصر، وأنه دكتور مثله ومتخرج مثله من السوربون، لكنه منكود الحظ سيئ الطالع فالجماهير مع صاحب السلطة، لا مع صاحب الحق، وقد بلغ به اعتداده بذاته إلى توقيع مقالاته باسم الدكاترة زكي مبارك، وإرفاق صورة له مع مؤلفاته وتحقيقاته، حيث بلغ طول الكتب المتراكمة طول قامته وذلك للتنفيس من حده هجوم طه حسين عليه، ورغبته في الانتقام والثأر لذاته الجريحة إلى درجة استعمال النابي من اللفظ.
حياة نقدية خصبة وحياة فكرية أخصب عاشها العالم العربي في النصف الأول من القرن العشرين، وقد كانت تلك المعارك الأدبية مدرسة تخرج منها جيل من الشعراء والكتاب والنقاد. بقدر ما اتسمت تلك المعارك بمزايا الهيمنة والصراع على الريادة والزعامة الأدبية، والخروج عن قواعد النقد والموضوعية أحيانا، واتباع نوازع الهوى بقدر ما اتسمت كذلك بالموضوعية والرغبة في تكريس عالم أدبي جديد يستجيب لحاجات العصر وثقافته ومسيرته الجديدة، يتلاحم الجديد فيها مع القديم ويفارقه في الوقت ذاته وفق جدلية المحافظة والتحديث، الأصالة والريادة، القديم والجديد.
كاتب جزائري
ولا شك في أن ازدهار الصحافة في النصف الأول من القرن العشرين، وتنوع الصحف بين سياسية ودينية وأدبية، يومية وأسبوعية، نصف شهرية أو شهرية، ووجود مساحة عريضة من القراء والمتابعين، أولئك الذين يشكلون موردا ماليا للجريدة، شجع ذلك كله حمى الصراع الفكري والأدبي، ومحاولة كل طرف فرض وصايته، أو تكريس ريادته وسلطته وهيمنة لقبه مثل: عميد الأدب العربي، عملاق الأدب والفكر، الدكاترة فلان، أمير البيان العربي.. وبقدر ما اتسمت تلك المعارك بالخصوبة والغنى، فقد أثرت مساحة النقد والفكر والإبداع، وكانت محفزا لظهور مؤلفات أدبية وفكرية عديدة، بل كانت موضوعا لأطاريح أكاديمية استلهاما من أجواء تلك المعارك، وتوسيعا لها من دائرة الصحافة إلى دائرة التأليف.
كان النقد عنيفا لا يحابي ولا يداجي، يتتبع حتى العثرات اللغوية والأسلوبية، إلى نقد الفكر ذاته، والمدرسة التي ينتمي إليها من يتناول بالنقد، بعكس كثير من النقد اليوم القائم على المجاملة والمديح والإطناب فيه حتى أن كاتب اليوم يرسل بكتابه إلى مجموعة من النقاد، أو الكتّاب منتظرا منهم مديحا وإطنابا فيه، ووضع ذلك على صفحته الخاصة، وقد ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي مثل، الفيسبوك والتويتر في تردي الكتابة والقراءة عموما ـ ولا ننكر محاسنها – وتراجع النقد إلى درجات دنيا يغلب عليه الذاتية والسطحية والمجاملة، فكأنه بطاقات تهنئة وتبريكات لا غير، وطبعا هناك نصوص نقدية مؤسسة ونقاد لا يجاملون ويحاولون أداء مهمة الناقد بموضوعية واحترافية في آن، ولكن الأمر يكاد يكون استثناء في عالم أدبي يتسم بكثير من الشوائب، متأثرا بثقافة العصر، حيث الأولوية للصورة وللعلامة التجارية، حيث الأسماء الأدبية مثل الماركات التجارية، ولعل انتقال ساحة الفكر والإبداع من محور القاهرة بغداد، دمشق وبيروت، إلى عواصم الخليج، وما تتسم به تلك العواصم من فقر فكري وهشاشة إبداعية، وانتفاء العراقة والمرجعية التاريخية للفكر، أو الأدب – إلا في القليل – ولعل الطابع التجاري والعولمي والدعائي المهيمن على ثقافة الخليج، يؤكد هذه النظرة بدءا بالجوائز الأدبية، والمهرجانات الثقافية، مرورا بالصحافة وانتهاء بالمعاهد والكليات الأكاديمية.
لا توجد معارك أدبية اليوم، ولا قراء يتابعونها اللهم إلا في القليل النادر سرعان ما تخبو نارها، وينفرط عقد متابعيها، لضحالة الإنتاج الفكري والأدبي اليوم قياسا بزمن الرواد وشيوع النمط التجاري، وانتشار الكتابة السهلة والقارئ الناعم، والعلاقات الأدبية القائمة على المجاملة والرياء، والحرص على المكاسب، والحفاظ على شبكة العلاقات الاجتماعية والمهنية، ولبروز أقطاب جذب أخرى مثل وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الرياضية، وقنوات اليوتيوب، بل إن الفكر ذاته في أزمة وفي مخاض عسير ونفق طويل.
لقد كانت المعركة بين القديم والجديد مثلا ساحة كبيرة للنزال استهلكت عمر جيل بكامله، واستهلكت آلاف الصفحات من الجرائد والمجلات وعشرات الكتب، ومساحة عريضة من القراء والمتابعين في عموم البلاد العربية، فقد كان القارئ في تونس أو الرباط مثلا يتابع وينتظر وصول الصحيفة، ليظفر بمطالعة وجهة نظر ناقده المفضل، أو نهاية هذه المعركة الحامية الوطيس. وقد شكل الثلاثي طه حسين وعباس العقاد ومصطفى صادق الرافعي واسطة ذلك العقد السجالي، وتوزع الكتاب والمفكرون والشعراء والقراء بين هذه الأقطاب الثلاثة فهم شيوخ الأدب وغيرهم مريدون. فالعقاد مثلا داعية التجديد في اعتدال مع مراعاة الأصول المؤسسة للثقافة العربية (الاتجاه السلفي في الأدب كما يسميه) وهو يقصد الكلاسيكيات العربية مع إعجاب واضح بالثقافة السكسونية، وبالناقد الإنكليزي هازلت، لم يجد هذا الناقد غضاضة في الدفاع عن غريمه طه حسين أثناء معركة «في الشعر الجاهلي» فقد دافع عن حق الكاتب في التعبير، وعن حرية الفكر والكتابة، وطه حسين عميد الأدب العربي المنتصر للجديد في الفكر والحياة، وهو كالعقاد لا يغض من قدر القديم، لأنه قديم بل ينتصر له كذلك لأن المعيار هو الجودة المضمونية والأسلوبية، وقد كان شديد الميل للثقافة اللاتينية ومتأثرا بالناقد الفرنسي هيبوليت تين، بينما الرافعي شيخ المحافظين، كما يسمى اضطر لدخول حرب ضروس ضد العقاد وطه حسين معا وقد كانت شبيهة بنقائض جرير والفرزدق والأخطل في الشعر، فقد استهلكت أعمار ثلاثتهم مع ود مصطنع بين العقاد وطه حسين، خاض الرافعي معركته في القديم والجديد مع طه حسين أولا، وقد بدأت بصدور كتاب «في الشعر الجاهلي» لطه حسين، وكانت معركة شرسة تتسم بالموضوعية والحكم البريء تارة، وبالهوى والتهكم والسخرية إلى حد الابتذال أحيانا أخرى.
لا توجد معارك أدبية اليوم، ولا قراء يتابعونها اللهم إلا في القليل النادر سرعان ما تخبو نارها، وينفرط عقد متابعيها، لضحالة الإنتاج الفكري والأدبي اليوم قياسا بزمن الرواد وشيوع النمط التجاري، وانتشار الكتابة السهلة والقارئ الناعم، والعلاقات الأدبية القائمة على المجاملة والرياء.
رد الرافعي على كتاب طه حسين بكتاب كامل هو «تحت راية القرآن» واستمرت الحرب على صفحات السياسة والبلاغ والثقافة والكاتب، وغيرها وقد اتهم الرافعي طه حسين بالمروق وبالجهل بالقرآن وباللغة العربية أحيانا أخرى، وقد علق ساخرا: «إسفنجة جاءت لشرب البحر، وشمعة تتصدى لشمس الظهر، وطه في نقد الشعر» وسخر طه حسين من الرافعي وأسلوبه متهما إياه بالتكلف، وأنه لا يصدر عن سليقة فنية وأصالة أسلوبية فقال عن الرافعي: «إنه حين يكتب يقاسي آلام الوضع».
وخاض الرافعي معركة ضد غريمه العقاد، وجمع بعضا من مقالاته في كتاب جعل عنوانه «على السفود» وقدم له تلميذه محمد سعيد العريان، وقد زعم الرافعي أن قلمه كالسفود يشوي جلد العقاد، وكان العقاد يسمي الرافعي خفاش الأدب، وأن السوط في يده وجلد الرافعي خلق لمثل سوط العقاد، ولربما كانت مي زيادة الملهمة للأديبين، فقد كان كلاهما يحبها ويعتقد أنها تحبه لوحده، وفي الإبداع لا يمكن إهمال تأثير المرأة في الأديب، وأنها مصدر للإلهام ولا يمكن التغاضي عن الجسد وشهواته ونوازعه الدفينة والمكبوتة، ورغبته في الإشباع بسبب جاذبية الجسد وسلطته، وأن الأديب في النهاية هو كائن بشري يحب ويشتهي ويرغب في السيطرة والإخضاع ويريد الشهرة والريادة. وقد زعم العقاد أن الرافعي كذب حين وضع إطراء سعد زغلول لكتابه «وحي القلم» الذي جاء فيه: «كلام كأنه تنزيل من التنزيل أو قبس من نور الذكر الحكيم» وقال إنه كتبه هو ونسبه لسعد زغلول، وأنه عقبة في طريق الكتابة، يجب إزالتها فتصوره للأدب قديم. وامتد النقد ووطيس المعارك إلى الصالونات الأدبية موضوعيا تارة، ذاتيا غير بريء، تارة أخرى كصالون طه حسين في فيلا رامتان في شارع الهرم، حيث يسخر عبد الرحمن بدوي من العقاد مشبعا رغبة أستاذه طه حسين في الانتقاص من العقاد، وفي صالون العقاد في مصر الجديدة، الذي ينعقد يوم الجمعة، حيث يوزع العقاد السخرية والازدراء لعموم الكتاب والمثقفين، بدءا بالرافعي وطه حسين ذاته، فهي فرصته للتنفيس عن المكبوت وقول ما لا يقال، كما وثق ذلك أنيس منصور في كتابه «في صالون العقاد كانت لنا أيام».
واشتعلت معركة أخرى هي معركة الشعر الجديد بين العقاد وجماعة الشعر الجديد، كنزار قباني وأحمد عبد المعطي حجازي ورجاء النقاش وصلاح عبد الصبور، وقد مثلهم صلاح عبد الصبور في مقالته المشهورة «والله موزون» في الرد على العقاد، لما تحداهم العقاد بتأليف مقطوعة شعرية في أبيات موزونة مقفاة، ومعركة العقاد مع محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس، بلغت حدا من القوة والشراسة، إلى حد اتهام العقاد لهما بالشيوعية وقد كانت الشيوعية تهمة تنتهي بصاحبها إلى الزنزانة. ولا ننسى معركة زكي مبارك مع طه حسين، وقد اعتقد مبارك أنه مهمش بسبب نفوذ طه حسين، وهيمنته على دواليب الصحافة والجامعة والسلطة في مصر، وأنه دكتور مثله ومتخرج مثله من السوربون، لكنه منكود الحظ سيئ الطالع فالجماهير مع صاحب السلطة، لا مع صاحب الحق، وقد بلغ به اعتداده بذاته إلى توقيع مقالاته باسم الدكاترة زكي مبارك، وإرفاق صورة له مع مؤلفاته وتحقيقاته، حيث بلغ طول الكتب المتراكمة طول قامته وذلك للتنفيس من حده هجوم طه حسين عليه، ورغبته في الانتقام والثأر لذاته الجريحة إلى درجة استعمال النابي من اللفظ.
حياة نقدية خصبة وحياة فكرية أخصب عاشها العالم العربي في النصف الأول من القرن العشرين، وقد كانت تلك المعارك الأدبية مدرسة تخرج منها جيل من الشعراء والكتاب والنقاد. بقدر ما اتسمت تلك المعارك بمزايا الهيمنة والصراع على الريادة والزعامة الأدبية، والخروج عن قواعد النقد والموضوعية أحيانا، واتباع نوازع الهوى بقدر ما اتسمت كذلك بالموضوعية والرغبة في تكريس عالم أدبي جديد يستجيب لحاجات العصر وثقافته ومسيرته الجديدة، يتلاحم الجديد فيها مع القديم ويفارقه في الوقت ذاته وفق جدلية المحافظة والتحديث، الأصالة والريادة، القديم والجديد.
كاتب جزائري
المعارك الأدبية بين الذاتية والموضوعية | القدس العربي
كانت المعارك الأدبية المشتعلة بين لفيف من الأدباء مظهرا من مظاهر التوهج والتجديد والانطلاق في عالم الفكر والأدب، وهي تعكس الرغبة في فرض الرؤى الجديدة، أو ترسيخ الرؤى الكلاسيكية تحت دعوى المحافظة على الذات ضد خطر الاستلاب ـ كل حسب اتجاهه – كما تعكس الرغبة في تكريس الذات واستراتيجية السيطرة،...
www.alquds.co.uk