عجيبة رام اللَّـه، متعددة الثقافات، متعددة الأمزجة، لم تكن ""مدينة ذكورية ولا متجهمة، دائمًا سباقة للحاق بكل ترف جديد”.
هكذا وصف المرحوم مريد البرغوثي رام الله،وهو وصفٌ فيه الكثير من التهذيب والتشذيب،وإذا التقطنا كلمة الترف،فالترف هو الإنطباع الذي تركته "رؤية رام الله" في نفس الرئيس الحبيب بورقيبة،حين زارها في ستينات القرن الماضي قبل حرب عام ١٩٦٧،فعبّر عمّا حاك في صدره بغير تحرّز مريد المريد، ولا تحفّظ المُحب العاشق،الذي أملى تعبير مريد فصرّح بلا تردُّد :هذا ليس أسلوب حياة شعب يخوض حرباً مع عدو ويريد تحرير أرضه منه!فهل رآها كلاهما بنفس العينين؟
أنا صاحب العين الثالثة رأيتها بعيون الآخرين،فلم تكن طفولتي البريئة تسمح بتشكيل موقف،ولكنّي كنت مصيخاً لما يدور،بحاسّة الصبي المتفتح وفضوله المُستبد المتطلع لاستكشاف العالم حوله!
في قريتنا الصغيرة كانت كل امرأة تتطلع للتفلُّت من قيود التقاليد وخلع الثوب الفلاحي وغطرة الرأس البيضاء،واستحوذت عليها شهوة التبرج جرياً وراء مجلات الموضة،او تقليداً لنجمات السينما اللاتي لمع نجمهن في ذلك الحين،على شاشات السينما المصرية،محمولاً على أمواج الوطنية التي أشاعها الحضور الكبير لشخص الرئيس جمال عبد الناصر،وكان دخل زوجها بحكم الوظيفة أو غيرها يسمح بالانتقال من القرية،كانت تُلحّ عليه لينقلها للسكن في رام الله الحلم، حيث تستطيع الاستمتاع بالحياة بعيداً عن عيون القرويين ونظراتهم الموبّخة وألسنتهم الحادّة ونميمتهم التي لا ترحم.وكان الزوج غالباً ما يستجيب لرغبة زوجته ونزوتها الطارئة،فلم يكن التديُّن طابع ذلك العهد،وقد رفعت سياسات ناصر العتب،وحلّلت المحرّم بفتوى الوطنية التي احتلّت القلوب والأذهان بالأغاني والموسيقى والأفلام وهكذا صُنع مجتمع رام الله الذي وصفه مريد على استحياء بالتعدد وتنوع الأمزجة،ووصفه بورقيبة بالترف المعيب على شعبٍ يسعى للتحرّر!
استكمالاً للحكاية فقد عادت إحدى عائلات قريتنا المهاجرة من رام الله إلى حضن القرية،فلم يتردّد القرويون في إطلاق لقب"حارة النصارى"على مكان إقامتهم!
وهكذا فقد كان مجتمع القرية بتقاليده العتيدة الراسية أكثر وأشدّ مقاومة لموجة التحرّر هذه،بصفتها أمراً مخجلاً ومعيباً وتنازلاً عن الشرف من جانب المرأة،وعن الرجولة من جانب الرجل!
أما البقية الباقية من الحكاية فقد كانت بعد اتفاقية أوسلو وعودة المقاومين،حين شنّ وطنيٌّ غيور أو معارض سياسي هجوماً كاسحاً على مكان يدعى بيت أنيسة في رام الله،ووصفه بالملهى الليلي وبيت الدعارة الذي يتردّد عليه كبار المسؤولين والسياسيين،الأمر الذي عاد بالذاكرة إلى تصريح بورقيبة الغاضب لا بل أعاره كثيراً من المصداقية التي فنّدها في حينه الهجوم الضاري عليه من قبل الوطنيين والقوميين الفلسطينيين.
ومع ذلك فلم يتسبب ذلك في قطع الوشائج و صلة الرحم بين أبناء القرية وحارة النصارى ّ كما أطلقوا عليها،فتقدّم كثيرون لخطبة بناتهم ،وحصل النسب بالفعل ووقعت المصاهرة!
ومن المفارقات ذات الدلالة أنه قُيّض لي بعد جيل أن أرى ثمرات تلك المصاهرة، ولم أتمالك من الإبتسام حتى النواجذ حين رأيت أنهم جميعاً وبلا استثناء شيوخ ملتزمون بالدين التزاماً حدّياً وجدّياً لا يقبل حتى المساومة،،وقد ألزموا أمهاتهم بنات حارة النصارى قديماً بلبس الحجاب أو وضع غطاء الرأس على الأقل ممن استثقلن أمر الحجاب الكامل أو لم تمت في أنفسهن تماماً شهوة التبرج باعتبارها من دلائل الانوثة وخاصة مع تقدُّمهن في السن!
أمي التي لم تتخلّ عن الثوب والغطرة علّقت حين زرنا رام الله: بعيد الحرب آه ما أحلى هواها!
وقلت في نفسي:إنه هواء الوطن يا أُمّي الذي حرمنا منه ،ورام الله هي قطعة من هذا الوطن الأُم!
هذه حكاية وتسجيلٌ لتاريخٍ وتفاصيل وقعت فعلاً فلا يعتب حدا ولا يزعل حدا و أنا لرام الله ورام الله إلي!
نزار حسين راشد
هكذا وصف المرحوم مريد البرغوثي رام الله،وهو وصفٌ فيه الكثير من التهذيب والتشذيب،وإذا التقطنا كلمة الترف،فالترف هو الإنطباع الذي تركته "رؤية رام الله" في نفس الرئيس الحبيب بورقيبة،حين زارها في ستينات القرن الماضي قبل حرب عام ١٩٦٧،فعبّر عمّا حاك في صدره بغير تحرّز مريد المريد، ولا تحفّظ المُحب العاشق،الذي أملى تعبير مريد فصرّح بلا تردُّد :هذا ليس أسلوب حياة شعب يخوض حرباً مع عدو ويريد تحرير أرضه منه!فهل رآها كلاهما بنفس العينين؟
أنا صاحب العين الثالثة رأيتها بعيون الآخرين،فلم تكن طفولتي البريئة تسمح بتشكيل موقف،ولكنّي كنت مصيخاً لما يدور،بحاسّة الصبي المتفتح وفضوله المُستبد المتطلع لاستكشاف العالم حوله!
في قريتنا الصغيرة كانت كل امرأة تتطلع للتفلُّت من قيود التقاليد وخلع الثوب الفلاحي وغطرة الرأس البيضاء،واستحوذت عليها شهوة التبرج جرياً وراء مجلات الموضة،او تقليداً لنجمات السينما اللاتي لمع نجمهن في ذلك الحين،على شاشات السينما المصرية،محمولاً على أمواج الوطنية التي أشاعها الحضور الكبير لشخص الرئيس جمال عبد الناصر،وكان دخل زوجها بحكم الوظيفة أو غيرها يسمح بالانتقال من القرية،كانت تُلحّ عليه لينقلها للسكن في رام الله الحلم، حيث تستطيع الاستمتاع بالحياة بعيداً عن عيون القرويين ونظراتهم الموبّخة وألسنتهم الحادّة ونميمتهم التي لا ترحم.وكان الزوج غالباً ما يستجيب لرغبة زوجته ونزوتها الطارئة،فلم يكن التديُّن طابع ذلك العهد،وقد رفعت سياسات ناصر العتب،وحلّلت المحرّم بفتوى الوطنية التي احتلّت القلوب والأذهان بالأغاني والموسيقى والأفلام وهكذا صُنع مجتمع رام الله الذي وصفه مريد على استحياء بالتعدد وتنوع الأمزجة،ووصفه بورقيبة بالترف المعيب على شعبٍ يسعى للتحرّر!
استكمالاً للحكاية فقد عادت إحدى عائلات قريتنا المهاجرة من رام الله إلى حضن القرية،فلم يتردّد القرويون في إطلاق لقب"حارة النصارى"على مكان إقامتهم!
وهكذا فقد كان مجتمع القرية بتقاليده العتيدة الراسية أكثر وأشدّ مقاومة لموجة التحرّر هذه،بصفتها أمراً مخجلاً ومعيباً وتنازلاً عن الشرف من جانب المرأة،وعن الرجولة من جانب الرجل!
أما البقية الباقية من الحكاية فقد كانت بعد اتفاقية أوسلو وعودة المقاومين،حين شنّ وطنيٌّ غيور أو معارض سياسي هجوماً كاسحاً على مكان يدعى بيت أنيسة في رام الله،ووصفه بالملهى الليلي وبيت الدعارة الذي يتردّد عليه كبار المسؤولين والسياسيين،الأمر الذي عاد بالذاكرة إلى تصريح بورقيبة الغاضب لا بل أعاره كثيراً من المصداقية التي فنّدها في حينه الهجوم الضاري عليه من قبل الوطنيين والقوميين الفلسطينيين.
ومع ذلك فلم يتسبب ذلك في قطع الوشائج و صلة الرحم بين أبناء القرية وحارة النصارى ّ كما أطلقوا عليها،فتقدّم كثيرون لخطبة بناتهم ،وحصل النسب بالفعل ووقعت المصاهرة!
ومن المفارقات ذات الدلالة أنه قُيّض لي بعد جيل أن أرى ثمرات تلك المصاهرة، ولم أتمالك من الإبتسام حتى النواجذ حين رأيت أنهم جميعاً وبلا استثناء شيوخ ملتزمون بالدين التزاماً حدّياً وجدّياً لا يقبل حتى المساومة،،وقد ألزموا أمهاتهم بنات حارة النصارى قديماً بلبس الحجاب أو وضع غطاء الرأس على الأقل ممن استثقلن أمر الحجاب الكامل أو لم تمت في أنفسهن تماماً شهوة التبرج باعتبارها من دلائل الانوثة وخاصة مع تقدُّمهن في السن!
أمي التي لم تتخلّ عن الثوب والغطرة علّقت حين زرنا رام الله: بعيد الحرب آه ما أحلى هواها!
وقلت في نفسي:إنه هواء الوطن يا أُمّي الذي حرمنا منه ،ورام الله هي قطعة من هذا الوطن الأُم!
هذه حكاية وتسجيلٌ لتاريخٍ وتفاصيل وقعت فعلاً فلا يعتب حدا ولا يزعل حدا و أنا لرام الله ورام الله إلي!
نزار حسين راشد