خطّت الرواية المغربيّة لها مسارا فريدا في الأدب العربيّ بفتح نوافذ أخرى على الواقع، محتطبة من تفاصيله وأصواته وألوانه، في ما اصطلح عليه نقديا بأدب القاع مع محمد شكري ومحمد زفزاف، والذي عمّق حساسيّته جيل جديد من الكتّاب المغربيّين، ورثوا المعاول نفسها عن آبائهم لكنهم حفروا في مناطق أخرى.
تعتبر رواية “حديث الوجوه المائلة” للمغربي هشام ناجح تنويعة أخرى في الخطّ الذي سارت فيه الرواية المغربيّة الحديثة بانتصارها للمضامين الهامشيّة ولِسِيَرِ المهمّشين، وفرادة الرواية تكمن في أسلوبها الذي غلبت عليه اللغة الفلسفية في تحليلها للشخصيات والأحداث.
شخصيات متقاطعة
تحكي الرواية، الصادرة حديثا عن منشورات المتوسط بميلانو، سيرة شابّ مغربي في أوروبا، والروائيّ يركّز على شخصيّته بمجهر الطبيب النفسيّ والذي تجسّد في شخصيّة مونيكا الطبيبة النفسيّة التي تباشر حالة حمامو بطل الرواية، وتحاول شرح عقده التي تأخذ شكلا عنقودياّ يعود إلى طفولته القاسية وأثّرت في طريقته البدوية في الحياة في فضاء يرفض هذا الأسلوب ظاهريّا، ويجعل منه مادّة للتحليل النفسيّ، وربّما يصل الأمر إلى استغلاله بطرق شتّى، كملهمٍ فنّيا أحيانا وكماكنة جنسيّة أحيانا أخرى.
وهذا التّوظيف جعل منه شخصيّة سكيزوفرينيّة تتمزّق بين الغرب العلماني المادّي وبين الشرق الخرافيّ الروحاني، تتحدّث عنه مونيكا فتقول: حمامو كتاب بلا غلاف، الصفحة الأولى موشومة بترسّبات مشاكسة، انفعالات الطفولة لن تنتهي، من أين لنا بالوقوف وتشخيص أعراض مرضه؟ عن مكتسباته وانبهاراته الجديدة عندما تجاوز البحر؟ أم عن وشمه الشعبيّ الممهور بحسّ روحيّ مرهون بالقدر رغم كبته؟
تحيط بحمامو شخصيات متناقضة تتأثّر به وتُؤثّر فيه، بداية بطبيبته مونيكا وهي ثمرة لقاء بين الشرق والغرب من خلال زيجة بين تشيشيلي الباسكيّة النصرانية واحميدة السطيفي العربي المسلم، والتي وجدت في حمامو ما تبحث عنه من حرارة شرقها المفقود، ثمّ شخصية العجوز البرجوازية طاطا مرثين وهي شخصية أبيقوريّة غارقة في متع الحياة ولذائذها، وتعتبر حمامو مجرّد ماكنة لذّة، تسمّيه حصانها الأسمر المجبول على العدو في الأوقات كلّها.
نجد كذلك شخصية أخرى لا تقلّ غرابة عن باقي شخصيات الرواية، هي شخصيّة الطبيب البيروفي الشيخ فركاس كما يسمّيه حمامو، وهو الشيوعيّ الحاقد على النظام الرأسمالي، والممتلئ بالثورات المغدورة على حدّ تعبيره، ثمّ شخصيّة محمد حسوني وهي تبدو وجها آخر من حمامو وتشترك معه في نقاط عدة، فالاثنان من بلد واحد ومهاجران إلى بلد واحد والاثنان يمثّلان حالتين مرضيّتين عند الدكتورة مونيكا، ويركّز الروائي على فاصل تحوّله من الطالب الشيوعي المتحمّس للأفكار الماركسية إلى رجل متطرّف دينيا. شبكة العلاقات هذه كانت عقدتها حمامو الذي دارت حوله الأحداثُ والأحاديث.
ولجأ هشام ناجح إلى أدب الرسالة لربط الشخصيات ببعضها البعض من خلال عرض الرسائل التي دارت بين بعض شخصيات الرواية، يلقي لنا الروائي رأيا على لسان إحدى شخصياته حول فكرة الرسائل، فيقول: كتابة الرسائل حالة تخلّصنا من المنغّصات كلّها وتعرّي هشاشتنا الذّاتيّة. فالرسائل بما تحمله من طاقات عاطفيّة وتعبيريّة، وما تخفيه من أسرار مثيرة للفضول وحبّ الاكتشاف، فتحت في الرواية منافذ سرّيّةً للولوج إلى أعماق الشخصيات وفهم عوالمها الخفيّة، حين نقرأ مثلا رسالة تشيشيلي إلى ابنتها مونيكا فهي تتجاوز مجرّد خطابٍ تواصليّ بين أمّ وابنتها، وإنما الرسالة مثّلت خيطا يربط بين جيلين مختلفين في نقاط الالتقاء بينهما والاختلاف أيضا. أو في رسالة مونيكا إلى حمامو التي نقلت فيها روح بابلو نيرودا من بلد الروائح المضمّخة بعطر الإنكا.
سرد كالرمل
في روايته “حديث الوجوه المائلة” تعامل ناجح مع السرد بطريقة الخيول البرّية السائبة، لم يحاول حصره في دائرة أجناسية تضبط سيره وتحرّكاته، وإنما تركه يندفع بتلقائيّة، ومن العنوان صنّفه بالحديث، والعرب تقول: الحديث ذو شجون. لذلك فإنّ الرواية لم تركّز على مسار حدثيّ يضبط اتجاهاتها وتحوّلاتها، وإنما كانت تنفتح على سردٍ ينسربُ كالرمل، إنها الشجون التي يخلقها الحديث، أو هي التي تخلقه في نقاط التقاطعات بين شخصيات الرواية وتفاعلها مع بعضها البعض، كما أنّ بعض مناطق الرّواية غلب عليها الخطاب التحليليّ النّفسيّ والفلسفيّ ما خلق من شخصيّات الرواية شخصيات معقّدة ومتطرّفة أيضا في عبثها إلى حدّ التفسّخ وفي كآبتها إلى حدّ الموت.
“حديث الوجوه المائلة” تمثّل فتحاً لغرف الذّات بمفاتيح السّرد على حدّ تعبير الكاتب، فتح على الآخر، الحديث والإنصات إليه في آن، وفتح صندوق الرسائل والحكايات والأسرار بينهما، وهي محاولة لفهم الذات المتشظيّة في العالم الحديث الذي تتشكّل فيه مفاهيم صادمة عن الإنسان وعلاقته بالوجود، وما اختيار الروائيّ لشخصيّة مرتجّة فكريّا وعاطفيّاً، ومريضة نفسيّا كمحمل لأفكاره ورؤاه في هذه الرواية، سوى تعبير عن القلق الذي يعيشه العالم، بل إنّ الروائيّ يقنعنا بأنّ شخصيّة حمامو المرضيّة هي الحالة الطبيعية للإنسان البدويّ الساذج الذي لا تحميه شرنقة عاداته ومعتقداته من صقيع هذا العالم المتغيّر.
تعتبر رواية “حديث الوجوه المائلة” للمغربي هشام ناجح تنويعة أخرى في الخطّ الذي سارت فيه الرواية المغربيّة الحديثة بانتصارها للمضامين الهامشيّة ولِسِيَرِ المهمّشين، وفرادة الرواية تكمن في أسلوبها الذي غلبت عليه اللغة الفلسفية في تحليلها للشخصيات والأحداث.
شخصيات متقاطعة
تحكي الرواية، الصادرة حديثا عن منشورات المتوسط بميلانو، سيرة شابّ مغربي في أوروبا، والروائيّ يركّز على شخصيّته بمجهر الطبيب النفسيّ والذي تجسّد في شخصيّة مونيكا الطبيبة النفسيّة التي تباشر حالة حمامو بطل الرواية، وتحاول شرح عقده التي تأخذ شكلا عنقودياّ يعود إلى طفولته القاسية وأثّرت في طريقته البدوية في الحياة في فضاء يرفض هذا الأسلوب ظاهريّا، ويجعل منه مادّة للتحليل النفسيّ، وربّما يصل الأمر إلى استغلاله بطرق شتّى، كملهمٍ فنّيا أحيانا وكماكنة جنسيّة أحيانا أخرى.
وهذا التّوظيف جعل منه شخصيّة سكيزوفرينيّة تتمزّق بين الغرب العلماني المادّي وبين الشرق الخرافيّ الروحاني، تتحدّث عنه مونيكا فتقول: حمامو كتاب بلا غلاف، الصفحة الأولى موشومة بترسّبات مشاكسة، انفعالات الطفولة لن تنتهي، من أين لنا بالوقوف وتشخيص أعراض مرضه؟ عن مكتسباته وانبهاراته الجديدة عندما تجاوز البحر؟ أم عن وشمه الشعبيّ الممهور بحسّ روحيّ مرهون بالقدر رغم كبته؟
تحيط بحمامو شخصيات متناقضة تتأثّر به وتُؤثّر فيه، بداية بطبيبته مونيكا وهي ثمرة لقاء بين الشرق والغرب من خلال زيجة بين تشيشيلي الباسكيّة النصرانية واحميدة السطيفي العربي المسلم، والتي وجدت في حمامو ما تبحث عنه من حرارة شرقها المفقود، ثمّ شخصية العجوز البرجوازية طاطا مرثين وهي شخصية أبيقوريّة غارقة في متع الحياة ولذائذها، وتعتبر حمامو مجرّد ماكنة لذّة، تسمّيه حصانها الأسمر المجبول على العدو في الأوقات كلّها.
نجد كذلك شخصية أخرى لا تقلّ غرابة عن باقي شخصيات الرواية، هي شخصيّة الطبيب البيروفي الشيخ فركاس كما يسمّيه حمامو، وهو الشيوعيّ الحاقد على النظام الرأسمالي، والممتلئ بالثورات المغدورة على حدّ تعبيره، ثمّ شخصيّة محمد حسوني وهي تبدو وجها آخر من حمامو وتشترك معه في نقاط عدة، فالاثنان من بلد واحد ومهاجران إلى بلد واحد والاثنان يمثّلان حالتين مرضيّتين عند الدكتورة مونيكا، ويركّز الروائي على فاصل تحوّله من الطالب الشيوعي المتحمّس للأفكار الماركسية إلى رجل متطرّف دينيا. شبكة العلاقات هذه كانت عقدتها حمامو الذي دارت حوله الأحداثُ والأحاديث.
ولجأ هشام ناجح إلى أدب الرسالة لربط الشخصيات ببعضها البعض من خلال عرض الرسائل التي دارت بين بعض شخصيات الرواية، يلقي لنا الروائي رأيا على لسان إحدى شخصياته حول فكرة الرسائل، فيقول: كتابة الرسائل حالة تخلّصنا من المنغّصات كلّها وتعرّي هشاشتنا الذّاتيّة. فالرسائل بما تحمله من طاقات عاطفيّة وتعبيريّة، وما تخفيه من أسرار مثيرة للفضول وحبّ الاكتشاف، فتحت في الرواية منافذ سرّيّةً للولوج إلى أعماق الشخصيات وفهم عوالمها الخفيّة، حين نقرأ مثلا رسالة تشيشيلي إلى ابنتها مونيكا فهي تتجاوز مجرّد خطابٍ تواصليّ بين أمّ وابنتها، وإنما الرسالة مثّلت خيطا يربط بين جيلين مختلفين في نقاط الالتقاء بينهما والاختلاف أيضا. أو في رسالة مونيكا إلى حمامو التي نقلت فيها روح بابلو نيرودا من بلد الروائح المضمّخة بعطر الإنكا.
سرد كالرمل
في روايته “حديث الوجوه المائلة” تعامل ناجح مع السرد بطريقة الخيول البرّية السائبة، لم يحاول حصره في دائرة أجناسية تضبط سيره وتحرّكاته، وإنما تركه يندفع بتلقائيّة، ومن العنوان صنّفه بالحديث، والعرب تقول: الحديث ذو شجون. لذلك فإنّ الرواية لم تركّز على مسار حدثيّ يضبط اتجاهاتها وتحوّلاتها، وإنما كانت تنفتح على سردٍ ينسربُ كالرمل، إنها الشجون التي يخلقها الحديث، أو هي التي تخلقه في نقاط التقاطعات بين شخصيات الرواية وتفاعلها مع بعضها البعض، كما أنّ بعض مناطق الرّواية غلب عليها الخطاب التحليليّ النّفسيّ والفلسفيّ ما خلق من شخصيّات الرواية شخصيات معقّدة ومتطرّفة أيضا في عبثها إلى حدّ التفسّخ وفي كآبتها إلى حدّ الموت.
“حديث الوجوه المائلة” تمثّل فتحاً لغرف الذّات بمفاتيح السّرد على حدّ تعبير الكاتب، فتح على الآخر، الحديث والإنصات إليه في آن، وفتح صندوق الرسائل والحكايات والأسرار بينهما، وهي محاولة لفهم الذات المتشظيّة في العالم الحديث الذي تتشكّل فيه مفاهيم صادمة عن الإنسان وعلاقته بالوجود، وما اختيار الروائيّ لشخصيّة مرتجّة فكريّا وعاطفيّاً، ومريضة نفسيّا كمحمل لأفكاره ورؤاه في هذه الرواية، سوى تعبير عن القلق الذي يعيشه العالم، بل إنّ الروائيّ يقنعنا بأنّ شخصيّة حمامو المرضيّة هي الحالة الطبيعية للإنسان البدويّ الساذج الذي لا تحميه شرنقة عاداته ومعتقداته من صقيع هذا العالم المتغيّر.
حديث الوجوه المائلة، هشام ناجح (المغرب)،رواية - موقع اللغة والثقافة العربية
خطّت الرواية المغربيّة لها مسارا فريدا في الأدب العربيّ بفتح نوافذ أخرى على الواقع، محتطبة من تفاصيله وأصواته وألوانه، في ما اصطلح عليه نقديا بأدب القاع مع محمد شكري ومحمد زفزاف، والذي عمّق حساسيّته جيل جديد من الكتّاب المغربيّين، ورثوا المعاول نفسها عن آبائهم لكنهم حفروا في مناطق أخرى. تعتبر...
langue-arabe.fr