(كان احسان عبد القدوس أول من اشتبك مع د طه حسين، ثم التقط الخيط منه ناقدو اليسار، معركة جانبية بين إحسان ونجيب محفوظ، انتهت بصلح واعتذار، وكانت المعركة حول الشخصيات الملهمة للكاتبين، كان أحسان انفعاليا، ولكنه كان متسامحا أيضا)
"معارك إحسان عبد القدوس الشرسة"
منذ أن أصدر الكاتب الصحفى الشاب إحسان عبد القدوس مجموعته القصصية الأولى "صانع الحب" عام 1949، وهو يواجه نوعا من الهجوم المترصد، واتهامه باتهامات عديدة، منها أن أدبه "أدب فراش"، وعندما يحاول البعض تهذيب المصطلح يقولون "الأدب المكشوف"، ومن ثم كان إحسان لا يسكت، بل كان يرد الصاع صاعين، ولو حتى لم تتوجه السهام له بشكل مباشر، كان يهرع للرد والتعقيب والهجوم الأشرس، كما يقولون "هجمة مرتدة"، ولا غرابة أنه هو الذى بدأ الحرب على طه حسين، وأغرى شباب النقاد والمبدعين والأدباء عموما لمواجهة طه حسين، ونسى المؤرخون ذلك الأمر، وراحوا ينسبون تلك الشجاعة إلى آخرين، ومن بين معارك إحسان الكثيرة، والتى كان يخوض غمارها طوال حياته تقريبا، سأختار ثلاث معارك لاغير، جرت وقائعها كلها فى عقد الخمسينات، حيث أن هذا العقد اضطلع بتأسيس خطاب أدبى وفكرى وثقافى جديد بالفعل، وليس مجازا.
بينه وبين دكتور طه حسين:
قبيل قيام ثورة يوليو ببضعة أسابيع بالضبط، نشرت مجلة "مواهب" للدكتور ووزير المعارف الأسبق، وعميد الأديب العربى، مقالا مثيرا للغاية، وكان عنوانه "محنة الأدب"، هاجم فيه الأدب والأدباء والقرّاء ودور النشر دفعة واحدة، بدأه قائلا: "حياتنا الأدبية فيما يظهر من أمرها راكدة خامدة ما فى ذلك شك، فقد أصبحت الكتب القيمة نادرة يمر العام دون أن يظهر منها كتاب واحد فضلا عن كتابين أو ثلاثة كتب، والصحف اليومية والأسبوعية لا تكاد تحفل بالأدب، وقد تمر الأسابيع وقد تمر الشهور دون أن نقرأ فى صحيفة يومية أو أسبوعية فصلا أدبيا ذا بال، والمجلات الشهرية تعنى بلون من الأدب يسر لا يكلّف كاتبه عناء طويلا ولا يكلّف قارئه جهدا ثقيلا، ويستحب فيما تنشر المجلات الشهرية من فصول هذا الأدب أن تكون هذه الفصول قصارا، وأن تكون لغتها يسيرة سهلة، وأن تكون موضوعاتها أيسر وأسهل، فنحن قوم مترفون لا نريد أن نشق على أنفسنا حين نكتب، ولا نريد أن نشق على أنفسنا حين نقرأ..".
واستطرد طه حسين فى رجم حالة الأدب فى مصر، وقد أطلق منذ البداية عليه أنه يمر بمجنة، فراح طوال المقال يعلل ويدلل بشكل عام على أن الأدب بالفعل يمرّ بمحنة، دون أن يأتى بدليل عينى واحد، ولكنه رمى الحياة الأدبية كلها بذلك، وللأسف أن تلك الفترة بالتحديد، هى التى كانت شهدت نشر يوسف الشارونى ويوسف ادريس وصلاح عبد الصبور وفؤاد حداد وعبد الرحمن الشرقاوى وسعد مكاوى وغيرهم، أجمل ما لديهم من كتابات، وكان مصر الأدبية تمر بمخاض فكرى وأدبى بالفعل، وكانت الصحف والمجلات الأدبية والثقافية تشهد حراكا فغليا، وهذا ما أدانه طه حسين بقسوة لا تثبت إلا أنه كان بعيدا عن أرض الواقع تماما.
وردا على طه حسين، كان إحسان عبد القدوس هو الأول، رغم أنه ليس مقصودا بشكل خاص، لكنه شعر بأنه المقصود، فجاء المقال شرسا بشكل واضح، ونشره فى مجلة روز اليوسف بتاريخ 9 يونيو 1952، واستهله ب: "إنى أحتفظ برأيي فى الدكتور طه حسين باشا كوزير سابق وكرجل من رجال التعليم، وهو رأى لن يغضب سعادته إن لم يسرّه، ولكنى اليوم لا أستطيع أن أحتفظ برأىى فيه كأديب، بعد أن أبدى سعادته رأيه فى جميع الأدباء، فقال إن الأدب فى محنة وأنه أصبح أدبا رخيصا وكان بالأمس غاليا!!..الأدب فى محنة!، رغم أن سعادته لا يزال يعتبر نفسه أديبا، ولا يزال من زملائه منصور باشا فهمى!، وطه حسين كأديب لا يزيد فى نظرى عن رجل موسيقى .. تقوم موسيقاه على ترديد اللفظ ترديدا طويلا أو (موزونا) إن لم يفقد حلاوته فهو يجرّ السأم والملل لأنه لا يصل بك إلى المعنى إلا بعد أن تفرك عينيك عشر مرات لتطرد عنهما النعاس.."، واستمر إحسان على هذه الوتيرة، بل كان يزداد قسوة، مشيرا إلى أن طه حسين أصبح مثل صالح عبد الحى الذى يقول: "ياليل" فى أول الليل، ولا يكاد يصل إلى "ياعين"، حتى يكون الحضور قد انصرفوا، فمن أين سيفهم لغة الجيل الجديد، وهكذا كان إحسان عبد القدوس، هو أول من هزّ أسطورة طه حسين، وإن كان قاسيا، وجاء بعده صلاح حافظ وعبد الرحمن الشرقاوى ومحمود العالم وآخرون.
حول الأدب المكشوف مع فتحى غانم:
فى 23 فبراير 1953، نشر إحسان قصة عنوانها "حب بلاشئ"، هذه القصة تحكى عن رجل وامرأة التقيا صدفة، كان الرجل متزوجا، ومستقرّا فى حياته العائلية جدا، ولا ينقصه أى شئ، هناك اهتمام من الزوجة، كما أنها تقدره تقديرا عاليا، كما كان يبادلها نفس المشاعر، أما المرأة التى التقاها، فكانت كذلك مستقرة، وعلى وفاق كبير مع زوجها، ولكنهما عندما التقيا، ذلك الرجل وتلك المرأة، وجد كل منهما أن شيئا ما ينقصهما، فحاولا التغاضى لكى لا تحدث أشياء فى القلوب، فتفسد حياة كل منهما، ولكنهما رغما عنهما تبادلا أرقام التليفونات، مجرد تبادل أرقام، وقرر كل منهما أنهما لن يستخدما تلك الأرقام، ولكن هيهات، حدثت الشرارة، وحدث التواصل التليفونى، وحدث تبادل العواطف على أعلى مستوى، دون شعور بأى ذنب، كما صرّح بذلك إحسان فى متن القصة.
وفى العدد التالى مباشرة، نشر إحسان حديثا طويلا يسرد فيه ردود الفعل التى فجّرتها تلك القصة، بداية من القرّاء الذين انهالوا عليه فى رسائل شتى تنتقد القصة، ويطالبون "إحسان" بالتوقف عن كتابة القصص، لأنه بارع فى الكتابة السياسية، ولكنه عندما يكتب القصص يخرج عن اللياقة، ويخدش الحياء، رغم جمال الأسلوب والكتابة، وعرّج إحسان إلى بعض من تناولوا القصة فى الصحافة، وعلى رأسهم أنيس منصور، وعبّر إحسان أن "أنيس" لم يوضح فكرته بشكل يتيح له أن يفهم رأيه، وقال إحسان إن "أنيس" أراد أن يستعرض بضعة أفكار فقط لا غير، دون ربطها بالقصة المنقودة.
ثم راح إحسان نفسه، يستعرض الكتابات الغربية التى خاضت فى مثل هذه الأمور، دون أن تجد من يحاكمها، مثلما فعل الكاتب الصحفى_الزميل_ وكتب مقالا ينتقد فيه القصة بشدة، وهنا عبّر إحسان عن اندهاشه من زملائه فى نادى القصة مثل يوسف السباعى وتوفيق الحكيم وغيرهم، ولامهم على سكوتهم، وتركه وحده فى الحلبة، وفى العدد الذى تلا العددين، كتب سامى داوود مقالا ينتقد فيها القصة بشدة، ولكن فتحى غانم الذى تأجل مقاله أكثر من مرة، ونشر فيما بعد مقاليين متتاليين، الأول خصصه للكتابة عن العلاقات العاطفية والجنسية فى الأدب، وقرر بمشروعية ذلك، دون أى محاذير، فقط المحاذير الفنية، وهنا كان المقال الثانى الذى احتد فيه على إحسان كرئيس تحرير، وتسبب فى تأخير المقال بعدما استنجد "إحسان" برفاقه، لكى يشاركوا معه فى هذه المعركة، ولا فتحى غانم على إحسان تلك السلوكيات، فضلا عن أنه وجه له نقدا ساخرا فى مقارنة قصته بقصص لجان بول سارتر وغيره من كتّاب الغرب، وقال غانم بأن شتّان بين مايكتبه سارتر على سبيل المثال، وبين مايكتبه إحسان، حيث أن العلاقات العاطفية والجنسية عند هؤلاء العظام، لها مبررات فنيّة قوية ومترابطة، ولكنه يرى أن تلك العلاقات فى قصته هذه، مفتعلة، وليس لها أى ضرورة، وهنا تذكر غانم رسنا كاريكاتوريا رسمه الفنان الملهم عبد السميع يصف به "إحسان"، كان الرسم يصوّر "إحسان" فى ملابس البهلوان وهو يسير على "خيط رفيع"، وأول الخيط قد لف على رقبة مصطفى النحاس وآخره قد التف حول خصر صاحبة النظارة السوداء، وعلّق فتحى غانم "..وكان فى الرسم أبلغ إجابة على كل سؤال"، واستطرد فتحى غانم متناولا القصة جملة وتفصيلا، كذلك شغلت القصة بعضا من الكتّاب والمبدعين فترة من الزمن.
إحسان يغضب على نجيب محفوظ:
كان إحسان عبد القدوس بحكم موقعه كرئيس تحرير لمجلة كبيرة فى الحياة الصحفية، تضج حياته بالكتاب والصحفيين الشباب ومابعد الشباب، وهم الذين كانوا ينقلون له كافة أخبار الحياة السياسية والثقافية، وفى 24 سبتمبر 1956، نشر إحسان فقرة قصيرة فى مقاله الأسبوع بمجلة روز اليوسف جاء فيها: (خان نجيب محفوظ أمانة الزمالة، وأعلن أن بطلة قصتى "أنا حرة" هى أنا شخصيا، !!، وقد نشأت مع نجيب محفوظ فى حى واحد_العباسية الغربية_ وهو يكبرنى بعشر سنوات على الأقل، ولم يكن زميلا لطفولتى، ولكنه كان صديقا لابن عمتى الكبير، وهو بهذا يعرف الكثير عن ظروف طفولتى وصباى..وقد رأى هذه الظروف كلها فى قصة "أنا حرة"..
والواقع أنى وضعت أمينة _بطلة القصة_فى نفس الظروف التى مررت بها أنا شخصيا وأحطتها بنفس الجو ونفس العقليات ، ولكنها ليست أنا..لأن شخصيتها مقتبسة من شخصية بنات العباسية.. بنات كثيرات يعرف نجيب محفوظ معظمهن!! ، ثم مارأى نجيب محفوظ فى بطل القصة "عباس".. هل يعرفه؟ إنه أيضا شاب من شبان العباسية له الآن ذكر كبير .. فلماذا لا يكشف عنه أيضا كما كشف عن سر البطلة!
وهل يحب نجيب محفوظ أن أعلن للناس عن الشخصية الحقيقية لبطل قصته "السراب"؟ ، إنى أسمعه يرجونى أن أسكت!)
كانت هذه هى غضبة إحسان على صديق عمره نجيب محفوظ، وجاءت الغضبة من إحسان دون أن يتفهم المدى الذى ذهب إليه نجيب محفوظ، وبالتالى كان غضب نجيب محفوظ طبيعيا جدا، وردّ عليه برسالة نشرها إحسان فى العدد التالى مباشرة، وفحوى الرسالة أن نجيب محفوظ لم يقل هذا الكلام، لأنه يعرف تماما أن الأدب ليس انعكاسا مباشرا لشخصيات وأحداث واقعية بشكل ميكانيكى، ولكنه يستلهم الأحداث والشخصيات كما يفعل إحسان، أو أديب محترم، وطالب إحسان_بل رجاه متخابثا_ أن يفصح عن بطل روايته السراب، وقال له: "يا إحسان، اقرأ الرواية أولا، ولا تصدّق تلخيص يوسف السباعى لها، كى لا تقع فى المحظور"، كما أنه قال له بأنه لا يعرف من هو عباس الحلو فى رواية زقاق المدق، ولو يعرفه، فعليه أن يفصح عنه فورا دون تأخير، وهنا أفصح إحسان عن تفهمه للملابسات التى حدثت، واعتذر لنجيب محفوظ، بعدما قرر كل منهما أن الواقع كان ملهما عظيما لهما فيما يكتبان، ولكن الواقع عندما يتحول إلى فن، يصبح شيئا آخر.
شعبان يوسف
"معارك إحسان عبد القدوس الشرسة"
منذ أن أصدر الكاتب الصحفى الشاب إحسان عبد القدوس مجموعته القصصية الأولى "صانع الحب" عام 1949، وهو يواجه نوعا من الهجوم المترصد، واتهامه باتهامات عديدة، منها أن أدبه "أدب فراش"، وعندما يحاول البعض تهذيب المصطلح يقولون "الأدب المكشوف"، ومن ثم كان إحسان لا يسكت، بل كان يرد الصاع صاعين، ولو حتى لم تتوجه السهام له بشكل مباشر، كان يهرع للرد والتعقيب والهجوم الأشرس، كما يقولون "هجمة مرتدة"، ولا غرابة أنه هو الذى بدأ الحرب على طه حسين، وأغرى شباب النقاد والمبدعين والأدباء عموما لمواجهة طه حسين، ونسى المؤرخون ذلك الأمر، وراحوا ينسبون تلك الشجاعة إلى آخرين، ومن بين معارك إحسان الكثيرة، والتى كان يخوض غمارها طوال حياته تقريبا، سأختار ثلاث معارك لاغير، جرت وقائعها كلها فى عقد الخمسينات، حيث أن هذا العقد اضطلع بتأسيس خطاب أدبى وفكرى وثقافى جديد بالفعل، وليس مجازا.
بينه وبين دكتور طه حسين:
قبيل قيام ثورة يوليو ببضعة أسابيع بالضبط، نشرت مجلة "مواهب" للدكتور ووزير المعارف الأسبق، وعميد الأديب العربى، مقالا مثيرا للغاية، وكان عنوانه "محنة الأدب"، هاجم فيه الأدب والأدباء والقرّاء ودور النشر دفعة واحدة، بدأه قائلا: "حياتنا الأدبية فيما يظهر من أمرها راكدة خامدة ما فى ذلك شك، فقد أصبحت الكتب القيمة نادرة يمر العام دون أن يظهر منها كتاب واحد فضلا عن كتابين أو ثلاثة كتب، والصحف اليومية والأسبوعية لا تكاد تحفل بالأدب، وقد تمر الأسابيع وقد تمر الشهور دون أن نقرأ فى صحيفة يومية أو أسبوعية فصلا أدبيا ذا بال، والمجلات الشهرية تعنى بلون من الأدب يسر لا يكلّف كاتبه عناء طويلا ولا يكلّف قارئه جهدا ثقيلا، ويستحب فيما تنشر المجلات الشهرية من فصول هذا الأدب أن تكون هذه الفصول قصارا، وأن تكون لغتها يسيرة سهلة، وأن تكون موضوعاتها أيسر وأسهل، فنحن قوم مترفون لا نريد أن نشق على أنفسنا حين نكتب، ولا نريد أن نشق على أنفسنا حين نقرأ..".
واستطرد طه حسين فى رجم حالة الأدب فى مصر، وقد أطلق منذ البداية عليه أنه يمر بمجنة، فراح طوال المقال يعلل ويدلل بشكل عام على أن الأدب بالفعل يمرّ بمحنة، دون أن يأتى بدليل عينى واحد، ولكنه رمى الحياة الأدبية كلها بذلك، وللأسف أن تلك الفترة بالتحديد، هى التى كانت شهدت نشر يوسف الشارونى ويوسف ادريس وصلاح عبد الصبور وفؤاد حداد وعبد الرحمن الشرقاوى وسعد مكاوى وغيرهم، أجمل ما لديهم من كتابات، وكان مصر الأدبية تمر بمخاض فكرى وأدبى بالفعل، وكانت الصحف والمجلات الأدبية والثقافية تشهد حراكا فغليا، وهذا ما أدانه طه حسين بقسوة لا تثبت إلا أنه كان بعيدا عن أرض الواقع تماما.
وردا على طه حسين، كان إحسان عبد القدوس هو الأول، رغم أنه ليس مقصودا بشكل خاص، لكنه شعر بأنه المقصود، فجاء المقال شرسا بشكل واضح، ونشره فى مجلة روز اليوسف بتاريخ 9 يونيو 1952، واستهله ب: "إنى أحتفظ برأيي فى الدكتور طه حسين باشا كوزير سابق وكرجل من رجال التعليم، وهو رأى لن يغضب سعادته إن لم يسرّه، ولكنى اليوم لا أستطيع أن أحتفظ برأىى فيه كأديب، بعد أن أبدى سعادته رأيه فى جميع الأدباء، فقال إن الأدب فى محنة وأنه أصبح أدبا رخيصا وكان بالأمس غاليا!!..الأدب فى محنة!، رغم أن سعادته لا يزال يعتبر نفسه أديبا، ولا يزال من زملائه منصور باشا فهمى!، وطه حسين كأديب لا يزيد فى نظرى عن رجل موسيقى .. تقوم موسيقاه على ترديد اللفظ ترديدا طويلا أو (موزونا) إن لم يفقد حلاوته فهو يجرّ السأم والملل لأنه لا يصل بك إلى المعنى إلا بعد أن تفرك عينيك عشر مرات لتطرد عنهما النعاس.."، واستمر إحسان على هذه الوتيرة، بل كان يزداد قسوة، مشيرا إلى أن طه حسين أصبح مثل صالح عبد الحى الذى يقول: "ياليل" فى أول الليل، ولا يكاد يصل إلى "ياعين"، حتى يكون الحضور قد انصرفوا، فمن أين سيفهم لغة الجيل الجديد، وهكذا كان إحسان عبد القدوس، هو أول من هزّ أسطورة طه حسين، وإن كان قاسيا، وجاء بعده صلاح حافظ وعبد الرحمن الشرقاوى ومحمود العالم وآخرون.
حول الأدب المكشوف مع فتحى غانم:
فى 23 فبراير 1953، نشر إحسان قصة عنوانها "حب بلاشئ"، هذه القصة تحكى عن رجل وامرأة التقيا صدفة، كان الرجل متزوجا، ومستقرّا فى حياته العائلية جدا، ولا ينقصه أى شئ، هناك اهتمام من الزوجة، كما أنها تقدره تقديرا عاليا، كما كان يبادلها نفس المشاعر، أما المرأة التى التقاها، فكانت كذلك مستقرة، وعلى وفاق كبير مع زوجها، ولكنهما عندما التقيا، ذلك الرجل وتلك المرأة، وجد كل منهما أن شيئا ما ينقصهما، فحاولا التغاضى لكى لا تحدث أشياء فى القلوب، فتفسد حياة كل منهما، ولكنهما رغما عنهما تبادلا أرقام التليفونات، مجرد تبادل أرقام، وقرر كل منهما أنهما لن يستخدما تلك الأرقام، ولكن هيهات، حدثت الشرارة، وحدث التواصل التليفونى، وحدث تبادل العواطف على أعلى مستوى، دون شعور بأى ذنب، كما صرّح بذلك إحسان فى متن القصة.
وفى العدد التالى مباشرة، نشر إحسان حديثا طويلا يسرد فيه ردود الفعل التى فجّرتها تلك القصة، بداية من القرّاء الذين انهالوا عليه فى رسائل شتى تنتقد القصة، ويطالبون "إحسان" بالتوقف عن كتابة القصص، لأنه بارع فى الكتابة السياسية، ولكنه عندما يكتب القصص يخرج عن اللياقة، ويخدش الحياء، رغم جمال الأسلوب والكتابة، وعرّج إحسان إلى بعض من تناولوا القصة فى الصحافة، وعلى رأسهم أنيس منصور، وعبّر إحسان أن "أنيس" لم يوضح فكرته بشكل يتيح له أن يفهم رأيه، وقال إحسان إن "أنيس" أراد أن يستعرض بضعة أفكار فقط لا غير، دون ربطها بالقصة المنقودة.
ثم راح إحسان نفسه، يستعرض الكتابات الغربية التى خاضت فى مثل هذه الأمور، دون أن تجد من يحاكمها، مثلما فعل الكاتب الصحفى_الزميل_ وكتب مقالا ينتقد فيه القصة بشدة، وهنا عبّر إحسان عن اندهاشه من زملائه فى نادى القصة مثل يوسف السباعى وتوفيق الحكيم وغيرهم، ولامهم على سكوتهم، وتركه وحده فى الحلبة، وفى العدد الذى تلا العددين، كتب سامى داوود مقالا ينتقد فيها القصة بشدة، ولكن فتحى غانم الذى تأجل مقاله أكثر من مرة، ونشر فيما بعد مقاليين متتاليين، الأول خصصه للكتابة عن العلاقات العاطفية والجنسية فى الأدب، وقرر بمشروعية ذلك، دون أى محاذير، فقط المحاذير الفنية، وهنا كان المقال الثانى الذى احتد فيه على إحسان كرئيس تحرير، وتسبب فى تأخير المقال بعدما استنجد "إحسان" برفاقه، لكى يشاركوا معه فى هذه المعركة، ولا فتحى غانم على إحسان تلك السلوكيات، فضلا عن أنه وجه له نقدا ساخرا فى مقارنة قصته بقصص لجان بول سارتر وغيره من كتّاب الغرب، وقال غانم بأن شتّان بين مايكتبه سارتر على سبيل المثال، وبين مايكتبه إحسان، حيث أن العلاقات العاطفية والجنسية عند هؤلاء العظام، لها مبررات فنيّة قوية ومترابطة، ولكنه يرى أن تلك العلاقات فى قصته هذه، مفتعلة، وليس لها أى ضرورة، وهنا تذكر غانم رسنا كاريكاتوريا رسمه الفنان الملهم عبد السميع يصف به "إحسان"، كان الرسم يصوّر "إحسان" فى ملابس البهلوان وهو يسير على "خيط رفيع"، وأول الخيط قد لف على رقبة مصطفى النحاس وآخره قد التف حول خصر صاحبة النظارة السوداء، وعلّق فتحى غانم "..وكان فى الرسم أبلغ إجابة على كل سؤال"، واستطرد فتحى غانم متناولا القصة جملة وتفصيلا، كذلك شغلت القصة بعضا من الكتّاب والمبدعين فترة من الزمن.
إحسان يغضب على نجيب محفوظ:
كان إحسان عبد القدوس بحكم موقعه كرئيس تحرير لمجلة كبيرة فى الحياة الصحفية، تضج حياته بالكتاب والصحفيين الشباب ومابعد الشباب، وهم الذين كانوا ينقلون له كافة أخبار الحياة السياسية والثقافية، وفى 24 سبتمبر 1956، نشر إحسان فقرة قصيرة فى مقاله الأسبوع بمجلة روز اليوسف جاء فيها: (خان نجيب محفوظ أمانة الزمالة، وأعلن أن بطلة قصتى "أنا حرة" هى أنا شخصيا، !!، وقد نشأت مع نجيب محفوظ فى حى واحد_العباسية الغربية_ وهو يكبرنى بعشر سنوات على الأقل، ولم يكن زميلا لطفولتى، ولكنه كان صديقا لابن عمتى الكبير، وهو بهذا يعرف الكثير عن ظروف طفولتى وصباى..وقد رأى هذه الظروف كلها فى قصة "أنا حرة"..
والواقع أنى وضعت أمينة _بطلة القصة_فى نفس الظروف التى مررت بها أنا شخصيا وأحطتها بنفس الجو ونفس العقليات ، ولكنها ليست أنا..لأن شخصيتها مقتبسة من شخصية بنات العباسية.. بنات كثيرات يعرف نجيب محفوظ معظمهن!! ، ثم مارأى نجيب محفوظ فى بطل القصة "عباس".. هل يعرفه؟ إنه أيضا شاب من شبان العباسية له الآن ذكر كبير .. فلماذا لا يكشف عنه أيضا كما كشف عن سر البطلة!
وهل يحب نجيب محفوظ أن أعلن للناس عن الشخصية الحقيقية لبطل قصته "السراب"؟ ، إنى أسمعه يرجونى أن أسكت!)
كانت هذه هى غضبة إحسان على صديق عمره نجيب محفوظ، وجاءت الغضبة من إحسان دون أن يتفهم المدى الذى ذهب إليه نجيب محفوظ، وبالتالى كان غضب نجيب محفوظ طبيعيا جدا، وردّ عليه برسالة نشرها إحسان فى العدد التالى مباشرة، وفحوى الرسالة أن نجيب محفوظ لم يقل هذا الكلام، لأنه يعرف تماما أن الأدب ليس انعكاسا مباشرا لشخصيات وأحداث واقعية بشكل ميكانيكى، ولكنه يستلهم الأحداث والشخصيات كما يفعل إحسان، أو أديب محترم، وطالب إحسان_بل رجاه متخابثا_ أن يفصح عن بطل روايته السراب، وقال له: "يا إحسان، اقرأ الرواية أولا، ولا تصدّق تلخيص يوسف السباعى لها، كى لا تقع فى المحظور"، كما أنه قال له بأنه لا يعرف من هو عباس الحلو فى رواية زقاق المدق، ولو يعرفه، فعليه أن يفصح عنه فورا دون تأخير، وهنا أفصح إحسان عن تفهمه للملابسات التى حدثت، واعتذر لنجيب محفوظ، بعدما قرر كل منهما أن الواقع كان ملهما عظيما لهما فيما يكتبان، ولكن الواقع عندما يتحول إلى فن، يصبح شيئا آخر.
شعبان يوسف