بدأت الشوارع تضيق شيئاً فشيء كلما توغلت الحافلة السفرية إلى داخل البلدة، كان المطر ينهمر في غزارة والرعود والبرق تعصف في جنون كأن حواراً غاضباً يدور بين ماردين عملاقين عند سقف السماء؛ ليس حواراً بل معركةً في أوج إحتدامها! كلما أضاءَ البرقُ تكّشفت ظلال بيوت البلدة البائسة، كانت الشوارع خاوية من المارة بسبب المطر الغزير، ولكن ما أن وصلت الحافلة إلى ساحة السوق الكبير بدأت حركة متواضعة بالتصاعد، فسكان البلدة يعتمدون إعتماداً كاملاً على نزول المسافرين عند سوق بلدتهم؛ فالمسافرون هم من يأكلون في مطعم السوق الوحيد، وينامون في النزل ويشربون شاي أستاذة جليلة ويشترون البسكويت والحلويات من جوقة الباعة الجائلين. بإختصارٍ شديدٍ فإن بلدة كوجة تعتاش على حركة المسافرين كونها ملتقى طرقٍ عديدةٍ تجتمع كلها في منتصف البلدة عند ساحة السوق الكبير، وأهم هذه الطرق هو الطريق القادم من العاصمة شاقاً بلدتهم من الشمال إلى الجنوب ممتداً إلى نهايات بعيدة إلى الجنوب حيث سلاسل الجبال السوداء البعيدة التي لم تبلغها راحلة ولا سيارة من قبل، ولا يجرؤ أحداً في محاولة السفر إلى تلك الجبال بسبب الأساطير المخيفة المروية عن تلك التخوم، آخر قرية معمورة في ذلك الإتجاه هي قرية الشيخ اليأجوج؛ ذلك الرجل العالم الذي قدم إلى المنطقة من "نيسابور" بآسيا الوسطى قبل ستمائة عام هو وأبنائه وأحفاده الثلات مائة وتسعة وإستقروا في هذه المنطقة، ولايفصلهم عن حجر الجن (جبل منفرد من سلسلة الجبال السوداء) لايفصلهم من حجر الجن غير ميلاً ونصف الميل إلى الدرجة التي يسمع فيها المقيمون هناك جلبة وترانيم جماعة الجّن عندما تحين دورة عيدهم السنوي ويسيرون مواكب الولاء لسلطان الجن الأقدس زاركون بن لوسيفير الوصي على جن نجد والحجاز وتخوم السودان الشّرقية حتى أرض الصومال جنوباً. يقول الرواة أن في ذلك اليوم تجتمع جنة الأرض والكواكب القريبة، ويحشدون برجلهم وخيلهم وبسطهم الطيّارة، ولأن الجن يحبون الطِيب فإنهم يجلبون العطايا المنمقة من أنواع الِطيب إلى سلطانهم من عود الهند وزيت جزائر جاوا وطِيب بابوا الذي لايضاهيه طيبٌ لا في الأرض ولا في السماء لان جدهم سيسيليوس المتنكر في جلد الحّية لما أيقن من أنه مطرودٌ من السماء، غافل حرّاس طِيب السمواتِ وإبتلع قنينة العطر الهَجرومي المعّتق لعشراتِ الدهور مما يحسب به أهلُ السماءِ سنيهم، ونزل بقنينة العطر السماوي إلى الأرض، وسَبَحَ في المحيط حتى آوى إلى جزيرة بابوا وهناك قطر من سّرِ ذلك العطر قطرةً في سُرّةِ كل جّني وماردٍ من مردة تلك البلاد؛ فصاروا بدورهم سادة الطيب وسدنة القنينة السماوية وحرّاسها. قال رجلٌ كهلٌ إنه كان كثيرُ التِرحال في شبابه، محبٌ للسفر سبّارٌ للمجاهيل، مقدامٌ خطّارٌ، روى أنه في سفرةٍ له يطلب حبشيّةٍ أغرم بها ضرب لأجلها الأرض حتى تخوم حجر الجّن، فأدرك رحلها ووجدها في إيوانٍ من المرمرِ والرُخامِ الحُّرِ، مضجعةً على أريكةٍ من زبرجدٍ وعقيقٍ أحمرَ، ملحّفةٌ بحريرِ آصِفي ونسيجَ الشرقِ المنمقِ، تحّفها أشابين من الجنيات المستأنسات. قال دخلت عليها وشكوت لها لواعج شوقي إليها وكلفي بها، فأجلستني على بساطٍ يطفو على الهواءِ، وسقتني من شرابٍ كريمٍ، ولمّا أحسّت بشقفي وصبّابتي، قالت لي: (لو أنت تُريدني؛ فبطِيب عروسُ كاري كاري وحدهُ أتهيأ لك). فدخلت إلى خدرٍ من مياسمِ الأقحوان، فرشهُ ثوباً من العبقِ الشّجي وإبرتين من العبيرِ وخيطَ ماء، وبعد لحظات نادت عليّ أن أقبل. هرعت إليها وقد بلغ مني الوجد مبلغاً، ولما دلفت إلى الخدر، صدمني عبقُ طِيبها الهُجرومي السماوي، فطار عقلي في تّوه وجنّت بصيرتي فسحتُ في الأرضِ أربعينَ عاماً ءاكلُ من خشاشِ الأرضِ، وأسكن الخرائبَ كخُفّاشٍ طريدٍ! لا أخرجُ إلّا في العَتمةِ.. وقال لانني بشري لم أحتمل طِيبِ الهجروميات؛ صارت بي جُنّة إلى أن رآني رجلٌ صالحٌ فأخذَ بلحيتي وبرأسي وقرأ علَّي من أسفارِ الحكمةِ، فجاءني لتوي رسولٌ كريمٌ وبشّرني بردِ عقلي إليّ، ولكنه قال لي: (لقد نَسمتَ نصيبَك من طيبِ الجنّةِ، ووطرتَ إربكَ من حوريةِ الأحباش، فلا نصيبَ لك بعدَ الآن من نعيمِ السماء. عقلَك رُدَّ إليك وآن لك أن تكدحَ في الأرضِ، أبناؤك تعرفهم من عراقيبهم يمشون على مياسمِ القرنفل) قال، عندها أدركت أنني واقعتُ تلك الحبشّية ليلتها، ولأنها هجينٌ؛ نصفِ بشريّة ونصف جنيّة حُجب مني نسلي، فلا أرى أولادي منها ولايروني!.