عمرو الزيات - من أوهام الحداثة!

لقد آن للشاه المنبتة عن القطيع أن تدرك قطيعها، وللروح الشريدة القلقة أن تستريح، ولسفينة العمر الضائع أن ترسو بعدما فقد ربانها السيطرة عليها في خضم أمواج الفشل العاتية الجبارة، نعم: إن الشاة قد أدركت – أخيرا – القطيع؛ لكنه قطيع من الذئاب، والروح قد استراحت وسط عالم من الأشباح؛ والسفينة قد ألقتها الأمواج العاتية على شاطئ اليأس المرير.
نهاية ونتيجة حتمية لبعض البشر؛ فهم – رغم فشلهم – واسعو الثقة بنفوسهم، بعيدو الطمع في مستقبلهم، مطمئنون في غير تكلّف أنهم حملة العلم والثقافة، وعلى عواتقهم تقع مهمة الدفاع عن لغة القرآن، يحيط بهم قوم من ذوي الإحن والحزازات يلوحون إليهم ويتملقونهم، ولا يدرون أنهم بذلك يكسبون خبزا مسموما تستمرئه تلك الجيف الحقيرة التي تحركها الحياة لحكمة كما تحرك الهوام وخشاش الأرض، في بلد لو لم يكن فيه من هو شر منهم وأسوأ لماتوا جوعا أو تواروا عن العيون.
أصدق ما يقال في هؤلاء أنهم – كما قال الإمام علي كرم الله وجهه – " هَمَجٌ رَعاعٌ أتباعُ كلِّ ناعقٍ، مع كلِّ ريحٍ يميلون، لم يَسْتَضيئوا بنور العلم، ولم يَلْجؤوا إلى ركنٍ وثيقٍ"
إن الجاهل هالك لا محالة؛ لأنه لا يضع شيئا في محله، وكثيراً ما تصدر منه الحماقة، وسوء التصرف، والحماقة لا يتولد منها إلاَّ التهور والضعف وسرعة الغضب والانفعال وسوء السلوك، ومن حمقه لا يعالج الأمور بالتأني والروية والحكمة والصبر، وإنما يسعى إلى التغيير بحماقته؛ لكن سرعان ما يكون الفشل حليفه، ويكون سقوطه محققا.
يروى أن معلما أراد يعلم صبيا، فاخذ يقول له: قل ورائي: الأمل حلو، فيقول الصبي: الأمل حلو، فقال المعلم: الفشل مرّ، قال الصبي: الفشل مرّ، وهنا صاح المعلم: هيا كرر الجملتين، قال الصبي: كرر الجملتين، ضاق به المعلم وصرخ في وجهه: أنت غبيّ: فقال الصبي مرددا: أنت غبيّ!!!
ونحن نسوغ ذلك للصبي الذي يتصرف بسذاجة؛ بيد أن ما لا نسوغه هو خروج بعضهم علينا بهذا السخف الذي يطلقون عليه أدبا، أو ما يدعونه حداثة مرددين – في سذاجة الصبيان – كلام من يريدون محو تراثهم وطمس هويتهم.
لقد شاع مفهوم الحداثة على ألسنة بعض الدارسين، وأشباه المثقفين دون وعي لما يراد به؛ فالحداثة تعني الخروج والثورة على كل موروث وتحطيمه، وثمة فرق معلوم بين الإبداع والفوضى، فالإبداع هو كسر جميع القيود التي تكبل الإنسان، وتحول دون انطلاقه في سماءات رحيبة مستكشفا عوالم جديدة، ومبتكرا لكل طارف؛ رغم تمسكه بكل تليد، أما الفوضى فتعنى الخروج عن القواعد وهدمها وعدم الالتزام بها. مما سبق يتضح لنا أن معنى الحداثة يساوي معنى الفوضى؛ فكلاهما تمرد وخروج عن القواعد، فهل علمتم _ أرباب الحداثة _ إلام تدعون؟! وكأني بأحدهم يسارع كالمحموم صائحا: أنت تعرف الإبداع بأنه كسر للقيود، وتعرف الحداثة بأنها خروج عن القواعد، إذن أنت تقرّ أن الإبداع مساو في المعنى للحداثة، ويستنتج صاحبنا هذه النتيجة بذكائه الفرد ( الحداثة إبداع )؛ ولكنا نسارع فنصدمه بهذا الحجر في وجهه، وبهذه الحقيقة المريرة: أيها الحداثيون المثقفون ، تلك سمة أصيلة تميّزكم عن سائر خلق الله وهي الترديد دون وعي، يقرأ أحدكم؛ لكن عقله المريض لا ينفذ إلي ما وراء الحروف من معنى. ونعود لصاحبنا المحموم فنخبره بما استغلق عليه - لأنه ببغاء - من هذه التعريفات فنقول : أعلم يا هذا - أراحك الله من عناء الترديد - أن القوانين والقواعد هي التي تنظم حياتك، وهى المسبار الصحيح لها، فإن خرجت عن تلك القواعد فأنت فوضوي همجي لا ترقى لمنزلة البشر، أما كسرك للقيود لتصبح حرّا مبدعا خلاقا - وأذكرك بأن تلك الصفة لا تخصك ؛ لأنك ببغاء - فذلك الإبداع .
أيها الحداثيون الببغاوات، عودوا لتراثنا العربي تجدوا فيه ما تمجدونه من مصطلحات الغرب؛ وفي ذرعنا أن نقول: إن جميع النظريات النقدية الغربية في العصر الحديث موجودة لدى نقادنا العرب، وما فعله هؤلاء الأعاجم مجرد جمع لما تشتت من أراء العرب، وأطلقوا عليه نظريات يفغر الببغاوات أفواههم عندما يسمعون عنها أو يطالعونها لدى هؤلاء الناقلين؛ لكن على القلوب أقفالها.
وكل ما نستطيع أن نعلل به هذا الاعوجاج في طبائع هذه النفوس وأذواقها أنها تلفت لفرط ما أخلدت إلى الكسل والضعة، وتلوثت لحقارة المشاغل التي بقي لها أن تعنى بها وتكترث لها، ونغلت لشدة ما توالى عليها من عنت الدهر وذلّ الحوادث وإلحاح الإحساس الدائم بالضعف والجبن والعجز حتى أعقبها هذا البلاء العجز عن احتمال الجد والتمادي في الهزل حتى صارت المغالطة والالتواء والهرب من الحقائق ديدنها بل كادت تكون خلقا ثابتا فيها.

عمرو الزيات

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى