الشيطان ذلك المخلوق الذي يلازمنا ملازمة لصيقة، فهو يجري في دم بني آدم، وهو ما ينسب إليه كل فعل للشر، الشيطان هو الذي خدع المجرم ليقترف جريمته، وهو الذي زين للسارق فعلته، وهو الذي أوحى للخبيث بفكرته!.
كان أول إرهاصات لظهور الشيطان في الأديان، كما يقول الباحثون في علم الأديان، في الديانة الزاردشتية، التي تعد واحدة من أقدم الديانات التوحيدية في العالم، فمؤسسها، الفيلسوف أو"النبي" - بحسب ما يذهب لذلك بعض الفقهاء المسلمين - زاردشت قام بتبسيط مجمع الآلهة الفارسي القديم إلى مثنوية كونية تحت إله واحد وهو "أهورامزدا" والذي يعني "الحكمة المضيئة" والذي ينسب إليه الخير والنور دون الشر والظلمة، اللذين يطلق على إلههما اسم «آهرمان» ولكنَّهُ ليس بمُستوى الأول، حيث لابد أن ينتصر الإله "أهورامزدا" إله النور والخير في النهاية.
ومن هنا كان أول من نسب فعل الشر للإله «آهرمان» الشيطان، وكما هو معروف فإن معضلة الشر ظلت المعضلة الأهم التي تحاول كل الأديان تكييفها تكييفا موضوعيا مقنعا من خلال الركن الأول في أركان الدين، كما يصنفه علماء الأديان وهو ركن الأسطورة، وهو الركن الذي تكون مهمته تقديم تفسير "موضوعي" للوجود وعملية الخلق، فلا يوجد دين من الأديان لا يتوفر على أركان ثلاثة رئيسة: هي الأسطورة والعقيدة والطقوس.
لم تكن فكرة الشيطان معروفة في الأديان التي سبقت الزاردشتية، حيث كانت أديان متعددة الآلهة تتصارع وتتحارب فيها تلك الآلهة هذا الصراع الذي ينتج عنه الخير والشر، ولكن زاردشت جاء بأسطورة جديدة، فإن كانت الديانة الزاردشتية احتفظت بثنائية الصراع: النور والظلمة، ولكنها نسبت الخير الذي يرمز له بالنور إلى الله الذي ينتصر في النهاية.
ويرى علماء الأديان أن اليهودية قد نقلت عن الزاردشتية مفهوم الشيطان، وذلك في فترة الأسر البابلي، الذي تم فيه التدوين، تدوين التوراة - الأسفار الخمسة "العهد القديم" عبر عزرا الكاتب، في هذه الفترة، فترة الأسر البابلي حدث احتكاك مباشر بين الديانة اليهودية التي ذهبت شيئا فشيئا في عملية تفريد الإله "يَهْوا"، ومن هذا الاحتكاك تأثرت وتطورت فكرة الشيطان -التي تؤدي لفظته "ها ساطان" في اللغة العبرية معنى "العائق" - التي انتقلت إليها، كما تأثرت بالكثير من الثقافة البابلية، حيث نجد آثارا من ملحمة جلجامش قد تسربت إلى القصص التوراتي، وظهرت فكرة الشيطان بعد ذلك ظهورا واضحا في الديانة المسيحية باعتباره "ملاك ساقط" رمزا للشر، ولكنها، وإن نسبت الشر للشيطان، فإنها لم تجعله سبب الخطيئة الأولى التي نسبتها للحية -والتي لها العديد من الأدوار في الأديان السابقة - التي أغوت حواء التي بدورها أغوت آدم للأكل من الشجرة التي كان نهاهما الله سبحانه وتعالى عن أن يأكلا منها، ولكن الحية زيّنت لحواء الأكل منها لكي تنضم مع آدم إلى الآلهة.
أما الشيطان فيظهر بصورته المتخيلة بوضوح شديد في الديانة الإسلامية ليصبح وراء كل الشرور، ويصبح سبب الخطيئة الأولى متمثلا في إبليس، ذلك الملاك المتمرد الرافض للسجود لآدم، هذا الذي يرى فيه البعض تنزيها مطلقا منه لله عز وجل، حيث رفض السجود لغيره، هذا الذي لا يتفق مع المقصود من الرواية الإسلامية التي تثبت عصيان إبليس لأمر الله بالسجود لآدم، ومن ثم يغضب عليه الإله، ويلعنه، ولكن إبليس يطلب من الله أن يَنْظُرَه ليغوي آدم وأبنائه! فيمنحه الله عز وجل هذا الانتظار "إنك لمن المنظرين". ثم إننا نعلم بقية قصة وسوسة الشيطان لآدم ليقع في خطيئة الأكل من الشجرة الممنوع الأكل منها سلفا، هذا الذي كانت نتيجته هو طرد آدم وحواء من الجنة وينزلون الأرض جميعا: آدم وحواء وإبليس ليبدأ الصراع الممتد من تلك اللحظة في البدايات الأولى حتى تلك اللحظة وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
لم يترك الشيطان الإنسان ليهنأ في مرحلة من مراحل الحياة، وكيف هذا ومهمته الرئيسة هي غوايته وإبعاده عن طريق الحق والإيمان، وإذا كان الإنسان في الأديان التعددية لم يثنه الشيطان عن عبادته هذه، بل زينها له، فإنه ما أن أرسل الله أنبياءه، وكلف رسله لهداية البشر، إلا وجدنا الشيطان يصد هذا الإنسان عن عبادة الله الواحد، وهذا ما يتضح في كل دعوات الرسل بداية من موسى عليه السلام الذي يدعو قومه، لأنه كان حصريا لهم، سنين طويلة ليخلصهم من الشرك بالله، بعدما أنجاهم الله من فرعون وتجلى بمعجزاته التي تنوعت ما بين الانتصار على سحرة فرعون وشق البحر بل تجلى لموسى على الجبل، ومع كل ذلك كان عمل الشيطان فاعلا بقوة شديدة، فوجدنا بني إسرائيل يعبدون العجل، ثم مع دعوة المسيح عليه السلام وهو الذي أيده الله بالمعجزات التي لا يملك إنسان بعد أن يشهدها إلا أن يخر ساجدا مؤمنا بالله العلي القدير، ولكن ذلك لم يحدث، فلم يؤمن إلا قليل، حيث وقف الشيطان حائلا دون أن يرى الناس عظمة تلك المعجزات التي كان من بينها إحياء الموتى، وهل هناك ما هو أكثر إعجازا من تلك المعجزة؟!.
أما الدعوة المانوية التي أسسها ماني البابلي، والتي جاء بعد السيد المسيح بثلاثة قرون ليعلن أنه آخر الأنبياء، ويدعو الناس لعبادة الله الواحد، هل كانت دعوة شيطانية؟!. هكذا يؤمن أتباع كل الأديان، من الأصل، أم أن الشيطان هو ما كان السبب في أن يكتب لها الفشل؟!. لتنتهي في عصر الدولة العباسية، بعدما تقصّد أتباعها الخلفاء العباسيون، كما كانت قد اضطهدتهم الدولة الساسانية الزاردشتية، واضطهدتهم الدولة البيزنطية المسيحية، واضطهدتهم دولة الخلافة الإسلامية أخيرا، وجملة القول أن تاريخ المانويين كان تاريخَ اضطهاد وقمع.
ويذهب الدكتور زكي نجيب محمود إلى أن كلمة زنديق، التي كانت تطلق على أتباع كتاب "أَڤِسْتا" الكتاب المقدس للديانة الزاردشتية والذي له كتاب آخر يشرحه وهو كتاب "زَنْد أَڤِسْتا"، وكان يقصد بكلمة زنديق "أتباع زَنْد أَڤِسْتا"، أُطْلِقتْ على أتباع الديانة المانوية في العصر العباسي الأول.
أما في الرسالة الخاتمة رسالة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقد صد الشيطان الناس عن الإيمان، هذا الصد الذي رافق الدعوة الجديدة لمدة ثلاثة عشر سنة لم يؤمن بها إلا قلة أغلبها مستضعفة، دفع هذا الصد الرسول الكريم للهجرة إلى المدينة المنورة، ذلك الذي مكّن الدين الجديد شيئا فشيئا في النفوس إلى أن دانت شبه جزيرة العرب بالإسلام في نهاية عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وانتشار الإسلام في العصور التالية في العديد من الدول المجاورة، هذا الذي لا يعني كسلا من الشيطان الذي يسكن في النفوس، والذي يجرى من ابن آدم مجرى الدم كما قال الرسول الكريم: فلم يزل الغالبية من البشر رغم مرور أكثر من ١٤٠٠ سنة على آخر رسالة سماوية، لم يزل أغلب البشر لا يؤمنون، ليس بالديانة الخاتمة، بل بالله عز وجل، وبتعدد النظر من زوايا مختلفة نجد أن الشيطان ينتصر على الإرهابيين فيقترفون ما يقترفون من جرائم، ومن زاوية نظر الإرهابيين نجد الشيطان أكثر نشاطا وغواية حيث يروننا جميعا على غير الحق، وغير مؤمنين، هذا الذي ينسحب على الأديان فأتباع كل ديانة من الديانات التي مهما زاد عددهم فإنهم يظلون أقلية بالمقارنة بعدد البشر على كوكب الأرض، هذا لو افترضنا أن كل أتباع تلك الديانة مهتدين، فإن كان الشيطان يعمل على المستوى العام فهو يعمل في الأصل على المستوى الفردي ليقترف كل إنسان داخل عقيدته الخطايا والذنوب، هذا الذي يؤكد أن الشيطان هو أكثر المخلوقات نشاطا وإخلاصا في العمل الذي أوقف نفسه عليه.
من نافلة القول أن هناك من لا يؤمن بالشيطان كما تصوره الأديان فهو عند البعض خرافة، كما نجد في تعريفه في موسوعة ويكيبيديا حيث: الشيطان هو كائن خارق للعادة يُعتبر تجسيداً للشر في كثير من الثقافات والأديان باختلاف المسميات وفي أحيان كثيرة عدواً ونقيضاً للإله فهو ممثل الشر وكل ما ينطوي تحته من أفعال وأفكار في حرب مقدسة أو كونية مع قوى الخير.
وأدق المصطلحات الفلسفية لوصف علاقة الشيطان بالإله هي المثنوية. فالإله يمثل قوى الخير والنور التي تقاتل لأجل نجاة الأرواح البشرية من شر الشيطان وأعوانه.
أما ما قيل من أن الإمام محمد عبده قد أوّل الملائكة والشياطين بنوزاع النفس البشرية، فلم أتمكن من خلال البحث من الوصول إليه، وإن كان قد ثبت فإنه يعقّلن هذه الكائنات بشكل يحولها من الإيمان، الذي لا يبنى على دليل، إلى صورة عقلية قابلة للتصديق.
وننشر هنا ما ذكره الإمام محمد عبده حينما تعرَّض لقصة الملائكة وآدم في سورة البقرة حيث حكى في معنى الملائكة قولين:
الأول: مذهب السلف، وهو أنهم خلق أخبرنا الله بوجودهم، وببعض عملهم، فيجب الإيمان بهم، ولا يتوقف ذلك على معرفة حقيقتهم، فنفوض علمهم إلى الله، لهم أجنحة ولكن ليست من الريش، وهم موكلون بالعوالم الجسمانية كالنبات والبحار.
وقد قال قبل ذلك : (أنا على طريقة السلف في وجوب التسليم والتفويض فيما يتعلق بالله تعالى وصفاته وعالم الغيب).
الثاني: مذهب الخلف، فمنهم من تكلم في حقيقة الملائكة ومنهم من أمسك، لكنهم اتفقوا على أنهم يعلمون ويدركون.
ثم ذكر مذهباً ثالثاُ، وهو أن مجموع ما ورد في فهم معنى الملائكة من كونهم موكلين بالأعمال من إنماء نبات وخلقة حيوان وغيره فيه إيماء إلى الخاصة بما هو أدق، وهو أن هذا النمو في النبات لم يكن إلا بروح خاصّ نفخه الله، فكل أمر قائم بنظام مخصوص قوامه بروح إلهي سماه الشرع ملكاً، ويسميه غير المؤمن قوى طبيعية، والحقيقة واحدة.
ثم ذكر أنه لا يوجد في الدين ما يمنع من هذا التأويل.
وفي الختام فإننا نشير هنا لقصة قصيرة رائعة للأديب والفيلسوف العربي الكبير جبران خليل جبران بعنوان "الشيطان" وهي حوارية بين الشيطان الذي يريد من رجل دين "قسيس" أن يساعده، وهو حوار ممتع للغاية يقنع الشيطان فيه رجل الدين بضرورة مساعدته؛ لأن وجوده هو سبب وجود رجل الدين وأن عدم وجود الشيطان سيعود أول ما يعود بالضرر على رجل الدين الذي لن يكون لوجوده سبب في الحياة ومن ثم سيفقد وظيفته ومكانته الاجتماعية الكبيرة؛ ولهذا فعليه أن يحرص كل الحرص على الحفاظ على وجود الشيطان.
وهي قصة فلسفية عميقة المعنى والدلالة.
بهجت العبيدي
كان أول إرهاصات لظهور الشيطان في الأديان، كما يقول الباحثون في علم الأديان، في الديانة الزاردشتية، التي تعد واحدة من أقدم الديانات التوحيدية في العالم، فمؤسسها، الفيلسوف أو"النبي" - بحسب ما يذهب لذلك بعض الفقهاء المسلمين - زاردشت قام بتبسيط مجمع الآلهة الفارسي القديم إلى مثنوية كونية تحت إله واحد وهو "أهورامزدا" والذي يعني "الحكمة المضيئة" والذي ينسب إليه الخير والنور دون الشر والظلمة، اللذين يطلق على إلههما اسم «آهرمان» ولكنَّهُ ليس بمُستوى الأول، حيث لابد أن ينتصر الإله "أهورامزدا" إله النور والخير في النهاية.
ومن هنا كان أول من نسب فعل الشر للإله «آهرمان» الشيطان، وكما هو معروف فإن معضلة الشر ظلت المعضلة الأهم التي تحاول كل الأديان تكييفها تكييفا موضوعيا مقنعا من خلال الركن الأول في أركان الدين، كما يصنفه علماء الأديان وهو ركن الأسطورة، وهو الركن الذي تكون مهمته تقديم تفسير "موضوعي" للوجود وعملية الخلق، فلا يوجد دين من الأديان لا يتوفر على أركان ثلاثة رئيسة: هي الأسطورة والعقيدة والطقوس.
لم تكن فكرة الشيطان معروفة في الأديان التي سبقت الزاردشتية، حيث كانت أديان متعددة الآلهة تتصارع وتتحارب فيها تلك الآلهة هذا الصراع الذي ينتج عنه الخير والشر، ولكن زاردشت جاء بأسطورة جديدة، فإن كانت الديانة الزاردشتية احتفظت بثنائية الصراع: النور والظلمة، ولكنها نسبت الخير الذي يرمز له بالنور إلى الله الذي ينتصر في النهاية.
ويرى علماء الأديان أن اليهودية قد نقلت عن الزاردشتية مفهوم الشيطان، وذلك في فترة الأسر البابلي، الذي تم فيه التدوين، تدوين التوراة - الأسفار الخمسة "العهد القديم" عبر عزرا الكاتب، في هذه الفترة، فترة الأسر البابلي حدث احتكاك مباشر بين الديانة اليهودية التي ذهبت شيئا فشيئا في عملية تفريد الإله "يَهْوا"، ومن هذا الاحتكاك تأثرت وتطورت فكرة الشيطان -التي تؤدي لفظته "ها ساطان" في اللغة العبرية معنى "العائق" - التي انتقلت إليها، كما تأثرت بالكثير من الثقافة البابلية، حيث نجد آثارا من ملحمة جلجامش قد تسربت إلى القصص التوراتي، وظهرت فكرة الشيطان بعد ذلك ظهورا واضحا في الديانة المسيحية باعتباره "ملاك ساقط" رمزا للشر، ولكنها، وإن نسبت الشر للشيطان، فإنها لم تجعله سبب الخطيئة الأولى التي نسبتها للحية -والتي لها العديد من الأدوار في الأديان السابقة - التي أغوت حواء التي بدورها أغوت آدم للأكل من الشجرة التي كان نهاهما الله سبحانه وتعالى عن أن يأكلا منها، ولكن الحية زيّنت لحواء الأكل منها لكي تنضم مع آدم إلى الآلهة.
أما الشيطان فيظهر بصورته المتخيلة بوضوح شديد في الديانة الإسلامية ليصبح وراء كل الشرور، ويصبح سبب الخطيئة الأولى متمثلا في إبليس، ذلك الملاك المتمرد الرافض للسجود لآدم، هذا الذي يرى فيه البعض تنزيها مطلقا منه لله عز وجل، حيث رفض السجود لغيره، هذا الذي لا يتفق مع المقصود من الرواية الإسلامية التي تثبت عصيان إبليس لأمر الله بالسجود لآدم، ومن ثم يغضب عليه الإله، ويلعنه، ولكن إبليس يطلب من الله أن يَنْظُرَه ليغوي آدم وأبنائه! فيمنحه الله عز وجل هذا الانتظار "إنك لمن المنظرين". ثم إننا نعلم بقية قصة وسوسة الشيطان لآدم ليقع في خطيئة الأكل من الشجرة الممنوع الأكل منها سلفا، هذا الذي كانت نتيجته هو طرد آدم وحواء من الجنة وينزلون الأرض جميعا: آدم وحواء وإبليس ليبدأ الصراع الممتد من تلك اللحظة في البدايات الأولى حتى تلك اللحظة وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
لم يترك الشيطان الإنسان ليهنأ في مرحلة من مراحل الحياة، وكيف هذا ومهمته الرئيسة هي غوايته وإبعاده عن طريق الحق والإيمان، وإذا كان الإنسان في الأديان التعددية لم يثنه الشيطان عن عبادته هذه، بل زينها له، فإنه ما أن أرسل الله أنبياءه، وكلف رسله لهداية البشر، إلا وجدنا الشيطان يصد هذا الإنسان عن عبادة الله الواحد، وهذا ما يتضح في كل دعوات الرسل بداية من موسى عليه السلام الذي يدعو قومه، لأنه كان حصريا لهم، سنين طويلة ليخلصهم من الشرك بالله، بعدما أنجاهم الله من فرعون وتجلى بمعجزاته التي تنوعت ما بين الانتصار على سحرة فرعون وشق البحر بل تجلى لموسى على الجبل، ومع كل ذلك كان عمل الشيطان فاعلا بقوة شديدة، فوجدنا بني إسرائيل يعبدون العجل، ثم مع دعوة المسيح عليه السلام وهو الذي أيده الله بالمعجزات التي لا يملك إنسان بعد أن يشهدها إلا أن يخر ساجدا مؤمنا بالله العلي القدير، ولكن ذلك لم يحدث، فلم يؤمن إلا قليل، حيث وقف الشيطان حائلا دون أن يرى الناس عظمة تلك المعجزات التي كان من بينها إحياء الموتى، وهل هناك ما هو أكثر إعجازا من تلك المعجزة؟!.
أما الدعوة المانوية التي أسسها ماني البابلي، والتي جاء بعد السيد المسيح بثلاثة قرون ليعلن أنه آخر الأنبياء، ويدعو الناس لعبادة الله الواحد، هل كانت دعوة شيطانية؟!. هكذا يؤمن أتباع كل الأديان، من الأصل، أم أن الشيطان هو ما كان السبب في أن يكتب لها الفشل؟!. لتنتهي في عصر الدولة العباسية، بعدما تقصّد أتباعها الخلفاء العباسيون، كما كانت قد اضطهدتهم الدولة الساسانية الزاردشتية، واضطهدتهم الدولة البيزنطية المسيحية، واضطهدتهم دولة الخلافة الإسلامية أخيرا، وجملة القول أن تاريخ المانويين كان تاريخَ اضطهاد وقمع.
ويذهب الدكتور زكي نجيب محمود إلى أن كلمة زنديق، التي كانت تطلق على أتباع كتاب "أَڤِسْتا" الكتاب المقدس للديانة الزاردشتية والذي له كتاب آخر يشرحه وهو كتاب "زَنْد أَڤِسْتا"، وكان يقصد بكلمة زنديق "أتباع زَنْد أَڤِسْتا"، أُطْلِقتْ على أتباع الديانة المانوية في العصر العباسي الأول.
أما في الرسالة الخاتمة رسالة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقد صد الشيطان الناس عن الإيمان، هذا الصد الذي رافق الدعوة الجديدة لمدة ثلاثة عشر سنة لم يؤمن بها إلا قلة أغلبها مستضعفة، دفع هذا الصد الرسول الكريم للهجرة إلى المدينة المنورة، ذلك الذي مكّن الدين الجديد شيئا فشيئا في النفوس إلى أن دانت شبه جزيرة العرب بالإسلام في نهاية عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وانتشار الإسلام في العصور التالية في العديد من الدول المجاورة، هذا الذي لا يعني كسلا من الشيطان الذي يسكن في النفوس، والذي يجرى من ابن آدم مجرى الدم كما قال الرسول الكريم: فلم يزل الغالبية من البشر رغم مرور أكثر من ١٤٠٠ سنة على آخر رسالة سماوية، لم يزل أغلب البشر لا يؤمنون، ليس بالديانة الخاتمة، بل بالله عز وجل، وبتعدد النظر من زوايا مختلفة نجد أن الشيطان ينتصر على الإرهابيين فيقترفون ما يقترفون من جرائم، ومن زاوية نظر الإرهابيين نجد الشيطان أكثر نشاطا وغواية حيث يروننا جميعا على غير الحق، وغير مؤمنين، هذا الذي ينسحب على الأديان فأتباع كل ديانة من الديانات التي مهما زاد عددهم فإنهم يظلون أقلية بالمقارنة بعدد البشر على كوكب الأرض، هذا لو افترضنا أن كل أتباع تلك الديانة مهتدين، فإن كان الشيطان يعمل على المستوى العام فهو يعمل في الأصل على المستوى الفردي ليقترف كل إنسان داخل عقيدته الخطايا والذنوب، هذا الذي يؤكد أن الشيطان هو أكثر المخلوقات نشاطا وإخلاصا في العمل الذي أوقف نفسه عليه.
من نافلة القول أن هناك من لا يؤمن بالشيطان كما تصوره الأديان فهو عند البعض خرافة، كما نجد في تعريفه في موسوعة ويكيبيديا حيث: الشيطان هو كائن خارق للعادة يُعتبر تجسيداً للشر في كثير من الثقافات والأديان باختلاف المسميات وفي أحيان كثيرة عدواً ونقيضاً للإله فهو ممثل الشر وكل ما ينطوي تحته من أفعال وأفكار في حرب مقدسة أو كونية مع قوى الخير.
وأدق المصطلحات الفلسفية لوصف علاقة الشيطان بالإله هي المثنوية. فالإله يمثل قوى الخير والنور التي تقاتل لأجل نجاة الأرواح البشرية من شر الشيطان وأعوانه.
أما ما قيل من أن الإمام محمد عبده قد أوّل الملائكة والشياطين بنوزاع النفس البشرية، فلم أتمكن من خلال البحث من الوصول إليه، وإن كان قد ثبت فإنه يعقّلن هذه الكائنات بشكل يحولها من الإيمان، الذي لا يبنى على دليل، إلى صورة عقلية قابلة للتصديق.
وننشر هنا ما ذكره الإمام محمد عبده حينما تعرَّض لقصة الملائكة وآدم في سورة البقرة حيث حكى في معنى الملائكة قولين:
الأول: مذهب السلف، وهو أنهم خلق أخبرنا الله بوجودهم، وببعض عملهم، فيجب الإيمان بهم، ولا يتوقف ذلك على معرفة حقيقتهم، فنفوض علمهم إلى الله، لهم أجنحة ولكن ليست من الريش، وهم موكلون بالعوالم الجسمانية كالنبات والبحار.
وقد قال قبل ذلك : (أنا على طريقة السلف في وجوب التسليم والتفويض فيما يتعلق بالله تعالى وصفاته وعالم الغيب).
الثاني: مذهب الخلف، فمنهم من تكلم في حقيقة الملائكة ومنهم من أمسك، لكنهم اتفقوا على أنهم يعلمون ويدركون.
ثم ذكر مذهباً ثالثاُ، وهو أن مجموع ما ورد في فهم معنى الملائكة من كونهم موكلين بالأعمال من إنماء نبات وخلقة حيوان وغيره فيه إيماء إلى الخاصة بما هو أدق، وهو أن هذا النمو في النبات لم يكن إلا بروح خاصّ نفخه الله، فكل أمر قائم بنظام مخصوص قوامه بروح إلهي سماه الشرع ملكاً، ويسميه غير المؤمن قوى طبيعية، والحقيقة واحدة.
ثم ذكر أنه لا يوجد في الدين ما يمنع من هذا التأويل.
وفي الختام فإننا نشير هنا لقصة قصيرة رائعة للأديب والفيلسوف العربي الكبير جبران خليل جبران بعنوان "الشيطان" وهي حوارية بين الشيطان الذي يريد من رجل دين "قسيس" أن يساعده، وهو حوار ممتع للغاية يقنع الشيطان فيه رجل الدين بضرورة مساعدته؛ لأن وجوده هو سبب وجود رجل الدين وأن عدم وجود الشيطان سيعود أول ما يعود بالضرر على رجل الدين الذي لن يكون لوجوده سبب في الحياة ومن ثم سيفقد وظيفته ومكانته الاجتماعية الكبيرة؛ ولهذا فعليه أن يحرص كل الحرص على الحفاظ على وجود الشيطان.
وهي قصة فلسفية عميقة المعنى والدلالة.
بهجت العبيدي