في حزيران وتموز ٢٠٠٣ أعادت " دار الهلال " المصرية طباعة ثلاثية الروائي الجزائري محمد ديب " الدار الكبيرة والحريق والنول " التي نقلها الدكتور السوري سامي الدروبي من الفرنسية إلى العربية ، وعندما قرأتها وجدتني أدون على صفحاتها ملاحظات كثيرة عن تقاطع الأدب الفلسطيني مع كثير من الأفكار التي وردت فيها .
فكرة التشابه بين الواقعين الجزائري والفلسطيني وانعكاسها في الأدب شغلت المثقفين الفلسطينيين في ٧٠ القرن ٢٠ عندما أعادت منشورات صلاح الدين في القدس طباعة رواية الطاهر وطار " اللاز " فعقدوا اجتماعا في مكتبة رام الله وناقشوها - أي الرواية .
في العقد الأول من القرن ٢١ أشرفت على رسالة ماجستير عنوانها " تأثير الرواية الجزائرية على الرواية الفلسطينية : أحلام مستغانمي ويوسف العيلة نموذجا " وفي تلك الأيام انتهيت من قراءة ثلاثية ديب ، وكان يفترض أن أنجز دراسة أقارن فيها بينها وبين نماذج من الأدب الفلسطيني ( أستخدم كلمة أقارن لا أوازن اعتمادا على معيار اللغة ) .
شغلتني مشاغل الدنيا فلم أكتب ، ولكن ثمة فكرة لم تغب عن ذهني أبدا هي فكرة الوطن وتعريفه ، وهي فكرة ظهرت في أدبنا في قصة إميل حبيبي " بوابة مندلباوم " ورواية غسان كنفاني " عائد إلى حيفا " وفي قصتي سميح القاسم " إلى الجحيم أيها الليلك " و" الصورة الأخيرة في الألبوم " ولدى آخرين أشرت إليهم في مقالي الأسبوع الماضي " هل تأثرغسان كنفاني بمحمود درويش ؟ " ( الأيام الفلسطينية ٧ آذار ٢٠٢١ ).
ظل دال الوطن يلح على ذهني ، وكنت في العام ١٩٩٤ كتبت بحثا عنه في أشعار ابراهيم طوقان والنصوص المذكورة أعلاه ، وكتبت فيما بعد مقالا عنوانه " هل تأثر غسان كنفاني باميل حبيبي ؟ " فالأخير عرف الوطن في قصته الوارد ذكرها ، وكان كنفاني قرأها ( لمعرفة معنى دال الوطن في الأدب الفلسطيني ينظر دراستي حول أشعار ابراهيم طوقان ومقالي عن كنفاني وحبيبي ) .
عندما كتب ديب ثلاثيته لم تكن الجزائر تحررت . يومها كان على معلمي المدارس أن يعلموا الطلاب المناهج الفرنسية .
ما هو الوطن للجزائري الذي خضعت بلاده لاستعمار استيطاني نظر إلى الجزائر على أنها قطعة من فرنسا ؟
في الصف يعلم الأستاذ حسن الذي ينتمي إلى البرجوازية الجزائرية أبناء الفقراء ويسألهم :
- من منكم يعرف معنى كلمة " الوطن " ؟
فيبحث التلاميذ فيما حولهم " وتطوف نظراتهم بين المناضد ، ومن خلال النوافذ ، وفي السقف ، وفي وجه المعلم ، ولم يجدوا الوطن في الغرفة " ولا يجيب إلا ابراهيم الذي يعيد سنته الدراسية :
" - فرنسا هي أمنا الوطن " .
كان المعلم حسن يعلم الطلاب نصوصا من البيئة والحياة الفرنسية ، وهي تختلف عن بيئة الجزائر وحياة أكثر سكانها اختلافا كليا ، ولكي يحافظ المعلم البرجوازي على وظيفته فعليه الالتزام بالمناهج المقررة ، وحتى يحصل الطلبة على علامة النجاح يجب عليهم أن يكذبوا - أي أن يكتبوا ما يعلمون لا ما يشاهدون أو يعيشون ، فحين يطلب المعلم منهم الكتابة في موضوع إنشاء عنوانه " صف سهرة إلى جانب الموقد " ، يجب أن يكتبوا عن حياة الفرنسيين جانب الموقد لا عن حياتهم . يعني يجب أن يكذبوا ويكتبوا " نور الصباح ينصب على المنضدة .. بابا غارقا في أريكة يقرأ جريدته ، وماما تطرز " علما بأن والد عمر ميت وتعيش أسرته في حوش اسبيطار مع عائلات عديدة حياة ضنكة ، وحين يطلب منهم أن يكتبوا تحت عنوان " صف البيت الريفي الذي تقضي فيه إجازة الصيف " يجب أن يكتبوا " نبات اللبلاب يتسلق على جدران واجهة البيت . الماء يزقزق في الساقية عند المرج القريب . الهواء نقي . ما أسعد المرء باستنشاق الهواء ملء رئتيه " وحين يطلب منهم أن يكتبوا عن " الفلاح " يجب أن يكتبوا " ها هو ذا يدفع محراثه فرحا وهو يغني فترافقه في الغناء عصفورة تغرد .. المطبخ : هذه آنية الطهو مصفوفة منظفة ملمعة كأنها المرايا . عيد الميلاد : شجرة عيد الميلاد المزروعة في البيت ، خيوط الذهب والفضة " ... الخ الخ مما ليس له في عالمهم حضور ، وعليه فقد كان الطلبة يقولون :" أحسن تلاميذ الفصل من يعرف كيف يكذب خبرا عن غيره ، من يعرف كيف يرتب كذبه " .
أعود إلى تعريف الوطن . يعرف المعلم الوطن بأنه " أرض الآباء الذي نسكنه من أجيال " وهو " ليس الأرض التي نعيش فوقها فحسب ، بل هو كذلك كل ما على هذه الأرض من سكان ، وكل ما فيها بوجه الإجمال " .
وعمر يفكر إن كان الوطن يشمل الفقراء ممن لا يأكلون إلا الخبز ولا يلبسون إلا الرث من الملابس ، ويتساءل إن كان يضم السادة الفرنسيين الذين يأتون من وراء البحر ليتنعموا بخيرات الجزائر ، كما يتساءل إن كان الوطن يشمل صاحبه صاحب القميص الكاكي . " إنه لأمر غريب مع ذلك أن يكون المقمط بالقميص الكاكي .. ثم أمه ؟ وعيوشة ؟ ومريم ؟ وسكان دار اسبيطار ؟ هل هؤلاء جميعا يعدون من الوطن ؟ "
ويلاحظ عمر أن الأجانب يأتون من خارج الوطن ويدعون أنهم هم السادة . هنا يرى أن الوطن يكون في خطر " هؤلاء الأجانب أعداء يجب على جميع الأهالي أن يدافعوا عن الوطن ، وأن يقدموا حياتهم ثمن ذلك " .
" أي بلد هو بلده " إن عمر يود لو يسأل المعلم ذلك كي يعلم أن اولئك الخبثاء الذين يدعون أنهم هم السادة .. من هم أعداء بلده ، من هم أعداء وطنه ، ولم يكن عمر يجرؤ على أن يفتح فمه لطرح هذه الأسئلة ، بسبب طعم الخبز " .
ولأن عمر يرى فرقا بين معلمه الذي ترضى عنه السلطات وبين حميد سراج الذي تلاحقه الشرطة ، فإنه يتساءل :
"- هل الأستاذ حسن وطني ؟ .. هل حميد سراج وطني أيضا ؟"
والمعلم الجزائري يقول للطلاب بصوت خافت :
"- ليس صحيحا ما يقال لكم من أن فرنسا هي وطنكم "
وأحيانا يتكلم العربية هو الذي يحظر عليهم أن يتكلموا بها . إنه حين يفصح عن مشاعره يبدو مضطربا لدقائق . لقد كان أيضا يهم أن يقول لهم شيئا آخر ، " ولكن ثمة قوة أكبر منه تمنعه من أن يقول ما يريد قوله " وهكذا لم يعلم الصبية ما هو وطنهم " .
وعموما فثمة تقاطعات بين ثلاثية ديب وكثير من نصوصنا الأدبية ، ولم يختلف حال آلاف المعلمين الفلسطينيين بين ١٩٦٧ و١٩٩٤ ، بل والمعلمين الفلسطينيين في المناطق المحتلة في العام ١٩٤٨ ، عن حال المعلم الجزائري . لقد فرض على هؤلاء أيضا أن يعلموا المناهج التي تقرها سلطات الاحتلال الإسرائيلي ، لأن من لا يفعل ذلك سيفصل من وظيفته .
الجمعة والسبت
١٢ و ١٣ آذار ٢٠٢١
أ. د. عادل الأسطة
فكرة التشابه بين الواقعين الجزائري والفلسطيني وانعكاسها في الأدب شغلت المثقفين الفلسطينيين في ٧٠ القرن ٢٠ عندما أعادت منشورات صلاح الدين في القدس طباعة رواية الطاهر وطار " اللاز " فعقدوا اجتماعا في مكتبة رام الله وناقشوها - أي الرواية .
في العقد الأول من القرن ٢١ أشرفت على رسالة ماجستير عنوانها " تأثير الرواية الجزائرية على الرواية الفلسطينية : أحلام مستغانمي ويوسف العيلة نموذجا " وفي تلك الأيام انتهيت من قراءة ثلاثية ديب ، وكان يفترض أن أنجز دراسة أقارن فيها بينها وبين نماذج من الأدب الفلسطيني ( أستخدم كلمة أقارن لا أوازن اعتمادا على معيار اللغة ) .
شغلتني مشاغل الدنيا فلم أكتب ، ولكن ثمة فكرة لم تغب عن ذهني أبدا هي فكرة الوطن وتعريفه ، وهي فكرة ظهرت في أدبنا في قصة إميل حبيبي " بوابة مندلباوم " ورواية غسان كنفاني " عائد إلى حيفا " وفي قصتي سميح القاسم " إلى الجحيم أيها الليلك " و" الصورة الأخيرة في الألبوم " ولدى آخرين أشرت إليهم في مقالي الأسبوع الماضي " هل تأثرغسان كنفاني بمحمود درويش ؟ " ( الأيام الفلسطينية ٧ آذار ٢٠٢١ ).
ظل دال الوطن يلح على ذهني ، وكنت في العام ١٩٩٤ كتبت بحثا عنه في أشعار ابراهيم طوقان والنصوص المذكورة أعلاه ، وكتبت فيما بعد مقالا عنوانه " هل تأثر غسان كنفاني باميل حبيبي ؟ " فالأخير عرف الوطن في قصته الوارد ذكرها ، وكان كنفاني قرأها ( لمعرفة معنى دال الوطن في الأدب الفلسطيني ينظر دراستي حول أشعار ابراهيم طوقان ومقالي عن كنفاني وحبيبي ) .
عندما كتب ديب ثلاثيته لم تكن الجزائر تحررت . يومها كان على معلمي المدارس أن يعلموا الطلاب المناهج الفرنسية .
ما هو الوطن للجزائري الذي خضعت بلاده لاستعمار استيطاني نظر إلى الجزائر على أنها قطعة من فرنسا ؟
في الصف يعلم الأستاذ حسن الذي ينتمي إلى البرجوازية الجزائرية أبناء الفقراء ويسألهم :
- من منكم يعرف معنى كلمة " الوطن " ؟
فيبحث التلاميذ فيما حولهم " وتطوف نظراتهم بين المناضد ، ومن خلال النوافذ ، وفي السقف ، وفي وجه المعلم ، ولم يجدوا الوطن في الغرفة " ولا يجيب إلا ابراهيم الذي يعيد سنته الدراسية :
" - فرنسا هي أمنا الوطن " .
كان المعلم حسن يعلم الطلاب نصوصا من البيئة والحياة الفرنسية ، وهي تختلف عن بيئة الجزائر وحياة أكثر سكانها اختلافا كليا ، ولكي يحافظ المعلم البرجوازي على وظيفته فعليه الالتزام بالمناهج المقررة ، وحتى يحصل الطلبة على علامة النجاح يجب عليهم أن يكذبوا - أي أن يكتبوا ما يعلمون لا ما يشاهدون أو يعيشون ، فحين يطلب المعلم منهم الكتابة في موضوع إنشاء عنوانه " صف سهرة إلى جانب الموقد " ، يجب أن يكتبوا عن حياة الفرنسيين جانب الموقد لا عن حياتهم . يعني يجب أن يكذبوا ويكتبوا " نور الصباح ينصب على المنضدة .. بابا غارقا في أريكة يقرأ جريدته ، وماما تطرز " علما بأن والد عمر ميت وتعيش أسرته في حوش اسبيطار مع عائلات عديدة حياة ضنكة ، وحين يطلب منهم أن يكتبوا تحت عنوان " صف البيت الريفي الذي تقضي فيه إجازة الصيف " يجب أن يكتبوا " نبات اللبلاب يتسلق على جدران واجهة البيت . الماء يزقزق في الساقية عند المرج القريب . الهواء نقي . ما أسعد المرء باستنشاق الهواء ملء رئتيه " وحين يطلب منهم أن يكتبوا عن " الفلاح " يجب أن يكتبوا " ها هو ذا يدفع محراثه فرحا وهو يغني فترافقه في الغناء عصفورة تغرد .. المطبخ : هذه آنية الطهو مصفوفة منظفة ملمعة كأنها المرايا . عيد الميلاد : شجرة عيد الميلاد المزروعة في البيت ، خيوط الذهب والفضة " ... الخ الخ مما ليس له في عالمهم حضور ، وعليه فقد كان الطلبة يقولون :" أحسن تلاميذ الفصل من يعرف كيف يكذب خبرا عن غيره ، من يعرف كيف يرتب كذبه " .
أعود إلى تعريف الوطن . يعرف المعلم الوطن بأنه " أرض الآباء الذي نسكنه من أجيال " وهو " ليس الأرض التي نعيش فوقها فحسب ، بل هو كذلك كل ما على هذه الأرض من سكان ، وكل ما فيها بوجه الإجمال " .
وعمر يفكر إن كان الوطن يشمل الفقراء ممن لا يأكلون إلا الخبز ولا يلبسون إلا الرث من الملابس ، ويتساءل إن كان يضم السادة الفرنسيين الذين يأتون من وراء البحر ليتنعموا بخيرات الجزائر ، كما يتساءل إن كان الوطن يشمل صاحبه صاحب القميص الكاكي . " إنه لأمر غريب مع ذلك أن يكون المقمط بالقميص الكاكي .. ثم أمه ؟ وعيوشة ؟ ومريم ؟ وسكان دار اسبيطار ؟ هل هؤلاء جميعا يعدون من الوطن ؟ "
ويلاحظ عمر أن الأجانب يأتون من خارج الوطن ويدعون أنهم هم السادة . هنا يرى أن الوطن يكون في خطر " هؤلاء الأجانب أعداء يجب على جميع الأهالي أن يدافعوا عن الوطن ، وأن يقدموا حياتهم ثمن ذلك " .
" أي بلد هو بلده " إن عمر يود لو يسأل المعلم ذلك كي يعلم أن اولئك الخبثاء الذين يدعون أنهم هم السادة .. من هم أعداء بلده ، من هم أعداء وطنه ، ولم يكن عمر يجرؤ على أن يفتح فمه لطرح هذه الأسئلة ، بسبب طعم الخبز " .
ولأن عمر يرى فرقا بين معلمه الذي ترضى عنه السلطات وبين حميد سراج الذي تلاحقه الشرطة ، فإنه يتساءل :
"- هل الأستاذ حسن وطني ؟ .. هل حميد سراج وطني أيضا ؟"
والمعلم الجزائري يقول للطلاب بصوت خافت :
"- ليس صحيحا ما يقال لكم من أن فرنسا هي وطنكم "
وأحيانا يتكلم العربية هو الذي يحظر عليهم أن يتكلموا بها . إنه حين يفصح عن مشاعره يبدو مضطربا لدقائق . لقد كان أيضا يهم أن يقول لهم شيئا آخر ، " ولكن ثمة قوة أكبر منه تمنعه من أن يقول ما يريد قوله " وهكذا لم يعلم الصبية ما هو وطنهم " .
وعموما فثمة تقاطعات بين ثلاثية ديب وكثير من نصوصنا الأدبية ، ولم يختلف حال آلاف المعلمين الفلسطينيين بين ١٩٦٧ و١٩٩٤ ، بل والمعلمين الفلسطينيين في المناطق المحتلة في العام ١٩٤٨ ، عن حال المعلم الجزائري . لقد فرض على هؤلاء أيضا أن يعلموا المناهج التي تقرها سلطات الاحتلال الإسرائيلي ، لأن من لا يفعل ذلك سيفصل من وظيفته .
الجمعة والسبت
١٢ و ١٣ آذار ٢٠٢١
أ. د. عادل الأسطة