عنون الدكتور عاطف بهجان نصَّه الشعري" كورونا صراع غير متكافئ "؛ صوَّر النص صراع الشاعر مع هذا المرض اللعين، وشكوى المرض ليس وليد هذا العصر، بل موضوع قديم؛ ضارب بأطنابه في عمق تراثنا الأدبي، فقد شكا الشعراء الشيب والهرم على مر العصور، ومنهم من شكا الفصد، والصداع، وارتفاع حرارة الجسم، والجدري، والنقرس، ووجع الأسنان.
وقد أشار أبو نواس إلى الحمى في شعره، بينما صوَّر عبد الصمد بن المعذِّل صراعه مع الحمى؛ في مشهد درامي؛ فتح المجال أمام المتنبي، فصوَّرت عبقريته الفذَّة الحمى تصويرًا فنيًّا بديعًا؛ فنسخت قصيدته قصيدةَ عبد الصمد؛ فتلقف الشعراء نص المتنبي، ونسجوا على منواله، واقتفوا أثره؛ من أمثال: أمهدوست الديلمي، وابن النقيب، وأبو هلال العسكري، والسراج الورَّاق، وفي العصر الحديث الشاعر السعودي أحمد بن عليِّ المبارك.
واستدعى نصُّ " كورونا"؛ حمى المتنبي؛ فتسرب النص الغائب في جسد النصِّ الحاضر؛ فبدأ الشاعر نصَّه
وَ زَائِرَتِي
تَبدَّدَ منْ مَلامِحِها اْلحَياءُ.
وَ لَا أَدْرِي،
أَجَاءَتْني صَبَاحًا أَمْ،
يُغلِّـفُها الْمَسَاءُ.
وتبدو الموافقة اللفظية مع المتنبي
وَزَائِرتِي كَأَنَّ بِهَا حَيَاءً
فَلَيْسَ تَزُورُ إِلَّا فِي الظَّلَامِ
وربما تظهر موافقة أيضًا مع حمى السرَّاج الورَّاق
وَزَائِرةٍ وَلَيْسَ بِها احْتِشَامٌ
تَزُورُ ضُحًى وَتَطُرُقُ فِي الظَّلامِ
وتسهم المغايرة أو المخالفة المعنوية في إنتاج الدلالة؛ فالشاعران السابقان؛ حددا زمن المرض؛ خصه المتنبي بالمساء؛ بينما حدد السرًّاج وقت الضحى، ووقت المساء.
وجعل قسوة المرض وشراسته الشاعرَ الحديث؛ يعيش حالة من الذهول، وفقدان الزمن؛ فلا يميِّز الصباح؛ من المساء.
وظل الشاعر في فضاء نصِّه؛ يصارع المرض، وهو صراع من أجل البقاء، ومن ثم فارق المتنبي المتعالي على كل شيء؛ حتى الموت.
فَإِنْ أَمْرَضْ فَمَا مَرِضَ اصْطِبارِي
وَإِنْ أُحْمَمْ فَمَا حُمَّ اعْتِزَامِي
ودخل النص الجديد عالمًا آخر؛ عالم النابغة الذبياني؛ ذلك الشاعر الذي عانى الخوف والقلق النفسي؛ عندما تهدده النعمان بن المنذر بالقتل؛ فبات ليله على فراش الشوك عبر التشبيه التمثيلي.
فَبِتُّ كَأَنَّ الْعَائِدَاتِ فَرَشْنَ لِي
هَرَاسًا بِهِ يُعْلَى فَرَاشِي وَيُقْشَبُ
ويفارق الهراسُ/ الشوك الفراشَ عند النابغة؛ ليدخل عالم الخوف؛ عبر التشبيه المقلوب، أو التركيب الإضافي؛ فصار الشوك خوفًا، والخوف شوكًا في النص الحاضر.
حَبِيسًا فِي الَّسريرِ يَقُضُّ جَنْبِي
هَرَاسُ الْخَوْفِ،
يَسْحقُنِي الشَّقَاءُ
فالذات الشاعرة؛ منسحقة في النصين؛ فالنابغة واقع تحت سطوة الملِك، وبهجات يسحقه المرض.
ويعود الشاعر إلى المتنبي؛ يلتقط منه خيطًا، ثم يخالفه لفظًا ودلالة؛ حيث يقول أبو الطيب:
قَلِيلٌ عَائِدِي سَقِمٌ فُؤَادِي
كَثِيرٌ حَاسِدِي صَعْبٌ مَرامِي
ويبقى الشاعر بلا عائد، ولا حاسد؛ فهو في عُزْلة، أو عَزْل إجباري؛ فيؤلمه المكان؛ ليتحول إلى وسيلة ضغط على الأنا الشاعرة؛ فالبيت يحتوي - بغرفه المتعددة- الزوجة، والابنة، والحفيدتين؛ لكن أنَّى له؛ أن يَراهنَّ؛ فهنَّ القريبات البعيدات.
و (ليلى) لا أطيقُ البعدَ عنها،
و يؤلمني بعادُك يا (فريده)،
(هديرُ) بُنيتي، و حياةُ قلبي،
و صحبتُها طعامي و الرَّواءُ.
و (روحُ الروحِ) مسكنُها جِواري
و رؤيتُها تَمنٍّ وَاشْتِهاءُ.
مازال المتنبي يمارس سطوته على النص الكوروني.
يَقُولُ لِيَ الطَّبِيبُ أَكَلْتَ شَيْئًا
وَدَاؤُكَ فِي الطَّعَامِ الشَّرِابِ
إن اشتياق المتنبي للطعام؛ تحول إلى اشتياق للمكان في النص الحاضر.
و إشعاعا تجوّل فوق صدري
و فقداً للمطاعم صار يَسري
فالشاعر ليس به حاجة إلى الطعام والشراب؛ بقدر الحاجة إلى المكان/ المطاعم؛ إن مكان العزل؛ يؤرقه، ويضغط عليه؛ فهو واقع تحت سطوته؛ حيث يُحكم المكان ُالحصارَ عليه؛ فكان المكان البديل/ المطاعم أمنية الشاعر، وفي الوقت نفسه فرض سيطرته على النسق الشعري.
وجاءت خاتمة النص متسقة مع عنوانه، مغايرة نهاية المتنبي؛ بذاته المتضخمة، وأناه المتعالية؛ عبر ترنيمة صوفية، ومناجاة إلهية.
فَأَنْعِمْ يَا إِلَهِي، وَ اشْفِ عَبْدًا،
إِلَيَكَ الْمُبْتَغِى مِنْكَ الرَّجَاءُ.
أما بنية النص؛ فوافقت المتنبي، وخالفته في آن واحد؛ فقد اتفق النصان في الوزن؛ فكلاهما اتكأ على بحر الوافر التام؛ بينما اختلف الرويُّ في النصين، والنص الجديد اتبع نظام السطر الشعري، والقافية الموحدة؛ المنتهية برويِّ الهمز، لكن الملفوظ الشعري حافظ على الشطر الثلاثي التفعيلة، وانتهي كل سطر بالقافية الموحدة، ملتزمًا التصريع في السطر الأول، وتناوبت السطور بين الشطرين، والثلاثة، والأربعة.
إن التعالق النصي؛ منح النص الجديد إعلامية، وكفاءة نصية؛ حيث استدعى النص الغائب بكل ما يحيط به من معلومات، ومواقف، وأحداث.
أ. د. محمد عبد الرحمن عطا الله
وقد أشار أبو نواس إلى الحمى في شعره، بينما صوَّر عبد الصمد بن المعذِّل صراعه مع الحمى؛ في مشهد درامي؛ فتح المجال أمام المتنبي، فصوَّرت عبقريته الفذَّة الحمى تصويرًا فنيًّا بديعًا؛ فنسخت قصيدته قصيدةَ عبد الصمد؛ فتلقف الشعراء نص المتنبي، ونسجوا على منواله، واقتفوا أثره؛ من أمثال: أمهدوست الديلمي، وابن النقيب، وأبو هلال العسكري، والسراج الورَّاق، وفي العصر الحديث الشاعر السعودي أحمد بن عليِّ المبارك.
واستدعى نصُّ " كورونا"؛ حمى المتنبي؛ فتسرب النص الغائب في جسد النصِّ الحاضر؛ فبدأ الشاعر نصَّه
وَ زَائِرَتِي
تَبدَّدَ منْ مَلامِحِها اْلحَياءُ.
وَ لَا أَدْرِي،
أَجَاءَتْني صَبَاحًا أَمْ،
يُغلِّـفُها الْمَسَاءُ.
وتبدو الموافقة اللفظية مع المتنبي
وَزَائِرتِي كَأَنَّ بِهَا حَيَاءً
فَلَيْسَ تَزُورُ إِلَّا فِي الظَّلَامِ
وربما تظهر موافقة أيضًا مع حمى السرَّاج الورَّاق
وَزَائِرةٍ وَلَيْسَ بِها احْتِشَامٌ
تَزُورُ ضُحًى وَتَطُرُقُ فِي الظَّلامِ
وتسهم المغايرة أو المخالفة المعنوية في إنتاج الدلالة؛ فالشاعران السابقان؛ حددا زمن المرض؛ خصه المتنبي بالمساء؛ بينما حدد السرًّاج وقت الضحى، ووقت المساء.
وجعل قسوة المرض وشراسته الشاعرَ الحديث؛ يعيش حالة من الذهول، وفقدان الزمن؛ فلا يميِّز الصباح؛ من المساء.
وظل الشاعر في فضاء نصِّه؛ يصارع المرض، وهو صراع من أجل البقاء، ومن ثم فارق المتنبي المتعالي على كل شيء؛ حتى الموت.
فَإِنْ أَمْرَضْ فَمَا مَرِضَ اصْطِبارِي
وَإِنْ أُحْمَمْ فَمَا حُمَّ اعْتِزَامِي
ودخل النص الجديد عالمًا آخر؛ عالم النابغة الذبياني؛ ذلك الشاعر الذي عانى الخوف والقلق النفسي؛ عندما تهدده النعمان بن المنذر بالقتل؛ فبات ليله على فراش الشوك عبر التشبيه التمثيلي.
فَبِتُّ كَأَنَّ الْعَائِدَاتِ فَرَشْنَ لِي
هَرَاسًا بِهِ يُعْلَى فَرَاشِي وَيُقْشَبُ
ويفارق الهراسُ/ الشوك الفراشَ عند النابغة؛ ليدخل عالم الخوف؛ عبر التشبيه المقلوب، أو التركيب الإضافي؛ فصار الشوك خوفًا، والخوف شوكًا في النص الحاضر.
حَبِيسًا فِي الَّسريرِ يَقُضُّ جَنْبِي
هَرَاسُ الْخَوْفِ،
يَسْحقُنِي الشَّقَاءُ
فالذات الشاعرة؛ منسحقة في النصين؛ فالنابغة واقع تحت سطوة الملِك، وبهجات يسحقه المرض.
ويعود الشاعر إلى المتنبي؛ يلتقط منه خيطًا، ثم يخالفه لفظًا ودلالة؛ حيث يقول أبو الطيب:
قَلِيلٌ عَائِدِي سَقِمٌ فُؤَادِي
كَثِيرٌ حَاسِدِي صَعْبٌ مَرامِي
ويبقى الشاعر بلا عائد، ولا حاسد؛ فهو في عُزْلة، أو عَزْل إجباري؛ فيؤلمه المكان؛ ليتحول إلى وسيلة ضغط على الأنا الشاعرة؛ فالبيت يحتوي - بغرفه المتعددة- الزوجة، والابنة، والحفيدتين؛ لكن أنَّى له؛ أن يَراهنَّ؛ فهنَّ القريبات البعيدات.
و (ليلى) لا أطيقُ البعدَ عنها،
و يؤلمني بعادُك يا (فريده)،
(هديرُ) بُنيتي، و حياةُ قلبي،
و صحبتُها طعامي و الرَّواءُ.
و (روحُ الروحِ) مسكنُها جِواري
و رؤيتُها تَمنٍّ وَاشْتِهاءُ.
مازال المتنبي يمارس سطوته على النص الكوروني.
يَقُولُ لِيَ الطَّبِيبُ أَكَلْتَ شَيْئًا
وَدَاؤُكَ فِي الطَّعَامِ الشَّرِابِ
إن اشتياق المتنبي للطعام؛ تحول إلى اشتياق للمكان في النص الحاضر.
و إشعاعا تجوّل فوق صدري
و فقداً للمطاعم صار يَسري
فالشاعر ليس به حاجة إلى الطعام والشراب؛ بقدر الحاجة إلى المكان/ المطاعم؛ إن مكان العزل؛ يؤرقه، ويضغط عليه؛ فهو واقع تحت سطوته؛ حيث يُحكم المكان ُالحصارَ عليه؛ فكان المكان البديل/ المطاعم أمنية الشاعر، وفي الوقت نفسه فرض سيطرته على النسق الشعري.
وجاءت خاتمة النص متسقة مع عنوانه، مغايرة نهاية المتنبي؛ بذاته المتضخمة، وأناه المتعالية؛ عبر ترنيمة صوفية، ومناجاة إلهية.
فَأَنْعِمْ يَا إِلَهِي، وَ اشْفِ عَبْدًا،
إِلَيَكَ الْمُبْتَغِى مِنْكَ الرَّجَاءُ.
أما بنية النص؛ فوافقت المتنبي، وخالفته في آن واحد؛ فقد اتفق النصان في الوزن؛ فكلاهما اتكأ على بحر الوافر التام؛ بينما اختلف الرويُّ في النصين، والنص الجديد اتبع نظام السطر الشعري، والقافية الموحدة؛ المنتهية برويِّ الهمز، لكن الملفوظ الشعري حافظ على الشطر الثلاثي التفعيلة، وانتهي كل سطر بالقافية الموحدة، ملتزمًا التصريع في السطر الأول، وتناوبت السطور بين الشطرين، والثلاثة، والأربعة.
إن التعالق النصي؛ منح النص الجديد إعلامية، وكفاءة نصية؛ حيث استدعى النص الغائب بكل ما يحيط به من معلومات، ومواقف، وأحداث.
أ. د. محمد عبد الرحمن عطا الله