1- محمود شقير في عامه الثمانين: الوطن والمدن وترييفها
في الأسبوع الماضي احتفل الكاتب محمود شقير بعامه الثمانين ودخل في عقده التاسع .
في الأسابيع الماضية التفت إلى دال الوطن في الأدب الفلسطيني وأخذني الدال إلى ثلاثية الجزائري محمد ديب ، وغاب عن ذهني أن هذا الدال كان له حضوره في قصص محمود شقير المبكرة ، وتحديدا في مجموعته " الولد الفلسطيني " ١٩٧٧ .
في مجموعته الأولى " خبز الآخرين " التي كتبت أكثر قصصها قبل ١٩٦٧ لم يكن هناك احتفاء بالمكان ، فالقصص غلب عليها عنصرا الحدث والشخصية ، وأتت قصة واحدة على المكان " البلدة القديمة " ، ومع ذلك فلم تكن قصة مكان على الرغم من أن مكون عنوانها مكون مكان.
سيختلف الأمر في المجموعة الثانية " الولد الفلسطيني " اختلافا لافتا ، فالوطن الذي لم يكن له حضور في المجموعة الأولى يحضر في الثانية لدرجة أن دال الوطن كان عنوانا لإحدى القصص . هل كان حضوره يعود إلى تطور وعي القاص السياسي أم إلى تأثره بأدباء الأرض المحتلة الذين تردد هذا الدال في أدبهم ، بخاصة الشعراء ، تردادا لافتا؟
سيتذكر القاريء ، وهو يقرأ قصة " الوطن " أشعار ابراهيم طوقان ومحمود درويش ، والأدلة واضحة ، وإن كانت غير صريحة ، وسيلحظ أن شقير يكتب مستخدما الدوال التي استخدماها بكثرة " وطن وتراب وأرض وبلاد وقبر " ، ولن تعوزني الإحالات أو تستعصي علي عموما لبرهنة ذلك . إن قصتي " الوطن " و " التراب " تحفلان بالدال وما يعنيه ومقداره وانعكاس فقدانه على حياة أبنائه .
في منتصف سبعينيات القرن العشرين أبعد القاص عن وطنه ، فتركت التجربة أثرها عليه وفي أعماله وصار يفتقد وطنه فعبر عن ذلك ، ولكن الحياة سرعان ما أخذته إلى عوالم أخرى فكتب عن المرأة وعذاباتها " طقوس للمرأة الشقية " وعندما اندلعت الانتفاضة ١٩٨٧ أخذ يستوحي أحداثها ويعبر عن منفاه وشتات عائلته ومعاناتهما .
التحول اللافت في تجربة شقير وعلاقته بالمكان حدث بعد عودته من المنفى ، في ١٩٩٣ ، وإقامته في القدس . هنا سيلتفت إلى المكان كما لم يلتفت إليه من قبل ، وسيلتفت إلى مدينته القدس ومدن أخرى أقام فيها كما لم يلتفت إليها سابقا .
في قصته " الوطن " ١٩٧٧ كان الفلسطيني يقف على سور مدينته يتأمله ، وسرعان ما اعتقلته دورية من دوريات الاحتلال لتزج به في السجن وتقدم ، لاحقا ، على إبعاده ، وفي المنفى سيحن إلى وطنه المحتل الذي شمل يافا وبيسان إلى جانب غزة والقدس ، وحين عاد في ١٩٩٣ عاد للتأمل من جديد ليكتب لنا " ظل آخر للمدينة " ١٩٩٨ و " قالت لنا القدس " وأعمالا أخرى كثيرة عن رام الله . سيمعن في وصف المكان والتطورات التي ألمت به بلغة شفيفة حزينة يغلب عليها البوح وإجراء المقارنات بين ما كان قبل ١٩٧٥ وما صار بعد ١٩٩٣ ، ولن يكتفي شقير بالكتابة عن الوطن تحت هذا الدال العام . سيدخل في " تفاصيل البلاد " / المكان ، فيصف الشوارع والمقاهي والسينما والأبواب والشبابيك والمكتبات ومقرات المجلات والصحف ، وسيأتي على صلته بها وأيامه الخاليات فيها ، وسيحزن لما صارت إليه مدينتاه ؛ القدس ورام الله ، وسيكتب كثيرا عن ترييف الأولى التي كانت تمدن الريف .
فكرة ترييف القدس فكرة محورية في ذهن شقير ذي الأصول الريفية ، فماذا يعنى بذلك ؟
لقد كتب شقير نفسه تحت هذا العنوان فيما يخص القدس بالدرجة الأولى ويقصد بذلك ، وهو الريفي النشأة كما ذكرت ، أن المدينة ، خلافا لما حصل في ستينيات القرن العشرين ، ما عادت تمدن الريف . لقد صارت القدس أشبه بقرية ، فدور السينما أغلقت والصحافة انتقلت إلى رام الله والنقابات ما عاد لها دور فاعل وصارت المدينة عصرا شبه مهجورة وغلب على سكانها ، بخاصة النساء ، التدين الشكلي ، وهذا كله له هو يساري التوجه أدخل الحزن إلى روحه وقلبه ، وزاد الطين بلة أن القدس الشرقية بشكل عام أخذت تذوي فيما ازدهرت القدس الغربية - أي الإسرائيلية (؟) .
الوطن الذي حن إليه شقير وصارت حياته في المنفى قاسية ، فحلم بالعودة إليه لتستقيم حياته وتتحسن ، عاد إليه فوجده - وتحديدا مدينته - بقايا مدينة .
في عيد ميلاده الثمانين أهديه هذه الكتابة ، والكتابة تطول والمساحة محدودة .
إضاءات :
المقطع الثالث من قصة " الوطن " الذي يأتي على حوار الجد والحفيد ، على سبيل المثال ، بوصف محمود درويش ، في قصائده ، جده ، وبنصائح والده له :
" وأبي قال مرة :
الذي ما له وطن
ما له في الثرى ضريح
ونهاني عن السفر "
- المقطع الرابع الذي يأتي على رفض الفتيات إقامة علاقة مع من ترك وطنه نهبا للطامعين يذكر بقصة سعيد بطل رواية إميل حبيبي " المتشائل " حين عاد إلى لبنان لاجئا ، فرفضت اللبنانيات إقامة علاقة معه وأدرك " أن اللاجئين للاجئات " .
- ترد في المقطع الثاني من قصة " التراب " عبارة أن التراب " أغلى من الذهب " وهذا يذكرنا بأشعار إبراهيم طوقان التي يقول فيها إن أموال اليهود وذهبهم أقل قيمة من الأرض .
حول تحديد مساحة الوطن :
لم ينظر شقير إلى الوطن على أنه الضفة الغربية وقطاع غزة وحسب ، فهو يشمل المناطق المحتلة في العام ١٩٤٨ ، ففي صبيحة حرب حزيران كان الجد وحفيده سائرين باتجاه الوطن - أي المناطق المحتلة في العام ١٩٤٨ ، ثم حدثت الهزيمة . وفي مكان آخر يشمل وطن المبعد فلسطين كلها " كانت شواهد القبور تحكي كل شيء عن وطني . شاهدت كل القرى والمدن ؛ بيسان ، يافا ، الناصرة ، غزة ، القدس .." .
- إن حدود وطنه من الشمال هي الحدود الفلسطينية اللبنانية ، فحين يبعد المبعد ويلقى به بعيدا عن وطنه يلقى به على حدود لبنان ، وحين يرفض الأوامر لأنه يريد أن يظل في وطنه يقول له الجنود :
"- أمامك بلاد اسمها لبنان ، وإن لم تذهب قتلناك " و " صوبوا أسلحتهم ومضيت وأنا أتلفت صوب حدود وطني " .
ووطن القاص منتهك ويحتله الأعداء " هبت ريح غريبة على وطني فضاع " وهو وطن مستباح ، وتراب وطنه لونه غامق لأنه مجبول بدم الثوار ، ولهذا وجب حمل السلاح .
الجمعة والسبت
١٩ و ٢٠
آذار ٢٠٢١
***
2- لأجلك يا قدس :
محمود شقير و"حليب الضحى"
آخر ما قرأته لمحمود شقير هو قصصه القصيرة جدا " حليب الضحى " ( ٢٠٢١ ) ، وهو ليس أول إصدار له في هذا النوع الأدبي ، ففي ١٩٨٥ أصدر " طقوس للمرأة الشقية " ، وغدا اسمه مرتبطا به .
صارت القصة أشبه ببيت الشعر المنفرد أو بالبيتين القائمين بذاتهما أو بالمقطوعة الشعرية ، واقتربت حجما من فن ( الإبجرام ) الذي جسده أحمد مطر في لافتاته ، ما دفعني مرة إلى اقتفاء خطا طه حسين في كتابه " جنة الشوك " الذي قدم له بكتابة عن خصائص " الإبجرام " وكتب نماذج نثرية منه ، ويبدو أن ( الفيس بوك ) و ( تويتر ) وما شابههما شجعوا على شيوع الكتابات القصيرة ، فما عاد لدى كثيرين من القراء رغبة في قراءة النصوص الطويلة .
كيف نفسر إذن ميل شقير وكثيرين إلى كتابة الرواية ؟
الأمر يستحق وقفة متأنية حقا . أهي الجوائز مثلا ؟
عموما فإن ما يثيره المرء هو :
- ما مدى تلقي هذا الجنس الأدبي قراءة ونقدا وإعادة طباعة ؟ وما مدى علوقه في الذاكرة ؟ وما مدى الاستشهاد به في مناسبات اجتماعية أو سياسية أو دينية - إن ناسب مضمونه اللحظة أو الفكرة المخوض فيها أو الموضوع المتحدث عنه ؟ هل يمكن إنجاز ذلك كما هو الأمر في الشعر ، أم أنه - أي نوع القصة القصيرة جدا - لافتقاده الوزن والقافية يخفق فيما نجح الشعر فيه ؟
كثيرون من كتاب المقالات أو من الخطباء أو حتى من المثقفين يستشهدون بأبيات من الشعر ، فهل يمكن أن تكون " القصة القصيرة جدا " في قادم الأيام مثل الشعر ، أم أنها تكتب ، مثل قصيدة النثر ، لتقرأ ؟
أسئلة كثيرة تثار حول القصة القصيرة جدا وفاعليتها ، ويمكن أن تسعفنا دور النشر أو الكتاب أنفسهم بإحصائية عن رواجها ، علما بأن قسما من المتابعين لها سيقول إن مجالها هو وسائل التواصل الاجتماعي لا الكتاب الورقي .
هل دارت الأسئلة السابقة في أذهان كتاب القصة القصيرة جدا ومنهم شقير نفسه ؟
وأنت تقرأ " حليب الضحى " سيخطر ببالك مقولات نطق بها بعض الشعراء والنقاد وبعض كناب القصة القصيرة ؛ مقولات مثل وحدة الديوان أو وحدة المجموعة القصصية .
منذ أواسط ٨٠ القرن ٢٠ صار محمود درويش يصدر الديوان المكتمل وتخلى ، تقريبا ، عما كان يقوم به سابقا من جمع قصائد متنوعة معا في كتاب . من " ورد أقل " إلى " لماذا تركت الحصان وحيدا ؟ " إلى " سرير الغريبة " إلى " حالة حصار " أنت تقرأ ديوانا يضم قصائد متجانسة تتمحور حول موضوع واحد وتتشابه في شكلها البنائي ، فهل ينحو شقير المنحى نفسه في مجموعاته القصصية القصيرة جدا ؟ وهل كان الأسبق في هذا الجانب عندما أصدر مجموعته " طقوس للمرأة الشقية " التي تمحورت حول المرأة واقتربت القصص كلها في بنائها ؟
إنني عموما أثير أسئلة وأمعن النظر في الأمر أكثر مما أقدم إجابات .
هل اختلفت " حليب الضحى " عن " طقوس للمرأة الشقية " في وحدة موضوعها وترابطها ؟ ( موضوع الأولى المرأة وموضوع الثانية متعدد وتشغل القدس مكانة كبيرة في تفكير الكاتب).
أحد تعريفات كلمة بنية هو " الصلة بين " ، فهل ثمة صلة بين القصص القصيرة في المجموعة؟
تنقسم المجموعة إلى أربعة أقسام على النحو الآتي :
1 - من ص ١٠ إلى ص ٦٧ ويصدره بقول ل ( سلفادور دالي ) " لا تخف من الكمال فإنك لن تدركه".
2 - من ص ٦٩ إلى ص ١٠٤ ويصدره بقول جلال الدين الرومي " بغير هذا الحب لا تكن "
3 - من ص ١٠٦ إلى ص ١٥٤ ويصدره بقول ( إميل سيوران ) " عندما أبكي بجوار زهرة تنمو بوتيرة متسارعة"
4 - من ص ١٥٦ إلى ص٢٠١٤ ويصدره بقول ( إميل سيوران )
" أجحد كل مخاوفي مقابل ابتسامة شجرة " .
وليس اقتباس تلك الأقوال غير مفكر فيه ، ويفترض أن يتأمل المرء فيها ويقرأها في ضوء ما تلاها .
في القصص هنا لا يوجد سارد واحد يسردها كما في " طقوس للمرأة الشقية " ، وإنما هناك ساردون ، ومع تعددهم فأظن أنهم في النهاية هم الكاتب نفسه ، فلا مستويات لغوية إطلاقا تعكس اختلاف بيئاتهم مثلا ، وإن تنوع المكان الذي تتحرك فيه الشخوص ما بين القدس ويافا وأريحا ، وإن اختلفت الأسماء في القصص .
كما لو أن القصة مقطوعة شعرية غنائية محورها العالم وانعكاسه على الذات . وما يعزز أن القصص صادرة عن شقير أنه غير قادر على نسيان موضوعه المحبب ، وهو القدس ، وأعماله السابقة التي تحضر إشاراته إليها وإلى شخوصها . يصدر " حليب الضحى " بسطر من روايته " ظلال العائلة " نظرت ليلى إلي بعينها الباقية ، ابتسمت وقالت : نتبنى طفلة " وفكرة التبني تحضر في " حليب الضحى " ، وهو يهدي مجموعته " إليها مرة أخرى ومرات .. إلى القدس وأخواتها الأخريات " و " إلى حفيدتي الخامسة عشرة : ريتا " . والإهداء يذكر بإهداء درويش قصيدته " تحت الشبابيك العتيقة " ( ١٩٦٧ ) من ديوان " آخرالليل " : " إلى مدينة القدس وأخواتها " وهوإهداء تخلص منه في سنوات لاحقة في طبعات لاحقة . وما يذكر بدرويش أيضا بعض قصص المجموعة في أسلوب كتابتها وفي بعض موضوعاتها . وأنت تقرأ بعض القصص تتذكر ديوان " حالة حصار " ( ٢٠٠٢ ) أو هذا ما تذكرته أنا . كما لو أنك تقرأ كتابة متقاربة جدا .
عندما كتبت الكلام السابق على حائط الفيس بوك الخاص بي أعاد القاص قراءته وتساءل عن مدى صحته ، وأنا بدوري أوضحت .
أسلوب البوح الهاديء الناعم الرقيق تجده في قصائد " حالة حصار " وتجده في " حليب الضحى " ، ولا شك أن القاص قاريء جيد لأشعار الشاعر ، وهو ما نلحظه في سيرة شقير الذاتية " تلك الأمكنة " التي صدرت مؤخرا .
خذ هذه القصة القصيرة جدا من المجموعة :
" شهيد
رشيد زوج نفيسة ، والد قيس ، قتله الجنود وهو عائد
إلى بيته في المساء .
قيل في تبرير الجريمة إنه لم يتوقف حين أمره الجنود
بالتوقف ،، فاطلقوا عليه النار .
الآن: نفيسة أرملة ، وقيس الصغير يتيم ،
ابنتنا قدس هي اخت قيس ، أمه نفيسة هي أم ابنتنا ؛
ونحن عائلة واحدة في السراء والضراء "
وما أكثر مقاطع " حالة حصار " في الكتابة عن الجنود الذين قتلوا فتيانا فلسطينيين .
وخذ أيضا القصة التي تليها " بدم بارد " ( ص ١٨٧ ) وقصة " حب " ( ص ١٩١ ) وقصة " حرية " ( ص ١٩٢) ، وإذا كنت قارئا لديوان الشاعر فلن تخطيء التشابه مع مقطوعات درويش .
قصة " حرية "
" نريد صباحا هادئا
خاليا من الطائرات التي تزرع الموت والدمار
خاليا من الجنود ومن المستوطنين والمستوطنات
تتجلى في فضائه حرية بكر لا تعرف الانكسار
قلنا قولنا هذا ونمنا على أمل ، واستيقظنا على آمال " .
وأنت تقرأ بعض القصص تشعر أنك تقرأ مقطوعات شعرية حقا .
خذ هذه المقطوعات من ديوان محمود درويش " حالة حصار " :
" يقيس الجنود المسافة بين الوجود
وبين العدم
بمنظار ذبابة ...
نقيس المسافة ما بين أجسادنا
والقذيفة ... بالحاسة السادسة "
و
" أصدقائي يعدون لي دائما حفلة
للوداع ، وقبرا مريحا يظلله السنديان
وشاهدة من رخام الزمن
فأسبقهم دائما في الجنازة :
من مات ... من ؟"
و :
" الشهيدة بنت الشهيدة بنت الشهيد
واخت الشهيد واخت الشهيدة كنة
أم الشهيد حفيدة جد شهيد
وجارة عم الشهيد ( الخ
... الخ ... )
ولا شيء يحدث في العالم المتمدن ،
فالزمن البربري انتهى ،
والضحية مجهولة الاسم ، عادية
والضحية .. مثل الحقيقة .. نسبية
( الخ ... الخ ... )"
الجمعة والسبت
١٦ و١٧ نيسان ٢٠٢١
(مقال اليوم في جريدة الأيام الفلسطينية متوسعا فيه ١٨ نيسان ٢٠٢١)
***
3- محمود شقير في " حليب الضحى " ٢
هل ثمة رغبة دفينة لدى القاص محمود شقير بكتابة الشعر ؟
عرفنا ظاهرة الشعراء الذين تحولوا إلى كتابة الرواية ، وعرفنا ظاهرة كتاب القصة القصيرة الذين صاروا يكتبون الرواية وهجروا القصة القصيرة ، ولكننا لم نعرف عن روائيين أو كتاب قصة قصيرة تحولوا إلى كتابة الشعر .
حليب الضحى في قسمها الأخير / الرابع توحي لنا بأن محمود شقير غدا أسير الإيقاع والسجع أيضا . كما لو أنه يسعى إلى القافية سعيا ، فهل يسعى ، وهو في الثمانين من عمره ، إلى كتابة الشعر ؟
كتبت أمس إن " حليب الضحى " تذكرنا بمجموعة محمود درويش " حالة حصار " ، واليوم وأنا أقرأ القسم الرابع الأخير منها تعزز لدي هذا الرأي ولي غير دليل منها ما يمس الموضوع ومنها ما يمس الشكل ، عدا سمة البوح والابتعاد عن المباشرة .
خذ مثلا القصتين " شهيد " و " بدم بارد " في الصفحتين ١٨٦ و ١٨٧ وقارن موضوعهما بموضوع قصائد " حالة حصار " ، ومثلهما قصتا " حب " و " حرية " في الصفحتين ١٩٣ و ١٩٤ ، وانظر في الأخيرتين ولاحظ جنوح شقير إلى الإيقاع .
طبعا أنا أقدم قراءة ولا أزعم أنها القراءة الوحيدة .
خربشات أدبية
١٠ نيسان ٢٠٢١
***
4- محمود شقير والقصة القصيرة الفلسطينية
يعتبر محمود شقير واحدا من أبرز كتاب قصتنا القصيرة الذين اخلصوا لهذا الفن وكادوا يقصرون جل جهدهم للكتابة فيه وتطويره وابرازه ليحتل مكانة يلتفت اليها، كما كان يلتفت الى الشعر واصبح يلتفت الى الرواية.
وشقير، في حدود ما أعرف ، لم يكتب في غير هذا الجنس الا نادرا، وأقصد بذلك أنه لم يلتفت الى الرواية ضاربا عرض الحائط بالقصة القصيرة، كما فعل بعض أفراد جيله مثل يحيى يخلف ورشاد ابو شاور، ولم يلتفت الى السياسة التفاتا يقصي الاديب فيه كما فعل ماجد ابو شرار وحكم بلعاوي، ولم يصبح ناقدا اكثر منه قاصا كما اصبح صبحي شحروري. وما كتبه شقير من قصص قصيرة للاطفال ، ومن مقالات سياسية واجتماعية وفكرية لم تجعل منه كاتبا سياسيا بالدرحة الاولى، أو مصلحا اجتماعيا، كما أن النصوص المسرحية والتمثيلية التي انجزها لم تجعل منه كاتبا مسرحيا متميزا. وعليه فقد ظل شقير قاصا بالدرجة الاولى، قاصا التفت الى هذا الفن، واخذ يكتب فيه ويطور رؤيته اليه، وهذا ما يتضح من خلال مجموعاته التي اصدرها، وهذا ما سأوضحه في سياق هذه المقالة.
بدأ محمود يكتب القصة القصيرة في الستينيات، وعليه فانه يمكن ان يصنف- بناء على قراءتنا لخريطة القصة القصيرة الفلسطينية- مع الجيل الثاني، الجيل الذي تلا جيل خليل بيدس والايراني ونجاتي صدقي وعبد الحميد ياسين وعارف العزوني؛ هؤلاء الذين أسسوا لهذا الفن من خلال الترجمة اولا، والتأليف ثانيا، وكانوا، يوم بدأ شقير الكتابة، قد أعطوا كل ما عندهم تقريبا. ولم يتزامن معهم كتابة الا قليلا، فمنهم من كان انتقل الى رحمة الله، ومنهم من توقف عن الكتابة او كاد.
ويتمثل الجيل الثاني من كتاب القصة القصيرة في سميرة عزام ونجوى قعوار فرح وغسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا، على قلة ما كتبه الاخير في هذا الجنس الادبي. وقد بدأ هؤلاء الكتابة في اوائل الخمسينيات او قبل ذلك بقليل- أي بعد مرور ربع قرن على اصدار أول مجموعة قصصية في الادب الفلسطيني، وهي مجموعة خليل بيدس “مسارح الاذهان” (1924). وقد أصدر هؤلاء الكتاب، في نهاية الخمسينيات، أولى مجموعاتهم التي توالى صدورها في الستينيات، الفترة التي بدأ شقير ينشر فيها قصصه، وقد نشر جزءا منها، فيما بعد، في مجموعة “خبز الاخرين” التي صدرت عن منشورات صلاح الدين في القدس عام 1975.
ولقد نهج القاص، كما نلحظ في مجموعته الاولى، نهجا واقعيا، وكتب القصة الواقعية- اذا جاز لي استخدام هذا المصطلح الفضفاض- تقليدية الشكل، القصة التي لم تتجاوز من حيث شكلها الفني القصص المنجزة من نجاتي صدقي والايراني. ويعتبر هذا امرا طبيعيا فلم يكن عود الكاتب قد اشتد بعد، ولم تكن اسئلة مثل البحث عن شكل جديد وتطوير ما يكتب اسئلة تشغل باله، وهي اسئلة اخذت فيما بعد تحتل حيزا من تفكيره. لقد كان القاص في بداياته، – وهو الذي بدأ حياته الفكرية قريبا من اليسار، – مشغولا بهموم اخرى غير الهم الشكلي، وتحديدا بهموم الطبقات الفقيرة المستغلة البائسة. وقد رأى عالم الفلسطيني – وهو ابن الريف الذي لم يتعرف الى حياة اللاجئين عن قرب، خلافا لماجد ابو شرار وغسان كنفاني- ينقسم الى قسمين : عالم المدينة وعالم القرية. وفي المدينة يعيش الاغنياء الذين يتنعمون بالمال، خلافا لمعظم سكان القرية الذين يعانون الفقر ويكابدونه .
وتعتبر قصة “بقرة اليتامى” واحدة من قصص تلك المرحلة، وهي توضح لنا رؤية القاص ومنظوره. ثمة اغنياء يمتكلون البيوت الجميلة ذات الحدائق، وثمة ريفيون فقراء يعملون في حدائق الاغنياء ، ريفيون سرعان ما يتخلى عنهم اذا ما ضعفت قواهم ووهنت. ويوظف القاص في قصته الحكاية الشعبية التي حمل اسمها عنوان القصة. يروي ابو اسماعيل الفلاح الريفي الحكاية، رواية تعبر عما حدث معه، وكان قد طرد من عمله لأنه اصبح ضعيفا، يرويها على النحو التالي :
“كانت لليتامى بقرة.. أمسكها الاغنياء وذبحوها وسلخوها.. و.. وقاطعه احد اطفاله بحماس:
لا يا أبي حاولوا ان يمسكوها.. وتمنى اليتامى:
يا رب لا تجعلهم يمسكونها.
وانتفض الاب :
– لا ..أمسكوها وذبحوها وسلخوها وأكلوها وناموا مبسوطين.
وامتعض الاطفال ..وناموا يحلمون ببقرة ذات قرون صلبة. كالرماح .. تعدو في جموح ثائر عبر الحقول .. بينما تندحر بعيدا من حولها الذئاب”.
وكأن شقيرا كان يعبر في قصته تلك عن امتعاضه من بؤس الواقع ايضا، ولهذا انضم الى اليساريين، وأخذ يعمل من خلال تنظيماتهم علّ البقرة تعدو في جموح ثائر عبر الحقول لتدحر الذئاب.
وما كاد القاص يمتلك أدواته الفنية ليعبّر عن هذا الامتعاض تعبيرا أكثر نضجا حتى اندحر الاغنياء والفقراء معا أمام الاحتلال، وأصبح شقير يعبر عن هموم أخرى شغلت الحيز الأكبر من تفكيره واهتماماته، هموم كادت تبعده عن فنه الذي احبه – أي فن القصة القصيرة – وأعني بتلك الهموم الهم السياسي. وقد كان إبعاده سببا من أسباب عدم عزوفه عن كتابة القصة القصيرة نهائيا، اذ وجد في المنفى فسحة من وقت ليعاود الكتابة الادبية.
في المنفى بدأ القاص يستلهم تجربة الاحتلال ويعبر عنها، وقد عبر ايضا عن تجربة النفي، وأفاد في اثناء ذلك من التطورات التي ألمت بفن القصة القصيرة منذ نهاية الستينيات وأوائل السبعينيات، وهو ما لم يستطعه في أثناء إقامته في القدس بسبب الحصار الثقافي الذي عانى منه سكان المناطق المحتلة. ولقد اختلفت مجموعة “الولد الفلسطيني” (1977) اختلافا بيّنا عن “خبز الاخرين”. أصبح المحتلون، لا البرجوازية الفلسطينية، من يضطهد الفقراء ويقمعهم، ورأى القاص في الاحتلال، لا في الأغنياء، الذئاب التي ينبغي ان تندحر. حلم شقير، في هذه الفترة، بوطن لا يحتله الاعداء، وطن يعود اليه بعد ان أبعد عنه، وكتب عن مقاتلي الحرية، كتب هذا بأسلوب اختلف، الى حد كبير، عن الاسلوب الذي بدا في المجموعة الاولى. ثمة تقنيات جديدة تمثلت في الرمز الشفاف وتقطيع القصة الى مقاطع والابتعاد عن لغة السرد الواقعية لدرجة الملل، لغة استبدلها بأخرى تقترب من لغة الشعر التي عبرت عن مشاعر الكاتب ووجدانه. وعلى الرغم من ذلك فقد ظل القاص، حتى تلك الفترة، يصور شخصيات واقعية، وهذا ما بدا في قصة “الخروج” وقصة “القرار”.
وهنا يمكن أن نقف أمام مجموعتيه “طقوس للمرأة الشقية” (1986) و “ورد لدماء الانبياء ” (1990)، وقد أصدر الاخيرة تحت عنوان آخر هو “صمت النوافد ” (القدس، 1995).
وكان ينبغي ان تثير هاتان المجموعتان العديد من الاسئلة، فيما يمس فن القصة القصيرة الفلسطينية، وبخاصة من نقاد الداخل الذين لاحظوا بدايات لهذا الشكل القصصي منذ عام 1977، بدايات لم تتواصل ليصدر الكتاب مجموعة قصصية متكاملة تحتوي على قصص تقترب شكلا من قصص “طقوس للمرأة الشقية”، وأذكر انني كتبت بتاريخ 12/11/1977 مقالا نشرته في جريدة الفجر اتساءل فيه عن هذا اللون من الكتابة واحدد موقفا منه. ولسوف أغض النظر عن ذلك المقال الذي كتبته يوم كنت كاتبا مبتدئا، فزمن القاريء ، كما يقول النقاد، زمن متغير متحرك، وقراءة النص في فترتين مختلفتين قد ينجم عنها رأيان مختلفان فيه. ولكني أثير التساؤل التالي : أين يدرج الناقد الادبي قصص مجموعتي شقير الاخيرتين؟
يبرم محمود شقير، حين يكتب على غلاف مجموعتيه “قصص قصيرة جدا”، عقدا مع قرائهما انه يقرأ قصصا قصيرة جدا لا غير. واذا ما عاد المرء الى بعض الدراسات النقدية الخاصة بالاجناس الادبية فسيجد ان النقاد قد اشاروا فيما كتبوا نظريا الى فن القصة القصيرة جدا. ففي دراسة (Hagen Meyerhoff) “القصة القصيرة” المدرجة في كتاب “أشكال الادب” الصادر في شتوتجارت (ألمانية) (1981) – وهو كتاب اعده (Otto Knorich) نجد (مايرهوف) يذهب الى ان هناك سبعة اسماء تدرج تحت باب القصة القصيرة هي :
(Novel, novelette, tale, story, short novel, moderen short story, short short story)
ويبقى حجم الكلمات آلة التمييز الفعالة لمثل هذه التسميات. وان كان هناك من يميز بينها بناء على عدد الشخصيات واتضاحها وعدمه، واسلوب القاص، ولجوء القاص الى الوصف او عدم اللجوء اليه، وتكثيف اللغة او الاسترسال فيها.
وليس هناك من شك في أن محمود شقير كان واعيا لهذا، حين كتب على الغلاف ما كتبه. وسيلحظ المرء ان شخصيات قصصه في مجموعتيه تكاد تصبح دون ملامح فردية – وإن كان احيانا يمنحها اسماء خاصة دالة مثل قصة شلومو التي يوحي اسمها بقومية بطلها – ، وتبدو الشخصيات دون ملامح فردية في كثير من قصص المجموعتين، ومنها قصة “مقاومة” (ص 16)، وقصة “غزو” (ص21) ، وقد وردت كلتا القصتين في “صمت النوافذ”.
وسيلحظ المرء ان لغة القاص تكاد تقترب، من حيث كثافتها ، من لغة الشعر الغنائي. ثمة لغة مكثقة الى ابعد الحدود، لغة صوت واحد هو صوت القاص، فنحن في هاتين
المجموعتين لا نصغي ، خلافا لما كان الأمر عليه في “خبز الاخرين” و “الولد الفلسطيني”، لأصوات الشخوص. ولو قارنا بين قصتي “بقرة اليتامى” و “الخروج” وبين قصتي “مقاومة” و “غزو” للاحظنا ذلك واضحا. تتعدد في قصة “الخروج الاصوات، وتتنوع اللغة وتختلف. ثمة لغة للراوي واخرى للشخصية، وهذا ما نفتقده في اكثر قصص مجموعتيه الاخيرتين، ويمكن ايراد القصة التالية من مجموعة “طقوس للمرأة الشقية” لتبيان ذلك :
“خيبة
المرأة العانس لم تكن قد اخذت زينتها بعد، حينما اقتحم عليها الباب موظف الفندق ليخبرها ان الجهة المضيفة قد توقفت عن تسديد الفواتير.
المرأة العانس بكت، لأن موظف الفندق شاهد بأم عينيه طاقم اسنانها منقوعا في كأس ماء قرب سريرها الميت، وهي لم تأخذ زيننتها بعد”
ونحن حين نقرأ هذه القصة انما نصغي الى صوت القاص يقص عن امرأة لا اسم لها، ولا ملامح فردية لها ايضا تميزها عن غيرها من كثير من النساء. انها امرأة اقرب الى النمط منها الى النموذج، ونحن فوق هذا كله لا نصغي الى صوتها اطلاقا، فثمة من يقص عنها حكايتها .
وكتابة محمود شقير القصة القصيرة جدا تعود اليه، ولا يستطيع الناقد أن يحول بينه وبين كتابتها ما دامت جنسا ادبيا مقرا به ومعترفا به ايضا، ما دامت جنسا ادبيا وجد من النقاد من يلتفت اليه ويدرسه. ومن الطبيعي ان نجد نقادا اخرين يقللون من شأن هذا اللون من الكتابة ولا يعتبرونه قصة ذات مغزى.
ولكن المرء، وهو يتابع مسيرة محمود شقير القصصية، يثير العديد من الاسئلة ، منها ما يتعلق بالسبب الذي جعل محمود يلتفت الى القصة القصيرة جدا ويعزف عن كتابة القصة القصيرة؟ فهل يكمن سبب ذلك في كتابته هذه القصص يوم كان ينشر زاوية اسبوعية في جريدة الاخبار الاردنية، الزاوية التي كانت ، الى حد ما، محدودة الحجم ؟ أم يكمن السبب في ان القاص، بعد ابعاده، اصبح يعيش في بيئة محدودة، بيئة لا يعرف بشرها معرفة جيدة، كما كان الوضع عليه يوم كان يقيم في القدس، ومن هنا فقد اخذ يكتب عن شخوص يلتقي بهم التقاء عابرا، أو اخذ يكتب قصص افكار، أو قصصا يستوحي احداثها او فكرتها من خلال قراءاته للصحف ومتابعته للاخبار. واستطيع ان اوضح هذا اكثر: يلحظ القاريء لقصص شقير في مجموعتيه الاخيرتين انه كان احيانا يكتب عن تجارب لم يكن شاهدا عليها، ولم يعرف شخوصها، وأدلل على ذلك بقصتي “شلومو” و “غزو”، ويلحظ القاريء ايضا انه كان احيانا يعبر عن تجربة النفي وحياته في الغربة والمنفى، وكان قد كتب عن هذا في مجموعة “الولد الفلسطيني”، وأستطيع ان ادلل على هذا من خلال الاشارة الى قصة “لقاء” من مجموعة “صمت النوافد” (ص 74)، وقصة “عهد” من مجموعة “طقوس للمرأة الشقية” (ص 31)، وهما قصتان تقتربان من قصة “ثلاث قصص قصيرة” التي وردت في مجموعة “خبز الاخرين وقصص اخرى” (85)، والاخيرة تضم قصصا من مجموعة “الولد الفلسطيني”.
وتبقى نقطة اخيرة يجدر ان يشار اليها في اثناء الكتابة تحت العنوان المختار الذي فرض علي توظيف غير منهج نقدي مثل المنهج التاريخي والمنهج الايديولوجي والمنهج الجمالي، وهي : ما الأثر الذي تركه محمود شقير على قصتنا وقصاصينا ؟
كان شقير من اوائل قصاصينا الذين لجأوا الى التجريب، ولقد صدرت مجموعة “الولد الفلسطيني” عام 1977 في القدس، ولم يكن القصاصون ، من قصاصي الضفة والقطاع، الذين كتبوا القصة يوظفون مثلا اسلوب تقطيع القصة الى مقاطعكما لم يكونوا، وبخاصة قصاصو الداخل وعلى رأسهم اميل حبيبي ومحمد علي طه وحنا إبراهيم ومحمد نفاع وسلمان ناطور، يكتبون بلغة شفافة فيها قدر عال من التكثيف، لغة تقترب احيانا من لغة الشعر. وكانت اول مجموعة تصدر في الداخل يظهر فيها النهج الذي نهجه شقير هي مجموعة محمد علي طه “عائد الميعاري يبيع المناقيش في تل الزعتر” (1978)، وكان نشر قصصها على صفحات جريدة “الاتحاد” ومجلة “الجديد” اللتين لم تكونا تصلان الى المناطق المحتلة عام 1967، ولكن تأثر ادباء الضفة وقطاع غزة بمجموعة شقير المذكورة – أي الولد الفلسطيني- بدا واضحا وضوحا بارزا في قصص زكي العيلة “العطش” (1978) وغريب عسقلاني ومحمد كمال جبر، ومن بعد اكرم هنية هذا الذي عاش في العالم العربي ودرس في القاهرة الادب الانجليزي، وبالتالي فانه مثل شقير أفاد من تطورات القصة القصيرة في الادبين العالمي والعربي، وهو ما بدا في مجموعته القصصية الاولى “السفينة الاخيرة .. الميناء الاخير” (1979) وفي مجموعاته القصصية اللاحقة .
ولقد اصبح شكل القصة القصيرة جدا شكلا ادبيا له في ادبنا حضوره البارز ،
وهو ما يلحظه المرء في كتابات زياد خداش “موعد بذيء، مع العاصفة” (1996) وكتابات ايمان بصير” جسد من بخور” (1997) وكتابات غيرهما ايضا. ويستطيع المرء مثلا ان يقرأ قصة “أمومة” لايمان بصير، أو قصة من قصص خداش التي ادرجها تحت عنوان “معزوفات قصصية قصيرة على قيثارة القهر” ليلحظ انها لا تختلف عن قصة “خيبة” لشقير، وهي القصة التي اوردتها في هذه المقالة، ويمكن ان اورد احدى معزوفات خداش ليقارن القاريء الذي تنقصه المجموعة هذه الاقصوصة باقصوصة شقير :
“بؤس
الفتاة الشرقية الناعمة التي تزوجت هذا اليوم وتنتظر الان زوجها على فراش وثير فكرت مليا في نصائح صديقة قديمة لا تذكر اسمها الان : كوني عاقلة في الفراش وردي على القبلة المحمومة بلثمة خفيفة”.
وهي اقصوصة مكثفة جدا لا نلحظ فيها ملامح فردية للشخصيتين ، فلا اسم لهما، ولا زمان محدد تجري فيه الاحداث ، ولا مكان ولا وصف ولا حوار ولا استطراد، وهذا عموما ما يلحظه المرء في كثير من القصص القصيرة جدا، ويبقى للكتاب اجتهادهم !!
* * *
ملاحظة :
بعد نشر هذه الدراسة في مجلة “دفاتر ثقافية” قرأت تعقيبا عليها من القاص محمد علي طه تحت عنوان “عدالة الدكتور عادل” نشر في العدد الحادي عشر من “دفاتر ثقافية” – تموز 1997. وقد أفدت من بعض ملاحظاته وأغفلت أكثرها، ولعل القاص يجد لي بعض العذر، فلم تكن “الاتحاد” و “الجديد” في السبعينيات تصل الينا. وما أستغربه أنه لم يكن اطلع على مجموعة شقير “الولد الفلسطيني” (1977)، وعرفت من القاص، قبل عامين، ايضا انه لم يقرأ كتابتي عن مجموعته، وقد نشرتها عام 1981 في جريدة “الشعب” تحت عنوان “نزعة التجريب في مجموعة محمد علي طه عائد الميعاري يبيع المناقيش في تل الزعتر”. وأرى ان لغة شقير في مجموعته تختلف اختلافا كليا عن لغة قصاصي الداخل في حينه.
***
5- مقعد رونالدو
هذا الاسبوع، رأيتني، على غير عادة، اتابع، وأنا اقرأ الجريدة، صفحات الرياضة فيها، وحين كنت صباح الاحد (15/5) التفت الى اعلانات الصفحة الاولى، فقد اصررت على شراء عدد الاثنين، ولكنني لم احصل عليه من البائع، لأن الاعداد نفدت مبكراً، ونسيت، في غمرة انشغالي، الحصول على عدد. ولما تذكرت ضرورة ان اقرأه، فقد حصلت صباح الثلاثاء (16/5) عليه، واحتفظت به وبصورة (رونالدو).
ومنذ علمت بأن (رونالدو) سيزور فلسطين، قررت ان اكتب عن هذا الحدث التاريخي، فأنا احب لعب (رونالدو)، وأشعر بأنه قريب منا، ربما لأنه يشبه اخي الكبير، وربما لأنه يذكرني ببرازيلي تعرفت اليه في العام 1987 وأنا اتعلم اللغة الالمانية في (فرايبورغ)، وكان هذا البرازيلي هادئاً ووديعاً، وكان مثله مثل كثيرين من ابناء القارة الاميركية الجنوبية، يشعرون معنا، ويظهرون معنا تعاطفاً كبيراً. بل انهم كانوا يلتقطون لنا معهم الصور، ويصرورن على ضرورة ان نتواصل معاً في قادم الايام.
ومع انني اكون حذراً، حين اكتب عن علم بارز، لأنه قد يتغير مع قادم الايام، اذ التجربة قالت لنا هذا، ولنا في (مارادونا) خير دليل، هذا الذي تعاطف معه الفلسطينيون لدرجة ان محمود درويش كتب عنه مقالا نقلته الصحف الى الاسبانية، ثم خيب (مارادونا) ظننا حين زار حائط المبكى، ووضع القبة على رأسه، مع انني اكون حذراً حين اكتب عن علم بارز الا انني لم افوت الفرصة، ووجدتني اتابع الحدث، وأفكر في الكتابة عنه. ولقد واصلت قراءة ما كتب عنه في الايام بقلم صلاح هنية، وعلى الصفحات الرياضية، بل ولقد تمنيت ان يحتفل به الفلسطينيون اكثر، لعله يتحدث عن عدالة قضيتهم، علماً بأن رئيس البرازيل لم يقصر في دعم قضيتنا، وهذا ما افصح عنه فهمي هويدي في مقاله في "الايام" (18/5) متى يصبح للشارع العربي دور في صناعة القرار؟
ولعل ما شجعني ايضاً على كتابة المقال تحقق نبوءة القاص محمود شقير، هذا الذي كان نشر في احد اعداد مجلة الكرمل قصة عنوانها "مقعد رونالدو"، اعاد نشرها في مجموعته "صورة شاكيرا" (2003)، ثم عاد وكتب قصة ثانية عنوانها "مقعد بابلو عبد الله" ظهرت في مجموعته "ابنة خالتي كونداليزا" 2004 ويبدو ان الكاتب خاب ظنه في (رونالدو) وإن لم يبد هذا على لسانه مباشرة، وإنما بدا من خلال شخصية كاظم علي السائق الفلسطيني المعجب بـ (رونالدو)، لدرجة انه ظل يحجز له المقعد الاول، في سيارته العمومي، يومياً، منتظراً ان يلبي (رونالدو) دعوة كاظم الذي راسله عبر (الانترنت)، ما سبب له مشاكل عديدة مع اهل قريته الذين ذهبت بهم الظنون مذاهب شتى، لأن المقعد ظل فارغاً، اذ كان كاظم يرفض ان يجلس اي راكب الى جانبه، فالمقعد مخصص لـ (رونالدو)، ولم يكتف الناس بالظن، فقد اشتكوا كاظماً الى عشيرته، ولحق به من الضرب والمهانة ما لحق، بسبب الاشاعات التي كان اقلها انه يترك المقعد فارغاً لفتاة ما، يمارس معها الحب، علماً بأن الناس تعرف انه متزوج وأنه يجب زوجته.
وقد بدا التغير في موقف كاظم من (رونالدو) في القصة الثانية، بخاصة حين عرف ان (رونالدو) وافق على الجلوس مع رجال الاعمال الاثرياء، مقابل مبلغ مليون دولار، ما جعل كاظماً لا يلتفت الى (رونالدو)، لأنه رأى فيه رجلاً جشعاً.
وما مِنْ شك في ان وراء القصة ما وراءها، وأن التغير في موقف كاظم، يعكس نظرة شقير نفسه، الى هؤلاء الاعلام الذين نحب لعبهم، وقد نستاء من بعض تصرفاتهم.
وأنا اتابع اخبار زيارة (رونالدو) الى فلسطين، سأتذكر قصتي محمود شقير هاتين، وسأعيد قراءتهما، وسأتذكر ما كتبه محمود درويش في (مارادونا)، وزيارة هذا الاخير لحائط المبكى، لبراقنا وسألحظ احتفال الناس بهذا النجم البرازيلي (رونالدو) واحتفاءهم به، ربما يجدر ان توجه الدعوة لزين الدين زيدان لزيارة فلسطين، ولا ادري لماذا لم يكتب الصديق القاص محمود شقير عن علاقة كاظم بلعبه؟
عادل الأسطة
2005-05-22
***
6- قالت لنا القدس
"قالت لنا القدس" هو آخر كتب القاص محمود شقير، فقد صدر عن وزارة الثقافة الفلسطينية في العام الحالي، ويبدو أن مؤلفه محظوظ، فما ان انتهى من كتابته حتى وجد طريقه للنشر، خلافاً لمخطوطات اخرين كثر ما زالت تقبع في مكاتب الوزارة، وربما كان موضوع الكتاب السبب فهو عن القدس والوزارة، في عام القدس عاصمة للثقافة العربية، اهتمت بالكتب التي تناول اصحابها المدينة: شعراً ونثراً ودراسات.
و "قالت لنا القدس" هو مجموعة مقالات كان شقير نشرها على صفحات "أيام الثقافة" في جريدة "الأيام" خلال العام المنصرم، وقد استخدم القاص مفردة "نص" لتحديد جنس العمل الأدبي، كما ادرج تحت العنوان الرئيس المفردات التالية: نصوص، يوميات، شهادات. وكتب شقير في كتابه عن المدينة الآن والمدينة كما كانت وكان اصدر في العام 1999 كتابه "ظل آخر للمدينة: سيرة مدينة" ليقارن فيه بين القدس قبل ابعاده عنها وبعد عودته اليها 1975 -1993، كما كتب شقير في كتابه عن فضاء المدينة في يوميات السكاكيني، وكتب في مديح بنات القدس وعن شبابيكها، وما يجري الآن من ترييفها، هي المدينة المعزولة عن ريفها، كما كتب عن مقاهيها التي تتناقص باستمرار، وقارن بين شطري المدينة: الشرقي الذي يذوي والغربي الذي يزدهر، وآتى على العمران في ضواحيها، وشارع الزهراء والتبدلات التي تمت فيه، كما كتب عن ثقافتها المعزولة بسبب حصارها، ولم يغفل الكتابة عن تبدلات شارع صلاح الدين، وعن فنانيها: فرانسوا ابو سالم وعادل الترتير، ولكونه قاصاً وكاتباً فقد التفت الى غياب المدينة في النصوص السردية، كما انتبه الى حضورها في السير والشهادات واليوميات، ومن المؤكد ان الكتابة عن القدس لن تكتمل ما لم يكتب عن بيت السكاكيني ومقهى الصعاليك، وعن مفارقات الحصار الآن وسورها القديم والجديد والاخير ذكره، هو الذي زار برلين، بسور برلين.
آخر ما كتبه شقير في كتابه كان تحت عنوان: أنا والقدس والكتابة وقد لفت هذا العنوان وما أدرج تحته نظري للكتابة عن القدس في نصوصنا الادبية، كان شقير كتب من قبل عن القدس والنص السردي الغائب، ما دفعني ذات نهار، لكتابة مقال، في هذه الزاوية، تحت العنوان نفسه آتي فيه على النصوص القصصية بخاصة في القصة القصيرة التي اتى مؤلفوها فيها على القدس، واتخذوها بعداً مكانياً لها.
يكتب شقير تحت العنوان الأخير: أنا والقدس والكتابة، عن حضور مدينة القدس في قصصه ونصوصه، ويرى انها لم تكن ذات حضور طاغ، فهو، حتى اللحظة، لم يتمكن من امتلاك المدينة على النحو الذي يتمناه، ولم يتمكن من التعبير عنها الى الدرجة التي يرغب فيها، ويعزو ذلك الى اسباب منها نشأته القروية على تخوم المدينة، فقد تركت أثرها على حياته، "بحيث إن طول ملازمتي للمدينة، وكثرة ترددي عليها لسنوات طويلة، وتعرفي الى كثير من التفاصيل التي تشتمل عليها، لم يسهم في كسر الحاجز الرهيف الذي بقيت اشعر به تجاه علاقتي بها حتى الآن" وشقير لا يتقن الكتابة عن المكان الا إذا كان ملتصقاً به على نحو حميم، ولأنه لا يعتبر المكان في قصصه مجرد اطار خارجي، "بل أراه جزءاً عضوياً من بنية هذه القصص، وامتداداً اصيلاً لمضمونها ولشكل صياغتها الفنية". (ص 185).
طبعاً لا ينكر شقير فضل القدس الكبير عليه "فلولاها لما كنت كاتباً، ولولا مجلتها الثقافية التي نشرت اولى قصصي فيها، ولولا صحفها التي جعلتني على تماس مع القضايا العامة، ولولا مكتباتها التي أمدتني بالكتب الادبية والمجلات الثقافية، ولولا دور السينما فيها، التي فتحت لي أفقاً ثقافياً كنت أفتقر اليه، لولا كل ذلك لما دخلت عالم الكتابة، أو لعلني ما كنت لأستمر في الكتابة". (ص 190).
وقد لامس كلام شقير السابق، وأنا أقرأه، لامس فيّ وتراً حساساً، كأنه عبّر عما اعبر عنه في اثناء كتابتي عن المكان في قصص قصاصينا وأشعار شعرائناً، فأنا واحد من الكتاب لا استطيع ايضاً الكتابة الا عن اماكن اعرفها او عن تجارب أمر بها، ولا اكتب أيضاً عن المكان في نصوص كاتب إلا إذا كانت له صلة بهذا المكان وتركت أثرها عليه. هكذا كتبت عن درويش والمدينة، وعن القدس والسواحري وشقير وهنية وفياض، وربطت بين كتاباتهم عن المدينة وتجربتهم فيها.
مؤخراً، طلبت مني مؤسسة فلسطين للثقافة أن اكون محكماً في لجنة تحكيم الاعمال الادبية لجائزة القدس، وطلبت ان تكون الافضلية في منح الجائزة لما يكتب عن القدس، وهكذا قرأت غير رواية كانت المدينة حاضرة فيها حضوراً لافتاً، حتى لكتاب لم يزوروا المدينة ولم يعرفوها، مثل الكاتب الفلسطيني حسن حميد "مدينة الله" والكاتب العراقي علي بدر "مصابيح اورشليم: رواية عن ادوارد سعيد". وكان سؤالي الذي اثرته وأنا اقرأ الروايتين: كيف يكتب كاتب رواية عن مكان لم يزره ولم تكن له معه علاقة حميمة؟ "قالت لنا القدس" اجاب فيه شقير عن سؤالي.
بعيداً عن السياق وزيرة الثقافة والثقافة
وزيرة الثقافة تجد وتجتهد من أجل حراك ثقافي وحياة ثقافية، ولهذا تبدو كثيرة الحركة، ففيها البركة، هل هي فترة الاسترخاء التي ساعدتها ولم تساعد غيرها من الوزراء السابقين، ام يعود السبب اليها؟ خلال العام الماضي والحالي اجتمعت مع وزيرة الثقافة، أنا قليل الحركة، ثلاث مرات، في مبنى المحافظة في نابلس من اجل رعاية الاحتفال بالقدس عاصمة للثقافة )2009( وفي سلفيت، حيث رعت احتفال مؤتمر الادب الشعبي الذي شاركت فيه بورقة عن توفيق زياد، وفي مكتب وزارة الثقافة في نابلس، لدراسة واقع الثقافة في المدينة، ودراسة آلية تفعيلها، ولو هيئ لي السفر الى الجزائر والشارقة لكنت اجتمعت بها هناك ايضاً، وحتى اللحظة، لم اجتمع مع الوزيرة في مكتبها في رام الله، وهذا ما كان يتم سابقاً، في عهد وزراء سابقين، حيث كانت الوزارة تدعونا، نحن الكتاب للالتقاء بالوزير في مكتب الوزارة هناك. هل وزيرة الثقافة الحالية ابنة الشعب الذي ظلت وفية له، ولم تتنكر لما آمنت به ونشأت عليه، خلافاً لعمر القاسم في قصة زكريا تامر: "يا أيها الكرز المنسي". كان عمر القاسم معلماً فقيراً بلا سند، وهكذا عين معلماً في قرية بعيدة عن العاصمة، وعاش مع الفقراء وبينهم، فأحبهم وأحبوه وأطعموه الكرز الذي رأى في لونه الاحمر دم الفلاحين، ومع مرور الايام غدا عمر وزيراً ما جعل القرية/ الضيعة تشعر بالسعادة، وسافر مندوب عنها، ومعه سلة كرز، ليبارك لعمر بمنصبه الجديد، ولكن المندوب عاد ومعه السلة كما هي، ولأن تامر يومي ولا يقول مباشرة، فقد قال الريفي لأهل ضيعته: عمر القاسم مات.
وزيرتنا ليست مثل عمر القاسم. وهي لا تطلب منا ان نذهب اليها، فهي تزور المدن والقرى وتسافر وتتنقل وتتناول معنا طعام المسخن وتحتج على احضار المشروبات الاسرائيلية، مثل بعضنا، وهي تجلس معنا وتستمع الينا: كيف يمكن ان يكون للثقافة حضور؟ ماذا يمكن أن نفعل؟ ما هي اراؤكم ومقترحاتكم، انها تحاول ثقافة او قد تخفق فتعذر، قياساً على ما قاله امرؤ القيس: نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا.
كلما اجتمعت مع وزير ثقافة، وقد حدث هذا غير مرة، اكرر آرائي: تفريغ عدد من الكتاب، لا ليكتبوا عملاً أدبياً، وإنما للذهاب الى المدارس والجامعات يومياً لمدة عام، لقراءة نصوصهم، والحديث عن الحركة الثقافية، القيام بعرض مسرحيات في المدارس، وكذلك اقامة معارض فنية متنقلة و... و... ويأتي وزير ويذهب وزير والافكار هي الافكار، ومع ذلك لا افقد الامل، هل ترك محمود درويش روحه فيّ حين قال: نربي الأمل!
عادل الأسطة
2010-04-25
***
7- أدب العائدين: محمود شقير «مديح لنساء العائلة»
أصدر الأدباء العائدون نصوصاً أدبية كثيرة، تنتمي إلى أجناس أدبية مختلفة، وكان الجنس الأبرز هو الكتابة النثرية السيرية التي امتزجت فيها سيرة الكاتب بسيرة المكان الذي كانت له به علاقة قبل 1967، أو 70 أو 75، وانقطعت صلته به، بسبب الهجرة أو الإبعاد، وبرز في هذا المجال أربعة كتب تكاد تتميز عن غيرها وتتشابه فيما بينها، "منازل القلب" لفاروق وادي، و"رأيت رام الله" لمريد البرغوثي ـ وأيضاً "ولدت هناك، ولدت هنا" ـ و"ظل آخر للمدينة" لمحمود شقير، ويضاف إلى هذه كتاب محمود درويش "في حضرة الغياب"، مع أن الأخير ركز على حياة مؤلفه منذ طفولته حتى عودته إلى غزة فرام الله.
ولكن الأدباء العائدين لم يقتصروا في الكتابة على موضوع العودة، فقد فرغوا تجربتهم في نص أو نصين، ثم عادوا يكتبون في موضوعات أخرى، بل وأخذوا ينظرون لكتابتهم الجديدة تلك التي ابتعدت عن موضوعات أدب المقاومة التقليدية، وفق الفهم الذي ساد لأدب المقاومة، وأخذوا ينظرون لفهم جديد لهذا المصطلح، وقد برز هذا واضحاً في كتابات محمود درويش ومريد البرغوثي ومحمود شقير، وعبروا عن فهمهم الجديد بمناسبات عديدة سواء في أثناء توقيعهم كتبهم الجديدة (محمود درويش، كزهر اللوز أو أبعد) أو في مقابلات أجريت معهم، أو في مقالات كتبوها، وهكذا اختلف أسلوب كتابتهم أيضاً، كما اختلفت الموضوعات التي طرقوها.
لم يقتصر التغير في الكتابة على الموضوعات ونبرة الكتابة أيضاً، بل وجدناهم يطرقون أجناساً أدبية لم يكونوا يطرقونها من قبل، فمريد البرغوثي الذي لم يكتب أي كتاب نثري، أصدر كتابين نثريين، ومحمود شقير أخذ يكتب الرواية، بعد أن عرف كاتب قصة قصيرة لعقود، وهناك من الشعراء من كتب الرواية، مثل غسان زقطان وخالد درويش.
وإذا كان هناك من درس ظاهرة تحول الشعراء إلى روائيين، مثل عمر القزق، فإن ما يستحق أن يتوقف أمامه هو تحول كتّاب القصة القصيرة إلى روائيين، وأبرزهم محمود شقير.
العودة إلى مراحل سابقة:
اللافت للنظر في كتابات العائدين أن نصوصهم الأولى التي أنجزوها بعد عودتهم تمحورت حول تجربة العودة ـ هنا أستثني محمود درويش، فديواناه اللذان أصدرهما ما بين 1996 و2000 طرقا موضوعات مختلفة ـ ، وقد لاحظنا هذا في كتابات يحيى يخلف "نهر يستحم في البحيرة" وفاروق وادي ومريد البرغوثي ومحمود شقير في نصوصهم الوارد ذكرها آنفاً، وفي قصائد أحمد دحبور أيضاً، ولاحقاً في قصائد محمود درويش "لا تعتذر عما فعلت" (2003)، ولكن أكثر هؤلاء أخذوا، بعد نصهم الأول بعد العودة، يكتبون عن مراحل زمنية تعود إلى فترة الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، وهنا يمكن الإشارة إلى يحيى يخلف ومحمود شقير، فقد كتب الأول عن فترة اللجوء، وعاد شقير إلى مراحل أسبق ـ أي فترة ما قبل 1948 "فرس العائلة" وواصل الكتابة عن عقود لاحقة، وهو ما يبدو جلياً في "مديح لنساء العائلة" (2015).
مديح لنساء العائلة:
في ص170 من الرواية ما يقول لنا فكرتها وموضوعها، بل وطريقة قصها أيضاً. إن الشخصية المحورية في الرواية، الأكثر حضوراً أيضاً، وهي شخصية الموظف في المحكمة الشرعية، تفكر في الكتابة مراراً، في كتابة سيناريو فيلم، وفي كتابة نص مسرحي، وفي كتابة رواية، وأخيراً تستقر على كتابة رواية يكون القصد من ورائها "تدوين وقائع حياة عائلة العبد اللات" بل وربما يتسع الموضوع ليشمل تدوين "وقائع حياة العشيرة، رغم تفرعها إلى عائلات كثيرة" ويعتقد محمد أن رغبته في تدوين وقائع حياة العائلة التي انتقلت من البريّة، إلى مشارف القدس، وعايشت أزمنة شتى وحكاماً متعددين، يعتقد أن رغبته هذه ظلت كامنة في أعماقه رغم إقلاعه عنها من قبل.
وأعتقد جازماً أن رغبة موظف المحكمة الشرعية هذه، هي رغبة، محمود شقير نفسه، وما قاله محمد هو ما ينجزه شقير: قلت: سأدوّن كل شيء تقع عليه عيناي، سأحتفظ في دفاتري بكل كلمة تنطقها أمي وضحا، أو أبي منان أو أي شخص آخر في العائلة" "سأكتب عن ظلم الأتراك وإرسالهم الشباب إلى ساحات القتال النائية سأكتب عن الانتداب البريطاني، وعن تعسفه بحق البلاد والعباد، عن حماية جنود الانتداب لأنفسهم من غارات الثوار بوضع السجناء الفلسطينيين في سيارة أمام سيارات الجنود خوفاً من الكمائن والألغام. سأكتب عن المذابح التي نظمتها العصابات الصهيونية ضد الفلسطينيين لتهجيرهم من البلاد. سأكتب عن ضياع البلاد، عن وحدة الضفتين، وعن القمع السياسي الذي كان سائداً قبل هزيمة سبعة وستين، سأكتب عن الهزيمة، عن عسف المحتلين الصهاينة، عن...."
وإذا كانت "مديح لنساء العائلة" هي الجزء الثاني لـ "فرس العائلة"، فإنها ستبدأ الكتابة عن فترة 50 ق20 وستستمر إلى بدايات 80 ق20. هذا يعني أن شقير هنا يكتب عن ثلاثة عقود ونيف وما مرت به القدس وضواحيها إبانها، وسيخص الكاتب النساء بقسم لا بأس به.
وإلى العنوان:
ظاهر العنوان يذهب إلى أن الكاتب سيخص نساء العائلة بالمديح، ولم يكن هذا العمل هو الأول الذي يأتي فيه شقير على المرأة في العنوان، ففي 1986 أصدر مجموعته القصصية "طقوس للمرأة الشقية"، ويبدو أن عذابات المرأة ومعاناتها وهمومها تشكل فكرة مركزية من أفكار الكاتب، وتقبع عميقاً في وعيه ولا وعيه على السواء.
والنساء اللاتي يكتب عنهن شقير كثيرات، ومنهن من تستحق المديح، ومنهن من تستحق الهجاء أو الشفقة أو العطف أو الرثاء. ما أكرمهن إلاّ كريم وما أهانهن إلاّ لئيم. يقول الحديث النبوي، ولكن شقير ينطلق من منطلق اجتماعي ماركسي، لا من منطلق ديني. وسيعثر القارئ على نساء لا فضيلة لهن، فهن ثرثارات ماكرات لئيمات ينفقن أوقاتهن في الغيبة والنميمة وفضح أعراض غيرهن والتدخل في شؤون أخريات.
هؤلاء النسوة يستحققن الهجاء أو الرثاء أو الشفقة، ولكن هناك مقابلهن نساء مثقفات وواعيات ومحترمات، وهؤلاء يستحققن المديح، فلماذا أطلق شقير القول؟ في ص164 ما يوضح هذا خير توضيح. إن سناء تقف إلى جانب زوجها بالباع والذراع، وكذلك تفعل مريم، وهما نموذجان إيجابيان، خلافاً لأخريات، والأخريات نمّامات مفسدات يحاولن الإيقاع بين محمد وزوجته سناء، ومع ذلك يرى محمد، ومن ورائه محمود شقير، أنهن "في نهاية المطاف نساء طيبات جديرات بالمدح لا بالذم، وما اشتغالهن باستغابة الناس سوى تعبير عن فراغهن وبؤس أحوالهن."
ويخيل إليّ أن الطيب هو محمود شقير الذي ينصر المرأة ظالمة أو مظلومة.
جريدة الأيام/ رام الله
عادل الأسطة
26 تموز 2015
***
8- محمود شقير "مديح لنساء العائلة"
شقير وكنفاني:
وأنا أقرأ مديح لنساء العائلة تذكرت ما تبقى لكم لكنفاني.وأنا أدرس الثانية ألاحظ صعوبة الفهم بسبب تداخل اﻷصوات ،ولتلافي هذه المشكلة لجأ كنفاني ،عند تغير المتكلم ،إلى تغيير شكل الحرف.وغالبا ما أقول للطلاب :تحتاج ما تبقى لكم إلى إعادة طباعة مع تدخل الناقد:أن يكتب أمام كل صوت يتكلم عبارة مثل :وقال حامد/وقالت مريم/...وهكذا تغدو الرواية سهلة القراءة.
محمود شقير فعل في مديح لنساء العائلة ما أقترحة بخصوص رواية غسان ،وأرى أن قاريء شقير لن يجد صعوبة
في تحديد هوية المتكلم.ولكن شقير كان يلجا الى ما لجا اليه غسان،اعني تغيير شكل الحرف،حين كان يقطع السرد،ليبدا سارد ثان يسرد،وحتى هذا التغير في السرد كان يفصح عن هوية السارد،فاسلوب الرسالة الذي وظفه شقير،يختتم فيه صاحب الرسالة الرسالة بتوقيع اسمه.تاتي الرسائل من عطوان من ريو دي جانيرو ،من البرازيل،مذيلة باسم كاتبها.ان تغيير شكل الحرف يساعدنا على تحديد بداية نص الرسالة ،وبالتالي يشعرنا بان هناك ساردا ثانيا بدا يسرد.
شقير ودرويش:
وأنا أقرأ رواية شقير وما كتبه عن موقف إحدى الشخصات من أهل الريف أتذكر قصيدة محمود درويش "قرويون من غير سوء ".إحدى شخصيات شقير ترى عكس ما يراه درويس.ترى الخبث واللؤم والمكر والفهلوة لدى كثيرين من أهل الريف.
يخيل إلي أن السبب يعود إلى أن درويش لم ينفق وقتا طويلا مع أهل الريف وظلت تجربته معهم محدودة وتقتصر على سنوات الطفولة ولهذا كتب :قرويون من غير سوء.أما شخصية رواية شقير فقد خبزتهم وعجنتهم وهي ترى ما يراه شقير نفسه وأنا معه ولست مع محمود درويش.
هنا لا بد من الاشارة الى ان ما تنطق به شخصية زوج رسمية وشيحةحول تمدين الريف لايختلف اطلاقا عما كتبه محمود شقير في نصوص نثرية نشرها واتى فيها على الفارق بين رام الله في 60ق20 ورام الله في 90ق29وما بعد 90ق29.ان ما كتبه شقير في نصوصه التي حملت اسمه المباشر ،وباسلوب سردي استخدم الضمير الاول الذي يعود على محمود شقير ،يعود شقير هنا ويسرده على لسان الشخصية الروائية،وبامكان المرء ان يجري مقارنة بين النصوص التي كتبها شقير واوضح فيها رؤيته الشخصية وبين ما ورد في روايته على لسان الشخصيات ليجد المرء تطابقا شبه كلي.
شقير وشخوصه:
ما زلت أقرأ في الرواية ،وكما أن جبرا ابراهيم جبرا كان يوزع شخصيته وأفكاره على شخوصه ،فإنني أرى أن شقير يفعل الشيء نفسه.إنه حاضر في روايته أكثر من حضور شخصياته وما ينطق به قسم منهم هو ما ينطق به شقير لا شخوصه ،وهذا كثير.خذ مثلا موقفه من العائلة ورام الله والحياة السياسية في 50ق20
ويستطيع المرء ان يتوقف مطولا امام موقف الشخصية المتحررة في الرواية،وميلها الى حياة المدينة وتبيان موقفها من الظلم الذي يلحق بالمراة ،بل ووقوفها الى جانب المراة وذهابها الى ان تحرير البلاد لا يتم،ولن يتم،الا اذا تحررت المراة، وهنا يستحضر اراء شقير نفسه،بل ونصوصا قصصية مبكرة له كان فيها نصيرا للمراة.هنا يشير قاريء اعمال شقير الى مجموعته (طقوس للمراة الشقية)1986.ان موقف الشخصية الروائية يكاد يعبر عما عبرت عنه المجموعة القصصية بالتمام والكمال،وهو ما يعبر عنه شقير اصلا ،باعتباره كاتبا يساريا كان ينطلق في فهمه للعلاقة بين الرجل والمراة من منطلق اجتماعي يدعو ،بصراحة،الى تحرر المراة ومساواتها بالرجل.
و..و..و..عدا أن لغة شخوصه هي لغته هو
.
كأن محمود شقير يكتب آراءه في مرحلة الخمسينيات..
***
9- محمود شقير"مديح لنساء العائلة":قراءة تطبيقية 4:
لو أردنا التأكد مما ذهبت إليه في كتاباتي آنفا ودعم بعض الآراء التي خلصت إليها فلا أسهل من التوقف أمام الصفحات اﻷولى من المقطع رقم 6في الرواية،وتحديدا الصفحات 139-147.إنها صفحات كافية لتعزيز ما ذهبت إليه من أن شقير يكتب نصا أشبه بسيرة ذاتية /جماعية أو سيرة مرحلة كان شاهدا عليها ومشاركا فيها،وأنه أيضا يوزع آراءه ورؤاه عيى شخوصه وأنه يبدي مواقفه من أشياء كثيرة.
في الصفحات المذكورة تبدو غير صورة لنساء العائلة فأيهن يستحق المديح وأيهن يستحق الهجاء؟
اﻷم لا يروق لها أن تكون سناء زوجة ابنها عاقرا وترى أنها مسكونة بجن.وسناء التي تطلقت من زوجها اﻷول ﻷنها لم تنجب ورفضت أن تكون لها ضرة،سناء تأخرت في الذهاب إلى الطبيب ﻷنها أرادت الاستمتاع مع زوجها قبل الإنجاب وجيزيل زوجة عطوان تبدو معنية بفلسطين كأنها فلسطينية.هل اﻷم وأفكارها هذه تستحق المديح،ثم لنلاحظ أنها ترى في زوجة ابنها مريم امرأة تحكم رجلها وتربطه برسن،ورؤية اﻷبناء لمريم مختلفة ،فهي متنورة ومتحررة وتقف إلى جانب زوجها السجين وهي مثقفة وتثقفه و..
ثم :هل ما أورده شقير في هذه الصفحات عن السجن كمدرسة ومكان تثقيف يختلف عما يراه هو نفسه،بل إن ما أورده عن روايات نجيب محفوظ هو رأيه ورأي من سجن في 70ق20في السجون اﻷسرائيلية.
ولا يختلف اﻷمر في الكتابة عن أول فرقة مسرحية في القدس وأول عرض مسرحي ودور المرأة في المسرحية،وفوق هذا ما أورده عن خليل السكاكيني الذي كان شقير خصه بكتابة موسعة في كتابه "قالت لنا القدس"ولعمري إن كثيرا مما ورد على لسان هذه الشخصية أو تلك،ممن تتشابه في تفكيرها مع تفكير محمود شقير أو تقترب من تفكيره،لهو كلام شقير نفسه الذي كنا قرأناه في كتبه اﻷخرى.إن شقير هنا يعيد كتابة بعض ما كتب بشكل روائي،وهو ليس أول من يعيد كتابة تجارب سابقة كتب ،من قبل،عنها بشكل جديد.لقد توقفت مرارا أمام هذه الظاهرة في كتابات محمود درويش.كأن شقير ،في روايته هذه،يلم شتات ما كتب من قبل،قصة ونثرا ومقالة،في رواية. رواية.
في صفحات اسبق قليلا من هذه الصفحات ياتي الكاتب على واقع القدس تحت الاحتلال ،وانحراف بعض الشباب وملاحقتهم العاهرات الاسرائيليات اللاتي كن يمارسن الدعارة.هنا ياتي على قصة ابن العائلة ادهم الذي احب فتاة مقدسية لم تلتفت اليه فاقام علاقة مع سائحة هولندية وسافر معها الى هولندا ،واشبعها جنسا،وكانت راضية به،لولا انها اكتشفت انه يقيم علاقة مع امراة هولندية ثانية،فقررت تركه،وعاد ادهم الى القدس،وعاد ليعمل في الفندق،وهنا بدا يتعرف الى العاهرات الاسرائيليات،واخذ يمارس معهن ما مارسه مصطفى سعيد بطل رواية موسم الهجرة الى الشمال للطيب صالح.اراد مصطفى ان يثار من الغرب ،فلجا الى عكس المعادلة :استعمرونا واحتلونا ،وانا ساثار من هذا ،من خلال ركوب نسائهم.ان ادهم في رواية شقير يفعل الشيء الذي فعله مصطفى سعيد:احتلنا الاسرائيليون واذلونا ،ولهذا لا بد من احتلال نسائهم،واخذ حقنا منهن،وهذا طبعا لا يروق لاخيه،فالعاهرات وبائعات الهوى لم يكترثن للحرب ولن يكترثن لها اصلا.
ما سبق بدا واضحا في نصوص شقير الاولى ،وتحديدا في كتاب (ظل اخر للمدينة)1998،ففيه ياتي شقير على علاقته بصديق كان يقيم علاقة مع يهوديات،وقد اتيت على هذا وانا اكتب عن صورة اليهود في ادب العائدين،في سلسلة مقالاني في جريدة الايام الفلسطينية.
ان الامر ،حقا،ليستحق الوقوف امامه:ما صلة "مديح لنساء العائلة "بنصوص شقير السابقة ،ولطالما فعلت شخصيا هذا وانا ادرس محمود درويش.
***
10- مرايا الغياب لـ محمود شقير
"مرايا الغياب: يوميات الحزن والسياسة" )2007( هو آخر إصدارات القاص الكاتب والسياسي محمود شقير. وكان أصدر من قبل ستة وعشرين كتاباً في القصة القصيرة وقصص الأطفال وروايات الفتيان ومسرحيات لهم أيضاً، وفي أدب الرحلات.
الكتاب يستحضر أربع شخصيات، هي أخت الكاتب أمينة والسياسيان سليمان النجاب وبشير البرغوثي من الحزب الشيوعي الفلسطيني، والكاتب الأردني مؤنس الرزاز، ويضم أيضاً مقالات قديمة كتبها شقير في تسعينيات القرن العشرين.
وتبرز للنجاب والبرغوثي والرزاز صورة إيجابية، صورة كوّنها المؤلف بعد معرفة طويلة بهؤلاء، وهكذا يأتي على سجاياهم التي بدا أغلبها حميداً، ما يذكّر المرء بقصائد الرثاء في الشعر العربي القديم، التي عدّد أصحابها فيها مزايا الميّت وخصاله الحميدة..
هل يعدّ الكتاب صورة لهؤلاء وحسب؟ هل كان شقير هنا، مثل الناقد الفرنسي (سانت بيف) صانع التماثيل، يصنع تمثالاً لكل واحد من هؤلاء؟. شقير هنا يرسم صورة لمن أحبّ، لا لمن كَرِه، واعتمد في رسم الصورة على معايشته وتجربته، معايشته لهؤلاء وتجربته معهم، وقليلاً ما أتى على مواقف أعداء هؤلاء منهم، ما يعني أنه هنا يختلف جزئياً عن (سانت بيف) الذي كان يستقي المعلومات من الأصدقاء والمعارف والأهل والتلاميذ، ومن الأعداء والخصوم. إن التماثيل التي صنعها شقير هنا هي للأخت، وللقادة السياسيين، ولأديب. انها متنوعة كما نرى، وهو لم يقتصر على رسم صورة لهؤلاء، انه رسم أيضاً صورة له وهو يتكلم عنهم، ما يعني ان كتابه يمكن أن يعدّ سيرة بيوغرافية أو ما يقترب منها، سيرة بيوغرافية جزئية على الأصح، وسيرة ذاتية له هو أو ما يقترب منها. إنه ليس سيرة ذاتية بالمعنى الحرفي، إذ لم يرمِ الى هذا أصلاً، هو الذي يكتب سيرة للمكان، كما في "ظل آخر للمدينة" )1998( و"مدن فاتنة.. هواء طائش" (2005).
ولكنه، وهو يكتب سيرة للمكان وما يشبه السيرة الغيرية، يكتب سيرته. وهنا في "مرايا الغياب" يقرأ المرء عن علاقة شقير بهؤلاء المذكورين، وعن علاقته بالأمكنة التي التقى بهم فيها: عمان، القدس، براغ، ومدن أخرى، ويقرأ أيضاً عن علاقة شقير والنجاب والبرغوثي بالحزب الشيوعي الفلسطيني، ما يجعل من الكتاب، في جانب منه، سيرة أيضاً للحزب الشيوعي ومسيرته خلال التحاق شقير به، وانضوائه تحت لوائه.
ربما يتوقف أمام هذا الكتاب سياسيون كثر، لهم رأيهم فيما كتبه محمود شقير. ربما يمدحه سياسيون تتطابق رؤاهم ورؤى شقير، وربما يناقضه آخرون ممن اختلفوا ونهج الحزب الشيوعي الفلسطيني، الذي أبرز شقير له صورة إيجابية الى حدّ بعيد، وإن أخذ، زمن الكتابة، يعيد النظر في بعض مواقف الحزب وينتقدها، ويقارب بينها وبين مواقف أحزاب شيوعية في أوروبا الغربية، سيعجب بها شقير، زمن الكتابة، ولا أظن أنه كان معجباً بها في سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته، قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، ذلك أن كل ما كان يصدر عن موسكو ومنها كان أشبه بالمقدس لدى الأحزاب الشيوعية العربية.
وكتاب "مرايا الغياب" ليس الهدف من ورائه فقط توصيل فكرة.. إنه كتاب أدبي أيضاً، فروح شقير القاص والأديب والكاتب تبدو فيه واضحة أوضح ما يكون.. إنه ينظر الى الماضي بروح الحاضر، ما يجعل المرء يرى نظرتين لشقير للأمور؛ نظرته يوم عايش الحدث، ونظرته وهو يكتب عنه بعد فترة، طالت أحياناً، كما كتب عن أخته أمينة، وقصرت أحياناً أخرى، كما كتب عن النجاب والبرغوثي والرزاز. ماتت أمينة في الستينيات من ق20، فيما توفي الثلاثة الآخرون بعد خمسة وثلاثين عاماً من موتها. وسنعرف عن تطور وعي شقير خلال هذه السنوات، وعن تجاربه المعيشة الحافلة في القدس وفي عمان وفي بيروت وفي براغ. سنعرف عنه قاصّاً وسياسياً، وسنعرف عن تأثير السياسة على الأدب.
سيكون هذا الكتاب، مثل كتاب "ظل آخر للمدينة" (1998)، مهماً لمن سيدرس شقير كاتباً قصصياً، لا لأنه يضيء لنا أشياء وأشياء، عن كتابة قصصية - ولقد أتيت على هذا وأنا أدرس "ظل آخر للمدينة" - وإنما لأنه يقول لنا الكثير عن توقف الكاتب عن كتابة القصة القصيرة في فترات متنوعة مختلفة.
بعد هزيمة حزيران مثلاً -أي من العام 1967 حتى العام 1975 حيث لم يكتب شقير سوى قصتين قصيرتين- وفي أثناء إقامته في براغ ما بين شباط 1987 وصيف 1990، حيث انشغل بالهم السياسي ولم يلتفت كثيراً للأدب.
وسيكون هذا الكتاب مهماً لمن يريد أن يدرس آراء شقير الأدبية وعلاقة الأدب بالسياسة، وسيكون مهماً لمن يريد أن يعرف شيئاً عن قراءات شقير الأدبية التي تركت أثراً في شخصيته، في سلوكه ومواقفه وتعامله مع الأشياء.
على أن الأهم من هذا هو موقف شقير من الأعمال الأدبية، بخاصة حين يكتب عن مؤنس الرزاز، فهو يربط بين مؤنس وأبطال شخوصه، ويعيد قراءة روايات الكاتب بعد موته، ليفهمه أكثر وأكثر، وهنا يبدي لنا آراء نقدية مهمة.
"مرايا الغياب" لا يكتب عن الغياب فقط. إنه يكتب أيضاً عن الحضور. عن شقير نفسه، ولا يعد الكتاب كتاباً عن الغياب، إنه في جانب منه سيرة أيضاً لصاحبه.
عادل الأسطة
2007-12-30
**
==================================
1- محمود شقير في عامه الثمانين: الوطن والمدن وترييفها
2- لأجلك يا قدس : محمود شقير و"حليب الضحى"
3- محمود شقير في "حليب الضحى" ٢
4- محمود شقير والقصة القصيرة الفلسطينية
5- مقعد رونالدو
6- قالت لنا القدس
7- أدب العائدين: محمود شقير "مديح لنساء العائلة"
8- محمود شقير: "مديح لنساء العائلة" شقير وكنفاني
9- محمود شقير:"مديح لنساء العائلة":قراءة تطبيقية 4
10- مرايا الغياب لـ محمود شقير
في الأسبوع الماضي احتفل الكاتب محمود شقير بعامه الثمانين ودخل في عقده التاسع .
في الأسابيع الماضية التفت إلى دال الوطن في الأدب الفلسطيني وأخذني الدال إلى ثلاثية الجزائري محمد ديب ، وغاب عن ذهني أن هذا الدال كان له حضوره في قصص محمود شقير المبكرة ، وتحديدا في مجموعته " الولد الفلسطيني " ١٩٧٧ .
في مجموعته الأولى " خبز الآخرين " التي كتبت أكثر قصصها قبل ١٩٦٧ لم يكن هناك احتفاء بالمكان ، فالقصص غلب عليها عنصرا الحدث والشخصية ، وأتت قصة واحدة على المكان " البلدة القديمة " ، ومع ذلك فلم تكن قصة مكان على الرغم من أن مكون عنوانها مكون مكان.
سيختلف الأمر في المجموعة الثانية " الولد الفلسطيني " اختلافا لافتا ، فالوطن الذي لم يكن له حضور في المجموعة الأولى يحضر في الثانية لدرجة أن دال الوطن كان عنوانا لإحدى القصص . هل كان حضوره يعود إلى تطور وعي القاص السياسي أم إلى تأثره بأدباء الأرض المحتلة الذين تردد هذا الدال في أدبهم ، بخاصة الشعراء ، تردادا لافتا؟
سيتذكر القاريء ، وهو يقرأ قصة " الوطن " أشعار ابراهيم طوقان ومحمود درويش ، والأدلة واضحة ، وإن كانت غير صريحة ، وسيلحظ أن شقير يكتب مستخدما الدوال التي استخدماها بكثرة " وطن وتراب وأرض وبلاد وقبر " ، ولن تعوزني الإحالات أو تستعصي علي عموما لبرهنة ذلك . إن قصتي " الوطن " و " التراب " تحفلان بالدال وما يعنيه ومقداره وانعكاس فقدانه على حياة أبنائه .
في منتصف سبعينيات القرن العشرين أبعد القاص عن وطنه ، فتركت التجربة أثرها عليه وفي أعماله وصار يفتقد وطنه فعبر عن ذلك ، ولكن الحياة سرعان ما أخذته إلى عوالم أخرى فكتب عن المرأة وعذاباتها " طقوس للمرأة الشقية " وعندما اندلعت الانتفاضة ١٩٨٧ أخذ يستوحي أحداثها ويعبر عن منفاه وشتات عائلته ومعاناتهما .
التحول اللافت في تجربة شقير وعلاقته بالمكان حدث بعد عودته من المنفى ، في ١٩٩٣ ، وإقامته في القدس . هنا سيلتفت إلى المكان كما لم يلتفت إليه من قبل ، وسيلتفت إلى مدينته القدس ومدن أخرى أقام فيها كما لم يلتفت إليها سابقا .
في قصته " الوطن " ١٩٧٧ كان الفلسطيني يقف على سور مدينته يتأمله ، وسرعان ما اعتقلته دورية من دوريات الاحتلال لتزج به في السجن وتقدم ، لاحقا ، على إبعاده ، وفي المنفى سيحن إلى وطنه المحتل الذي شمل يافا وبيسان إلى جانب غزة والقدس ، وحين عاد في ١٩٩٣ عاد للتأمل من جديد ليكتب لنا " ظل آخر للمدينة " ١٩٩٨ و " قالت لنا القدس " وأعمالا أخرى كثيرة عن رام الله . سيمعن في وصف المكان والتطورات التي ألمت به بلغة شفيفة حزينة يغلب عليها البوح وإجراء المقارنات بين ما كان قبل ١٩٧٥ وما صار بعد ١٩٩٣ ، ولن يكتفي شقير بالكتابة عن الوطن تحت هذا الدال العام . سيدخل في " تفاصيل البلاد " / المكان ، فيصف الشوارع والمقاهي والسينما والأبواب والشبابيك والمكتبات ومقرات المجلات والصحف ، وسيأتي على صلته بها وأيامه الخاليات فيها ، وسيحزن لما صارت إليه مدينتاه ؛ القدس ورام الله ، وسيكتب كثيرا عن ترييف الأولى التي كانت تمدن الريف .
فكرة ترييف القدس فكرة محورية في ذهن شقير ذي الأصول الريفية ، فماذا يعنى بذلك ؟
لقد كتب شقير نفسه تحت هذا العنوان فيما يخص القدس بالدرجة الأولى ويقصد بذلك ، وهو الريفي النشأة كما ذكرت ، أن المدينة ، خلافا لما حصل في ستينيات القرن العشرين ، ما عادت تمدن الريف . لقد صارت القدس أشبه بقرية ، فدور السينما أغلقت والصحافة انتقلت إلى رام الله والنقابات ما عاد لها دور فاعل وصارت المدينة عصرا شبه مهجورة وغلب على سكانها ، بخاصة النساء ، التدين الشكلي ، وهذا كله له هو يساري التوجه أدخل الحزن إلى روحه وقلبه ، وزاد الطين بلة أن القدس الشرقية بشكل عام أخذت تذوي فيما ازدهرت القدس الغربية - أي الإسرائيلية (؟) .
الوطن الذي حن إليه شقير وصارت حياته في المنفى قاسية ، فحلم بالعودة إليه لتستقيم حياته وتتحسن ، عاد إليه فوجده - وتحديدا مدينته - بقايا مدينة .
في عيد ميلاده الثمانين أهديه هذه الكتابة ، والكتابة تطول والمساحة محدودة .
إضاءات :
المقطع الثالث من قصة " الوطن " الذي يأتي على حوار الجد والحفيد ، على سبيل المثال ، بوصف محمود درويش ، في قصائده ، جده ، وبنصائح والده له :
" وأبي قال مرة :
الذي ما له وطن
ما له في الثرى ضريح
ونهاني عن السفر "
- المقطع الرابع الذي يأتي على رفض الفتيات إقامة علاقة مع من ترك وطنه نهبا للطامعين يذكر بقصة سعيد بطل رواية إميل حبيبي " المتشائل " حين عاد إلى لبنان لاجئا ، فرفضت اللبنانيات إقامة علاقة معه وأدرك " أن اللاجئين للاجئات " .
- ترد في المقطع الثاني من قصة " التراب " عبارة أن التراب " أغلى من الذهب " وهذا يذكرنا بأشعار إبراهيم طوقان التي يقول فيها إن أموال اليهود وذهبهم أقل قيمة من الأرض .
حول تحديد مساحة الوطن :
لم ينظر شقير إلى الوطن على أنه الضفة الغربية وقطاع غزة وحسب ، فهو يشمل المناطق المحتلة في العام ١٩٤٨ ، ففي صبيحة حرب حزيران كان الجد وحفيده سائرين باتجاه الوطن - أي المناطق المحتلة في العام ١٩٤٨ ، ثم حدثت الهزيمة . وفي مكان آخر يشمل وطن المبعد فلسطين كلها " كانت شواهد القبور تحكي كل شيء عن وطني . شاهدت كل القرى والمدن ؛ بيسان ، يافا ، الناصرة ، غزة ، القدس .." .
- إن حدود وطنه من الشمال هي الحدود الفلسطينية اللبنانية ، فحين يبعد المبعد ويلقى به بعيدا عن وطنه يلقى به على حدود لبنان ، وحين يرفض الأوامر لأنه يريد أن يظل في وطنه يقول له الجنود :
"- أمامك بلاد اسمها لبنان ، وإن لم تذهب قتلناك " و " صوبوا أسلحتهم ومضيت وأنا أتلفت صوب حدود وطني " .
ووطن القاص منتهك ويحتله الأعداء " هبت ريح غريبة على وطني فضاع " وهو وطن مستباح ، وتراب وطنه لونه غامق لأنه مجبول بدم الثوار ، ولهذا وجب حمل السلاح .
الجمعة والسبت
١٩ و ٢٠
آذار ٢٠٢١
***
2- لأجلك يا قدس :
محمود شقير و"حليب الضحى"
آخر ما قرأته لمحمود شقير هو قصصه القصيرة جدا " حليب الضحى " ( ٢٠٢١ ) ، وهو ليس أول إصدار له في هذا النوع الأدبي ، ففي ١٩٨٥ أصدر " طقوس للمرأة الشقية " ، وغدا اسمه مرتبطا به .
صارت القصة أشبه ببيت الشعر المنفرد أو بالبيتين القائمين بذاتهما أو بالمقطوعة الشعرية ، واقتربت حجما من فن ( الإبجرام ) الذي جسده أحمد مطر في لافتاته ، ما دفعني مرة إلى اقتفاء خطا طه حسين في كتابه " جنة الشوك " الذي قدم له بكتابة عن خصائص " الإبجرام " وكتب نماذج نثرية منه ، ويبدو أن ( الفيس بوك ) و ( تويتر ) وما شابههما شجعوا على شيوع الكتابات القصيرة ، فما عاد لدى كثيرين من القراء رغبة في قراءة النصوص الطويلة .
كيف نفسر إذن ميل شقير وكثيرين إلى كتابة الرواية ؟
الأمر يستحق وقفة متأنية حقا . أهي الجوائز مثلا ؟
عموما فإن ما يثيره المرء هو :
- ما مدى تلقي هذا الجنس الأدبي قراءة ونقدا وإعادة طباعة ؟ وما مدى علوقه في الذاكرة ؟ وما مدى الاستشهاد به في مناسبات اجتماعية أو سياسية أو دينية - إن ناسب مضمونه اللحظة أو الفكرة المخوض فيها أو الموضوع المتحدث عنه ؟ هل يمكن إنجاز ذلك كما هو الأمر في الشعر ، أم أنه - أي نوع القصة القصيرة جدا - لافتقاده الوزن والقافية يخفق فيما نجح الشعر فيه ؟
كثيرون من كتاب المقالات أو من الخطباء أو حتى من المثقفين يستشهدون بأبيات من الشعر ، فهل يمكن أن تكون " القصة القصيرة جدا " في قادم الأيام مثل الشعر ، أم أنها تكتب ، مثل قصيدة النثر ، لتقرأ ؟
أسئلة كثيرة تثار حول القصة القصيرة جدا وفاعليتها ، ويمكن أن تسعفنا دور النشر أو الكتاب أنفسهم بإحصائية عن رواجها ، علما بأن قسما من المتابعين لها سيقول إن مجالها هو وسائل التواصل الاجتماعي لا الكتاب الورقي .
هل دارت الأسئلة السابقة في أذهان كتاب القصة القصيرة جدا ومنهم شقير نفسه ؟
وأنت تقرأ " حليب الضحى " سيخطر ببالك مقولات نطق بها بعض الشعراء والنقاد وبعض كناب القصة القصيرة ؛ مقولات مثل وحدة الديوان أو وحدة المجموعة القصصية .
منذ أواسط ٨٠ القرن ٢٠ صار محمود درويش يصدر الديوان المكتمل وتخلى ، تقريبا ، عما كان يقوم به سابقا من جمع قصائد متنوعة معا في كتاب . من " ورد أقل " إلى " لماذا تركت الحصان وحيدا ؟ " إلى " سرير الغريبة " إلى " حالة حصار " أنت تقرأ ديوانا يضم قصائد متجانسة تتمحور حول موضوع واحد وتتشابه في شكلها البنائي ، فهل ينحو شقير المنحى نفسه في مجموعاته القصصية القصيرة جدا ؟ وهل كان الأسبق في هذا الجانب عندما أصدر مجموعته " طقوس للمرأة الشقية " التي تمحورت حول المرأة واقتربت القصص كلها في بنائها ؟
إنني عموما أثير أسئلة وأمعن النظر في الأمر أكثر مما أقدم إجابات .
هل اختلفت " حليب الضحى " عن " طقوس للمرأة الشقية " في وحدة موضوعها وترابطها ؟ ( موضوع الأولى المرأة وموضوع الثانية متعدد وتشغل القدس مكانة كبيرة في تفكير الكاتب).
أحد تعريفات كلمة بنية هو " الصلة بين " ، فهل ثمة صلة بين القصص القصيرة في المجموعة؟
تنقسم المجموعة إلى أربعة أقسام على النحو الآتي :
1 - من ص ١٠ إلى ص ٦٧ ويصدره بقول ل ( سلفادور دالي ) " لا تخف من الكمال فإنك لن تدركه".
2 - من ص ٦٩ إلى ص ١٠٤ ويصدره بقول جلال الدين الرومي " بغير هذا الحب لا تكن "
3 - من ص ١٠٦ إلى ص ١٥٤ ويصدره بقول ( إميل سيوران ) " عندما أبكي بجوار زهرة تنمو بوتيرة متسارعة"
4 - من ص ١٥٦ إلى ص٢٠١٤ ويصدره بقول ( إميل سيوران )
" أجحد كل مخاوفي مقابل ابتسامة شجرة " .
وليس اقتباس تلك الأقوال غير مفكر فيه ، ويفترض أن يتأمل المرء فيها ويقرأها في ضوء ما تلاها .
في القصص هنا لا يوجد سارد واحد يسردها كما في " طقوس للمرأة الشقية " ، وإنما هناك ساردون ، ومع تعددهم فأظن أنهم في النهاية هم الكاتب نفسه ، فلا مستويات لغوية إطلاقا تعكس اختلاف بيئاتهم مثلا ، وإن تنوع المكان الذي تتحرك فيه الشخوص ما بين القدس ويافا وأريحا ، وإن اختلفت الأسماء في القصص .
كما لو أن القصة مقطوعة شعرية غنائية محورها العالم وانعكاسه على الذات . وما يعزز أن القصص صادرة عن شقير أنه غير قادر على نسيان موضوعه المحبب ، وهو القدس ، وأعماله السابقة التي تحضر إشاراته إليها وإلى شخوصها . يصدر " حليب الضحى " بسطر من روايته " ظلال العائلة " نظرت ليلى إلي بعينها الباقية ، ابتسمت وقالت : نتبنى طفلة " وفكرة التبني تحضر في " حليب الضحى " ، وهو يهدي مجموعته " إليها مرة أخرى ومرات .. إلى القدس وأخواتها الأخريات " و " إلى حفيدتي الخامسة عشرة : ريتا " . والإهداء يذكر بإهداء درويش قصيدته " تحت الشبابيك العتيقة " ( ١٩٦٧ ) من ديوان " آخرالليل " : " إلى مدينة القدس وأخواتها " وهوإهداء تخلص منه في سنوات لاحقة في طبعات لاحقة . وما يذكر بدرويش أيضا بعض قصص المجموعة في أسلوب كتابتها وفي بعض موضوعاتها . وأنت تقرأ بعض القصص تتذكر ديوان " حالة حصار " ( ٢٠٠٢ ) أو هذا ما تذكرته أنا . كما لو أنك تقرأ كتابة متقاربة جدا .
عندما كتبت الكلام السابق على حائط الفيس بوك الخاص بي أعاد القاص قراءته وتساءل عن مدى صحته ، وأنا بدوري أوضحت .
أسلوب البوح الهاديء الناعم الرقيق تجده في قصائد " حالة حصار " وتجده في " حليب الضحى " ، ولا شك أن القاص قاريء جيد لأشعار الشاعر ، وهو ما نلحظه في سيرة شقير الذاتية " تلك الأمكنة " التي صدرت مؤخرا .
خذ هذه القصة القصيرة جدا من المجموعة :
" شهيد
رشيد زوج نفيسة ، والد قيس ، قتله الجنود وهو عائد
إلى بيته في المساء .
قيل في تبرير الجريمة إنه لم يتوقف حين أمره الجنود
بالتوقف ،، فاطلقوا عليه النار .
الآن: نفيسة أرملة ، وقيس الصغير يتيم ،
ابنتنا قدس هي اخت قيس ، أمه نفيسة هي أم ابنتنا ؛
ونحن عائلة واحدة في السراء والضراء "
وما أكثر مقاطع " حالة حصار " في الكتابة عن الجنود الذين قتلوا فتيانا فلسطينيين .
وخذ أيضا القصة التي تليها " بدم بارد " ( ص ١٨٧ ) وقصة " حب " ( ص ١٩١ ) وقصة " حرية " ( ص ١٩٢) ، وإذا كنت قارئا لديوان الشاعر فلن تخطيء التشابه مع مقطوعات درويش .
قصة " حرية "
" نريد صباحا هادئا
خاليا من الطائرات التي تزرع الموت والدمار
خاليا من الجنود ومن المستوطنين والمستوطنات
تتجلى في فضائه حرية بكر لا تعرف الانكسار
قلنا قولنا هذا ونمنا على أمل ، واستيقظنا على آمال " .
وأنت تقرأ بعض القصص تشعر أنك تقرأ مقطوعات شعرية حقا .
خذ هذه المقطوعات من ديوان محمود درويش " حالة حصار " :
" يقيس الجنود المسافة بين الوجود
وبين العدم
بمنظار ذبابة ...
نقيس المسافة ما بين أجسادنا
والقذيفة ... بالحاسة السادسة "
و
" أصدقائي يعدون لي دائما حفلة
للوداع ، وقبرا مريحا يظلله السنديان
وشاهدة من رخام الزمن
فأسبقهم دائما في الجنازة :
من مات ... من ؟"
و :
" الشهيدة بنت الشهيدة بنت الشهيد
واخت الشهيد واخت الشهيدة كنة
أم الشهيد حفيدة جد شهيد
وجارة عم الشهيد ( الخ
... الخ ... )
ولا شيء يحدث في العالم المتمدن ،
فالزمن البربري انتهى ،
والضحية مجهولة الاسم ، عادية
والضحية .. مثل الحقيقة .. نسبية
( الخ ... الخ ... )"
الجمعة والسبت
١٦ و١٧ نيسان ٢٠٢١
(مقال اليوم في جريدة الأيام الفلسطينية متوسعا فيه ١٨ نيسان ٢٠٢١)
***
3- محمود شقير في " حليب الضحى " ٢
هل ثمة رغبة دفينة لدى القاص محمود شقير بكتابة الشعر ؟
عرفنا ظاهرة الشعراء الذين تحولوا إلى كتابة الرواية ، وعرفنا ظاهرة كتاب القصة القصيرة الذين صاروا يكتبون الرواية وهجروا القصة القصيرة ، ولكننا لم نعرف عن روائيين أو كتاب قصة قصيرة تحولوا إلى كتابة الشعر .
حليب الضحى في قسمها الأخير / الرابع توحي لنا بأن محمود شقير غدا أسير الإيقاع والسجع أيضا . كما لو أنه يسعى إلى القافية سعيا ، فهل يسعى ، وهو في الثمانين من عمره ، إلى كتابة الشعر ؟
كتبت أمس إن " حليب الضحى " تذكرنا بمجموعة محمود درويش " حالة حصار " ، واليوم وأنا أقرأ القسم الرابع الأخير منها تعزز لدي هذا الرأي ولي غير دليل منها ما يمس الموضوع ومنها ما يمس الشكل ، عدا سمة البوح والابتعاد عن المباشرة .
خذ مثلا القصتين " شهيد " و " بدم بارد " في الصفحتين ١٨٦ و ١٨٧ وقارن موضوعهما بموضوع قصائد " حالة حصار " ، ومثلهما قصتا " حب " و " حرية " في الصفحتين ١٩٣ و ١٩٤ ، وانظر في الأخيرتين ولاحظ جنوح شقير إلى الإيقاع .
طبعا أنا أقدم قراءة ولا أزعم أنها القراءة الوحيدة .
خربشات أدبية
١٠ نيسان ٢٠٢١
***
4- محمود شقير والقصة القصيرة الفلسطينية
يعتبر محمود شقير واحدا من أبرز كتاب قصتنا القصيرة الذين اخلصوا لهذا الفن وكادوا يقصرون جل جهدهم للكتابة فيه وتطويره وابرازه ليحتل مكانة يلتفت اليها، كما كان يلتفت الى الشعر واصبح يلتفت الى الرواية.
وشقير، في حدود ما أعرف ، لم يكتب في غير هذا الجنس الا نادرا، وأقصد بذلك أنه لم يلتفت الى الرواية ضاربا عرض الحائط بالقصة القصيرة، كما فعل بعض أفراد جيله مثل يحيى يخلف ورشاد ابو شاور، ولم يلتفت الى السياسة التفاتا يقصي الاديب فيه كما فعل ماجد ابو شرار وحكم بلعاوي، ولم يصبح ناقدا اكثر منه قاصا كما اصبح صبحي شحروري. وما كتبه شقير من قصص قصيرة للاطفال ، ومن مقالات سياسية واجتماعية وفكرية لم تجعل منه كاتبا سياسيا بالدرحة الاولى، أو مصلحا اجتماعيا، كما أن النصوص المسرحية والتمثيلية التي انجزها لم تجعل منه كاتبا مسرحيا متميزا. وعليه فقد ظل شقير قاصا بالدرجة الاولى، قاصا التفت الى هذا الفن، واخذ يكتب فيه ويطور رؤيته اليه، وهذا ما يتضح من خلال مجموعاته التي اصدرها، وهذا ما سأوضحه في سياق هذه المقالة.
بدأ محمود يكتب القصة القصيرة في الستينيات، وعليه فانه يمكن ان يصنف- بناء على قراءتنا لخريطة القصة القصيرة الفلسطينية- مع الجيل الثاني، الجيل الذي تلا جيل خليل بيدس والايراني ونجاتي صدقي وعبد الحميد ياسين وعارف العزوني؛ هؤلاء الذين أسسوا لهذا الفن من خلال الترجمة اولا، والتأليف ثانيا، وكانوا، يوم بدأ شقير الكتابة، قد أعطوا كل ما عندهم تقريبا. ولم يتزامن معهم كتابة الا قليلا، فمنهم من كان انتقل الى رحمة الله، ومنهم من توقف عن الكتابة او كاد.
ويتمثل الجيل الثاني من كتاب القصة القصيرة في سميرة عزام ونجوى قعوار فرح وغسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا، على قلة ما كتبه الاخير في هذا الجنس الادبي. وقد بدأ هؤلاء الكتابة في اوائل الخمسينيات او قبل ذلك بقليل- أي بعد مرور ربع قرن على اصدار أول مجموعة قصصية في الادب الفلسطيني، وهي مجموعة خليل بيدس “مسارح الاذهان” (1924). وقد أصدر هؤلاء الكتاب، في نهاية الخمسينيات، أولى مجموعاتهم التي توالى صدورها في الستينيات، الفترة التي بدأ شقير ينشر فيها قصصه، وقد نشر جزءا منها، فيما بعد، في مجموعة “خبز الاخرين” التي صدرت عن منشورات صلاح الدين في القدس عام 1975.
ولقد نهج القاص، كما نلحظ في مجموعته الاولى، نهجا واقعيا، وكتب القصة الواقعية- اذا جاز لي استخدام هذا المصطلح الفضفاض- تقليدية الشكل، القصة التي لم تتجاوز من حيث شكلها الفني القصص المنجزة من نجاتي صدقي والايراني. ويعتبر هذا امرا طبيعيا فلم يكن عود الكاتب قد اشتد بعد، ولم تكن اسئلة مثل البحث عن شكل جديد وتطوير ما يكتب اسئلة تشغل باله، وهي اسئلة اخذت فيما بعد تحتل حيزا من تفكيره. لقد كان القاص في بداياته، – وهو الذي بدأ حياته الفكرية قريبا من اليسار، – مشغولا بهموم اخرى غير الهم الشكلي، وتحديدا بهموم الطبقات الفقيرة المستغلة البائسة. وقد رأى عالم الفلسطيني – وهو ابن الريف الذي لم يتعرف الى حياة اللاجئين عن قرب، خلافا لماجد ابو شرار وغسان كنفاني- ينقسم الى قسمين : عالم المدينة وعالم القرية. وفي المدينة يعيش الاغنياء الذين يتنعمون بالمال، خلافا لمعظم سكان القرية الذين يعانون الفقر ويكابدونه .
وتعتبر قصة “بقرة اليتامى” واحدة من قصص تلك المرحلة، وهي توضح لنا رؤية القاص ومنظوره. ثمة اغنياء يمتكلون البيوت الجميلة ذات الحدائق، وثمة ريفيون فقراء يعملون في حدائق الاغنياء ، ريفيون سرعان ما يتخلى عنهم اذا ما ضعفت قواهم ووهنت. ويوظف القاص في قصته الحكاية الشعبية التي حمل اسمها عنوان القصة. يروي ابو اسماعيل الفلاح الريفي الحكاية، رواية تعبر عما حدث معه، وكان قد طرد من عمله لأنه اصبح ضعيفا، يرويها على النحو التالي :
“كانت لليتامى بقرة.. أمسكها الاغنياء وذبحوها وسلخوها.. و.. وقاطعه احد اطفاله بحماس:
لا يا أبي حاولوا ان يمسكوها.. وتمنى اليتامى:
يا رب لا تجعلهم يمسكونها.
وانتفض الاب :
– لا ..أمسكوها وذبحوها وسلخوها وأكلوها وناموا مبسوطين.
وامتعض الاطفال ..وناموا يحلمون ببقرة ذات قرون صلبة. كالرماح .. تعدو في جموح ثائر عبر الحقول .. بينما تندحر بعيدا من حولها الذئاب”.
وكأن شقيرا كان يعبر في قصته تلك عن امتعاضه من بؤس الواقع ايضا، ولهذا انضم الى اليساريين، وأخذ يعمل من خلال تنظيماتهم علّ البقرة تعدو في جموح ثائر عبر الحقول لتدحر الذئاب.
وما كاد القاص يمتلك أدواته الفنية ليعبّر عن هذا الامتعاض تعبيرا أكثر نضجا حتى اندحر الاغنياء والفقراء معا أمام الاحتلال، وأصبح شقير يعبر عن هموم أخرى شغلت الحيز الأكبر من تفكيره واهتماماته، هموم كادت تبعده عن فنه الذي احبه – أي فن القصة القصيرة – وأعني بتلك الهموم الهم السياسي. وقد كان إبعاده سببا من أسباب عدم عزوفه عن كتابة القصة القصيرة نهائيا، اذ وجد في المنفى فسحة من وقت ليعاود الكتابة الادبية.
في المنفى بدأ القاص يستلهم تجربة الاحتلال ويعبر عنها، وقد عبر ايضا عن تجربة النفي، وأفاد في اثناء ذلك من التطورات التي ألمت بفن القصة القصيرة منذ نهاية الستينيات وأوائل السبعينيات، وهو ما لم يستطعه في أثناء إقامته في القدس بسبب الحصار الثقافي الذي عانى منه سكان المناطق المحتلة. ولقد اختلفت مجموعة “الولد الفلسطيني” (1977) اختلافا بيّنا عن “خبز الاخرين”. أصبح المحتلون، لا البرجوازية الفلسطينية، من يضطهد الفقراء ويقمعهم، ورأى القاص في الاحتلال، لا في الأغنياء، الذئاب التي ينبغي ان تندحر. حلم شقير، في هذه الفترة، بوطن لا يحتله الاعداء، وطن يعود اليه بعد ان أبعد عنه، وكتب عن مقاتلي الحرية، كتب هذا بأسلوب اختلف، الى حد كبير، عن الاسلوب الذي بدا في المجموعة الاولى. ثمة تقنيات جديدة تمثلت في الرمز الشفاف وتقطيع القصة الى مقاطع والابتعاد عن لغة السرد الواقعية لدرجة الملل، لغة استبدلها بأخرى تقترب من لغة الشعر التي عبرت عن مشاعر الكاتب ووجدانه. وعلى الرغم من ذلك فقد ظل القاص، حتى تلك الفترة، يصور شخصيات واقعية، وهذا ما بدا في قصة “الخروج” وقصة “القرار”.
وهنا يمكن أن نقف أمام مجموعتيه “طقوس للمرأة الشقية” (1986) و “ورد لدماء الانبياء ” (1990)، وقد أصدر الاخيرة تحت عنوان آخر هو “صمت النوافد ” (القدس، 1995).
وكان ينبغي ان تثير هاتان المجموعتان العديد من الاسئلة، فيما يمس فن القصة القصيرة الفلسطينية، وبخاصة من نقاد الداخل الذين لاحظوا بدايات لهذا الشكل القصصي منذ عام 1977، بدايات لم تتواصل ليصدر الكتاب مجموعة قصصية متكاملة تحتوي على قصص تقترب شكلا من قصص “طقوس للمرأة الشقية”، وأذكر انني كتبت بتاريخ 12/11/1977 مقالا نشرته في جريدة الفجر اتساءل فيه عن هذا اللون من الكتابة واحدد موقفا منه. ولسوف أغض النظر عن ذلك المقال الذي كتبته يوم كنت كاتبا مبتدئا، فزمن القاريء ، كما يقول النقاد، زمن متغير متحرك، وقراءة النص في فترتين مختلفتين قد ينجم عنها رأيان مختلفان فيه. ولكني أثير التساؤل التالي : أين يدرج الناقد الادبي قصص مجموعتي شقير الاخيرتين؟
يبرم محمود شقير، حين يكتب على غلاف مجموعتيه “قصص قصيرة جدا”، عقدا مع قرائهما انه يقرأ قصصا قصيرة جدا لا غير. واذا ما عاد المرء الى بعض الدراسات النقدية الخاصة بالاجناس الادبية فسيجد ان النقاد قد اشاروا فيما كتبوا نظريا الى فن القصة القصيرة جدا. ففي دراسة (Hagen Meyerhoff) “القصة القصيرة” المدرجة في كتاب “أشكال الادب” الصادر في شتوتجارت (ألمانية) (1981) – وهو كتاب اعده (Otto Knorich) نجد (مايرهوف) يذهب الى ان هناك سبعة اسماء تدرج تحت باب القصة القصيرة هي :
(Novel, novelette, tale, story, short novel, moderen short story, short short story)
ويبقى حجم الكلمات آلة التمييز الفعالة لمثل هذه التسميات. وان كان هناك من يميز بينها بناء على عدد الشخصيات واتضاحها وعدمه، واسلوب القاص، ولجوء القاص الى الوصف او عدم اللجوء اليه، وتكثيف اللغة او الاسترسال فيها.
وليس هناك من شك في أن محمود شقير كان واعيا لهذا، حين كتب على الغلاف ما كتبه. وسيلحظ المرء ان شخصيات قصصه في مجموعتيه تكاد تصبح دون ملامح فردية – وإن كان احيانا يمنحها اسماء خاصة دالة مثل قصة شلومو التي يوحي اسمها بقومية بطلها – ، وتبدو الشخصيات دون ملامح فردية في كثير من قصص المجموعتين، ومنها قصة “مقاومة” (ص 16)، وقصة “غزو” (ص21) ، وقد وردت كلتا القصتين في “صمت النوافذ”.
وسيلحظ المرء ان لغة القاص تكاد تقترب، من حيث كثافتها ، من لغة الشعر الغنائي. ثمة لغة مكثقة الى ابعد الحدود، لغة صوت واحد هو صوت القاص، فنحن في هاتين
المجموعتين لا نصغي ، خلافا لما كان الأمر عليه في “خبز الاخرين” و “الولد الفلسطيني”، لأصوات الشخوص. ولو قارنا بين قصتي “بقرة اليتامى” و “الخروج” وبين قصتي “مقاومة” و “غزو” للاحظنا ذلك واضحا. تتعدد في قصة “الخروج الاصوات، وتتنوع اللغة وتختلف. ثمة لغة للراوي واخرى للشخصية، وهذا ما نفتقده في اكثر قصص مجموعتيه الاخيرتين، ويمكن ايراد القصة التالية من مجموعة “طقوس للمرأة الشقية” لتبيان ذلك :
“خيبة
المرأة العانس لم تكن قد اخذت زينتها بعد، حينما اقتحم عليها الباب موظف الفندق ليخبرها ان الجهة المضيفة قد توقفت عن تسديد الفواتير.
المرأة العانس بكت، لأن موظف الفندق شاهد بأم عينيه طاقم اسنانها منقوعا في كأس ماء قرب سريرها الميت، وهي لم تأخذ زيننتها بعد”
ونحن حين نقرأ هذه القصة انما نصغي الى صوت القاص يقص عن امرأة لا اسم لها، ولا ملامح فردية لها ايضا تميزها عن غيرها من كثير من النساء. انها امرأة اقرب الى النمط منها الى النموذج، ونحن فوق هذا كله لا نصغي الى صوتها اطلاقا، فثمة من يقص عنها حكايتها .
وكتابة محمود شقير القصة القصيرة جدا تعود اليه، ولا يستطيع الناقد أن يحول بينه وبين كتابتها ما دامت جنسا ادبيا مقرا به ومعترفا به ايضا، ما دامت جنسا ادبيا وجد من النقاد من يلتفت اليه ويدرسه. ومن الطبيعي ان نجد نقادا اخرين يقللون من شأن هذا اللون من الكتابة ولا يعتبرونه قصة ذات مغزى.
ولكن المرء، وهو يتابع مسيرة محمود شقير القصصية، يثير العديد من الاسئلة ، منها ما يتعلق بالسبب الذي جعل محمود يلتفت الى القصة القصيرة جدا ويعزف عن كتابة القصة القصيرة؟ فهل يكمن سبب ذلك في كتابته هذه القصص يوم كان ينشر زاوية اسبوعية في جريدة الاخبار الاردنية، الزاوية التي كانت ، الى حد ما، محدودة الحجم ؟ أم يكمن السبب في ان القاص، بعد ابعاده، اصبح يعيش في بيئة محدودة، بيئة لا يعرف بشرها معرفة جيدة، كما كان الوضع عليه يوم كان يقيم في القدس، ومن هنا فقد اخذ يكتب عن شخوص يلتقي بهم التقاء عابرا، أو اخذ يكتب قصص افكار، أو قصصا يستوحي احداثها او فكرتها من خلال قراءاته للصحف ومتابعته للاخبار. واستطيع ان اوضح هذا اكثر: يلحظ القاريء لقصص شقير في مجموعتيه الاخيرتين انه كان احيانا يكتب عن تجارب لم يكن شاهدا عليها، ولم يعرف شخوصها، وأدلل على ذلك بقصتي “شلومو” و “غزو”، ويلحظ القاريء ايضا انه كان احيانا يعبر عن تجربة النفي وحياته في الغربة والمنفى، وكان قد كتب عن هذا في مجموعة “الولد الفلسطيني”، وأستطيع ان ادلل على هذا من خلال الاشارة الى قصة “لقاء” من مجموعة “صمت النوافد” (ص 74)، وقصة “عهد” من مجموعة “طقوس للمرأة الشقية” (ص 31)، وهما قصتان تقتربان من قصة “ثلاث قصص قصيرة” التي وردت في مجموعة “خبز الاخرين وقصص اخرى” (85)، والاخيرة تضم قصصا من مجموعة “الولد الفلسطيني”.
وتبقى نقطة اخيرة يجدر ان يشار اليها في اثناء الكتابة تحت العنوان المختار الذي فرض علي توظيف غير منهج نقدي مثل المنهج التاريخي والمنهج الايديولوجي والمنهج الجمالي، وهي : ما الأثر الذي تركه محمود شقير على قصتنا وقصاصينا ؟
كان شقير من اوائل قصاصينا الذين لجأوا الى التجريب، ولقد صدرت مجموعة “الولد الفلسطيني” عام 1977 في القدس، ولم يكن القصاصون ، من قصاصي الضفة والقطاع، الذين كتبوا القصة يوظفون مثلا اسلوب تقطيع القصة الى مقاطعكما لم يكونوا، وبخاصة قصاصو الداخل وعلى رأسهم اميل حبيبي ومحمد علي طه وحنا إبراهيم ومحمد نفاع وسلمان ناطور، يكتبون بلغة شفافة فيها قدر عال من التكثيف، لغة تقترب احيانا من لغة الشعر. وكانت اول مجموعة تصدر في الداخل يظهر فيها النهج الذي نهجه شقير هي مجموعة محمد علي طه “عائد الميعاري يبيع المناقيش في تل الزعتر” (1978)، وكان نشر قصصها على صفحات جريدة “الاتحاد” ومجلة “الجديد” اللتين لم تكونا تصلان الى المناطق المحتلة عام 1967، ولكن تأثر ادباء الضفة وقطاع غزة بمجموعة شقير المذكورة – أي الولد الفلسطيني- بدا واضحا وضوحا بارزا في قصص زكي العيلة “العطش” (1978) وغريب عسقلاني ومحمد كمال جبر، ومن بعد اكرم هنية هذا الذي عاش في العالم العربي ودرس في القاهرة الادب الانجليزي، وبالتالي فانه مثل شقير أفاد من تطورات القصة القصيرة في الادبين العالمي والعربي، وهو ما بدا في مجموعته القصصية الاولى “السفينة الاخيرة .. الميناء الاخير” (1979) وفي مجموعاته القصصية اللاحقة .
ولقد اصبح شكل القصة القصيرة جدا شكلا ادبيا له في ادبنا حضوره البارز ،
وهو ما يلحظه المرء في كتابات زياد خداش “موعد بذيء، مع العاصفة” (1996) وكتابات ايمان بصير” جسد من بخور” (1997) وكتابات غيرهما ايضا. ويستطيع المرء مثلا ان يقرأ قصة “أمومة” لايمان بصير، أو قصة من قصص خداش التي ادرجها تحت عنوان “معزوفات قصصية قصيرة على قيثارة القهر” ليلحظ انها لا تختلف عن قصة “خيبة” لشقير، وهي القصة التي اوردتها في هذه المقالة، ويمكن ان اورد احدى معزوفات خداش ليقارن القاريء الذي تنقصه المجموعة هذه الاقصوصة باقصوصة شقير :
“بؤس
الفتاة الشرقية الناعمة التي تزوجت هذا اليوم وتنتظر الان زوجها على فراش وثير فكرت مليا في نصائح صديقة قديمة لا تذكر اسمها الان : كوني عاقلة في الفراش وردي على القبلة المحمومة بلثمة خفيفة”.
وهي اقصوصة مكثفة جدا لا نلحظ فيها ملامح فردية للشخصيتين ، فلا اسم لهما، ولا زمان محدد تجري فيه الاحداث ، ولا مكان ولا وصف ولا حوار ولا استطراد، وهذا عموما ما يلحظه المرء في كثير من القصص القصيرة جدا، ويبقى للكتاب اجتهادهم !!
* * *
ملاحظة :
بعد نشر هذه الدراسة في مجلة “دفاتر ثقافية” قرأت تعقيبا عليها من القاص محمد علي طه تحت عنوان “عدالة الدكتور عادل” نشر في العدد الحادي عشر من “دفاتر ثقافية” – تموز 1997. وقد أفدت من بعض ملاحظاته وأغفلت أكثرها، ولعل القاص يجد لي بعض العذر، فلم تكن “الاتحاد” و “الجديد” في السبعينيات تصل الينا. وما أستغربه أنه لم يكن اطلع على مجموعة شقير “الولد الفلسطيني” (1977)، وعرفت من القاص، قبل عامين، ايضا انه لم يقرأ كتابتي عن مجموعته، وقد نشرتها عام 1981 في جريدة “الشعب” تحت عنوان “نزعة التجريب في مجموعة محمد علي طه عائد الميعاري يبيع المناقيش في تل الزعتر”. وأرى ان لغة شقير في مجموعته تختلف اختلافا كليا عن لغة قصاصي الداخل في حينه.
***
5- مقعد رونالدو
هذا الاسبوع، رأيتني، على غير عادة، اتابع، وأنا اقرأ الجريدة، صفحات الرياضة فيها، وحين كنت صباح الاحد (15/5) التفت الى اعلانات الصفحة الاولى، فقد اصررت على شراء عدد الاثنين، ولكنني لم احصل عليه من البائع، لأن الاعداد نفدت مبكراً، ونسيت، في غمرة انشغالي، الحصول على عدد. ولما تذكرت ضرورة ان اقرأه، فقد حصلت صباح الثلاثاء (16/5) عليه، واحتفظت به وبصورة (رونالدو).
ومنذ علمت بأن (رونالدو) سيزور فلسطين، قررت ان اكتب عن هذا الحدث التاريخي، فأنا احب لعب (رونالدو)، وأشعر بأنه قريب منا، ربما لأنه يشبه اخي الكبير، وربما لأنه يذكرني ببرازيلي تعرفت اليه في العام 1987 وأنا اتعلم اللغة الالمانية في (فرايبورغ)، وكان هذا البرازيلي هادئاً ووديعاً، وكان مثله مثل كثيرين من ابناء القارة الاميركية الجنوبية، يشعرون معنا، ويظهرون معنا تعاطفاً كبيراً. بل انهم كانوا يلتقطون لنا معهم الصور، ويصرورن على ضرورة ان نتواصل معاً في قادم الايام.
ومع انني اكون حذراً، حين اكتب عن علم بارز، لأنه قد يتغير مع قادم الايام، اذ التجربة قالت لنا هذا، ولنا في (مارادونا) خير دليل، هذا الذي تعاطف معه الفلسطينيون لدرجة ان محمود درويش كتب عنه مقالا نقلته الصحف الى الاسبانية، ثم خيب (مارادونا) ظننا حين زار حائط المبكى، ووضع القبة على رأسه، مع انني اكون حذراً حين اكتب عن علم بارز الا انني لم افوت الفرصة، ووجدتني اتابع الحدث، وأفكر في الكتابة عنه. ولقد واصلت قراءة ما كتب عنه في الايام بقلم صلاح هنية، وعلى الصفحات الرياضية، بل ولقد تمنيت ان يحتفل به الفلسطينيون اكثر، لعله يتحدث عن عدالة قضيتهم، علماً بأن رئيس البرازيل لم يقصر في دعم قضيتنا، وهذا ما افصح عنه فهمي هويدي في مقاله في "الايام" (18/5) متى يصبح للشارع العربي دور في صناعة القرار؟
ولعل ما شجعني ايضاً على كتابة المقال تحقق نبوءة القاص محمود شقير، هذا الذي كان نشر في احد اعداد مجلة الكرمل قصة عنوانها "مقعد رونالدو"، اعاد نشرها في مجموعته "صورة شاكيرا" (2003)، ثم عاد وكتب قصة ثانية عنوانها "مقعد بابلو عبد الله" ظهرت في مجموعته "ابنة خالتي كونداليزا" 2004 ويبدو ان الكاتب خاب ظنه في (رونالدو) وإن لم يبد هذا على لسانه مباشرة، وإنما بدا من خلال شخصية كاظم علي السائق الفلسطيني المعجب بـ (رونالدو)، لدرجة انه ظل يحجز له المقعد الاول، في سيارته العمومي، يومياً، منتظراً ان يلبي (رونالدو) دعوة كاظم الذي راسله عبر (الانترنت)، ما سبب له مشاكل عديدة مع اهل قريته الذين ذهبت بهم الظنون مذاهب شتى، لأن المقعد ظل فارغاً، اذ كان كاظم يرفض ان يجلس اي راكب الى جانبه، فالمقعد مخصص لـ (رونالدو)، ولم يكتف الناس بالظن، فقد اشتكوا كاظماً الى عشيرته، ولحق به من الضرب والمهانة ما لحق، بسبب الاشاعات التي كان اقلها انه يترك المقعد فارغاً لفتاة ما، يمارس معها الحب، علماً بأن الناس تعرف انه متزوج وأنه يجب زوجته.
وقد بدا التغير في موقف كاظم من (رونالدو) في القصة الثانية، بخاصة حين عرف ان (رونالدو) وافق على الجلوس مع رجال الاعمال الاثرياء، مقابل مبلغ مليون دولار، ما جعل كاظماً لا يلتفت الى (رونالدو)، لأنه رأى فيه رجلاً جشعاً.
وما مِنْ شك في ان وراء القصة ما وراءها، وأن التغير في موقف كاظم، يعكس نظرة شقير نفسه، الى هؤلاء الاعلام الذين نحب لعبهم، وقد نستاء من بعض تصرفاتهم.
وأنا اتابع اخبار زيارة (رونالدو) الى فلسطين، سأتذكر قصتي محمود شقير هاتين، وسأعيد قراءتهما، وسأتذكر ما كتبه محمود درويش في (مارادونا)، وزيارة هذا الاخير لحائط المبكى، لبراقنا وسألحظ احتفال الناس بهذا النجم البرازيلي (رونالدو) واحتفاءهم به، ربما يجدر ان توجه الدعوة لزين الدين زيدان لزيارة فلسطين، ولا ادري لماذا لم يكتب الصديق القاص محمود شقير عن علاقة كاظم بلعبه؟
عادل الأسطة
2005-05-22
***
6- قالت لنا القدس
"قالت لنا القدس" هو آخر كتب القاص محمود شقير، فقد صدر عن وزارة الثقافة الفلسطينية في العام الحالي، ويبدو أن مؤلفه محظوظ، فما ان انتهى من كتابته حتى وجد طريقه للنشر، خلافاً لمخطوطات اخرين كثر ما زالت تقبع في مكاتب الوزارة، وربما كان موضوع الكتاب السبب فهو عن القدس والوزارة، في عام القدس عاصمة للثقافة العربية، اهتمت بالكتب التي تناول اصحابها المدينة: شعراً ونثراً ودراسات.
و "قالت لنا القدس" هو مجموعة مقالات كان شقير نشرها على صفحات "أيام الثقافة" في جريدة "الأيام" خلال العام المنصرم، وقد استخدم القاص مفردة "نص" لتحديد جنس العمل الأدبي، كما ادرج تحت العنوان الرئيس المفردات التالية: نصوص، يوميات، شهادات. وكتب شقير في كتابه عن المدينة الآن والمدينة كما كانت وكان اصدر في العام 1999 كتابه "ظل آخر للمدينة: سيرة مدينة" ليقارن فيه بين القدس قبل ابعاده عنها وبعد عودته اليها 1975 -1993، كما كتب شقير في كتابه عن فضاء المدينة في يوميات السكاكيني، وكتب في مديح بنات القدس وعن شبابيكها، وما يجري الآن من ترييفها، هي المدينة المعزولة عن ريفها، كما كتب عن مقاهيها التي تتناقص باستمرار، وقارن بين شطري المدينة: الشرقي الذي يذوي والغربي الذي يزدهر، وآتى على العمران في ضواحيها، وشارع الزهراء والتبدلات التي تمت فيه، كما كتب عن ثقافتها المعزولة بسبب حصارها، ولم يغفل الكتابة عن تبدلات شارع صلاح الدين، وعن فنانيها: فرانسوا ابو سالم وعادل الترتير، ولكونه قاصاً وكاتباً فقد التفت الى غياب المدينة في النصوص السردية، كما انتبه الى حضورها في السير والشهادات واليوميات، ومن المؤكد ان الكتابة عن القدس لن تكتمل ما لم يكتب عن بيت السكاكيني ومقهى الصعاليك، وعن مفارقات الحصار الآن وسورها القديم والجديد والاخير ذكره، هو الذي زار برلين، بسور برلين.
آخر ما كتبه شقير في كتابه كان تحت عنوان: أنا والقدس والكتابة وقد لفت هذا العنوان وما أدرج تحته نظري للكتابة عن القدس في نصوصنا الادبية، كان شقير كتب من قبل عن القدس والنص السردي الغائب، ما دفعني ذات نهار، لكتابة مقال، في هذه الزاوية، تحت العنوان نفسه آتي فيه على النصوص القصصية بخاصة في القصة القصيرة التي اتى مؤلفوها فيها على القدس، واتخذوها بعداً مكانياً لها.
يكتب شقير تحت العنوان الأخير: أنا والقدس والكتابة، عن حضور مدينة القدس في قصصه ونصوصه، ويرى انها لم تكن ذات حضور طاغ، فهو، حتى اللحظة، لم يتمكن من امتلاك المدينة على النحو الذي يتمناه، ولم يتمكن من التعبير عنها الى الدرجة التي يرغب فيها، ويعزو ذلك الى اسباب منها نشأته القروية على تخوم المدينة، فقد تركت أثرها على حياته، "بحيث إن طول ملازمتي للمدينة، وكثرة ترددي عليها لسنوات طويلة، وتعرفي الى كثير من التفاصيل التي تشتمل عليها، لم يسهم في كسر الحاجز الرهيف الذي بقيت اشعر به تجاه علاقتي بها حتى الآن" وشقير لا يتقن الكتابة عن المكان الا إذا كان ملتصقاً به على نحو حميم، ولأنه لا يعتبر المكان في قصصه مجرد اطار خارجي، "بل أراه جزءاً عضوياً من بنية هذه القصص، وامتداداً اصيلاً لمضمونها ولشكل صياغتها الفنية". (ص 185).
طبعاً لا ينكر شقير فضل القدس الكبير عليه "فلولاها لما كنت كاتباً، ولولا مجلتها الثقافية التي نشرت اولى قصصي فيها، ولولا صحفها التي جعلتني على تماس مع القضايا العامة، ولولا مكتباتها التي أمدتني بالكتب الادبية والمجلات الثقافية، ولولا دور السينما فيها، التي فتحت لي أفقاً ثقافياً كنت أفتقر اليه، لولا كل ذلك لما دخلت عالم الكتابة، أو لعلني ما كنت لأستمر في الكتابة". (ص 190).
وقد لامس كلام شقير السابق، وأنا أقرأه، لامس فيّ وتراً حساساً، كأنه عبّر عما اعبر عنه في اثناء كتابتي عن المكان في قصص قصاصينا وأشعار شعرائناً، فأنا واحد من الكتاب لا استطيع ايضاً الكتابة الا عن اماكن اعرفها او عن تجارب أمر بها، ولا اكتب أيضاً عن المكان في نصوص كاتب إلا إذا كانت له صلة بهذا المكان وتركت أثرها عليه. هكذا كتبت عن درويش والمدينة، وعن القدس والسواحري وشقير وهنية وفياض، وربطت بين كتاباتهم عن المدينة وتجربتهم فيها.
مؤخراً، طلبت مني مؤسسة فلسطين للثقافة أن اكون محكماً في لجنة تحكيم الاعمال الادبية لجائزة القدس، وطلبت ان تكون الافضلية في منح الجائزة لما يكتب عن القدس، وهكذا قرأت غير رواية كانت المدينة حاضرة فيها حضوراً لافتاً، حتى لكتاب لم يزوروا المدينة ولم يعرفوها، مثل الكاتب الفلسطيني حسن حميد "مدينة الله" والكاتب العراقي علي بدر "مصابيح اورشليم: رواية عن ادوارد سعيد". وكان سؤالي الذي اثرته وأنا اقرأ الروايتين: كيف يكتب كاتب رواية عن مكان لم يزره ولم تكن له معه علاقة حميمة؟ "قالت لنا القدس" اجاب فيه شقير عن سؤالي.
بعيداً عن السياق وزيرة الثقافة والثقافة
وزيرة الثقافة تجد وتجتهد من أجل حراك ثقافي وحياة ثقافية، ولهذا تبدو كثيرة الحركة، ففيها البركة، هل هي فترة الاسترخاء التي ساعدتها ولم تساعد غيرها من الوزراء السابقين، ام يعود السبب اليها؟ خلال العام الماضي والحالي اجتمعت مع وزيرة الثقافة، أنا قليل الحركة، ثلاث مرات، في مبنى المحافظة في نابلس من اجل رعاية الاحتفال بالقدس عاصمة للثقافة )2009( وفي سلفيت، حيث رعت احتفال مؤتمر الادب الشعبي الذي شاركت فيه بورقة عن توفيق زياد، وفي مكتب وزارة الثقافة في نابلس، لدراسة واقع الثقافة في المدينة، ودراسة آلية تفعيلها، ولو هيئ لي السفر الى الجزائر والشارقة لكنت اجتمعت بها هناك ايضاً، وحتى اللحظة، لم اجتمع مع الوزيرة في مكتبها في رام الله، وهذا ما كان يتم سابقاً، في عهد وزراء سابقين، حيث كانت الوزارة تدعونا، نحن الكتاب للالتقاء بالوزير في مكتب الوزارة هناك. هل وزيرة الثقافة الحالية ابنة الشعب الذي ظلت وفية له، ولم تتنكر لما آمنت به ونشأت عليه، خلافاً لعمر القاسم في قصة زكريا تامر: "يا أيها الكرز المنسي". كان عمر القاسم معلماً فقيراً بلا سند، وهكذا عين معلماً في قرية بعيدة عن العاصمة، وعاش مع الفقراء وبينهم، فأحبهم وأحبوه وأطعموه الكرز الذي رأى في لونه الاحمر دم الفلاحين، ومع مرور الايام غدا عمر وزيراً ما جعل القرية/ الضيعة تشعر بالسعادة، وسافر مندوب عنها، ومعه سلة كرز، ليبارك لعمر بمنصبه الجديد، ولكن المندوب عاد ومعه السلة كما هي، ولأن تامر يومي ولا يقول مباشرة، فقد قال الريفي لأهل ضيعته: عمر القاسم مات.
وزيرتنا ليست مثل عمر القاسم. وهي لا تطلب منا ان نذهب اليها، فهي تزور المدن والقرى وتسافر وتتنقل وتتناول معنا طعام المسخن وتحتج على احضار المشروبات الاسرائيلية، مثل بعضنا، وهي تجلس معنا وتستمع الينا: كيف يمكن ان يكون للثقافة حضور؟ ماذا يمكن أن نفعل؟ ما هي اراؤكم ومقترحاتكم، انها تحاول ثقافة او قد تخفق فتعذر، قياساً على ما قاله امرؤ القيس: نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا.
كلما اجتمعت مع وزير ثقافة، وقد حدث هذا غير مرة، اكرر آرائي: تفريغ عدد من الكتاب، لا ليكتبوا عملاً أدبياً، وإنما للذهاب الى المدارس والجامعات يومياً لمدة عام، لقراءة نصوصهم، والحديث عن الحركة الثقافية، القيام بعرض مسرحيات في المدارس، وكذلك اقامة معارض فنية متنقلة و... و... ويأتي وزير ويذهب وزير والافكار هي الافكار، ومع ذلك لا افقد الامل، هل ترك محمود درويش روحه فيّ حين قال: نربي الأمل!
عادل الأسطة
2010-04-25
***
7- أدب العائدين: محمود شقير «مديح لنساء العائلة»
أصدر الأدباء العائدون نصوصاً أدبية كثيرة، تنتمي إلى أجناس أدبية مختلفة، وكان الجنس الأبرز هو الكتابة النثرية السيرية التي امتزجت فيها سيرة الكاتب بسيرة المكان الذي كانت له به علاقة قبل 1967، أو 70 أو 75، وانقطعت صلته به، بسبب الهجرة أو الإبعاد، وبرز في هذا المجال أربعة كتب تكاد تتميز عن غيرها وتتشابه فيما بينها، "منازل القلب" لفاروق وادي، و"رأيت رام الله" لمريد البرغوثي ـ وأيضاً "ولدت هناك، ولدت هنا" ـ و"ظل آخر للمدينة" لمحمود شقير، ويضاف إلى هذه كتاب محمود درويش "في حضرة الغياب"، مع أن الأخير ركز على حياة مؤلفه منذ طفولته حتى عودته إلى غزة فرام الله.
ولكن الأدباء العائدين لم يقتصروا في الكتابة على موضوع العودة، فقد فرغوا تجربتهم في نص أو نصين، ثم عادوا يكتبون في موضوعات أخرى، بل وأخذوا ينظرون لكتابتهم الجديدة تلك التي ابتعدت عن موضوعات أدب المقاومة التقليدية، وفق الفهم الذي ساد لأدب المقاومة، وأخذوا ينظرون لفهم جديد لهذا المصطلح، وقد برز هذا واضحاً في كتابات محمود درويش ومريد البرغوثي ومحمود شقير، وعبروا عن فهمهم الجديد بمناسبات عديدة سواء في أثناء توقيعهم كتبهم الجديدة (محمود درويش، كزهر اللوز أو أبعد) أو في مقابلات أجريت معهم، أو في مقالات كتبوها، وهكذا اختلف أسلوب كتابتهم أيضاً، كما اختلفت الموضوعات التي طرقوها.
لم يقتصر التغير في الكتابة على الموضوعات ونبرة الكتابة أيضاً، بل وجدناهم يطرقون أجناساً أدبية لم يكونوا يطرقونها من قبل، فمريد البرغوثي الذي لم يكتب أي كتاب نثري، أصدر كتابين نثريين، ومحمود شقير أخذ يكتب الرواية، بعد أن عرف كاتب قصة قصيرة لعقود، وهناك من الشعراء من كتب الرواية، مثل غسان زقطان وخالد درويش.
وإذا كان هناك من درس ظاهرة تحول الشعراء إلى روائيين، مثل عمر القزق، فإن ما يستحق أن يتوقف أمامه هو تحول كتّاب القصة القصيرة إلى روائيين، وأبرزهم محمود شقير.
العودة إلى مراحل سابقة:
اللافت للنظر في كتابات العائدين أن نصوصهم الأولى التي أنجزوها بعد عودتهم تمحورت حول تجربة العودة ـ هنا أستثني محمود درويش، فديواناه اللذان أصدرهما ما بين 1996 و2000 طرقا موضوعات مختلفة ـ ، وقد لاحظنا هذا في كتابات يحيى يخلف "نهر يستحم في البحيرة" وفاروق وادي ومريد البرغوثي ومحمود شقير في نصوصهم الوارد ذكرها آنفاً، وفي قصائد أحمد دحبور أيضاً، ولاحقاً في قصائد محمود درويش "لا تعتذر عما فعلت" (2003)، ولكن أكثر هؤلاء أخذوا، بعد نصهم الأول بعد العودة، يكتبون عن مراحل زمنية تعود إلى فترة الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، وهنا يمكن الإشارة إلى يحيى يخلف ومحمود شقير، فقد كتب الأول عن فترة اللجوء، وعاد شقير إلى مراحل أسبق ـ أي فترة ما قبل 1948 "فرس العائلة" وواصل الكتابة عن عقود لاحقة، وهو ما يبدو جلياً في "مديح لنساء العائلة" (2015).
مديح لنساء العائلة:
في ص170 من الرواية ما يقول لنا فكرتها وموضوعها، بل وطريقة قصها أيضاً. إن الشخصية المحورية في الرواية، الأكثر حضوراً أيضاً، وهي شخصية الموظف في المحكمة الشرعية، تفكر في الكتابة مراراً، في كتابة سيناريو فيلم، وفي كتابة نص مسرحي، وفي كتابة رواية، وأخيراً تستقر على كتابة رواية يكون القصد من ورائها "تدوين وقائع حياة عائلة العبد اللات" بل وربما يتسع الموضوع ليشمل تدوين "وقائع حياة العشيرة، رغم تفرعها إلى عائلات كثيرة" ويعتقد محمد أن رغبته في تدوين وقائع حياة العائلة التي انتقلت من البريّة، إلى مشارف القدس، وعايشت أزمنة شتى وحكاماً متعددين، يعتقد أن رغبته هذه ظلت كامنة في أعماقه رغم إقلاعه عنها من قبل.
وأعتقد جازماً أن رغبة موظف المحكمة الشرعية هذه، هي رغبة، محمود شقير نفسه، وما قاله محمد هو ما ينجزه شقير: قلت: سأدوّن كل شيء تقع عليه عيناي، سأحتفظ في دفاتري بكل كلمة تنطقها أمي وضحا، أو أبي منان أو أي شخص آخر في العائلة" "سأكتب عن ظلم الأتراك وإرسالهم الشباب إلى ساحات القتال النائية سأكتب عن الانتداب البريطاني، وعن تعسفه بحق البلاد والعباد، عن حماية جنود الانتداب لأنفسهم من غارات الثوار بوضع السجناء الفلسطينيين في سيارة أمام سيارات الجنود خوفاً من الكمائن والألغام. سأكتب عن المذابح التي نظمتها العصابات الصهيونية ضد الفلسطينيين لتهجيرهم من البلاد. سأكتب عن ضياع البلاد، عن وحدة الضفتين، وعن القمع السياسي الذي كان سائداً قبل هزيمة سبعة وستين، سأكتب عن الهزيمة، عن عسف المحتلين الصهاينة، عن...."
وإذا كانت "مديح لنساء العائلة" هي الجزء الثاني لـ "فرس العائلة"، فإنها ستبدأ الكتابة عن فترة 50 ق20 وستستمر إلى بدايات 80 ق20. هذا يعني أن شقير هنا يكتب عن ثلاثة عقود ونيف وما مرت به القدس وضواحيها إبانها، وسيخص الكاتب النساء بقسم لا بأس به.
وإلى العنوان:
ظاهر العنوان يذهب إلى أن الكاتب سيخص نساء العائلة بالمديح، ولم يكن هذا العمل هو الأول الذي يأتي فيه شقير على المرأة في العنوان، ففي 1986 أصدر مجموعته القصصية "طقوس للمرأة الشقية"، ويبدو أن عذابات المرأة ومعاناتها وهمومها تشكل فكرة مركزية من أفكار الكاتب، وتقبع عميقاً في وعيه ولا وعيه على السواء.
والنساء اللاتي يكتب عنهن شقير كثيرات، ومنهن من تستحق المديح، ومنهن من تستحق الهجاء أو الشفقة أو العطف أو الرثاء. ما أكرمهن إلاّ كريم وما أهانهن إلاّ لئيم. يقول الحديث النبوي، ولكن شقير ينطلق من منطلق اجتماعي ماركسي، لا من منطلق ديني. وسيعثر القارئ على نساء لا فضيلة لهن، فهن ثرثارات ماكرات لئيمات ينفقن أوقاتهن في الغيبة والنميمة وفضح أعراض غيرهن والتدخل في شؤون أخريات.
هؤلاء النسوة يستحققن الهجاء أو الرثاء أو الشفقة، ولكن هناك مقابلهن نساء مثقفات وواعيات ومحترمات، وهؤلاء يستحققن المديح، فلماذا أطلق شقير القول؟ في ص164 ما يوضح هذا خير توضيح. إن سناء تقف إلى جانب زوجها بالباع والذراع، وكذلك تفعل مريم، وهما نموذجان إيجابيان، خلافاً لأخريات، والأخريات نمّامات مفسدات يحاولن الإيقاع بين محمد وزوجته سناء، ومع ذلك يرى محمد، ومن ورائه محمود شقير، أنهن "في نهاية المطاف نساء طيبات جديرات بالمدح لا بالذم، وما اشتغالهن باستغابة الناس سوى تعبير عن فراغهن وبؤس أحوالهن."
ويخيل إليّ أن الطيب هو محمود شقير الذي ينصر المرأة ظالمة أو مظلومة.
جريدة الأيام/ رام الله
عادل الأسطة
26 تموز 2015
***
8- محمود شقير "مديح لنساء العائلة"
شقير وكنفاني:
وأنا أقرأ مديح لنساء العائلة تذكرت ما تبقى لكم لكنفاني.وأنا أدرس الثانية ألاحظ صعوبة الفهم بسبب تداخل اﻷصوات ،ولتلافي هذه المشكلة لجأ كنفاني ،عند تغير المتكلم ،إلى تغيير شكل الحرف.وغالبا ما أقول للطلاب :تحتاج ما تبقى لكم إلى إعادة طباعة مع تدخل الناقد:أن يكتب أمام كل صوت يتكلم عبارة مثل :وقال حامد/وقالت مريم/...وهكذا تغدو الرواية سهلة القراءة.
محمود شقير فعل في مديح لنساء العائلة ما أقترحة بخصوص رواية غسان ،وأرى أن قاريء شقير لن يجد صعوبة
في تحديد هوية المتكلم.ولكن شقير كان يلجا الى ما لجا اليه غسان،اعني تغيير شكل الحرف،حين كان يقطع السرد،ليبدا سارد ثان يسرد،وحتى هذا التغير في السرد كان يفصح عن هوية السارد،فاسلوب الرسالة الذي وظفه شقير،يختتم فيه صاحب الرسالة الرسالة بتوقيع اسمه.تاتي الرسائل من عطوان من ريو دي جانيرو ،من البرازيل،مذيلة باسم كاتبها.ان تغيير شكل الحرف يساعدنا على تحديد بداية نص الرسالة ،وبالتالي يشعرنا بان هناك ساردا ثانيا بدا يسرد.
شقير ودرويش:
وأنا أقرأ رواية شقير وما كتبه عن موقف إحدى الشخصات من أهل الريف أتذكر قصيدة محمود درويش "قرويون من غير سوء ".إحدى شخصيات شقير ترى عكس ما يراه درويس.ترى الخبث واللؤم والمكر والفهلوة لدى كثيرين من أهل الريف.
يخيل إلي أن السبب يعود إلى أن درويش لم ينفق وقتا طويلا مع أهل الريف وظلت تجربته معهم محدودة وتقتصر على سنوات الطفولة ولهذا كتب :قرويون من غير سوء.أما شخصية رواية شقير فقد خبزتهم وعجنتهم وهي ترى ما يراه شقير نفسه وأنا معه ولست مع محمود درويش.
هنا لا بد من الاشارة الى ان ما تنطق به شخصية زوج رسمية وشيحةحول تمدين الريف لايختلف اطلاقا عما كتبه محمود شقير في نصوص نثرية نشرها واتى فيها على الفارق بين رام الله في 60ق20 ورام الله في 90ق29وما بعد 90ق29.ان ما كتبه شقير في نصوصه التي حملت اسمه المباشر ،وباسلوب سردي استخدم الضمير الاول الذي يعود على محمود شقير ،يعود شقير هنا ويسرده على لسان الشخصية الروائية،وبامكان المرء ان يجري مقارنة بين النصوص التي كتبها شقير واوضح فيها رؤيته الشخصية وبين ما ورد في روايته على لسان الشخصيات ليجد المرء تطابقا شبه كلي.
شقير وشخوصه:
ما زلت أقرأ في الرواية ،وكما أن جبرا ابراهيم جبرا كان يوزع شخصيته وأفكاره على شخوصه ،فإنني أرى أن شقير يفعل الشيء نفسه.إنه حاضر في روايته أكثر من حضور شخصياته وما ينطق به قسم منهم هو ما ينطق به شقير لا شخوصه ،وهذا كثير.خذ مثلا موقفه من العائلة ورام الله والحياة السياسية في 50ق20
ويستطيع المرء ان يتوقف مطولا امام موقف الشخصية المتحررة في الرواية،وميلها الى حياة المدينة وتبيان موقفها من الظلم الذي يلحق بالمراة ،بل ووقوفها الى جانب المراة وذهابها الى ان تحرير البلاد لا يتم،ولن يتم،الا اذا تحررت المراة، وهنا يستحضر اراء شقير نفسه،بل ونصوصا قصصية مبكرة له كان فيها نصيرا للمراة.هنا يشير قاريء اعمال شقير الى مجموعته (طقوس للمراة الشقية)1986.ان موقف الشخصية الروائية يكاد يعبر عما عبرت عنه المجموعة القصصية بالتمام والكمال،وهو ما يعبر عنه شقير اصلا ،باعتباره كاتبا يساريا كان ينطلق في فهمه للعلاقة بين الرجل والمراة من منطلق اجتماعي يدعو ،بصراحة،الى تحرر المراة ومساواتها بالرجل.
و..و..و..عدا أن لغة شخوصه هي لغته هو
.
كأن محمود شقير يكتب آراءه في مرحلة الخمسينيات..
***
9- محمود شقير"مديح لنساء العائلة":قراءة تطبيقية 4:
لو أردنا التأكد مما ذهبت إليه في كتاباتي آنفا ودعم بعض الآراء التي خلصت إليها فلا أسهل من التوقف أمام الصفحات اﻷولى من المقطع رقم 6في الرواية،وتحديدا الصفحات 139-147.إنها صفحات كافية لتعزيز ما ذهبت إليه من أن شقير يكتب نصا أشبه بسيرة ذاتية /جماعية أو سيرة مرحلة كان شاهدا عليها ومشاركا فيها،وأنه أيضا يوزع آراءه ورؤاه عيى شخوصه وأنه يبدي مواقفه من أشياء كثيرة.
في الصفحات المذكورة تبدو غير صورة لنساء العائلة فأيهن يستحق المديح وأيهن يستحق الهجاء؟
اﻷم لا يروق لها أن تكون سناء زوجة ابنها عاقرا وترى أنها مسكونة بجن.وسناء التي تطلقت من زوجها اﻷول ﻷنها لم تنجب ورفضت أن تكون لها ضرة،سناء تأخرت في الذهاب إلى الطبيب ﻷنها أرادت الاستمتاع مع زوجها قبل الإنجاب وجيزيل زوجة عطوان تبدو معنية بفلسطين كأنها فلسطينية.هل اﻷم وأفكارها هذه تستحق المديح،ثم لنلاحظ أنها ترى في زوجة ابنها مريم امرأة تحكم رجلها وتربطه برسن،ورؤية اﻷبناء لمريم مختلفة ،فهي متنورة ومتحررة وتقف إلى جانب زوجها السجين وهي مثقفة وتثقفه و..
ثم :هل ما أورده شقير في هذه الصفحات عن السجن كمدرسة ومكان تثقيف يختلف عما يراه هو نفسه،بل إن ما أورده عن روايات نجيب محفوظ هو رأيه ورأي من سجن في 70ق20في السجون اﻷسرائيلية.
ولا يختلف اﻷمر في الكتابة عن أول فرقة مسرحية في القدس وأول عرض مسرحي ودور المرأة في المسرحية،وفوق هذا ما أورده عن خليل السكاكيني الذي كان شقير خصه بكتابة موسعة في كتابه "قالت لنا القدس"ولعمري إن كثيرا مما ورد على لسان هذه الشخصية أو تلك،ممن تتشابه في تفكيرها مع تفكير محمود شقير أو تقترب من تفكيره،لهو كلام شقير نفسه الذي كنا قرأناه في كتبه اﻷخرى.إن شقير هنا يعيد كتابة بعض ما كتب بشكل روائي،وهو ليس أول من يعيد كتابة تجارب سابقة كتب ،من قبل،عنها بشكل جديد.لقد توقفت مرارا أمام هذه الظاهرة في كتابات محمود درويش.كأن شقير ،في روايته هذه،يلم شتات ما كتب من قبل،قصة ونثرا ومقالة،في رواية. رواية.
في صفحات اسبق قليلا من هذه الصفحات ياتي الكاتب على واقع القدس تحت الاحتلال ،وانحراف بعض الشباب وملاحقتهم العاهرات الاسرائيليات اللاتي كن يمارسن الدعارة.هنا ياتي على قصة ابن العائلة ادهم الذي احب فتاة مقدسية لم تلتفت اليه فاقام علاقة مع سائحة هولندية وسافر معها الى هولندا ،واشبعها جنسا،وكانت راضية به،لولا انها اكتشفت انه يقيم علاقة مع امراة هولندية ثانية،فقررت تركه،وعاد ادهم الى القدس،وعاد ليعمل في الفندق،وهنا بدا يتعرف الى العاهرات الاسرائيليات،واخذ يمارس معهن ما مارسه مصطفى سعيد بطل رواية موسم الهجرة الى الشمال للطيب صالح.اراد مصطفى ان يثار من الغرب ،فلجا الى عكس المعادلة :استعمرونا واحتلونا ،وانا ساثار من هذا ،من خلال ركوب نسائهم.ان ادهم في رواية شقير يفعل الشيء الذي فعله مصطفى سعيد:احتلنا الاسرائيليون واذلونا ،ولهذا لا بد من احتلال نسائهم،واخذ حقنا منهن،وهذا طبعا لا يروق لاخيه،فالعاهرات وبائعات الهوى لم يكترثن للحرب ولن يكترثن لها اصلا.
ما سبق بدا واضحا في نصوص شقير الاولى ،وتحديدا في كتاب (ظل اخر للمدينة)1998،ففيه ياتي شقير على علاقته بصديق كان يقيم علاقة مع يهوديات،وقد اتيت على هذا وانا اكتب عن صورة اليهود في ادب العائدين،في سلسلة مقالاني في جريدة الايام الفلسطينية.
ان الامر ،حقا،ليستحق الوقوف امامه:ما صلة "مديح لنساء العائلة "بنصوص شقير السابقة ،ولطالما فعلت شخصيا هذا وانا ادرس محمود درويش.
***
10- مرايا الغياب لـ محمود شقير
"مرايا الغياب: يوميات الحزن والسياسة" )2007( هو آخر إصدارات القاص الكاتب والسياسي محمود شقير. وكان أصدر من قبل ستة وعشرين كتاباً في القصة القصيرة وقصص الأطفال وروايات الفتيان ومسرحيات لهم أيضاً، وفي أدب الرحلات.
الكتاب يستحضر أربع شخصيات، هي أخت الكاتب أمينة والسياسيان سليمان النجاب وبشير البرغوثي من الحزب الشيوعي الفلسطيني، والكاتب الأردني مؤنس الرزاز، ويضم أيضاً مقالات قديمة كتبها شقير في تسعينيات القرن العشرين.
وتبرز للنجاب والبرغوثي والرزاز صورة إيجابية، صورة كوّنها المؤلف بعد معرفة طويلة بهؤلاء، وهكذا يأتي على سجاياهم التي بدا أغلبها حميداً، ما يذكّر المرء بقصائد الرثاء في الشعر العربي القديم، التي عدّد أصحابها فيها مزايا الميّت وخصاله الحميدة..
هل يعدّ الكتاب صورة لهؤلاء وحسب؟ هل كان شقير هنا، مثل الناقد الفرنسي (سانت بيف) صانع التماثيل، يصنع تمثالاً لكل واحد من هؤلاء؟. شقير هنا يرسم صورة لمن أحبّ، لا لمن كَرِه، واعتمد في رسم الصورة على معايشته وتجربته، معايشته لهؤلاء وتجربته معهم، وقليلاً ما أتى على مواقف أعداء هؤلاء منهم، ما يعني أنه هنا يختلف جزئياً عن (سانت بيف) الذي كان يستقي المعلومات من الأصدقاء والمعارف والأهل والتلاميذ، ومن الأعداء والخصوم. إن التماثيل التي صنعها شقير هنا هي للأخت، وللقادة السياسيين، ولأديب. انها متنوعة كما نرى، وهو لم يقتصر على رسم صورة لهؤلاء، انه رسم أيضاً صورة له وهو يتكلم عنهم، ما يعني ان كتابه يمكن أن يعدّ سيرة بيوغرافية أو ما يقترب منها، سيرة بيوغرافية جزئية على الأصح، وسيرة ذاتية له هو أو ما يقترب منها. إنه ليس سيرة ذاتية بالمعنى الحرفي، إذ لم يرمِ الى هذا أصلاً، هو الذي يكتب سيرة للمكان، كما في "ظل آخر للمدينة" )1998( و"مدن فاتنة.. هواء طائش" (2005).
ولكنه، وهو يكتب سيرة للمكان وما يشبه السيرة الغيرية، يكتب سيرته. وهنا في "مرايا الغياب" يقرأ المرء عن علاقة شقير بهؤلاء المذكورين، وعن علاقته بالأمكنة التي التقى بهم فيها: عمان، القدس، براغ، ومدن أخرى، ويقرأ أيضاً عن علاقة شقير والنجاب والبرغوثي بالحزب الشيوعي الفلسطيني، ما يجعل من الكتاب، في جانب منه، سيرة أيضاً للحزب الشيوعي ومسيرته خلال التحاق شقير به، وانضوائه تحت لوائه.
ربما يتوقف أمام هذا الكتاب سياسيون كثر، لهم رأيهم فيما كتبه محمود شقير. ربما يمدحه سياسيون تتطابق رؤاهم ورؤى شقير، وربما يناقضه آخرون ممن اختلفوا ونهج الحزب الشيوعي الفلسطيني، الذي أبرز شقير له صورة إيجابية الى حدّ بعيد، وإن أخذ، زمن الكتابة، يعيد النظر في بعض مواقف الحزب وينتقدها، ويقارب بينها وبين مواقف أحزاب شيوعية في أوروبا الغربية، سيعجب بها شقير، زمن الكتابة، ولا أظن أنه كان معجباً بها في سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته، قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، ذلك أن كل ما كان يصدر عن موسكو ومنها كان أشبه بالمقدس لدى الأحزاب الشيوعية العربية.
وكتاب "مرايا الغياب" ليس الهدف من ورائه فقط توصيل فكرة.. إنه كتاب أدبي أيضاً، فروح شقير القاص والأديب والكاتب تبدو فيه واضحة أوضح ما يكون.. إنه ينظر الى الماضي بروح الحاضر، ما يجعل المرء يرى نظرتين لشقير للأمور؛ نظرته يوم عايش الحدث، ونظرته وهو يكتب عنه بعد فترة، طالت أحياناً، كما كتب عن أخته أمينة، وقصرت أحياناً أخرى، كما كتب عن النجاب والبرغوثي والرزاز. ماتت أمينة في الستينيات من ق20، فيما توفي الثلاثة الآخرون بعد خمسة وثلاثين عاماً من موتها. وسنعرف عن تطور وعي شقير خلال هذه السنوات، وعن تجاربه المعيشة الحافلة في القدس وفي عمان وفي بيروت وفي براغ. سنعرف عنه قاصّاً وسياسياً، وسنعرف عن تأثير السياسة على الأدب.
سيكون هذا الكتاب، مثل كتاب "ظل آخر للمدينة" (1998)، مهماً لمن سيدرس شقير كاتباً قصصياً، لا لأنه يضيء لنا أشياء وأشياء، عن كتابة قصصية - ولقد أتيت على هذا وأنا أدرس "ظل آخر للمدينة" - وإنما لأنه يقول لنا الكثير عن توقف الكاتب عن كتابة القصة القصيرة في فترات متنوعة مختلفة.
بعد هزيمة حزيران مثلاً -أي من العام 1967 حتى العام 1975 حيث لم يكتب شقير سوى قصتين قصيرتين- وفي أثناء إقامته في براغ ما بين شباط 1987 وصيف 1990، حيث انشغل بالهم السياسي ولم يلتفت كثيراً للأدب.
وسيكون هذا الكتاب مهماً لمن يريد أن يدرس آراء شقير الأدبية وعلاقة الأدب بالسياسة، وسيكون مهماً لمن يريد أن يعرف شيئاً عن قراءات شقير الأدبية التي تركت أثراً في شخصيته، في سلوكه ومواقفه وتعامله مع الأشياء.
على أن الأهم من هذا هو موقف شقير من الأعمال الأدبية، بخاصة حين يكتب عن مؤنس الرزاز، فهو يربط بين مؤنس وأبطال شخوصه، ويعيد قراءة روايات الكاتب بعد موته، ليفهمه أكثر وأكثر، وهنا يبدي لنا آراء نقدية مهمة.
"مرايا الغياب" لا يكتب عن الغياب فقط. إنه يكتب أيضاً عن الحضور. عن شقير نفسه، ولا يعد الكتاب كتاباً عن الغياب، إنه في جانب منه سيرة أيضاً لصاحبه.
عادل الأسطة
2007-12-30
**
==================================
1- محمود شقير في عامه الثمانين: الوطن والمدن وترييفها
2- لأجلك يا قدس : محمود شقير و"حليب الضحى"
3- محمود شقير في "حليب الضحى" ٢
4- محمود شقير والقصة القصيرة الفلسطينية
5- مقعد رونالدو
6- قالت لنا القدس
7- أدب العائدين: محمود شقير "مديح لنساء العائلة"
8- محمود شقير: "مديح لنساء العائلة" شقير وكنفاني
9- محمود شقير:"مديح لنساء العائلة":قراءة تطبيقية 4
10- مرايا الغياب لـ محمود شقير