محمد أحمد مخلوف - علاقة المكان بالشخصيات في حومة علي باي وضواحيها لكمال العيادي (الكينغ)

* قصتي مع هذا الكتاب *

حين حججت مبكراً و تحديدا على الساعة السادسة والنصف صباحا الى مكتبة " العجرة " بالقيروان ، و انا داخل من باب الجلادين ، لم أكن أتصور أن أجدها مفتوحة ، فالمكتبات في العادة لا تفتح باكراً ، الا مكتبة العجرة كانت مفتوحة بانتظاري و داخلها عمّك بشير العجرة . بعد تبادل التحية سألته عن كتاب *حومة علي باي و ضواحيها * فقدمه لي قائلا بلهجته القيروانية الجميلة :« هذي حومة هِملاوات ، مانيش عارف علاش يكتب عليها ؟». تلقّفت هذه الصدمة و كلّي رغبة في الاطلاع على هذا الكتاب .
* التقديم المادي :
الكاتب كمال العيادي ( الكينغ )
عنوان الكتاب : حومة علي باي و ضواحيها ( متتالية قصصية ).
خطوط الغلاف : محمد قوبعة
تصميم الغلاف : محمد النبهان
عدد الصفحات: 176
الطبعة الأولى سنة 2020 عن دار مسكيلياني للنشر و التوزيع تونس .

يشير كمال العيادي في غلاف الكتاب إلى أنه " متتالية قصصية " و كأنه يبشّرنا بانثيال الحكايات و تتابعها ، وهو ما كان فعلا ، فإذا بك مشدوها أمام جمال السرد و انسيابه و مشدودا إليه في آن معاً ، متماهيا مع الشخصيات أحياناً و متعاطفا في أخرى ، باكياً مع بعضها ، ضاحكا مع أخرى .
ففي حومة علي باي و ضواحيها يجمع كمال العيادي بين عدة شخصيات تحمل هموما مختلفة و لكنها تلتقي في كونها على هامش الحياة . فحومة علي باي مجتمع مصغّر يجمع الحرافيش و السلاطين على حدّ السواء ، شخصيات تتراصّ في مكان يضجّ بالحياة و يحتفي بالموت .
إن هذه الثنائيات تلعب دوراً رئيسياً في سرد وقائع الأحداث التي يمهد لها الكينغ ب"يوميات بلبل " ، لتكون حكاية مثليّة بإخراج جديد ، حيث نجد فيها إخبارا عن الإنسان بمتناقضاته على لسان الطير ، فيلخّصها قائلا :« ... لا أراك الله يوماً مع هذا الكائن البشريّ ... حروب و حرق و دمار و عار و أشياء يندى لها الجبين (...) عندهم كلّ شيء لكنهم يمضون الوقت كله في التناحر » ( ص 21/20 ). لتنطلق الحكاية من القيروان و عنها من خلال أسطورة « بئر- روطة » ، حيث يمتزج الواقع بالخيال في رحلة حوارية مع الألماني "جورج "
لتتّصل الحكاية بالتاريخ و التراث الإسلامي و " سجاح و مسيلمة الكذاب " ، و كأننا بالكينغ يحيلنا إلى لعبة الكذب في الكتابة الأدبية وهو ما يشير إليه ماريو فارغاس يوسا في مقاله " سلطة الكذب " ، إذ يرى أن :« الذاكرة عند أغلب الكتّاب هي منطلق الفانتازيا ، وهي النقطة التي يندفع منها الخيال » ، و يضيف قائلا :« بأن الناس ليسوا في حاجة فقط إلى الحقائق التاريخية، بل هم في حاجة أيضا إلى الأكاذيب ، إلى تلك الأكاذيب التي يبتكرونها بحرية و ليست تلك التي تفرض عليهم ».(1)
و من خلال هذه اللعبة ( لعبة الكذب ) يقدم لنا شخصيات متنوعة يضيف عليها مسحة من الصدقيّة من خلال ذكره لها في ارتباطها بأماكن مرجعيّة ( lieux de références ) من خلال الوصف الدقيق للفضاء الذي تدور فيه أحداثها فيدخله في نسيج النص .
و مع التسليم بوجود علاقة تأثير و تأثّر بين المكان و الشخصية فإننا لا نجد غرابة في أن يكون المكان « قطعة شعورية و حسيّة من ذات الشخصية نفسها » (2) و هو ما نجده مع كمال العيادي حيث يعمد إلى جعل حومة علي باي منسجمة مع طبائع شخصياتها و مزاجها ، فهي شخصيات متأثّرة و مؤثّرة في الفضاء الذي تعيش داخله و لكلّ منها حكايته و شخصيته المتمرّدة التي نقلها لنا الراوي بطريقة طريفة و مشوّقة تجعلنا ننسجم معها حدّ التماهي أحيانا فنجد ذواتنا في قصة « عزيزة المصروعة» و مرحلة المراهقة و ما يميّزها من " التّشوّفِ " خاصة ، و التي تتواصل مع « مدام اف اف » و « هند بنت الجيران » التي علّمته أنّ :" ملكوت الله يمكن أن ينشر في قلوبنا كما الأفعال والأسماء و حروف الجر و الهمزة و الملاحف و الأغطية ، و أنه ملوّن بشكل بديع " ( ص 86 ) ، فتبلغ ذروة التّشوّفِ مع « حدّة »
و « رحاب بنت عم مختار العسكري » ، التي تتحول الى مرحلة الفعل خاصة مع سياق زمني مساعد لتحقّقه ، فإذا نحن في " شهر أغسطس القيرواني " ، ليتواصل السياق المساعد في « سنة القمل » في رحلة عجائبية مع " إلهام"
و " القملة " التي أكملت صورة علاقة كانت شبه مستحيلة ، فإذا بنا أمام إعادة لبيت المنخل اليشكري الذي أصبح هنا :" و أحبّها و تحبّني / و تحبّ قملتها قملتي " ، لتبلغ التجربة ذروتها و نستخلص منها معنى من معاني الحياة الجنسية مع « سامية الطرهوني هي التي علمتني المداعبة و الفرق بين التمرة و الجمرة، فهما متكاملتان ، لا جمرة من دون حلاوة دعك التمرة » ( ص 126).
كل هذه المراحل الحياتية المتدرّجة كان لابد لها من نهاية ، و لكنها للأسف كانت نهاية مؤلمة جاءت في « مصارحة شبه متأخرة » ، لخّص بها الكينغ تجربة حياة منذ الصغر
و المراهقة إلى الشيخوخة ، ليخاطب فينا الإنسان بين رغبة الفعل و بحثه عن كينونة الوجود ، هذه الكينونة التي ترجمتها بعض الشخصيات الأخرى من خلال بطشها و جبروتها في « ولد الصياد » الذي « ألحقه أبوه في الستينات بالبوليس ، في الدائرة الشمالية، بالواسطة، ليعذبنا لاحقا بشماتة ساديّة ، إثر اعتقالات أحداث الخبز سنة 1984» ،( ص 75). و لكنّ هذا البطش يتحوّل أحياناً إلى آليّة دفاع عن العرض و الشرف في قضايا لا أخلاقية كزنى المحارم مثلما صورته لنا قصة « منصور دم تاك» مع زوج أمه " حمادي عزرائيل" الذي ذبحه من الخلف بسكينة الخبز بعدما « رأى زوج أمه حمادي عزرائيل يضاجع أخته منجية من الخلف ، و أمه نائمة ، أو متناومة ، في فراشها على بعد خطوتين » ( ص 152).
و هذه الحادثة ليست الأولى و لا الأخيرة في " حومة علي باي و ضواحيها " التي تبرز مكانة الجريمة فيها حتى أنها تعدّ مصدر فخر لسكانها أمام باقي الأحياء و لاسيما " حومة أولاد زايد " ، « وهي حومة مرعبة تنافس حومتنا - حومة علي باي- في الشرّ و سوء الصّيت و بيع الخمور المغشوشة و تحدّي البوليس » ( ص 113 ) , « أما حومتنا - حومة علي باي - فلم تكن أيضا حومة سهلة » ( ص 117) . فكل هذه الأحداث جاءت على لسان الراوي لتبرز مدى القبح الذي يميز هذه العلاقات الإنسانية بأسلوب جميل جدا يجمع بين السرد و الوصف من خلال روايته لحادثة شراء خبزة من " فرن بروطة " لعمي لخضر الاعمى ، و هو رغم عماه من أساطين حومة علي باي :« كان عمي لخضر مرًّا قاتما و قاسيا ، و تخافه الفتوات من حومة علي باي، و حتى من حومة أولاد زايد، و هو أعمى ...». (ص 120).
و هكذا و ممّا تقدّم يتبين لنا أن المكان يمكن أن يقوم بدور العاكس ( réflecteur ) " لأحاسيس الشخصية الروائية، بل أكثر من ذلك، إذ يمكنه القيام بدور الشخصية ذاتها و ذلك « باعتباره تصويرا لغويا يشكّل معادلا حسيّا و معنويا للمجال الشعوري و الذهني للشخصية » (3). كما يمكن أن يمثل المكان رمزا من رموز الإنتماء بالنسبة إلى الشخصية لاسيما إذا كان هذا المكان أليفا في علاقته بالشخصية ،بحيث لا يعمّق لديها الاحساس بالغربة ، بل على العكس ينمّي فيها الاحساس بالامتلاك و ذلك حين تمتلك الشخصية - بالفعل - مكانا وجدانيا . و عليه يمكننا القول بأن « هناك أماكن مرفوضة و أماكن مرغوب فيها ، فكما أنّ البيئة تلفظ الإنسان أو تحتويه فإنّ الإنسان – طبقا لحاجته – ينتعش في بعض الأماكن و يذبل في بعضها ».(4،) ، و هو ما نجده مع شخصية " سالم ولد الحنانة الكلب " الذي نتيجة إحساسه بالغربة في المكان رغم ما تتميز به شخصيته من طرافة
و حسّ فكاهة ، وهو ما يؤكّده الكاتب :« و أنا على خلاف الجميع ، مازلت إلى اليوم و بعد موته بسبع و ثلاثين سنة ، أعتقد بل أجزم ، أنه رائد الروّاد في هذا المجال، و أنّه أحد غيلان حومة علي باي و أروع متحدّثيها و أبدعهم رواية،
و أخفّهم روحا ... » ( ص 70 ) ، « لكن حومة علي باي حومة عباقرة في تأليف النكت ، وهي قاسية لا ترحم ، و لم تغفر لسالم ولد الحنانة أنه كان يسخر من أهلها (.....) و لأنه تقريبا الوحيد الذي كان يمتلك مكتبة ، و يقرأ كتبا ( .....) فهو الوحيد الذي أجرى امتحان الباكالوريا ، رغم أنه لم يتحصل على الشهادة » ( ص 70) ، فقد أقدم على الانتحار " و شنق نفسه في شجرة الكالبتوس " ( ص 69).
و قد يتحول رفض المكان إلى شعور بالخزي و العار نتيجة الارتباط به مثلما هو حال اولاد حومة علي باي حين يواجههم اولاد حومة خزامة بسوسة ب"ماخور باب تونس " :« كنّا نشعر بوجع و خجل و عار حين يذكر اسم باب تونس ، فأولاد حومة خزامة كانوا يعيّروننا و يسخرون منا بهذا الاسم الذي يخفي رسما و شيئا مخجلا لنا » ( ص 128), ليقرّ اولاد حومة علي باي بأنّ :« هذا الماخور هو السّبب في اذلالنا نحن أولاد حومة علي باي ... تفوووه ». ( ص 133).
و هكذا يصبح المكان مصدرا هاما في بناء الشخصيات و تكوّنها ، و هو ما يبيّنه كمال العيادي في قوله :« إنّه ليس مجرّد حكّاءٍ يصف الواقع فحسب ، و انّما يختلق شخوصه من العدم ، و يبعثها في فضاء زمني و مكاني حقيقي » ، فهو في كتاب " حومة علي باي و ضواحيها " و كما يقول :« فأنا أخلط عجينة الروح اليافعة بعجينة الطين الآسن ، و أستحضر حميميّة الزمن و الفضاء الأوّل الذي مارست فيه طفولتي ، فأجعل الخطايا فيها أروع ما يمكن أن يتمنى القارئ اقترافها و أفتح جيوبا فاتنة في شقوق النفس البشرية فإذا هو حي شعبي يمور و يعجّ بالحياة و الصخب و الذنوب الملهمة و الروح البكر و الدهشة الأولى و أعذبَ مذاق الحياة الحافلة التي تكاد تكون صهريجا يغلي بالبهجة و الغواية .» ،
ليقرّ لنا بأن " مجموعة علي باي و ضواحيها" ، « لها مكانة خاصة عندي ، مكانة روحية و سيكولوجية و إبداعية ، ذلك أنها غير مسبوقة على ما أعلم ، و هي ليست سيرة ذاتية ».
محمد احمد مخلوف - تونس

*الهوامش :
1- مقالة سلطة الكذب ، ماريو فارغاس يوسا.
2- بناء الشخصية الرئيسية في روايات نجيب محفوظ ، بدري عثمان.
3- بدري عثمان ، ( نفسه ).
4- مشكلة المكان الفني ، يوري لوتمان / ترجمة سيزا قاسم.
* وقع الاستئناس بمقال « أهمية المكان في النص الروائي » للأكاديمية العمانية آسية البوعلي ( مجلة نزوى الالكترونيه ).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى