منقول - التيجاني الماحي سادن المعرفة

بيان الكتب :

كتاب «د. التيجاني الماحي: سادن المعرفة» الذي كتبه الناقد السوداني البارز الدكتور حسن ابشر الطيب، ملأ فراغاً هائلاً في المكتبة السودانية التي تفتقر لكتب السير والتراجم لعلماء البلاد وقادتها وروادها في كافة المجالات، ويعتبر الدكتور التيجاني الماحي «11 ـ 1976م» طبيب الأمراض النفسية رائداً في مجال الطب، ومفكراً كبيراً، وسياسياً حاذقاً، ومثقفاً موسوعياً، وقيادياً فذاً، وادارياً ضليعاً، وأحد رواد الدعوة الى الديمقراطية وحقوق الانسان والحريات في السودان. وعندما يتحدث الناس عن أعلام السودان في القرن العشرين فان العالم الدكتور التيجاني الماحي سيأتي في مقدمتهم، واتسمت سيرته بالعطاء الوافر منذ ميلاده وحتى رحيله. ولد الدكتور الماحي في العام 1911م بمدينة الكوة «وسط» وتخرج في كلية كتشنر الطبية العام 1935م وجال، في اعقاب تخرجه في الجامعة، العديد من مدن السودان، وابتعث الى بريطانيا لنيل دراساته العليا في جامعة لندن في العام 1947م، وعند عودته الى السودان في العام 1949م أنشأ عيادة للصحة العقلية عرفها السودانيون فيما بعد بـ «مستشفى التيجاني الماحي للأمراض النفسية والعقلية» بأم درمان عاصمة السودان الوطنية، ومنذ ذلك التاريخ دخل الرجل التعابير الشعبية الشائعة فكان يكفي ان يقال عن شخص ما انه يحتاج الى التيجاني الماحي حتى يدرك السامع بأن الشخص يعاني من متاعب عقلية، ولعل الماحي هو أشهر أطباء النفس ليس على مستوى السودان وحسب بل على مستوى الوطن العربي ويدل على ذلك اختياره في العام 1959م من قبل منظمة الصحة العالمية مستشاراً اقليمياً في مجال الصحة العقلية لإقليم الشرق الأوسط فانتقل الى مدينة الاسكندرية حيث مقر عمله الجديد. وبعد خمس سنوات من العمل في منظمة الصحة العالمية عاد الدكتور التيجاني الماحي في العام 1964م الى السودان الطالع لتوه من عنفوان ثورة اكتوبر الشعبية التي اطاحت حكم الرئيس الاسبق ابراهيم عبود بالعصيان المدني والاضراب السياسي ليكرم الرجل ويختار عضواً بمجلس السيادة «مجلس الرئاسة السوداني» ورئيساً مناوباً للمجلس. وخلال مسيرته العلمية والعملية شارك الدكتور الماحي في العديد من الندوات والمؤتمرات العلمية وكان صاحب صوت مسموع، وحجة راجحة، ورشحته كفاءته العلمية وابحاثه لتولي رئاسة اول مؤتمر عقد تحت اشراف الأمم المتحدة بجنيف عن التعليم والطب العقلي، وفي فترة لاحقة من سنوات الستين والسبعين من القرن الماضي استضافته العديد من الجامعات الأمريكية ليقدم محاضرات تجاوزت الأربعين محاضرة عن الطب العقلي الذي برز فيه وحذقه. ولم يقتصر جهد ونشاط الرجل على الدراسات الطبية بل شمل سائر المعارض الانسانية فدرس واجاد اللغات: الانجليزية ـ الفارسية ـ اللاتينية ـ الهوسا، فضلاً عن اللغة العربية، وهو يعتبر حجة في اللغة الهيروغلوفية وكان مرجعاً في تفسير الفاظها، وهو صاحب اكبر مكتبة «في السودان» زاخرة بكتب التراث الانساني والمعارف بشتى اللغات حيث احتوت على ستة الاف مخطوط أثري نادر، ومن أشهر ما كتب الرجل مؤلفه الموسوعي «مقدمة في تاريخ الطب العربي» الذي يعتبر من أهم المراجع لدارسي الطب. في التقديم للكتاب كتب الناقد الأدبي السوداني الكبير الدكتور محمد ابراهيم الشوش رئيس تحرير مجلة الدوحة «القطرية» الأسبق: «دعني أعيد على مسامعك بعض ما ذكره الدكتور حسن أبشر عن هذا العالم الفذ، فانني أجد في ترديده لذة واحياء لذكرى عطرة كامنة في النفس، فقد عرفت الدكتور التيجاني الماحي ولازمته وأجببته وسعدت بصحبته ردحاً من الزمن. ففي مجال الطب العقلي ارتبط اسمه في اذهان الخاصة والعامة بمصحة الامراض النفسية، التي كان اول من أنشأها وقاد مسيرتها على نمط علمي استخدم فيه احدث أساليب العلم الحديث، وذاع صيته في مجال الطب العقلي واتخذ ابعاداً عالمية، ودعم هذه الشهرة بابحاثه ودراساته التي اضحت مراجع علمية موثوقة تدرس في اقسام الطب العقلي ويرجع اليها الباحثون والأطباء في كثير من انحاء العالم». ويضيف الدكتور الشوش: «ان كل ذلك الانجاز الهائل في مجال الطب العقلي لا يساوي الا النزر اليسير من نشاط الرجل الكلي في مجالات العلم والفكر والادب والفن، وان ذهب بك الكاتب كل تلك المجالات لذهب بك الظن كل مذهب، ولخيل اليك ان المبالغة قد بلغت حدها فلقد كان علم التيجاني الماحي يتجاوز الطب النفسي الى الفلسفة والتاريخ والاجتماع والادب والتصوف وتنمية المجتمع والادارة والحضارة الاسلامية، لا باعتبارها معارف اضافية بل كروافد لتخصصه في الطب النفسي، ومفاتيح لفهم طبيعة النفس الانسانية اذ لم تكن هذه العلوم محطات يقف عندها من قبيل الفضول العابر بل علامات مضيئة في طريق يفضي الى غاية واحدة وقد اتجهت اغلب دراساته وأبحاثه ومحاضراته الى الربط بين هذه العلوم والمعارف». وما عرف عن التيجاني الماحي انه لم يكن يختار طريقاً ممهداً مطروقاً للوصول الى الحقيقة الكامنة في مختلف المعارف بل ينفذ اليها من منابعها الرئيسية وفي احيان عديدة عن طريق السنتها، ولهذا حرصاً على تعلم اللغات وكان يتلقى دروساً في اللغتين الألمانية والفرنسية في أخريات ايامه، وتجمعت له في طريقه الشاق الطويل الى المعرفة مخطوطات نادرة كان يقتفي اثرها الى روسيا وافغانستان والصين والهند وبلاد القوقاز وأسبانيا. ولم يكتسب الدكتور الماحي هذه العلوم منكباً على نفسه في صومعة تعزله عن الحياة والناس، بل كسبها وهو يسير في الشوارع بين الناس، يساهم فيها طبياً واختصاصياً ورب اسرة عطوفاً واستاذاً جامعياً شديد الاختلاط بطلابه رفيقاً بهم، حانياً عليهم وعضواً ورئيساً مناوباً لمجلس الرئاسة في بلاده. لقد كان الأدب يحتل مكانة سامقة في مدارج العلم والمعارف لدى الدكتور التيجاني الماحي اذ كان يعتبره «الادب» مفتاحاً لفهم بعض القضايا العلمية وبعض اشارات الدكتور التيجاني الماحي تدل على ان اهتمامه بالأدب لم يكن مجرد نزعة ذاتية، بل كان مرتكزاً اساسياً لمنهجه العلمي، فهو يحدثك عن ان سر الأحلام «يقوم على اسس قويمة لعلم البلاغة، لأن الخواطر الاولى التي تبعث الأحلام والتي تنسجم في رؤى الحالم تقوم على أساليب الدمج والكناية والمطابقة والمبالغة والاستعارة وغيرها من أساليب البلاغة» لذا فهو يرى ان كتب البلاغة لا يمكن الاستغناء عن معرفتها لمن يبغي تعمقاً في الطب النفسي. وبهذا التسامي توصل الدكتور الماحي الى ترابط المعرفة الانسانية واستحالة تجزئتها الى وحدات منعزلة، بل تكمن قيمتها الأساس في تكاملها وتلاقحها وجدلها المفضي الى المعرفة الموسوعية التي تعين صاحبها على تلمس الدرب، واختيار الطرق، واتخاذ المواقف، وتحديد المسار. ومن أكثر ما يؤسف له في مسيرة الدكتور التيجاني الماحي أن هذه الشخصية الفذة النادرة لم تجد التكريم والصيت اللذين تستحقهما: تجاهله العالم كما تجاهل شعراء السودان الكبار فلم يضعهم في قائمة الشعراء، وكما تجاهل علماء السودان فلم يعدهم من العلماء، ولو كان ثمة من يستحق جائزة نوبل في علم الطب العقلي في العالم بأسره لكان الدكتور التيجاني الماحي ولكن ما بالنا نلوم الآخرين وقد جهلنا ـ نحن أهله ـ قدره وقدرنا فلم ننصب له تمثالاً، ولم نطلق اسمه على مدينة او شارع او احدى دور العلم ولم نخصص باسمه جائزة علمية رفيعة، ولم نقم السرادق لأحياء ذكراه ليكون قدوة ونبراساً ورمز فخر واعزاز لأجيالنا القدمة. ان كتاب «التيجاني الماحي: سادن المعرفة» سيرة ممتعة لشخصية فذة ونادرة نشرت مظلة من المعارف والخبرات على ارض السودان لم تنل حظها الذي تستحق من التكريم والتسجيل. الخرطوم ـ محمد الاسباط
أعلى