----------------------------------------------------------------
قراءة عماد أبو زيد
:
أغراض قديمة.
أغراض قديمة تحتوى عليها حقيبتها , مازالت تحتفظ بها, كأنما تحفل بجمع تذكاراتها وذكرياتها فيها, وهاو خاتم خطوبتها يلقى جزاءه في بطن تلك الحقيبة.
تعود حكاية الخاتم الي إعجابها بشاب طرق باب قلبها, بصوته الهامس الدافئ, وبثقافته البادية على لسانه, واهتمامه بملابسه.
قبل نهاية دوامها بساعة, تقف عند الشجرة العتيقة بالقرب من شارع الجامعة, ترتدي أحلى مالديها من ثياب, منذ ليلة الأمس, وهي تعد لهذا اللقاء.
للشجرة هذي ذكريات تجمعها بخطيبها؛ فأول لقاء جمعهما كان عندها, ومازالت كلماته الأولى لها تطوف بعقلها, وتمس قلبها.
المطر بدا يتساقط, والدقائق تتسرب من بين يديها, تنظر إلى نهايات الشوارع, لعله قادم من بعيد , تأمل مجيئه, من هنا او من هناك. الطقس صار باردا جدا, لاتشعر به, فقلبها يمدها بالدفء. جذع الشجرة الضخم يصنع لها مظلة, تحافظ على زهوة ثيابها من البلل, تتأمل شقوقا نافذة في جسده , ربما كانت في الوقت نفسه تتأمل ذاتها. الوقت يمضي, وبهجتها تفقد عبيرها. تجاهد في محو هذه الكآبة, لعلها نفخة شيطان في وجهها, وكأسماء المحبين المحفورة على الجدران وجذوع الأشجار, تخرج مفتاحا قديما متدثرا بصدئه من بطن حقيبتها, تسجل اسم حبيبها. القشرة صلبة تشاكسها, المفتاح لايترك أثرا واضحا. ينتابها القلق, تمسك بالهاتف, وتضغط على رقمه, يتهادي إليها صوته واضحا, وانفاسه هادئة, مرافقا لصوت تلفاز.
- لا يبدو أنه في الطريق كما يقول.
طاقتها على الانتظار فترت, لم يصمد قلبها في شحنها بالدفء, برودة الطقس أصبحت مطغية, تتحسس جذع الشجرة بكفها, تربت عليه، وتبتسم. صارت الشوارع الفارغة من الناس مسرحا يتلألأ بمياه الأمطار مع ضياء الشمس المتسللة من بين الغيوم, وصارت الجميلة تلهو, وتتقافز عليه.
والكاتبة المبدعة عزة مصطفى عبد العال نجحت في كتابة قصة أرى ان بطلها الأول هو الإنتظار.. واستطاعت بمهارة فائقة ان تعبر عن التعاسة التي قد يعيشها الإنسان في ظله. كما استطاعت ان تستخدم لغة ترميزية في سياقها دون فجاجة..فقلب الجميلة كان كجذع شجرة سميكة.. يترك الزمان آثاره.. لكن تبقى قشرة الجذع صلبة تواجه الريح والانواء.. وفي ذاكرتها يسجل تاريخ الايام.. ومع العمر تزداد قوة ونضجا. وقلب الجميلة عصي على الخداع.. وإذا خدع فسيكتشف الخديعة التي وقع في حبائلها..ولن يفلح المفتاح الصديء في إعادة فتح بابه مرة ثانية.. والحب حين يسكن الفؤاد يمده بالطاقة لمواجهة أعباء الحياة.. وحين يهرب منه يشعر صاحبه بالوحدة والتعاسة والبرودة. والحقيبة تتبدي لنا كبطن حوت يونس محملة بتذكارات الذاكرة السيئة.. ولن يمحوها الزمن ..ستبقى في بؤرة العقل الباطن حتى يسلم صاحبها روحه الي بارئها.وقطرات المطر تبعث الحياة من جديد.
*************
عزة مصطفى عبدالعال
"الحقيقة تحت المطر
قصة قصيرة
أمام بوابة الجامعة العتيقة كانت تنتظره, تحتضن معطفها الأسود باهظ الثمن وتستمتع بلفحات البرد وقطرات المطر التى تتهادى بنعومة على وجنتيها, فمنذ هاتفها وأخبرها إنه فى طريقه إليها ليحدد موعد الزفاف وهى تثمل فى الفرحة .. أنهت عملها سريعاً ووقفت أمام البوابة الكبيرة تنتظره.. تتلمس خاتم الخطوبة فى يدها اليمنى, تشعر بنشوة سعادة خفية تتراقص لها روحها العذبة, صافية عيناها المترامية فى جنبات الطريق تهمهم بطفولة: من أى طريق سيجئ ؟
لا يهم مادام قادماً علىّ أن أنتظر من سيدفئ جدران وحدتى, وينزع عن قلبى أردية الحزن التى حاوطتنى بموت أبى .
يشتد المطر فتختبئ تحت جذع شجرة عجوز تقبع منذ زمن قديم فى تلك البقعة من الكرة الأرضية حيث شهدت لقاءهما الأول؛ كانت تقف فى انتظار صديقة لها حين سألها صدفة فى أمور تخص عملها كموظفة شئون طلبة داخل الكلية التى يستكمل فيها دراسته العليا, شعرت أن صوته يتغلغل فى أعماق نفسها يناديها من شرودها الدائم :
- أن انتبهى هناك على الحافة من يريد الاقتحام .
أذنت له أن يقتحم صمتها, ودار حديث بينهما انتهى بخطبتها إليه, تتأمل الشقوق التى تتخلل جذع الشجرة, فتخرج من حقيبتها مفتاح صدئ وتحفر حروف اسمه على تلك القشرة الصلبة, ثم تبتعد لترى ما صنعته فيتعمق شعورها بالفقد والتلاشى .
يتسرب القلق إلى نفسها فتمسك بالهاتف تبحث عن رقمه بيد متعثرة.. طال الرنين حتى انتهى برد مصحوب بصوت مذياع قريب :
- الشارع مزدحم وأنا فى طريقى إليك .
ذلك الهدوء الذى يسكن صوته يفضح برود المشاعر وانطفاء الشوق.. شغلت نفسها بالنظر إلى قطرات المطر المتساقطة فوق الرصيف, والأسفلت الذى عادت إليه لمعته الأولى, وأوراق الأشجار التى صارت تتلألأ كطفل وليد اغتسل لتوه منذ خروجه من بطن أمه .
مضت ساعتان فى الانتظار تسلل البرد إلى أطرافها, وشعرت بالصقيع يحاصر قلبها, تلفحت بالمعطف الأسود فى محاولة يائسة لتلمس الدفء بين طياته.. رن الهاتف نظرت إليه كاستغاثة أخيرة .. كان صوته الهادئ يدوى فى أذنها كقرع طبول الحرب يأمرها بالانتظار .. ردت بانكسار :
- لقد تعبت .
بعدها تذكرت أنه كان يحدثها عن تجاربه العديدة فى مجال علم النفس وأبحاثه عن السلوكيات السلبية وأثرها فى تدمير الشخصية .. لاحت لها الحقيقة إنها مجرد جزء من أبحاثه الغامضة .. سرى الصقيع إلى رأسها فانتفض جسدها, تحسست الخاتم ودنت منها نظرة أخيرة على الطريق الذى كان خاوياً من المارة والسيارات ثم استدارت لتعود بعد أن خلعت الخاتم وألقته فى أعماق الحقيبة المزدحمة بالأغراض القديمة.
قراءة عماد أبو زيد
:
أغراض قديمة.
أغراض قديمة تحتوى عليها حقيبتها , مازالت تحتفظ بها, كأنما تحفل بجمع تذكاراتها وذكرياتها فيها, وهاو خاتم خطوبتها يلقى جزاءه في بطن تلك الحقيبة.
تعود حكاية الخاتم الي إعجابها بشاب طرق باب قلبها, بصوته الهامس الدافئ, وبثقافته البادية على لسانه, واهتمامه بملابسه.
قبل نهاية دوامها بساعة, تقف عند الشجرة العتيقة بالقرب من شارع الجامعة, ترتدي أحلى مالديها من ثياب, منذ ليلة الأمس, وهي تعد لهذا اللقاء.
للشجرة هذي ذكريات تجمعها بخطيبها؛ فأول لقاء جمعهما كان عندها, ومازالت كلماته الأولى لها تطوف بعقلها, وتمس قلبها.
المطر بدا يتساقط, والدقائق تتسرب من بين يديها, تنظر إلى نهايات الشوارع, لعله قادم من بعيد , تأمل مجيئه, من هنا او من هناك. الطقس صار باردا جدا, لاتشعر به, فقلبها يمدها بالدفء. جذع الشجرة الضخم يصنع لها مظلة, تحافظ على زهوة ثيابها من البلل, تتأمل شقوقا نافذة في جسده , ربما كانت في الوقت نفسه تتأمل ذاتها. الوقت يمضي, وبهجتها تفقد عبيرها. تجاهد في محو هذه الكآبة, لعلها نفخة شيطان في وجهها, وكأسماء المحبين المحفورة على الجدران وجذوع الأشجار, تخرج مفتاحا قديما متدثرا بصدئه من بطن حقيبتها, تسجل اسم حبيبها. القشرة صلبة تشاكسها, المفتاح لايترك أثرا واضحا. ينتابها القلق, تمسك بالهاتف, وتضغط على رقمه, يتهادي إليها صوته واضحا, وانفاسه هادئة, مرافقا لصوت تلفاز.
- لا يبدو أنه في الطريق كما يقول.
طاقتها على الانتظار فترت, لم يصمد قلبها في شحنها بالدفء, برودة الطقس أصبحت مطغية, تتحسس جذع الشجرة بكفها, تربت عليه، وتبتسم. صارت الشوارع الفارغة من الناس مسرحا يتلألأ بمياه الأمطار مع ضياء الشمس المتسللة من بين الغيوم, وصارت الجميلة تلهو, وتتقافز عليه.
والكاتبة المبدعة عزة مصطفى عبد العال نجحت في كتابة قصة أرى ان بطلها الأول هو الإنتظار.. واستطاعت بمهارة فائقة ان تعبر عن التعاسة التي قد يعيشها الإنسان في ظله. كما استطاعت ان تستخدم لغة ترميزية في سياقها دون فجاجة..فقلب الجميلة كان كجذع شجرة سميكة.. يترك الزمان آثاره.. لكن تبقى قشرة الجذع صلبة تواجه الريح والانواء.. وفي ذاكرتها يسجل تاريخ الايام.. ومع العمر تزداد قوة ونضجا. وقلب الجميلة عصي على الخداع.. وإذا خدع فسيكتشف الخديعة التي وقع في حبائلها..ولن يفلح المفتاح الصديء في إعادة فتح بابه مرة ثانية.. والحب حين يسكن الفؤاد يمده بالطاقة لمواجهة أعباء الحياة.. وحين يهرب منه يشعر صاحبه بالوحدة والتعاسة والبرودة. والحقيبة تتبدي لنا كبطن حوت يونس محملة بتذكارات الذاكرة السيئة.. ولن يمحوها الزمن ..ستبقى في بؤرة العقل الباطن حتى يسلم صاحبها روحه الي بارئها.وقطرات المطر تبعث الحياة من جديد.
*************
عزة مصطفى عبدالعال
"الحقيقة تحت المطر
قصة قصيرة
أمام بوابة الجامعة العتيقة كانت تنتظره, تحتضن معطفها الأسود باهظ الثمن وتستمتع بلفحات البرد وقطرات المطر التى تتهادى بنعومة على وجنتيها, فمنذ هاتفها وأخبرها إنه فى طريقه إليها ليحدد موعد الزفاف وهى تثمل فى الفرحة .. أنهت عملها سريعاً ووقفت أمام البوابة الكبيرة تنتظره.. تتلمس خاتم الخطوبة فى يدها اليمنى, تشعر بنشوة سعادة خفية تتراقص لها روحها العذبة, صافية عيناها المترامية فى جنبات الطريق تهمهم بطفولة: من أى طريق سيجئ ؟
لا يهم مادام قادماً علىّ أن أنتظر من سيدفئ جدران وحدتى, وينزع عن قلبى أردية الحزن التى حاوطتنى بموت أبى .
يشتد المطر فتختبئ تحت جذع شجرة عجوز تقبع منذ زمن قديم فى تلك البقعة من الكرة الأرضية حيث شهدت لقاءهما الأول؛ كانت تقف فى انتظار صديقة لها حين سألها صدفة فى أمور تخص عملها كموظفة شئون طلبة داخل الكلية التى يستكمل فيها دراسته العليا, شعرت أن صوته يتغلغل فى أعماق نفسها يناديها من شرودها الدائم :
- أن انتبهى هناك على الحافة من يريد الاقتحام .
أذنت له أن يقتحم صمتها, ودار حديث بينهما انتهى بخطبتها إليه, تتأمل الشقوق التى تتخلل جذع الشجرة, فتخرج من حقيبتها مفتاح صدئ وتحفر حروف اسمه على تلك القشرة الصلبة, ثم تبتعد لترى ما صنعته فيتعمق شعورها بالفقد والتلاشى .
يتسرب القلق إلى نفسها فتمسك بالهاتف تبحث عن رقمه بيد متعثرة.. طال الرنين حتى انتهى برد مصحوب بصوت مذياع قريب :
- الشارع مزدحم وأنا فى طريقى إليك .
ذلك الهدوء الذى يسكن صوته يفضح برود المشاعر وانطفاء الشوق.. شغلت نفسها بالنظر إلى قطرات المطر المتساقطة فوق الرصيف, والأسفلت الذى عادت إليه لمعته الأولى, وأوراق الأشجار التى صارت تتلألأ كطفل وليد اغتسل لتوه منذ خروجه من بطن أمه .
مضت ساعتان فى الانتظار تسلل البرد إلى أطرافها, وشعرت بالصقيع يحاصر قلبها, تلفحت بالمعطف الأسود فى محاولة يائسة لتلمس الدفء بين طياته.. رن الهاتف نظرت إليه كاستغاثة أخيرة .. كان صوته الهادئ يدوى فى أذنها كقرع طبول الحرب يأمرها بالانتظار .. ردت بانكسار :
- لقد تعبت .
بعدها تذكرت أنه كان يحدثها عن تجاربه العديدة فى مجال علم النفس وأبحاثه عن السلوكيات السلبية وأثرها فى تدمير الشخصية .. لاحت لها الحقيقة إنها مجرد جزء من أبحاثه الغامضة .. سرى الصقيع إلى رأسها فانتفض جسدها, تحسست الخاتم ودنت منها نظرة أخيرة على الطريق الذى كان خاوياً من المارة والسيارات ثم استدارت لتعود بعد أن خلعت الخاتم وألقته فى أعماق الحقيبة المزدحمة بالأغراض القديمة.